الجمعة، 15 يونيو 2018

11.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /3 .


ص 11 السيرة النبوية النبوية لابن كثير ج3// 3 قال موسى بن عقبة: وكان على خيل المشركين خالد بن الوليد، وكان معهم مائة
فرس، وكان لواؤه مع عثمان بن طلحة.
قال: ولم يكن مع المسلمين فرس واحدة.
ثم ذكر الواقعة كما سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
* * * وقال محمد بن إسحاق: لما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤياه على أصحابه قال لهم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.
وكان رأى عبدالله بن أبى بن سلول مع رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألا يخرج إليهم.
فقال رجال من المسلمين، ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد، وغيرهم ممن كان فاته
بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا.
فقال عبدالله بن أبى: يا رسول الله لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه.
فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لامته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من بنى النجار يقال له مالك ابن عمرو، فصلى عليه ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك.
فلما خرج عليهم قالوا: يا رسول الله إن شئت فاقعد.
فقال: ما ينبغى لنبى إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
قال ابن إسحاق: حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبدالله بن
أبى بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، ما ندرى علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس.  فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبدالله بن عمرو بن حرام السلمى والد جابر بن عبدالله، فقال: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم.
قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال.
فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغنى الله عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم.
* * *
قلت: وهؤلاء القوم هم المرادون بقوله تعالى: " وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا.
قالوا: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون (1) ".
يعنى أنهم كاذبون في قولهم: لو نعلم قتالا لاتبعناكم.
وذلك لان وقوع القتال أمره ظاهر بين واضح لا خفاء ولا شك فيه.
وهم الذين أنزل الله فيهم: " فمالكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا (2) " الآية.
وذلك أن طائفة قالت: نقاتلهم.
وقال آخرون: لا نقاتلهم.
كما ثبت وبين في الصحيح.
وذكر الزهري أن الانصار استأذنوا حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستعانة بحلفائهم من يهود المدينة، فقال: لا حاجة لنا فيهم.
__________
(1) سورة آل عمران 167.
(2) سورة النساء 88.
(*)
وذكر عروة بن موسى بن عقبة أن بنى سلمة وبنى حارثة لما رجع عبدالله بن أبى وأصحابه همتا أن تفشلا، فثبتهما الله تعالى، ولهذا قال: " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون ".
قال جابر بن عبدالله: ما أحب أنها لم تنزل والله يقول: " والله وليهما (1) " كما ثبت في الصحيحين عنه.
* * * قال ابن اسحاق: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بنى حارثة، فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب (2) سيف فاستله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب السيف: شم سيفك.
أي أغمده، فإنى أرى السيوف
ستسل اليوم.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لاصحابه: من رجل يخرج بنا على القوم من كثب - أي من قريب - من طريق لا يمر بنا عليهم ؟ فقال أبو خيثمة أخو بنى حارثة بن الحارث: أنا يا رسول الله.
فنفذ به في حرة بنى حارثة وبين أموالهم، حتى سلك به في مال لمربع ابن قيظى، وكان رجلا منافقا ضرير البصر، فلما سمع حس رسول الله ومن معه من المسلمين قام يحثى في وجوههم التراب ويقول: إن كنت رسول الله فإنى لا أحل لك أن تدخل في حائطي.
قال ابن إسحاق: وقد ذكر لى أنه أخذ حفنة من التراب في يده ثم قال: والله لو أعلم أنى لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك.
فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتلوه، فهذا الاعمى أعمى القلب أعمى البصر.
وقد
__________
(1) اية 122 سورة آل عمران - أي لما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية.
(2) الكلاب: ذؤابة السيف.
(*)
بدر إليه سعد بن زيد أخو بنى عبد الاشهل قبل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه بالقوس في رأسه فشجه.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد، في عدوة الوادي وفى الجبل، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: لا يقاتلن أحد حتى آمره بالقتال.
وقد سرحت قريش الظهر والكراع (1) في زروع كانت بالصمغة من قناة كانت للمسلمين، فقال رجل من الانصار حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال: أترعى زروع بنى قيلة ولما نضارب ؟ ! وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة رجل، وأمر على الرماة
يومئذ عبدالله بن جبير أخا بنى عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلا، فقال: انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك.
وسيأتى شاهد هذا في الصحيحين إن شاء الله تعالى.
قال ابن إسحاق: وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين.
يعنى لبس درعا فوق درع، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخى بنى عبد الدار.
قلت: وقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الغلمان يوم أحد، فلم يمكنهم من حضور الحرب لصغرهم، منهم: عبدالله بن عمر، كما ثبت في الصحيحين قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأبا ابن خمس عشرة فأجازنى.
وكذلك رد يومئذ أسامة بن زيد، وزيد بن ثابت والبراء بن عازب، وأسيد بن
__________
(1) الظهر: الابل.
والكراع: الخيل.
(*)
ظهير، وعرابة بن أوس بن قيظى.
ذكره ابن قتيبة وأورده السهيلي، وهو الذى يقول فيه الشماخ: إذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين ومنهم ابن سعيد بن خيثمة.
ذكره السهيلي أيضا، وأجازهم كلهم يوم الخندق.
وكان قد رد يومئذ سمرة بن جندب ورافع بن خديج، وهما ابنا خمس عشرة سنة، فقيل: يا رسول الله إن رافعا رام فأجازه.
فقيل: يا رسول الله فإن سمرة يصرع رافعا فأجازه.
قال ابن إسحاق: وتعبأت قريش، وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبى جهل بن هشام.
* * * وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بنى ساعدة، فقال: وما حقه يا رسول الله ؟ قال: أن تضرب به في العدو حتى ينحنى.
قال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه.
فأعطاه إياه.
هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعا.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا يزيد وعفان، قالا حدثنا حماد، هو ابن سلمة، أخبرنا ثابت، عن النبي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفا يوم أحد فقال: من يأخذ هذا السيف ؟ فأخذ قوم فجعلوا ينظرون إليه، فقال: من يأخذه بحقه ؟ فأحجم القوم، فقال أبو دجانة سماك: أنا آخذه بحقه.
فأخذه ففلق به هام المشركين.
ورواه مسلم، عن أبى بكر عن عفان به.
قال ابن إسحاق: وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكان له عصابة حمراء يعلم بها عند الحرب يعتصب بها، فيعلم أنه سيقاتل.
قال: فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عصابته تلك فاعتصب بها، ثم جعل يتبختر بين الصفين.
قال: فحدثني جعفر بن عبدالله بن أسلم، مولى عمر بن الخطاب، عن رجل من الانصار من بنى سلمة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أبا دجانة يتبختر: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن ! * * * قال ابن إسحاق: وقد قال أبو سفيان لاصحاب اللواء من بنى عبد الدار يحرضهم
على القتال: يا بنى عبد الدار قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه.
فهموا به وتواعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا ! ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع.
وذلك الذى أراد أبو سفيان.
قال: فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتى معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرضن على القتال، فقالت هند فيما تقول: ويها بنى عبد الدار * ويها حماة الادبار ضربا بكل بتار وتقول أيضا: إن تقبلوا نعانق * ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق * فراق غير وامق
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن أبا عامر عبد عمرو بن صيفي ابن مالك بن النعمان أحد بنى ضبيعة، وكان قد خرج إلى مكة مباعدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم معه خمسون غلاما من الاوس.
وبعض الناس يقول: كانوا خمسة عشر.
وكان يعد قريشا أن لو قد لقى قومه لم يختلف عليه منهم رجلان.
فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر في الاحابيش وعبد ان أهل مكة، فنادى: يا معشر الاوس أنا أبو عامر.
قالوا: فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق.
وكان يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق.
فلما سمع ردهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدى شر ! ثم قاتلهم قتالا شديدا ثم
أرضخهم بالحجارة.
قال ابن إسحاق: فأقبل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس.
قال ابن هشام: وحدثني غير واحد من أهل العلم أن الزبير بن العوام قال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، وقلت: أنا ابن صفية عمته ومن قريش، وقد قمت إليه وسألته إياه قبله فأعطاه أبا دجانة وتركني، والله لانظرن ما يصنع.
فاتبعته، فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الانصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت: وهكذا كانت تقول له إذا تعصب.
فخرج وهو يقول: أنا الذى عاهدني خليلي * ونحن بالسفح لدى النخيل أن لا أقوم الدهر في الكيول * أضرب بسيف الله والرسول وقال الاموى: حدثنى أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلا أتاه وهو يقاتل به، فقال: لعلك إن أعطيتك تقاتل في الكيول ؟ قال: لا.
فأعطاه سيفا فجعل يرتجز ويقول:
أنا الذى عاهدني خليلي * أن لا أقوم الدهر في الكيول وهذا حديث يروى عن شعبة، ورواه إسرائيل كلاهما عن أبى إسحاق، عن هند بنت خالد أو غيره يرفعه.
الكيول: يعنى مؤخر الصفوف.
سمعته من عدة من أهل العلم، ولم أسمع هذا الحرف إلا في هذا الحديث.
قال ابن هشام: فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله.
وكان في المشركين رجل لا يدع جريحا إلا ذفف عليه فجعل كل منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما،
فالتقيا، فاختلفا ضربتين فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله.
ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها فقلت: الله ورسوله أعلم.
وقد رواه البيهقى في الدلائل من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن الزبير بن العوام بذلك.
قال ابن إسحاق: قال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمس الناس حمسا شديدا، فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة.
وذكر موسى بن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرضه طلبه منه عمر فأعرض عنه، ثم طلبه منه الزبير فأعرض عنه، فوجدا في أنفسهما من ذلك، ثم عرضه الثالثة فطلبه أبو دجانة فدفعه إليه فأعطى السيف حقه.
قال: فزعموا أن كعب بن مالك قال: كنت فيمن خرج من المسلمين، فلما رأيت مثل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاورت، فإذا رجل من المشركين جمع اللامة يجوز (3 - السيرة - 3)
المسلمين وهو يقول: استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم (1).
قال: وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لامته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصرى، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيأة.
قال: فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف فبلغت وركه وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه وقال: كيف ترى يا كعب ؟ أنا أبو دجانة ! مقتل حمزة رضى الله عنه قال ابن إسحاق: وقاتل حمزة بن عبدالمطلب حتى قتل أرطاة بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء.
وكذلك قتل عثمان بن أبى طلحة، وهو حامل اللواء، وهو يقول: إن على أهل اللواء حقا * أن يخضبوا الصعدة أو تندقا فحمل عليه حمزة فقتله (2).
ثم مر به سباع بن عبدالعزى الغبشانى، وكان يكنى بأبى نيار، فقال حمزة: هلم إلى يا ابن مقطعة البظور.
وكانت أمه أم أنمار مولاة شريق بن عمرو بن وهب الثقفى، وكانت ختانة بمكة، فلما التقيا ضربه حمزة فقتله.
فقال وحشى غلام جبير بن مطعم: والله إنى لانظر لحمزة يهد الناس بسيفه ما يليق (3) شيئا يمر به، مثل الجمل الاورق، إذ قد تقدمنى إليه سباع، فقال حمزة: هلم يابن مقطعة البظور.
فضربه ضربة فكأنما أخطأ رأسه، وهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنته (4) حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل
__________
(1) استوسقوا: اجتمعوا والجزر: ما يذبح من الشاء واحدتها جزرة.
(2) ليس في ابن هشام.
(3) ما يليق: ما يبقى.
(4) الثنة: بين السرة والعانة.
(*)
نحوى فغلب، فوقع وأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتى، ثم تنحيت إلى العسكر ولم يكن لى بشئ حاجة غيره.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن الفضل بن عياش بن ربيعة بن الحارث، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمرى، قال: خرجت أنا وعبيد الله ابن عدى بن الخيار، أحد بنى نوفل بن عبد مناف في زمان معاوية، فأدر بنا مع الناس، فلما مررنا بحمص وكان وحشى مولى جبير قد سكنها وأقام بها، فلما قدمناها قال عبيد الله بن عدى: هل لك في أن نأتى وحشيا فنسأله عن قتل حمزة كيف قتله ؟ قال قلت له: إن شئت.
فخرجنا نسأل عنه بحمص، فقال لنا رجل ونحن نسأل عنه: إنكما ستجدانه بفناء داره، وهو رجل قد غلبت عليه الخمر، فإن تجداه صاحيا تجدا رجلا عربيا وتجدا عنده بعض ما تريدان وتصيبا عنده ما شئتما من حديث تسألانه عنه، وإن تجداه وبه بعض ما به فانصرفا عنه ودعاه.
قال: فخرجنا نمشي حتى جئناه، فإذا هو بفناء داره على طنفسة له، وإذا شيخ كبير مثل البغاث، وإذا هو صاح لا بأس به، فلما انتهينا إليه سلمنا عليه.
فرفع رأسه إلى عبيد الله بن عدى فقال ابن لعدى بن الخيار أنت ؟ قال: نعم.
قال: أما والله ما رأيتك منذ ناولتك أمك السعدية التى أرضعتك بذى طوى، فإنى ناولتكها وهى على بعيرها فأخذتك بعرضيك فلمعت لى قدماك حتى رفعتك إليها، فوالله ما هو إلا أن وقفت على فعرفتهما ! قال: فجلسنا إليه فقلنا: جئناك لتحدثنا عن قتل حمزة، كيف قتلته ؟
فقال: أما إنى سأحدثكما كما حدثت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألني عن ذلك.  كنت غلاما لجبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة بن عدى قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لى جبير: إن قتلت حمزة عم محمد بعمى فأنت عتيق.
قال: فخرجت مع الناس، وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قل ما أخطئ بها شيئا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس كأنه الجمل الاورق يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شئ، فوالله إنى لا تهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو منى، إذ تقدمنى إليه سباع بن عبدالعزى، فلما رآه حمزة قال: هلم إلى يابن مقطعة البظور.
قال: فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه، قال: وهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنته، حتى خرجت
من بين رجليه، وذهب لينوء نحوى فغلب، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتى ثم رجعت إلى العسكر وقعدت فيه، ولم يكن لى بغيره حاجة، إنما قتلته لاعتق.
فلما قدمت مكة عتقت، ثم أقمت، حتى إذا افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هربت إلى الطائف، فمكثت بها، فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا تعيت على المذاهب، فقلت: ألحق بالشام أو باليمن أو ببعض البلاد، فوالله إنى لفى ذلك من همى إذ قال لى رجل: ويحك ! إنه والله لا يقتل أحدا من الناس دخل في دينه وشهد شهادة الحق.
قال: فلما قال لى ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلم يرعه إلا بى قائما على رأسه أشهد شهادة الحق، فلما رأني قال لى: أوحشي أنت ؟ قلت: نعم يا رسول الله.
قال: اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة ؟
قال: فحدثته كما حدثتكما، فلما فرغت من حديثى قال: ويحك غيب عنى وجهك فلا أرينك ! قال: فكنت أتنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان لئلا يرانى، حتى قبضه الله عزوجل.
فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم وأخذت حربتى التى قتلت بها حمزة، فلما التقى الناس رأيت مسيلمة قائما وبيده السيف، وما أعرفه، فتهيأت له وتهيأ له رجل من الانصار من الناحية الاخرى، كلانا يريده، فهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه، وشد عليه الانصاري بالسيف، فربك أعلم أينا قتله، فإن كنت قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتلت شر الناس !
قلت: الانصاري هو أبو دجانة سماك بن خرشة.
وقال الواقدي في الردة: هو عبدالله بن زيد بن عاصم المازنى.
وقال سيف بن عمرو: هو عدى بن سهل.
وهو القائل: ألم تر أنى ووحشيهم * قتلت مسيلمة المفتتن ويسألني الناس عن قتله * فقلت: ضربت وهذا طعن والمشهور أن وحشيا هو الذى بدره بالضربة وذفف عليه أبو دجانة، لما روى ابن إسحاق، عن عبدالله بن الفضل، عن سليمان بن يسار، عن ابن عمر قال: سمعت صارخا يوم اليمامة يقول: قتله العبد الاسود.
* * * وقد روى البخاري قصة مقتل حمزة من طريق عبد العزيز بن عبدالله بن أبى سلمة
__________
(1) بالاصل غير منقوطة.
وما أثبته عن الروض الانف 2 / 132.
(*)
الماجشون، عن عبدالله بن الفضل، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمرى، قال: خرجت مع عبدالله بن عدى بن الخيار.
فذكر القصة كما تقدم.
وذكر أن عبيد الله بن عدى كان معتجرا عمامة لا يرى منه وحشى إلا عينيه ورجليه، فذكر من معرفته له ما تقدم.
وهذه قيافة عظيمة، كما عرف مجزز المدلجى أقدام زيد وابنه أسامة مع اختلاف ألوانهما.
وقال في سياقته: فلما أن صف الناس للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز ؟ فخرج إليه حمزة بن عبدالمطلب فقال له: يا سباع يابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحاد الله ورسوله ؟ ! ثم شد عليه فكان كأمس الذاهب ! قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا منى رميته بحربتي فأضعها في ثنته، حتى
خرجت من بين وركيه، قال: فكان ذلك آخر العهد به.
إلى أن قال: فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج مسيلمة الكذاب قلت: لاخرج إلى مسيلمة لعلى أقتله فأكافئ به حمزة.
قال: فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان.
قال: فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس، قال: فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من [ بين ] (1) كتفيه، قال: ووثب إليه رجل من الانصار فضربه بالسيف على هامته.
قال عبدالله بن الفضل: فأخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبدالله بن عمر يقول: فقالت جارية على ظهر البيت: واأمير المؤمناه (2) ! قتله العبد الاسود.
قال ابن هشام: فبلغني أن وحشيا لم يزل يحد في الخمر حتى خلع من الديوان، فكان عمر بن الخطاب يقول: قد قلت إن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة !
__________
(1) من صحيح البخاري.
(3) البخاري: واأمير المؤمنين.
(*)
قلت: وتوفى وحشى بن حرب، أبو دسمة، ويقال أبو حرب، بحمص، وكان أول من لبس الثياب المدلوكة.
* * * قال ابن إسحاق: وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل.
وكان الذى قتله ابن قمئة الليثى، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قريش: فقال قتلت محمدا.
قلت: وذكر موسى بن عقبة في مغازيه عن سعيد بن المسيب أن الذى قتل مصعبا هو أبى بن خلف.
فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: فلما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء على بن أبى طالب.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: كان اللواء أولا مع على بن أبى طالب، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء المشركين مع عبد الدار قال: نحن أحق بالوفاء منهم، أخذ اللواء من على بن أبى طالب فدفعه إلى مصعب بن عمير، فلما قتل مصعب أعطى اللواء على بن أبى طالب.
قال ابن إسحاق: وقاتل على بن أبى طالب ورجال من المسلمين.
قال ابن هشام: وحدثني مسلمة بن علقمة المازنى، قال: لما اشتد القتال يوم أحد جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت راية الانصار، وأرسل إلى على: أن قدم الراية.
فقدم على وهو يقول: أنا أبو القصم.
فناداه أبو سعد بن أبى طلحة، وهو صاحب لواء المشركين: هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة ؟ قال: نعم.
فبرزا بين الصفين، فاختلفا ضربتين، فضربه على فصرعه، ثم انصرف ولم يجهز عليه.
فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه ؟ فقال: إنه استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم وعرفت أن الله قد قتله.
وقد فعل ذلك على رضى الله عنه يوم صفين مع بسر بن أبى أرطاة لما حمل عليه ليقتله أبدى له عورته فرجع عنه.
وكذلك فعل عمرو بن العاص حين حمل عليه على في بعض أيام صفين أبدى عن عورته فرجع على أيضا.
ففى ذلك يقول الحارث بن النضر: أفى (1) كل يوم فارس غير منته * وعورته وسط العجاجة باديه يكف لها عنه على سنانه * ويضحك منها في الخلاء معاويه ! وذكر يونس عن ابن إسحاق، أن طلحة بن أبى طلحة العبدرى حامل لواء المشركين يومئذ دعا إلى البراز فأحجم عنه الناس، فبرز إليه الزبير بن العوام فوثب حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الارض فألقاه عنه وذبحه بسيفه، فأثنى عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لكل نبى حواريا وحواري الزبير " وقال: لو لم يبرز إليه لبرزت أنا إليه لما رأيت من إحجام الناس عنه.
وقال ابن إسحاق: قتل أبا سعد بن أبى طلحة سعد بن أبى وقاص.
وقاتل عاصم بن ثابت بن أبى الاقلح فقتل نافع بن أبى طلحة وأخاه الحلاس، كلاهما يشعره سهما فيأتى أمه سلافة فيضع رأسه في حجرها، فتقول: يا بنى من أصابك ؟ فيقول: سمعت رجلا حين رماني يقول: خذها وأنا ابن أبى الاقلح.
فنذرت إن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر.
وكان عاصم قد عاهد الله لا يمس مشركا أبدا ولا يمسه.
ولهذا حماه الله منه يوم الرجيع كما سيأتي.
قال ابن إسحاق: والتقى حنظلة بن أبى عامر، واسمه عمرو، ويقال عبد عمرو بن صيفي، وكان يقال لابي عامر في الجاهلية الراهب، لكثرة عبادته، فسماه رسول الله
__________
(1) الاصل: أتى.
وهو تحريف.
وما أثبته عن الروض الانف 2 / 133.
(*)
صلى الله عليه وسلم الفاسق، لما خالف الحق وأهله وهرب من المدينة هربا من الاسلام ومخالفة للرسول عليه السلام.
وحنظلة الذى يعرف بحنظلة الغسيل، لانه غسلته الملائكة.
كما سيأتي.
هو وأبو سفيان صخر بن حرب، فلما علاه حنظلة رآه شداد بن الاوس، وهو الذى يقال له ابن شعوب، فضربه شداد فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن صاحبكم لتغسله الملائكة، فاسألوا أهله ما شأنه ؟ ".
فسئلت صاحبته.
قال الواقدي: هي جميلة بنت أبى بن سلول وكانت عروسا عليه تلك الليلة.
فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك غسلته الملائكة !
وقد ذكر موسى بن عقبة أن أباه ضرب برجله في صدره، فقال: ذنبان أصبتهما، ولقد نهيتك عن مصرعك هذا، ولقد والله كنت وصولا للرحم برا بالوالد.
قال ابن إسحاق: وقال ابن شعوب في ذلك: لاحمين صاحبي ونفسي * بطعنة مثل شعاع الشمس وقال ابن شعوب: ولولا دفاعي يابن حرب ومشهدي * لالفيت يوم النعف (1) غير مجيب ولولا مكرى المهر بالنعف فرفرت (2) * عليه ضباع (3) أو ضراء كليب (4) وقال أبو سفيان: ولو شئت نجتنى كميت: طمرة (5) * ولم أحمل النعماء لابن شعوب
__________
(1) النعف: ما انحدر من حزونة الجبل (2) فرفرت: أسرعت وطاشت.
وفى ابن هشام: قرقرت.
بالقاف.
(3) ابن هشام: ضباع عليه (4) الضراء: الضارية من الكلاب.
(5) الطمرة: الفرس السريعة الجرى.
(*)
وما زال مهرى مزجر الكلب منهم * لدن غدوة حتى دنت لغروب أقاتلهم وأدعى يالغالب * وأدفعهم عنى بركن صليب فبكى ولا ترعى مقالة عاذل * ولا تسأمى من عبرة ونحيب أباك وإخوانا له قد تتابعوا * وحق لهم من عبرة بنصيب وسلى الذى قد كان في النفس أننى * قتلت من النجار كل نجيب ومن هاشم قرما (1) كريما ومصعبا * وكان لدى الهيجاء غير هيوب فلو أننى لم أشف نفسي منهم * لكانت شجى في القلب ذات ندوب فآبوا وقد أودى الجلابيب منهم * بهم خدب من معبط وكئيب (2)
أصابهم من لم يكن لدمائهم * كفاء ولا في خطة بضريب فأجابه حسان بن ثابت: ذكرت القروم الصيد من آل هاشم * ولست لزور قلته بمصيب أتعجب أن أقصدت حمزة منهم * نجيبا وقد سميته بنجيب ألم يقتلوا عمرا وعتبة وابنه * وشيبة والحجاج وابن حبيب غداة دعا العاصى عليا فراعه * بضربة عضب بله بخضيب فصل قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحشوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها.
وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عبدالله بن الزبير، عن الزبير، قال: والله لقد رأيتنى أنظر إلى خدم (3) هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب،
__________
(1) القرم: السيد.
(2) الخدب: الهوج.
والمعبط.
الذى يسيل دمه.
(3) الخدم: السوق.
(*)
ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة على العسكر حين كشفنا القوم عنه وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من خلفنا، وصرخ وصارخ: ألا إن محمدا قد قتل.
فانكفأنا وانكفأ القوم علينا، بعد أن أصبنا أصحاب اللواء، حتى ما يدنو منه أحد منهم.
فحدثني بعض أهل العلم، أن اللواء لم يزل صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فلاثوا به، وكان اللواء مع صواب، غلام لبنى أبى طلحة حبشي، وكان آخر من أخذه منهم، فقاتل به حتى قطعت يداه، ثم برك عليه، فأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه وهو يقول: اللهم هل أعزرت.
يعنى: اللهم هل أعذرت.
فقال حسان بن ثابت في ذلك: فخرتم باللواء وشر فخر * لواء حين رد إلى صواب جعلتم فخركم فيه لعبد * وألام من يطا عفر التراب ظننتم والسفيه له ظنون * وما إن ذاك من أمر الصواب بأن جلادنا يوم التقينا * بمكة بيعكم حمر العياب أقر العين أن عصبت يداه * وما إن تعصبان على خضاب وقال حسان أيضا في رفع عمرة بنت علقمة اللواء لهم: إذا عضل سيقت إلينا كأنها * جداية شرك معلمات الحواجب (1) أقمنا لهم طعنا مبيرا منكلا * وحزناهم بالضرب من كل جانب فلولا لواء الحارثية أصبحوا * يباعون في الاسواق بيع الجلائب * * * قال ابن إسحاق: فانكشف المسلمون وأصاب منهم العدو، وكان يوم بلاء
__________
(1) الجداية: الغزال.
وشرك: موضع.
(*)
وتمحيص، أكرم الله فيه من أكرم بالشهادة، حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدث بالحجارة حتى وقع لشقه، فأصيبت رباعيته وشج في وجهه وكلمت شفته، وكان الذى أصابه عتبة بن أبى وقاص.
فحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وشج في وجهه، فجعل يمسح الدم ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله.
فأنزل الله: " ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ".
قال ابن جرير في تاريخه: حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن الفضل، حدثنا
أسباط، عن السدى، قال أتى ابن قمئة الحارثى فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله، وتفرق عنه أصحابه ودخل بعضهم المدينة وانطلق طائفة فوق الجبل إلى الصخرة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: إلى عباد الله، إلى عباد الله.
فاجتمع إليه ثلاثون رجلا، فجعلوا يسيرون بين يديه فلم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنيف، فحماه طلحة فرمى بسهم في يده فيبست يده، وأقبل أبى بن خلف الجمحى وقد حلف ليقتلن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: بل أنا أقتله.
فقال: يا كذاب أين تفر، فحمل عليه فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في جيب الدرع فجرح جرحا خفيفا فوقع يخور خوار الثور فاحتملوه، وقالوا: ليس بك جراحة فما يجزعك ؟ قال: أليس قال: لاقتلنك ! لو كانت تجتمع ربيعة ومضر لقتلهم.
فلم يلبث إلا يوما أو بعض يوم حتى مات من ذلك الجرح.
وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولا إلى عبدالله بن أبى فيأخذ لنا أمنة من أبى سفيان، يا قوم إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم.
فقال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم إنى أعتذر إليك مما يقول هؤلاء وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء.
ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل ! وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه يرميه فقال: أنا رسول الله.
ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا.
فقال الله عزوجل في الذين قالوا: إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " الآية.
فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم، فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذى كانوا عليه وهمهم أبو سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الارض ".
ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم.
فقال أبو سفيان يومئذ: اعل هبل، حنظلة بحنظلة، ويوم أحد بيوم بدر.
وذكر تمام القصة.
وهذا غريب جدا وفيه نكارة.
* * * قال ابن هشام: وزعم ربيح بن عبدالرحمن بن أبى سعيد، عن أبيه، عن أبى سعيد، أن عتبة بن أبى وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسر رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى، وأن عبدالله بن شهاب الزهري شجه في جبهته، وأن عبدالله بن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في حفرة من الحفر التى عملها أبو عامر ليقع فيها المسلمون فأخذ على بن أبى طالب بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، ومص مالك بن سنان أبو أبي سعيد الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده فقال: من مس دمه دمى لم تمسسه النار.
قلت: وذكر قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقع لشقه أغمى عليه، فمر به سالم مولى أبى حذيفة فأجلسه ومسح الدم عن وجهه، فأفاق وهو يقول: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله.
فأنزل الله: " ليس لك من الامر شئ " الآية.
رواه ابن جرير وهو مرسل، وسيأتى بسط هذا في فصل وحده.
قلت: كان أول النهار للمسلمين على الكفار، كما قال الله تعالى " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم، ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم " الآية.
* * * قال الامام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، أخبرنا عبدالرحمن بن أبى الزناد، عن أبيه، عن عبيدالله، عن ابن عباس، أنه قال: ما نصر الله في موطن كما نصر يوم أحد.
قال: فأنكرنا ذلك.
فقال: بينى وبين من أنكر ذلك كتاب الله: إن الله يقول في يوم أحد: " ولقد صدقكم الله وعده إذا تحسونهم بإذنه " يقول ابن عباس: والحس القتل " حتى إذا فشلتم " إلى قوله " ولقد عفا عنكم والله ذو فضل
على المؤمنين " وإنما عنى بهذا الرماة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا.
فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين أكب الرماة جميعا، فدخلوا في العسكر ينهبون، وقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم هكذا، وشبك بين أصابع يديه، والتبسوا.
فلما أخل الرماة تلك الخلة التى كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فضرب بعضهم بعضا، فالتبسوا وقتل من المسلمين ناس
كثير، وقد كان لرسول الله وأصحابه أول النهار، حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون جولة نحو الجبل ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار، إنما كانت تحت المهراس.
وصاح الشيطان: قتل محمد، فلم يشك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه حق حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين نعرفه بتكفيه إذا مشى.
قال: ففرحنا كأنه لم يصبنا ما أصابنا.
قال: فرقى نحونا وهو يقول: اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله.
ويقول مرة أخرى: اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا.
حتى انتهى إلينا.
فمكث ساعة فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: اعل هبل، اعل هبل، مرتين، يعنى آلهته، أين ابن أبى كبشة ؟ أين ابن أبى قحافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر بن الخطاب: ألا أجيبه ؟ قال: بلى.
قال: فلما قال: اعل هبل قال: الله أعلى وأجل.
قال أبو سفيان: يابن الخطاب قد أنعمت عينها (1)، فعاد عنها، أو فعال عنها.
__________
(1) يريد الحرب.
وفعال: أمر، أي عال عنها وأقصر عن لومها.
(*)
فقال: أين ابن أبى كبشة أين ابن أبى قحافة، أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أبو بكر، وهأنذا عمر.
قال: فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، الايام دول، وإن الحرب سجال.
قال: فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
قال: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذن وخسرنا ! ثم قال أبو سفيان: أما أنكم سوف تجدون في قتلاكم مثلة، ولم يكن ذلك عن رأى سراتنا.
قال: ثم أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إنه إن كان ذلك لم نكرهه.
وقد رواه ابن أبى حاتم والحاكم في مستدركه والبيهقي في الدلائل من حديث سليمان
ابن داود الهاشمي به.
وهذا حديث غريب، وهو من مرسلات ابن عباس، وله شواهد من وجوه كثيرة سنذكر منها ما تيسر إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.
وهو المستعان.
قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن البراء، قال: لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشا من الرماة وأمر عليهم عبدالله بن جبير، وقال: لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا.
فلما لقينا هربوا، حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة.
فقال عبدالله: عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا.
فأبوا، فلما أبوا صرفت وجوههم (1).
فأصيب سبعون قتيلا، وأشرف أبو سفيان فقال: أفى القوم محمد ؟ فقال: لا تجيبوه.
__________
(1) صرفت وجوههم: تحيروا فلم يدروا أين يذهبون.
(*)
فقال: أفى القوم ابن أبى قحافة ؟ فقال (1): لا تجيبوه.
فقال: أفى القوم ابن الخطاب ؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لاجابوا.
فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يحزنك.
فقال أبو سفيان: اعل هبل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه.
قالوا: ما نقول ؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل.
فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه.
قالوا: ما نقول ؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.
قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
وهذا من أفراد البخاري دون مسلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا موسى، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق، أن البراء بن عازب قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد، وكانوا خمسين رجلا، عبدالله بن جبير، قال: ووضعهم موضعا وقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
قال: فهزموهم، قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن.
فقال أصحاب عبدالله بن جبير: الغنيمة، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنظرون ؟ قال عبدالله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة.
__________
(1) القائل هو رسول الله صلوات الله عليه.
(4 السيرة 3) (*)
فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين، فذلك الذى يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اثنى عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين رجلا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرا وسبعين قتيلا.
فقال أبو سفيان: أفى القوم محمد ؟ أفى القوم محمد ؟ أفى القوم محمد ؟ ثلاثا، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه.
ثم قال: أفى القوم ابن أبى قحافة، أفى القوم ابن أبى قحافة ؟ أفى القوم ابن الخطاب، أفى القوم ابن الخطاب ؟ ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم.
فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت والله يا عدو الله، إن الذين عددت لاحياء كلهم، وقد بقى لك ما يسوءك.
فقال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
ثم أخذ يرتجز: اعل هبل اعل هبل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه ؟ قالوا: يا رسول الله وما نقول ؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل.
قال: إن العزى لنا ولا عزى لكم ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه ؟ قالوا: يا رسول الله ما نقول ؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.
ورواه البخاري من حديث زهير، وهو ابن معاوية، مختصرا.
وقد تقدم روايته له مطولة من طريق إسرائيل عن أبى إسحاق.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت وعلى بن زيد،
عن أنس بن مالك، أن المشركين لما رهقوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سبعة من الانصار ورجل من قريش، قال: يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة ؟ فجاء رجل من الانصار فقاتل حتى قتل.
فلما رهقوه أيضا قال: من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة ؟ حتى قتل السبعة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنصفنا أصحابنا.
ورواه مسلم عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة به.
وقال البيهقى في الدلائل: بإسناده عن عمارة بن غزية، عن أبى الزبير، عن جابر قال: انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وبقى معه أحد عشر رجلا من الانصار وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد في الجبل، فلحقهم المشركون فقال: ألا أحد
لهؤلاء ؟ فقال طلحة: أنا يا رسول الله.
فقال: كما أنت يا طلحة، فقال رجل من الانصار: فأنا يا رسول الله.
فقاتل عنه، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقى معه، ثم قتل الانصاري فلحقوه، فقال: ألا رجل لهؤلاء ؟ فقال طلحة مثل قوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله.
فقال رجل من الانصار: فأنا يا رسول الله، فقاتل وأصحابه يصعدون، ثم قتل فلحقوه.
فلم يزل يقول مثل قوله الاول ويقول طلحة: أنا يا رسول الله.
فيحبسه، فيستأذنه رجل من الانصار للقتال فيأذن له فيقاتل مثل من كان قبله.
حتى لم يبق معه إلا طلحة، فغشوهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهؤلاء ؟ فقال طلحة: أنا.
فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله، وأصيبت أنامله فقال: حس، فقال: لو قلت: بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء.
ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون.
وروى البخاري عن عبدالله بن أبى شيبة، عن وكيع، عن إسماعيل، عن قيس بن
أبى حازم، قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
وفى الصحيحين من حديث موسى بن إسماعيل، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبى عثمان النهدي قال: لم يبقى مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الايام التى يقاتل فيهن غير طلحة وسعد عن حديثهما.
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا مروان بن معاوية، عن هاشم بن هاشم السعدى، سمعت سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبى وقاص يقول: نثل لى رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد وقال: ارم فداك أبى وأمى.
وأخرجه البخاري، عن عبدالله بن محمد، عن مروان به.
وفى صحيح البخاري من حديث عبدالله بن شداد، عن على بن أبى طالب قال:
ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لاحد إلا لسعد بن مالك، فإنى سمعته يقول يوم أحد: يا سعد ارم فداك أبى وأمى.
قال محمد بن إسحاق: حدثنى صالح بن كيسان، عن بعض آل سعد، عن سعد بن أبى وقاص أنه رمى يوم أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال سعد: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني النبل ويقول: ارم فداك أبى وأمى ! حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل فأرمى به.
وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده، عن سعد ابن أبى وقاص قال: رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك ولا بعده.
يعنى جبريل وميكائيل عليهما السلام.
وقال أحمد: حدثنا عفان، أخبرنا ثابت، عن أنس، أن أبا طلحة كان يرمى بين يدى النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، والنبى صلى الله عليه وسلم خلفه يترس به، وكان
راميا، وكان إذا رمى رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصه ينظر أين يقع سهمه، ويرفع أبو طلحة صدره ويقول: هكذا، بأبى أنت وأمى يارسول الله لا يصيبك سهم، نحرى دون نحرك.
وكان أبو طلحة يسور نفسه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: إنى جلد يا رسول الله، فوجهني في حوائجك ومرني بما شئت.
وقال البخاري: حدثنا أبو معمر (1)، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز (2)، عن أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحجفة (3) له، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول (4): انثرها لابي طلحة.
قال: ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبى أنت وأمى لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحرى دون نحرك.
ولقد رأيت عائشة بنت أبى بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان (5) القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم.
ولقد وقع السيف من يدى أبى طلحة إما مرتين وإما ثلاثا.
قال البخاري: وقال لى خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن أبى طلحة قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفى من يدى مرارا، يسقط وآخذه ويسقط وآخذه.
هكذا ذكره البخاري معلقا بصيغة الجزم، ويشهد له قوله تعالى " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق
__________
(1) هو عبدالله بن عمرو العقدى.
(2) هو عبد العزيز بن صهيب.
(3) مجوب: مترس عليه يحميه.
والحجفة: ترس من جلد.
(4) القائل هو النبي صلوات الله وسلامه عليه (5) خدم سوقهما: خلاخيلهما.
قال القسطلانى: وذلك محمول على نظر الفجأة.
وتنقزان: تثبان وتفرغان القرب.
(*)
ظن الجاهلية يقولون: هل لنا من الامر من شئ، قل إن الامر كله لله يخفون في أنفسهم مالا يبدون لك، يقولون: لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ها هنا، قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور.
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم ".
قال البخاري: حدثنا عبدان (1) أخبرنا أبو حمزة، عن عثمان بن موهب، قال: جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا، فقال: من هؤلاء القعود ؟ قال: هؤلاء قريش قال: من الشيخ ؟ قالوا: ابن عمر.
فأتاه فقال: إنى سائلك عن شئ أتحدثني ؟ قال: أنشدك
بحرمة هذا البيت: أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد ؟ قال: نعم.
قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها ؟ قال: نعم.
قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال: نعم.
قال: فكبر (2).
قال ابن عمر: تعال لاخبرك ولا بين لك عما سألتنى عنه.
أما فراره يوم أحد: فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت النبي صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه.
وأما تغيبه عن بيعة الرضوان: فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه، فبعث عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان.
فضرب بها على يده.
فقال: هذه لعثمان.
__________
(1) عبدان: لقب عبدالله بن عثمان المروزى.
(2) كبر: مستحسنا لما أجابه ابن عمر، لمطابقته لما يعتقده في عثمان رضى الله عنه.
(*)
اذهب بهذا (1) الآن معك.
وقد رواه البخاري أيضا في موضع آخر، والترمذي من حدث أبى عوانة، عن عثمان بن عبدالله بن موهب به.
وقال الاموى في مغازيه، عن ابن إسحاق: حدثنى يحيى بن عباد، عن أبيه، عن جده سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وقد كان الناس انهزموا عنه حتى بلغ بعضهم إلى المنقى دون الاعوص، وفر عثمان بن عفان وسعد بن عثمان رجل من الانصار حتى بلغوا الجلعب، جبل بناحية المدينة مما يلى الاعوص، فأقاموا ثلاثا ثم رجعوا، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضة.
* * * والمقصود أن أحدا وقع فيها أشياء مما وقع في بدر، منها: حصول النعاس حال التحام الحرب، وهذا دليل على طمأنينة القلوب بنصر الله وتأييده وتمام توكلها على خالقها وبارئها.
وقد تقدم الكلام على قوله تعالى في غزوة بدر: " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه " الآية وقال هاهنا: " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم " يعنى المؤمنين الكمل كما قال ابن مسعود وغيره من السلف: النعاس في الحرب من الايمان، والنعاس في الصلاة من النفاق.
ولهذا قال بعد هذا: " وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " الآية.
ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنصر يوم أحد كما استنصر يوم بدر بقوله: " إن تشأ لا تعبد في الارض ".
كما قال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد وعفان قالا: حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول يوم أحد: " اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الارض ".
__________
(1) يريد: اذهب بهذه الاجوبة التى أجبتك بها.
(*)
ورواه مسلم عن حجاج بن الشاعر، عن عبد الصمد، عن حماد بن سلمة به.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع جابر بن عبدالله قال: قال رجل للنبى صلى الله عليه وسلم يوم أحد: " أرأيت إن قتلت فأين أنا ؟ قال: في الجنة، فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل ".
ورواه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به.
وهذا شبيه بقصة عمير بن الحمام التى تقدمت في غزوة بدر رضى الله عنهما وأرضاهما.
فصل فيما لقى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ من المشركين قبحهم الله قال البخاري: ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أحد.
حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا عبد الرزاق، عن همام بن منبه، سمع أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه - يشير إلى رباعيته - اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله ".
ورواه مسلم من طريق عبد الرزاق، حدثنا مخلد بن مالك، حدثنا يحيى بن سعيد الاموى، حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: " اشتد غضب الله على من قتله النبي في سبيل الله، اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا ثابت، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد وهو يسلت الدم عن وجهه وهو يقول: " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته، وهو يدعو إلى الله " فأنزل الله: " ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ".
ورواه مسلم عن القعنبى، عن حماد بن سلمة به.
ورواه الامام أحمد، عن هشيم ويزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال: " كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم " فأنزل الله تعالى: " ليس لك من الامر شئ ".
وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا يعقوب، عن أبى حازم، أنه سمع سهل بن
سعد وهو يسأل عن جرح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أما والله إنى لاعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان يسكب الماء وبما دووى، قال: كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسله وعلى يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم، وكسرت رباعيته يومئذ، وجرح وجهه وكسرت البيضة على رأسه.
* * * وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا ابن المبارك، عن إسحاق، عن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، أخبرني عيسى بن طلحة، عن أم المؤمنين عائشة قالت: كان أبو بكر إذ ذكر يوم أحد قال: ذاك يوم كله لطلحة ! ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلا يقاتل في سبيل الله دونه، وأراه قال: حمية، قال: فقلت: كن طلحة، حيث فاتني ما فاتني، فقلت: يكون رجلا من قومي أحب إلى، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه وهو يخطف المشى خطفا لا أخطفه، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح، فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كسرت رباعيته وشج في وجهه، وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عليكما صاحبكما " يريد طلحة.
وقد نزف، فلم نلتفت إلى قوله.
قال: وذهبت لانزع ذاك من وجهه، فقال: أقسم عليك بحقى لما تركتني، فتركته فكره تناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزم عليها بفيه، فاستخرج إحدى الحلقتين ووقعت ثنيته مع الحلقة، وذهبت لاصنع ما صنع فقال: أقسمت عليك بحقى لما تركتني.
قال: ففعل مثل ما فعل في المرة الاولى، فوقعت ثنيته الاخرى مع الحلقة،
فكان أبو عبيدة رضى الله عنه من أحسن الناس هتما !
فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار فإذا به بضع وسبعون من بين طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت إصبعه، فأصلحنا من شأنه.
* * * وذكر الواقدي عن ابن أبى سبرة، عن إسحاق بن عبدالله بن أبى فروة، عن أبى الحويرث، عن نافع بن جبير، قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا فنظرت إلى النبل تأتى من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبدالله بن شهاب الزهري يومئذ يقول: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد، فجاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان بن أمية، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إليه.
قال الواقدي: ثبت عندي أن الذى رمى في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قمئة، والذى رمى في شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبى وقاص.
وقد تقدم عن ابن إسحاق نحو هذا، وأن الرباعية التى كسرت له عليه السلام هي اليمنى السفلى.
قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن كيسان، عمن حدثه، عن سعد بن أبى وقاص، قال: ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبى وقاص، وإن كان ما علمت لسيئ الخلق مبغضا في قومه، ولقد كفانى فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله ".
وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن الزهري، عن عثمان الحروري، عن مقسم،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبى وقاص حين كسر رباعيته ودمى
وجهه فقال: " اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا ".
فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار.
وقال أبو سليمان الجوزجانى: حدثنا محمد بن الحسن، حدثنى إبراهيم بن محمد، حدثنى ابن عبدالله بن محمد بن أبى بكر بن حرب، عن أبيه، عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم داوى وجهه يوم أحد بعظم بال.
هذا حديث غريب رأيته في أثناء كتاب المغازى للاموي في وقعة أحد.
* * * ولما نال عبدالله بن قمئة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نال، رجع وهو يقول: قتلت محمدا.
وصرخ الشيطان أزب العقبة يومئذ بأبعد صوت: ألا إن محمدا قد قتل.
فحصل بهتة عظيمة في المسلمين، واعتقد كثير من الناس ذلك، وصمموا على القتال عن حوزة الاسلام حتى يموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم أنس بن النضر وغيره ممن سيأتي ذكره.
وقد أنزل الله تعالى التسلية في ذلك على تقدير وقوعه، فقال تعالى: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين.
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا، ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها، وسنجزي الشاكرين.
وكأى من نبى قاتل معه ربيون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين.
وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا
وانصرنا على القوم الكافرين.
فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله
يحب المحسنين.
يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين.
بل الله مولاكم وهو خير الناصرين.
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين " (1).
وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في كتابنا التفسير ولله الحمد.
وقد خطب الصديق رضى الله عنه في أول مقام قامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، ثم تلا هذه الآية: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " الآية.
قال: فكأن الناس لم يسمعوها قبل ذلك، فما من الناس أحد إلا يتلوها.
وروى البيهقى في دلائل النبوة من طريق ابن أبى نجيح، عن أبيه قال: مر رجل من المهاجرين يوم أحد على رجل من الانصار وهو يتشحط في دمه.
فقال له: يا فلان، أشعرت أن محمدا قد قتل، فقال الانصاري: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل فقد بلغ الرسالة فقاتلوا عن دينكم ! فنزل: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " الآية.
ولعل هذا الانصاري هو أنس بن النضر رضى الله عنه، وهو عم أنس بن مالك.
قال الامام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حميد، عن أنس، أن عمه غاب عن قتال بدر، فقال غبت عن أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين، لئن الله أشهدني قتالا للمشركين ليرين ما أصنع.
فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم إنى أعتذر إليك عما صنع
__________
(1) سورة آل عمران.
(*)
هؤلاء، يعنى أصحابه، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، يعنى المشركين، ثم تقدم
فلقيه سعد بن معاذ دون أحد فقال سعد: أنا معك.
قال سعد: فلم أستطع أصنع ما صنع.
فوجد فيه بضع وثمانون، من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم.
قال: فكنا نقول: فيه وفى أصحابه نزلت: " فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ".
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، والنسائي عن إسحاق بن راهويه، كلاهما عن يزيد بن هارون به.
وقال الترمذي: حسن.
قلت: بل على شرط الصحيحين من هذا الوجه.
وقال أحمد: حدثنا بهز، وحدثنا هاشم، قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت قال: قال أنس: عمى.
قال هاشم: أنس بن النضر.
سميت به، ولم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
قال: فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، ولئن أرانى الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع.
قال: فهاب أن يقول غيرها.
فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، قال: فاستقبل سعد بن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو أين ؟ واها لريح الجنة أجده دون أحد.
قال: فقاتلهم حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية.
قال: فقالت أخته عمتى الربيع بنت النضر: فما عرفت أخى إلا ببنانه.
ونزلت هذه الآية: " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا ".
قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفى أصحابه.
ورواه مسلم، عن محمد بن حاتم، عن بهز بن أسد.
ورواه الترمذي والنسائي من
حديث عبدالله بن المبارك.
وزاد النسائي، وأبو داود وحماد بن سلمة، أربعتهم عن سليمان بن المغيرة به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال أبو الأسود، عن عروة بن الزبير قال: كان أبى بن خلف أخو بنى جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفته قال: بل أنا أقتله إن شاء الله.
فلما كان يوم أحد أقبل أبى في الحديد مقنعا وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد.
فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله، فاستقبله مصعب بن عمير أخو بنى عبد الدار يقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبى بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه فيها بالحربة فوقع إلى الارض عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم.
فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور فقالوا له: ما أجزعك ! إنما هو خدش.
فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أقتل أبيا، ثم قال: والذى نفسي بيده، لو كان هذا الذى بى بأهل ذى المجاز لماتوا أجمعون.
فمات إلى النار، فسحقا لاصحاب السعير ! وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب نحوه.
وقال ابن إسحاق: لما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، أدركه أبى ابن خلف وهو يقول: لا نجوت إن نجوت.
فقال القوم: يا رسول الله يعطف عليه رجل منا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه.
فلما دنا منه: تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة،
فقال بعض القوم، كما ذكر لى، فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم انتفض انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا.
وذكر الواقدي عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر ابن قتادة، عن عبدالله بن كعب بن مالك، عن أبيه.
نحو ذلك.
قال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أبى بن خلف ببطن رابغ، فإنى لاسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا أنا بنار تأججت، فهبتها وإذا برجل يخرج منها بسلسلة يجذبها يهيجه العطش، فإذا رجل يقول: لا تسقه، فإنه قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبى بن خلف.
وقد ثبت في الصحيحين كما تقدم، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله ".
ورواه البخاري، من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس: " اشتد غضب الله على من قتله رسول لله بيده في سبيل الله ".
* * * وقال البخاري: وقال أبو الوليد، عن شعبة، عن ابن المنكدر، سمعت جابرا قال: لما قتل أبى جعلت أبكى وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهونني والنبى صلى الله عليه وسلم لم ينه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تبكه أو ما تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع ".
هكذا ذكر هذا الحديث هاهنا معلقا، وقد أسنده في الجنائز عن بندار عن غندر، عن شعبة.
ورواه مسلم والنسائي من طرق عن شعبة به.
وقال البخاري: حدثنا عبدان، أخبرنا عبدالله بن المبارك، عن شعبة، عن سعد ابن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم، أن عبدالرحمن بن عوف أتى بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير منى، كفن في بردة إن غطى رأسه بدت رجلاء، وإن غطى رجلاه بدا رأسه، وأراه قال: وقتل حمزة هو خير منى، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا.
وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا.
ثم جعل يبكى حتى برد الطعام.
انفرد به البخاري.
وقال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا الاعمش، عن شقيق، عن خباب بن الارت، قال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نبتغى وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئا، كان منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد لم يترك إلا نمرة (1)، كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطى بها رجلاه خرج رأسه، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله الاذخر.
ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها (2).
وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق، عن الاعمش به.
وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن سعيد، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون، فصرخ إبليس لعنة الله
__________
(1) النمرة: بردة من صوف.
(2) يهدبها: يجتنيها.
(5 - السيرة - 3) (*)
عليه: أي عباد الله (1) أخراكم.
فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عباد الله أبى أبى ! قال: قالت: فوالله ما احتجزوا حتى
قتلوه.
فقال حذيفة: يغفر الله لكم.
قال عروة: فوالله ما زال في حذيفة بقية خير (2) حتى لقى الله عزوجل.
قلت: كان سبب ذلك أن اليمان وثابت بن وقش كانا في الآطام مع النساء لكبرهما وضعفهما، فقالا: إنه لم يبق من آجالنا إلاظمء (3) حمار.
فنزلا ليحضرا الحرب فجاء طريقهما ناحية المشركين، فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فقتله المسلمون خطأ.
وتصدق حذيفة بدية أبيه على المسلمين، ولم يعاتب أحدا منهم، لظهور العذر في ذلك.
* * * فصل قال ابن إسحاق: وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى سقطت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدهما.
وفى الحديث عن جابر بن عبدالله، أن قتادة بن النعمان أصيبت عينه يوم أحد حتى سالت على خده، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها، فكانت أحسن عينيه وأحدهما، وكانت لا ترمد إذا رمدت الاخرى.
وروى الدارقطني بإسناد غريب، عن مالك، عن محمد بن عبدالله بن أبى صعصعة، عن أبيه، عن أبى سعيد، عن أخيه قتادة بن النعمان قال: أصيبت عيناى يوم أحد فسقطتا على وجنتي، فأتيت بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعادهما مكانهما وبصق فيهما فعادتا تبرقان.
__________
(1) يريد المسلمين، أي احترزوا من الذين وراءكم متأخرين عنكم، ليقتل بعض المسلمين بعضا.
(2) وقيل: بقية حزن.
القسطلانى 6 / 300 (3) الظمء: ما بين الشربتين والوردين، والمراد: ما بقى إلا يسير، لانه ليس شئ أقصر ظمأ منه.
(*)
والمشهور الاول، أنه أصيبت عينه الواحدة، ولهذا لما وفد ولده على عمر بن
عبد العزيز قال له: من أنت ؟ فقال له مرتجلا: أنا ابن الذى سالت على الخد عينه * فردت بكف المصطفى أحسن الرد فعادت كما كانت لاول أمرها * فيا حسنها عينا ويا حسن ما خد فقال عمر بن عبد العزيز عند ذلك:.
تلك المكارم لاقعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا ! ثم وصله فأحسن جائزته رضى الله عنه.
* * * فصل قال ابن هشام: وقاتلت أم عمارة نسيبة (1) بنت كعب المازنية يوم أحد.
فذكر سعيد بن أبى زيد الانصاري، أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول: دخلت على أم عمارة فقلت لها: يا خالة أخبريني خبرك.
فقالت: خرجت أول النهار أنظر ما يصنع الناس ومعى سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمى عن القوس، حتى خلصت الجراح إلى.
قالت: فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور، فقلت لها: من أصابك بهذا ؟ قالت: ابن قمئة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا.
فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت
__________
(1) نسيبة، بفتح النون وكسر السين المهملة، كما ضبطها في الاكمال والتبصير والاصابة وغيرهم، وصبطها بالتصغير وهم، إنما هذا في نسيبة أم عطية، فنقله في أم عمارة غلط.
انظر شرح المواهب 2 / 41.
(*)
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات،
ولكن عدو الله كانت عليه درعان.
قال ابن إسحاق: وترس أبو دجانة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه حتى كثر فيه النبل.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه، حتى اندقت سيتها فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده.
قال ابن إسحاق: وحدثني القاسم بن عبدالرحمن بن رافع، أخو بنى عدى بن النجار، قال: انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيدالله، في رجال من المهاجرين والانصار، وقد ألقوا بأيديهم فقال: فما يجلسكم ؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فما تصنعون بالحياة بعده ! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم استقبل فقاتل حتى قتل، وبه سمى أنس بن مالك.
فحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته، عرفته ببنانه.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم، أن عبدالرحمن بن عوف أصيب فوه يومئذ فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج.
* * * فصل قال ابن إسحاق: وكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وقول الناس قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكر لى الزهري، كعب بن مالك
قال: رأيت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن أنصت.
قال ابن إسحاق: فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به، ونهض معهم نحو الشعب معه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وطلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام والحارث بن الصمة ورهط من المسلمين، فلما أسند (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبى بن خلف، فذكر قتله عليه السلام أبيا كما تقدم.
قال ابن إسحاق: وكان أبى بن خلف، كما حدثنى صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن ابن عوف يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فيقول: يا محمد إن عندي العوذ، فرسا، أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه.
فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله.
فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير فاحتقن الدم، فقال: قتلني والله محمد.
فقالوا له: ذهب والله فؤادك ! والله إن بك بأس.
قال: إنه قد كان قال لى بمكة: أنا أقتلك.
فوالله لو بصق على لقتلني ! فمات عدو الله بسرف (2)، وهم قافلون به إلى مكة.
قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت في ذلك: لقد ورث الضلالة عن أبيه * أبى يوم بارزه الرسول أتيت إليه تحمل رم عظم * وتوعده وأنت به جهول وقد قتلت بنو النجار منكم * أمية إذ يغوث: يا عقيل
__________
(1) أسند: صعد.
أي استند إلى جانب من الجبل.
(2) سرف: موضع على ستة أميال من مكة.
(*)
وتب ابنا ربيعة إذ أطاعا * أبا جهل لامهما الهبول وأفلت حارث لما شغلنا * بأسر القوم، أسرته فليل
وقال حسان بن ثابت أيضا: ألا من مبلغ عنى أبيا * فقد (1) ألقيت في سحق السعير تمنى بالضلالة من بعيد * وتقسم أن قدرت مع النذور تمنيك الامانى من بعيد * وقول الكفر يرجع في غرور فقد لاقتك طعنة ذى حفاظ * كريم البيت ليس بذى فجور له فضل على الاحياء طرا * إذا نابت ملمات الامور * * * قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب خرج على ابن أبى طالب حتى ملا درقته ماء من المهراس (2)، فجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحا فعافه ولم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم وصب على رأسه وهو يقول: " اشتد غضب الله على من دمى وجه نبيه ".
وقد تقدم شواهد ذلك من الاحاديث الصحيحة بما فيه الكفاية.
قال ابن إسحاق: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب معه أولئك النفر من أصحابه إذ علت عالية من قريش الجبل.
قال ابن هشام: فيهم خالد بن الوليد.
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه لا ينبغى لهم أن يعلونا.
فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل، ونهض
__________
(1) ابن هشام: لقد.
(2) الدرقة: الحجفة، وهى ترس من جلد، والمهراس: ماء بأحد.
(*)
النبي صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها وقد كان بدن (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهر بين درعين، فلما ذهب لينهض لم يستطع، فجلس تحته طلحة بن
عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها.
فحدثني يحيى بن عباد، بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، عن عبدالله بن الزبير، عن الزبير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ: " أوجب طلحة (2) " حين صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ما صنع.
قال ابن هشام: وذكر عمر مولى عفرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم أحد قاعدا من الجراح التى أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعودا.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: كان فينا رجل أ ؟ ؟ لا يدرى من هو يقال له قزمان، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ذكر: " إنه لمن أهل النار ".
قال: فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا، فقتل هو وحده ثمانية أو سبعة من المشركين، وكان ذا بأس، فأثبنته الجراحة، فاحتمل إلى دار بنى ظفر.
قال: فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر.
قال: بماذا أبشر ! فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت ! قال: فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما من كنانته فقتل به نفسه.
وقد ورد مثل قصة هذا في غزوة خيبر.
كما سيأتي إن شاء الله.
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن المسيب، عن أبى هريرة، قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال لرجل
__________
(1) بدن: ثقل من السن.
(2) يعنى: أحدث شيئا يستوجب به الجنة.
(*)
ممن يدعى الاسلام: " هذا من أهل النار ".
فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا، فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله
الرجل الذى قلت إنه من أهل النار.
قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إلى النار ".
فكاد بعض القوم يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل: فإنه لم يمت ولكن به جراح شديدة، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " الله أكبر، أشهد أنى عبد الله ورسوله ".
ثم أمر بلالا فنادى في الناس: " إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ! ".
وأخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به.
* * * قال ابن إسحاق: وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق، وكان أحد بنى ثعلبة بن الفطيون فلما كان يوم أحد قال: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق.
قالوا: إن اليوم يوم السبت.
قال: لا سبت لكم.
فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أصبت فمالى لمحمد يصنع فيه ما شاء.
ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل معه حتى قتل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا: " مخيريق خير يهود ".
قال السهيلي: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال مخيريق، وكانت سبع حوائط، أوقافا بالمدينة لله.
قال محمد بن كعب القرظى: وكانت أول وقف بالمدينة.
وقال ابن إسحاق: وحدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ، عن أبى سفيان مولى ابن أبى أحمد، عن أبى هريرة، أنه كان يقول: حدثوني عن رجل دخل
الجنة لم يصل قط.
فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو ؟ فيقول: أصيرم بنى عبد الاشهل، عمرو بن ثابت بن وقش.
قال الحصين: فقلت لمحمود بن أسد: كيف كان شأن الاصيرم ؟ قال: كان يأبى الاسلام على قومه، فلما كان يوم أحد بدا له فأسلم، ثم أخذ سيفه فغدا حتى دخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراحة.
قال: فبينما رجال من بنى عبد الاشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للاصيرم ما جاء به ؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الحديث.
فسألوه فقالوا: [ ما جاء بك يا عمرو ] (1) أحدب على قومك أم رغبة في الاسلام ؟ فقال: بل رغبة في الاسلام، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت، ثم أخذت سيفى وغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلت حتى أصابني ما أصابني.
فلم يلبث أن مات في أيديهم، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إنه من أهل الجنة ".
قال ابن إسحاق: وحدثني أبى، عن أشياخ من بنى سلمة، قالوا: كان عمرو بن الجموح رجلا أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الاسد يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا: إن الله قد عذرك.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن بنى يريدون أن يحبسونى عن هذا
__________
(1) من ابن هشام.
(*)
الوجه والخروج معك فيه، فوالله إنى لارجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك " وقال لبنيه: " ما عليكم أن لا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة ".
فخرج معه فقتل يوم أحد رضى الله عنه.
* * * قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة - كما حدثنى صالح بن كيسان - والنسوة اللائى معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجد عن الآذان والانوف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم خدما (1) وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا.
وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.
وذكر موسى بن عقبة أن الذى بقر عن كبد حمزة وحشى، فحملها إلى هند فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها.
فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت: نحن جزيناكم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات سعر (2) ما كان لى عن عتبة من صبر * ولا أخى وعمه وبكر شفيت نفسي وقضيت نذري * شفيت وحشى غليل صدري فشكر وحشى على عمرى * حتى ترم أعظمي في قبري قال: فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب فقالت: خزيت في بدر وبعد بدر * يا بنت وقاع عظيم الكفر صبحك الله غداة الفجر * م الهاشميين الطوال الزهر
__________
(1) الخدم: الخلاخيل.
(2) السعر بضمتين: الشدة والقرم.
(*)
بكل قطاع حسام يفرى * حمزة ليثى وعلى صقري إذ رام شيب وأبوك غدري * فخضبا منه ضواحي النحر ونذرك السوء فشر نذر
قال ابن إسحاق: وكان الحليس بن زيان أخو بنى الحارث بن عبد مناة - وهو يومئذ سيد الاحابيش - مر بأبى سفيان وهو يضرب في شدق حمزة بن عبدالمطلب بزج الرمح ويقول: ذق عقق ! فقال الحليس: يا بنى كنانة، هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما ! فقال: ويحك اكتمها عنى فإنها كانت زلة.
* * * قال ابن إسحاق: ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت (1) [ فعال ] (2) إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعل هبل أي ظهر دينك (3).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: " قم يا عمر فأجبه فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ".
فقال له أبو سفيان: هلم إلى يا عمر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: ائته فانظر ما شأنه.
فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمدا ؟ فقال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن.
قال: أنت عندي أصدق من ابن قمئة وأبر.
__________
(1) أنعمت: بفتح التاء: خطاب لنفسه.
وبسكونها يريد: الحرب أو الواقعة أو الازلام: " أجابت بنعم " (2) من ابن هشام.
وفعال: اسم للفعل الحسن.
وقال السهيلي: فعال: أمر، أي عال عنها وأقصر عن لومها، تقول العرب: اعل عنى وعال، بمعنى ارتفع عنى ودعني.
(3) ابن هشام: أي: أظهر دينك.
(*)
قال ابن إسحاق: ثم نادى أبو سفيان: إنه قد كان في قتلاكم مثل (1) والله ما رضيت وما سخطت، وما نهيت ولا أمرت.
قال: ولما انصرف أبو سفيان نادى: إن موعدكم بدر العام المقبل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل: نعم هو بيننا وبينك موعد.
قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبى طالب فقال: اخرج في آثار القوم وانظر ماذا يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الابل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الابل فهم يريدون المدينة.
والذى نفسي بيده إن أرادوها لاسيرن إليهم فيها ثم لاناجزنهم.
قال على: فخرجت في أثرهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الابل ووجهوا إلى مكة.
*
__________
(1) المثل: كالمثلة، التنكيل بالقتلى.
(*)
ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد الوقعة يوم أحد قال الامام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزارى، حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكى، عن ابن رفاعة الزرقى، عن أبيه، قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " استووا حتى أثنى على ربى عزوجل، فصاروا خلفه صفوفا فقال: " اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادى لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطى لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت ولا مبعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك.
اللهم إنى أسألك النعيم المقيم الذى لا يحول ولا يزول، اللهم إنى أسألك النعيم يوم العيلة والامن يوم الخوف.
اللهم إنى عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا.
اللهم حبب إلينا الايمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك.
اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق ".
ورواه النسائي في اليوم والليلة، عن زياد بن أيوب، عن مروان بن معاوية، عن عبد الواحد بن أيمن، عن عبيد بن رفاعة، عن أبيه به.
فصل قال ابن إسحاق: وفرغ الناس لقتلاهم، فحدثني محمد بن عبدالله بن عبدالرحمن ابن أبى صعصعة المازنى، أخو بنى النجار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من رجل ينظر لى ما فعل سعد بن الربيع أفى الاحياء هو أم في الاموات ؟ فقال رجل من الانصار: أنا.
فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق، قال: فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنى أن أنظر أفى الاحياء أنت أم في الاموات.
فقال: أنا في الاموات، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامى وقل له: إن سعد ابن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته.
وأبلغ قومك عنى السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف ! قال: ثم لم أبرح حتى مات وجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره.
قلت: كان الرجل الذى التمس سعدا في القتلى محمد بن سلمة، فيما ذكره محمد بن عمر الواقدي.
وذكر أنه ناداه مرتين فلم يجبه، فلما قال: إن رسول الله أمرنى أن أنظر
خبرك.
أجابه بصوت ضعيف وذكره.
وقال الشيخ أبو عمر في الاستيعاب: كان الرجل الذى التمس سعدا أبى بن كعب.
فالله أعلم.
وكان سعد بن الربيع من النقباء ليلة العقبة رضى الله عنه، وهو الذى آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبدالرحمن بن عوف.
* * *
قال ابن إسحاق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يلتمس حمزة بن عبدالمطلب، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده ومثل به فجدع أنفه وأذناه.
فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رأى ما رأى: " لولا أن تحزن صفية وتكون سنة من بعدى، لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لامثلن بثلاثين رجلا منهم ".
فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل، قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب.
قال ابن إسحاق: فحدثني بريدة بن سفيان بن فروة الاسلمي، عن محمد بن كعب، وحدثني من لا أتهم عن ابن عباس، أن الله أنزل في ذلك: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " الآية.
قال: فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر ونهى عن المثلة.
قلت: هذه الآية مكية، وقصة أحد بعد الهجرة بثلاث سنين، فكيف يلتئم هذا ؟ ! فالله أعلم.
قال: وحدثني حميد الطويل، عن الحسن، عن سمرة، قال: ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام قط ففارقه حتى يأمر بالصدقة وينهى عن المثلة.
وقال ابن هشام: ولما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة قال: " لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت قط موقفا أغيظ إلى من هذا ! ".
ثم قال: " جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوب في السماوات السبع: " حمزة ابن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله ".
قال ابن هشام: وكان حمزة وأبو سلمة بن عبد الاسد أخوى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أرضعتهم ثلاثتهم ثويبة مولاة أبى لهب.
ذكر الصلاة على حمزة وقتلى أحد وقال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة فسجى ببردة ثم صلى عليه، فكبر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى حمزة فصلى عليهم وعليه معهم، حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة ".
وهذا غريب وسنده ضعيف.
قال السهيلي: ولم يقل به أحد من علماء الامصار.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا عطاء بن السائب، عن الشعبى، عن ابن مسعود، قال: إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين، فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر أن ليس أحد منا يريد الدنيا حتى أنزل الله: " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم.
".
فلما خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصوا ما أمروا به أفرد رسول
الله صلى الله عليه وسلم في تسعة: سبعة من الانصار واثنين من قريش وهو عاشرهم، فلما رهقوه قال: رحم الله رجلا ردهم عنا.
فلم يزل يقول ذا حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا.
فجاء أبو سفيان فقال: اعل هبل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله أعلى وأجل.
فقالوا: الله أعلى وأجل.
فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.
ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، يوم لنا ويوم علينا ويوم نساء ويوم نسر، حنظلة بحنظلة، وفلان بفلان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا سواء، أما قتلانا فأحياء يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون.
قال أبو سفيان: قد كانت في القوم مثلة وإن كانت لعن غير ملامنا، ما أمرت ولا نهيت ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءنى ولا سرنى.
قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأكلت شيئا ؟ قالوا: لا.
قال: ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار.
قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فصلى عليه وجئ برجل من الانصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه، فرفع الانصاري وترك حمزة.
وجئ بآخر فوضعه إلى جنب حمزة فصلى عليه، ثم رفع وترك حمزة.
حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة ".
تفرد به أحمد، وهذا إسناد فيه ضعف أيضا من جهة عطاء بن السائب.
فالله أعلم.
والذى رواه البخاري أثبت حيث قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن جابر بن عبدالله أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن ؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة.
وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا.
(6 - السيرة - 3)
تفرد به البخاري دون مسلم.
ورواه أهل السنن من حديث الليث بن سعد به.
وقال أحمد: حدثنا محمد، يعنى ابن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت عبد ربه يحدث عن الزهري، عن ابن جابر، عن جابر ابن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قتلى أحد: فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة.
ولم يصل عليهم.
وثبت أنه صلى عليهم بعد ذلك بسنين عديدة قبل وفاته بيسير.
كما قال البخاري: حدثنا محمد بن عبدالرحيم، حدثنا زكريا بن عدى، أخبرنا [ ابن (1) ] المبارك، عن حيوة، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الخير، عن عقبة بن عامر، قال: صلى (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثمانى سنين كالمودع للاحياء والاموات، ثم طلع المنبر فقال: " إنى بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإنى لانظر إليه من مقامي هذا، وإنى لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها.
قال: فكان آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه البخاري في مواضع أخر، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، من حديث يزيد ابن أبى حبيب به نحوه.
وقال الاموى: حدثنى أبى، حدثنا الحسن بن عمارة، عن حبيب بن أبى ثابت، قال: قالت عائشة: خرجنا من السحر مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد نستطلع الخبر، حتى إذا طلع الفجر إذا رجل محتجر يشتد ويقول: لبث قليلا يشهد الهيجا حمل (3)
__________
(1) ابن المبارك هو عبدالله.
وقد سقطت من الاصل.
وأثبتها من صحيح البخاري في غزوة أحد.
(2) قال القسطلاني: المراد أنه دعا لهم بدعاء صلاة الميت، والاجماع يدل له، لانه لا يصلى عليه - أي القبر - عند الشافعية، وعند أبى حنيفة المخالف: لا يصلى على القبر بعد ثلاثة أيام.
إرشاد السارى 6 / 291.
(3) نسبه في تاج العروس 7 / 290 لحمل بن سعدانة الصحابي.
وعجزه: " ما أحسن الموت إذا حان الاجل " وروايته في اللسان 13 / 193: " ضح قليلا يدرك.." وقال: " يعنى به حمل بن بدر ".
(*)
قال: فنظرنا فإذا أسيد بن حضير، ثم مكثنا بعد ذلك، فإذا بعير قد أقبل، عليه امرأة بين وسقين.
قالت: فدنونا منها فإذا هي امرأة عمرو بن الجموح، فقلنا لها: ما الخبر ؟ قالت: دفع الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذ من المؤمنين شهداء " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا ".
ثم قالت لبعيرها: حل.
ثم نزلت، فقلنا لها: ما هذا ؟ قالت: أخى وزوجي.
وقال ابن إسحاق: وقد أقبلت صفية بنت عبدالمطلب لتنظر إليه، وكان أخاها لابيها وأمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: القها فارجعها لا ترى ما بأخيها.
فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي.
قالت: ولم، وقد بلغني أنه مثل بأخى وذلك في الله، فما أرضانا ما كان من ذلك، لاحتسبن ولاصبرن إن شاء الله.
فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك قال: خل سبيلها، فأتته فنظرت إليه وصلت عليه واسترجعت واستغفرت.
قال ابن إسحاق: ثم أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفن، ودفن معه ابن أخته عبدالله بن جحش وأمه أميمة بنت عبدالمطلب، وكان قد مثل به غير أنه لم ينقر عن كبده.
رضى الله عنهما.
قال السهيلي: وكان يقال له المجدع في الله.
قال: وذكر سعد أنه هو و عبدالله بن جحش دعيا بدعوة فاستجيبت لهما، فدعا سعد أن يلقى فارسا من المشركين فيقتله ويستلبه، فكان ذلك.
ودعا عبدالله بن جحش أن يلقاه فارس فيقتله ويجدع أنفه في الله، فكان ذلك.
وذكر الزبير بن بكار أن سيفه يومئذ انقطع، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجونا فصار في يد عبدالله بن جحش سيفا يقاتل به، ثم بيع في تركة بعض ولده بمائتي دينار.
وهذا كما تقدم لعكاشة في يوم بدر.
* * * وقد تقدم في صحيح البخاري أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، بل في الكفن الواحد.
وإنما أرخص لهم في ذلك لما بالمسلمين من الجراح التى يشق معها أن يحفروا لكل واحد واحد.
ويقدم في اللحد أكثرهما أخذا للقرآن.
وكان يجمع بين الرجلين المتصاحبين في اللحد الواحد، كما جمع بين عبدالله بن عمرو بن حرام والد جابر، وبين عمرو بن الجموح، لانهما كانا متصاحبين.
ولم يغسلوا بل تركهم بجراحهم ودمائهم.
كما روى ابن إسحاق عن الزهري، عن عبدالله بن ثعلبة بن صعير (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن القتلى يوم أحد قال: " أنا شهيد على هؤلاء، أنه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون دم والريح ريح مسك ".
قال: وحدثني عمى موسى بن يسار، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: " ما من جريج يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة وجرحه يدمى، اللون لون الدم والريح ريح المسك ".
__________
(1) من بنى عذرة حليف بنى زهرة، له رؤبة ولم يثبت له سماع، مات سنة تسع وثمانين وقد قارب التسعين.
(*)
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه.
وقال الامام أحمد: حدثنا على بن عاصم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالشهداء أن ينزع عنهم الحديد والجلود وقال: " ادفنوهم بدمائهم وثيابهم ".
رواه أبو داود وابن ماجه من حديث على بن عاصم به.
وقال الامام أبو داود في سننه: حدثنا القعنبى، أن سليمان بن المغيرة حدثهم، عن حميد بن هلال، عن هشام بن عامر، أنه قال: جاءت الانصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقالوا: قد أصابنا قرح وجهد فكيف تأمر ؟ فقال: " احفروا وأوسعوا، واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر الواحد ".
قيل: يا رسول الله فأيهم يقدم ؟ قال: أكثرهم قرآنا.
ثم رواه من حديث الثوري، عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن هشام بن عامر.
فذكره.
وزاد: وأعمقوا.
قال ابن إسحاق: وقد احتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: " ادفنوهم حيث صرعوا ".
وقد قال الامام أحمد: حدثنا على بن إسحاق، حدثنا عبدالله وعتاب، حدثنا عبد الله، حدثنا عمر بن سلمة بن أبى يزيد المدينى، حدثنى أبى، سمعت جابر بن عبد الله يقول: استشهد أبى بأحد، فأرسلني أخواتي إليه بناضح لهن، فقلن: اذهب فاحتمل أباك على هذا الجمل فادفنه في مقبرة بنى سلمة.
فقال: فجئته وأعوان لى، فبلغ ذلك نبى الله وهو جالس بأحد، فدعاني فقال: " والذى نفسي بيده لا يدفن إلا مع إخوته ".
فدفن مع أصحابه بأحد.
تفرد به أحمد.
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الاسود بن قيس، عن نبيح، عن جابر بن عبدالله، أن قتلى أحد حملوا من مكانهم، فنادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم: أن ردوا القتلى إلى مضاجعهم.
وقد رواه أبو داود والنسائي من حديث الثوري، والترمذي، من حديث شعبة والنسائي أيضا، وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة، كلهم عن الاسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن جابر بن عبد الله قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى المشركين يقاتلهم وقال لى أبى عبدالله: يا جابر لا عليك أن تكون في نظارى أهل المدينة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا، فإنى والله لولا أنى أترك بنات لى بعدى لاحببت أن تقتل بين يدى.
قال: فبينا أنا في النظارين إذ جاءت عمتى بأبى وخالى عادلتهما على ناضح، فدخلت
بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا، إذ لحق رجل ينادى: ألا إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت.
فرجعنا بهما فدفناهما حيث قتلا.
فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبى سفيان إذ جاءني رجل فقال: يا جابر بن عبدالله، والله لقد أثار أباك عمال معاوية فبدا، فخرج طائفة منه.
فأتيته فوجدته على النحو الذى دفنته لم يتغير، إلا ما لم يدع القتل أو القتيل.
ثم ساق الامام قصة وفائه دين أبيه، كما هو ثابت في الصحيحين.
وروى البيهقى من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى الزبير، عن جابر بن عبدالله قال: لما أجرى معاوية العين عند قتلى أحد بعد أربعين سنة استصرخنا إليهم،
فأتيناهم فأخرجناهم، فأصابت المسحاة قدم حمزة فانبعث دما ! وفى رواية ابن إسحاق عن جابر قال: فأخرجناهم كأنما دفنوا بالامس.
وذكر الواقدي أن معاوية لما أراد أن يجرى العين نادى مناديه: من كان له قتيل بأحد فليشهد.
قال جابر: فحفرنا عنهم فوجدت أبى في قبره كأنما هو نائم على هيئته ووجدنا جاره في قبره عمرو بن الجموح ويده على جرحه، فأزيلت عنه فانبعث جرحه دما ! ويقال: إنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك رضى الله عنهم أجمعين.
وذلك بعد ست وأربعين سنة من يوم دفنوا.
* * * وقد قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا حسين المعلم، عن عطاء، عن جابر قال: لما حضر أحد دعاني أبى من الليل فقال لى: ما أرانى إلا مقتولا في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنى لا أترك بعدى أعز على منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن على دينا فاقض واستوص
بأخواتك خيرا.
فأصبحنا، وكان أول قتيل، فدفنت معه آخر في قبره، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته هيئة غير أذنه.
وثبت في الصحيحين من حديث شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، أنه لما قتل أبوه جعل يكشف عنه الثوب ويبكى، فنهاه الناس فقال رسول الله: " تبكيه أو لا تبكيه، لم تزل الملائكة تظله حتى رفعتموه ".
وفى رواية أن عمته هي الباكية.
وقال البيهقى: حدثنا أبو عبدالله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضى، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا فيض بن وثيق البصري،
حدثنا أبو عبادة الانصاري، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر: " يا جابر ألا أبشرك ؟ قال: بلى، بشرك الله بالخير.
فقال: " أشعرت أن الله أحيا أباك فقال: تمن على عبدى ما شئت أعطكه.
قال: يا رب عبدتك حق عبادتك، أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك وأقتل فيك مرة أخرى.
قال: إنه سلف منى أنه إليها لا يرجع ".
وقال البيهقى: حدثنا أبو الحسن محمد بن أبى المعروف الاسفرايينى، حدثنا أبو سهل بشر بن أحمد، حدثنا أحمد بن الحسين بن نصر، حدثنا على بن المدينى، حدثنا موسى ابن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الانصاري، قال: سمعت طلحة بن خراش بن عبدالرحمن بن خراش بن الصمة الانصاري ثم السلمى، قال: سمعت جابر بن عبدالله قال: نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال.
" مالى أراك ميتما ؟ قال: قلت: يا رسول الله قتل أبى وترك دينا وعيالا، فقال: ألا أخبرك ؟ ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا وقال له: يا عبدى سلنى أعطك.
فقال: أسألك أن
تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال: إنه سبق منى القول: أنهم إليها لا يرجعون.
قال: يا رب فأبلغ من ورائي.
فأنزل الله " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (1) " الآية.
وقال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا عن عبدالله بن محمد بن عقيل، سمعت جابرا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أبشرك يا جابر ؟ قلت: بلى، قال: إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله ثم قال له: ما تحب يا عبدالله، ما تحب أن أفعل بك ؟ قال: أي رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى ".
وقد رواه أحمد عن على بن المدينى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن على بن
__________
(1) سورة آل عمران آية 169.
(*)
ربيعة السلمى، عن ابن عقيل، عن جابر، وزاد: فقال الله: إنى قضيت أنهم إليها لا يرجعون.
وقال أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبى، عن ابن إسحاق، حدثنى عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن جابر، عن عبدالله عن جابر بن عبدالله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، إذا ذكر أصحاب أحد: " أما والله لوددت أنى غودرت مع أصحابه بحضن الجبل " يعنى سفح الجبل.
تفرد به أحمد.
وقد روى البيهقى من حديث عبدالاعلى بن عبدالله بن أبى فروة، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه فدعا له ثم قرأ: " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " الآية قال: " أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم، والذى نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إن
يوم القيامة إلا ردوا عليه ".
وهذا حديث غريب.
وروى عن عبيد بن عمير مرسلا.
* * * وروى البيهقى من حديث موسى بن يعقوب، عن عباد بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قبور الشهداء، فإذا أتى فرضة الشعب قال: " السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " ثم كان أبو بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وكان عمر بعد أبى بكر يفعله، وكان عثمان بعد عمر يفعله.
قال الواقدي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يزورهم كل حول، فإذا بلغ نقرة الشعب يقول: " السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " ثم كان أبو بكر يفعل ذلك كل حول، ثم عمر ثم عثمان، وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتيهم فتبكى عندهم وتدعو لهم، وكأن سعد يسلم ثم يقبل على أصحابه فيقول: ألا تسلمون على قوم يردون عليكم.
ثم حكى زيارتهم عن أبى سعيد، وأبى هريرة، و عبدالله بن عمر، وأم سلمة رضى الله الله عنهم.
وقال ابن أبى الدنيا: حدثنى إبراهيم، حدثنى الحكم بن نافع، حدثنا العطاف بن خالد، حدثتني خالتي قالت: ركبت يوما إلى قبور الشهداء - وكانت لا تزال تأتيهم - فنزلت عند حمزة فصليت ما شاء الله أن أصلى، وما في الوادي داع ولا مجيب، إلا غلاما قائما آخذا برأس دابتي، فلما فرغت من صلاتي قلت هكذا بيدى: " السلام عليكم " قالت: فسمعت رد السلام على يخرج من تحت الارض، أعرفه كما أعرف أن الله عزوجل
خلقني، وكما أعرف الليل والنهار، فاقشعرت كل شعرة منى ! وقال محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبى الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا على الحرب ولا يزهدوا في الجهاد ؟ فقال الله عزوجل: أنا أبلغهم عنكم.
فأنزل الله في الكتاب قوله تعالى: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ".
وروى مسلم والبيهقي من حديث أبى معاوية، عن الاعمش، عن عبدالله بن مرة، عن مسروق قال: سألنا عبدالله بن مسعود عن هذه الآية: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ".
فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في أيها شاءت، ثم تأوى إلى قناديل معلقة بالعرش، قال: فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك اطلاعة، فقال: اسألوني ما شئتم.
فقالوا: يا ربنا وما نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا.
ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أن لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: نسألك أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا نقتل في سبيلك مرة أخرى.
قال: فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تركوا.
فصل في عدد الشهداء قال موسى بن عقبة: جميع من استشهد يوم أحد من المهاجرين والانصار تسعة
وأربعون رجلا.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عند البخاري عن البراء، أنهم قتلوا من المسلمين سبعين رجلا.
فالله أعلم.
وقال قتادة: عن أنس، قتل من الانصار يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون ويوم اليمامة سبعون.
وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أنه كان يقول: قارب السبعين يوم أحد، ويوم بئر معونة، ويوم مؤتة، ويوم اليمامة.
وقال مالك: عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن سعيد بن المسيب، قتل من الانصار يوم أحد ويوم اليمامة سبعون، ويوم جسر أبى عبيدة سبعون.
وهكذا قال عكرمة وعروة والزهرى ومحمد بن إسحاق في قتلى أحد، ويشهد له قوله تعالى " أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنى هذا (1) " يعنى أنهم قتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين.
وعن ابن إسحاق: قتل من الانصار - لعله من المسلمين - يوم أحد خمسة وستون، أربعة من المهاجرين: حمزة و عبدالله بن جحش ومصعب بن عمير وشماس بن عثمان والباقون من الانصار.
وسرد أسماءهم على قبائلهم.
وقد استدرك عليه ابن هشام زيادة على ذلك خمسة آخرين، فصاروا سبعين على قول ابن هشام.
وسرد ابن إسحاق أسماء الذين قتلوا من المشركين، وهم اثنان وعشرون رجلا.
وعن عروة: كان الشهداء يوم أحد أربعة، أو قال سبعة، وأربعين.
وقال موسى بن عقبة: تسعة وأربعون.
وقتل من المشركين يومئذ ستة عشر رجلا وقال عروة: تسعة عشر.
وقال ابن إسحاق: اثنان وعشرون.
وقال الربيع عن الشافعي: ولم يؤسر من المشركين سوى أبى عزة الجمحى، وقد كان في الاسارى يوم بدر، فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا فدية واشترط عليه الا يقاتله، فلما أسر يوم أحد قال: يا محمد امنن على لبناتي، وأعاهد ألا أقاتلك.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أدعك تمسح عارضيك بمكة وتقول: خدعت محمدا مرتين.
ثم أمر به فضربت عنقه.
وذكر بعضهم أنه يومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ! "
__________
(1) سورة آل عمران 165.
(*)
فصل قال ابن إسحق: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلقيته حمنة بنت جحش كما ذكر لى، فلما لقيت الناس نعى إليها أخوها عبدالله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها خالها حمزة بن عبدالمطلب فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن زوج المرأة منها لبمكان ! " لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها وصياحها على زوجها.
وقد قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا إسحاق بن محمد الفروى، حدثنا عبدالله بن عمر، عن ابراهيم بن محمد بن عبدالله بن جحش، عن أبيه، عن حمنة بنت جحش، أنه قيل لها: قتل أخوك.
فقالت: رحمه الله وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فقالوا: قتل زوجك قالت: واحزناه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن للزوج من المرأة لشعبة ما هي لشئ " ! قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الواحد بن أبى عون، عن إسماعيل، عن محمد، عن سعد بن أبى وقاص، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بنى دينار
وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظر إليه.
قال: فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.
قال ابن هشام: الجلل يكون من القليل والكثير، وهو ههنا القليل.
قال امرؤ القيس: لقتل بنى أسد ربهم * ألا كل شئ خلاه جلل أي صغير وقليل.
قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة فقال: " اغسلي عن هذا دمه يا بنية، فوالله لقد صدقنى في هذا اليوم ".
وناولها على بن أبى طالب سيفه فقال: وهذا فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقنى اليوم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لئن كنت صدقت القتال لقد صدقه معك سهل بن حنيف وأبو دجانة ".
وقال موسى بن عقبة في موضع آخر: ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف على مخضبا بالدماء قال: " لئن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت بن أبى الاقلح والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف ".
وروى البيهقى عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: جاء على بن أبى طالب بسيفه يوم أحد قد انحنى فقال لفاطمة: هاك السيف حميدا فإنها قد شفننى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لئن كنت أجدت الضرب بسيفك لقد
أجاده سهل بن حنيف وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة ".
قال ابن هشام: وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا هو ذو الفقار.
قال: وحدثني بعض أهل العلم عن ابن أبى نجيح قال: نادى مناد يوم أحد: لا سيف إلا ذو الفقار (1).
قال: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلى: " لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا ".
قال ابن إسحاق: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار بنى عبد الاشهل، فسمع
__________
(1) ابن هشام: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا على.
ولا ندرى لماذا أسقطها ابن كثير ! (*)
البكاء والنوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " لكن حمزة لا بواكي له ".
فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير إلى دار بنى عبد الاشهل أمرا نساءهن أن يتحزمن ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن بعض رجال بنى عبد الاشهل قال: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاءهن على حمزة خرج عليهن وهن في باب المسجد يبكين فقال: " ارجعن يرحمكن الله فقد آسيتن بأنفسكن ".
قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عن النوح، فيما قال ابن هشام.
وهذا الذى ذكره منقطع ومنه مرسل.
وقد أسنده الامام أحمد فقال: حدثنا زيد بن الحباب، حدثنى أسامة بن زيد، حدثنى نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من أحد فجعل نساء الانصار يبكين على من قتل من أزواجهن قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولكن حمزة لا بواكي له ".
قال: ثم نام فاستنبه وهن يبكين قال: " فهن اليوم إذا يبكين يندبن حمزة ".
وهذا على شرط مسلم.
وقد رواه ابن ماجه، عن هارون بن سعيد، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد الليثى، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنساء بنى عبد الاشهل يبكين هلكاهن يوم أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكن حمزة لا بواكي له ".
فجاء نساء الانصار يبكين حمزة، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ويحهن ما انقلبن بعد مرورهن، فلينقلبن ولا يبكين على هالك بعد اليوم ".
وقال موسى بن عقبة: ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزقة المدينة إذا النوح والبكاء في الدور قال: " ما هذا ؟ " قالوا: هذه نساء الانصار يبكين قتلاهم فقال: " لكن حمزة لا بواكي له " واستغفر له.
فسمع ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعاذ بن جبل و عبدالله بن رواحة، فمشوا إلى دورهم فجمعوا كل نائحة باكية بالمدينة، فقالوا: والله لا تبكين قتلى الانصار حتى تبكين عم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قد ذكر أنه لا بواكي له بالمدينة.
وزعموا أن الذى جاء بالنوائح عبدالله بن رواحة، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما هذا ؟ " فأخبر بما فعلت الانصار بنسائهم، فاستغفر لهم وقال لهم خيرا وقال " ما هذا أردت، وما أحب البكاء " ونهى عنه.
وهكذا ذكر ابن لهيعة، عن أبى الاسود، عن عروة بن الزبير سواء.
قال موسى بن عقبة: وأخذ المنافقون عند بكاء المسلمين في المكر والتفريق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحزين المسلمين، وظهر غش اليهود، وفارت المدينة بالنفاق فور المرجل.
وقالت اليهود: لو كان نبيا ما ظهروا عليه ولا أصيب منه ما أصيب، ولكنه طالب ملك تكون له الدولة وعليه.
وقال المنافقون مثل قولهم، وقالوا للمسلمين: لو كنتم أطعتمونا ما أصابكم الذين أصابوا منكم.
فأنزل الله القرآن في طاعة من أطاع ونفاق من نافق وتعزية المسلمين، يعنى فيمن قتل منهم فقال: " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم " الآيات كلها - كما تكلمنا على ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة.
ذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه على ما بهم من القرح والجراح، في أثر أبى سفيان، إرهابا له ولاصحابه حتى بلغ حمراء الاسد، وهى على ثمانية أميال من المدينة قال موسى بن عقبة بعد اقتصاصه وقعة أحد، وذكره رجوعه عليه السلام إلى المدينة: وقدم رجل من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن أبى سفيان وأصحابه فقال: نازلتهم فسمعتهم يتلاومون ويقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكة القوم وحدهم ثم تركتموهم ولم تبتروهم، فقد بقى منهم رءوس يجمعون لكم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبهم أشد القرح - بطلب العدو ليسمعوا بذلك، وقال: لا ينطلقن معى إلا من شهد القتال.
فقال عبد الله بن أبى: أنا راكب معك.
فقال: لا.
فاستجابوا لله ولرسوله على الذى بهم من البلاء.
فانطلقوا.
فقال الله في كتابه: " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح،
للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم " (1).
قال: وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر، حين ذكر أن أباه أمره بالمقام في المدينة على أخواته.
__________
(1) سورة آل عمران (*)
قال: وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم العدو حتى بلغ حمراء الاسد.
وهكذا روى ابن لهيعة، عن أبى الاسود، عن عروة بن الزبير، سواء.
* * * وقال محمد بن إسحاق في مغازيه: وكان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال، فلما كان الغد من يوم الاحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه: ألا يخرجن أحد إلا من حضر بومنا ؟ بالامس.
فكلمه جابر بن عبدالله فأذن له.
قال ابن إسحاق: وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو ليبلغهم أنه خرج في طلبهم، ليظنوا به قوة، وأن الذى أصابهم لو يوهنهم عن عدوهم.
قال ابن إسحاق رحمه الله: فحدثني عبدالله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبى السائب مولى عائشة بنت عثمان، أن رجلا من بنى عبد الاشهل قال: شهدت أحدا أنا وأخ لى، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لاخى وقال لى: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! والله مالنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل.
فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة (1)، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء
الاسد، وهى من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها الاثنين والثلاثاء والاربعاء ثم رجع إلى المدينة.
قال ابن هشام: وقد كان استعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
__________
(1) العقبة: النوبة.
(*)
قال ابن إسحاق: حدثنى عبدالله بن أبى بكر [ أن ] معبد بن أبى معبد الخزاعى، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، صفقتهم (2) معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك، مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بحمراء الاسد، فقال: يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عافاك فيهم.
ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الاسد حتى لقى أبا سفيان ابن حرب ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقالوا: أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم ؟ ! لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم.
فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد ؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شئ لم أر مثله قط.
قال: ويلك ما تقول ؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصى الخيل.
قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل شأفتهم.
قال: فإنى أنهاك عن ذلك، ووالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا من شعر.
قال: وما قلت ؟ قال: قلت: كادت تهد من الاصوات راحلتي * إذ سالت الارض بالجرد الابابيل (3)
تردى (4) بأسد كرام لا تنابلة * عند اللقاء ولا ميل معازيل فظلت عدوا أظن الارض مائلة * لما سموا برئيس غير مخذول
__________
(1) ابن هشام: عيبة نصح لرسول الله.
والعيبة: موضع السر.
(2) صفقتهم: حلفهم.
(3) الجرد: عتاق الخيل.
والابابيل: الجماعات.
(4) تردى: تسرع.
(*)
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم * إذا تغطمطت البطحاء بالجيل (1) إنى نذير لاهل البسل (2) ضاحية * لكل ذى إربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وخش (3) قنابله * وليس يوصف ما أنذرت بالقيل قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه.
ومر به ركب من عبدالقيس فقال: أين تريدون ؟ قالوا: المدينة.
قال: ولم ؟ قالوا نريد الميرة.
قال: فهل أنتم مبلغون عنى محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم إبلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها ؟ قالوا: نعم.
قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم.
فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الاسد، فأخبروه بالذى قال أبو سفيان، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وكذا قال الحسن البصري.
وقد قال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس، أراه قال: حدثنا أبو بكر، عن أبى حصين، عن أبى الضحى، عن ابن عباس: حسبنا الله ونعم الوكيل.
قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
تفرد بروايته البخاري.
وقد قال البخاري: حدثنا محمد بن سلام، حدثنا أبو معاوية، عن هشام، عن
أبيه، عن عائشة رضى الله عنها: " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم " قالت لعروة: يابن أختى كان أبواك
__________
(1) تغطمطت: اهتزت.
والجيل: الصف من الناس.
(2) أهل البسل: قريش.
(3) الوخش: الردئ.
وفى ابن هشام: تنابلة.
والقنابل: جمع قنبلة الطائفة من الناس والخيل.
(*)
منهم، الزبير وأبو بكر رضى الله عنهما، لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، فقال: من يذهب في إثرهم ؟ فانتدب منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير.
هكذا رواه البخاري.
وقد رواه مسلم مختصرا من وجه عن هشام، وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدى جميعا عن سفيان بن عيينة.
وأخرجه ابن ماجه من طريقه.
، عن هشام بن عروة به.
ورواه الحاكم في مستدركه من طريق أبى سعيد عن هشام بن عروة به، ورواه من حديث السدى عن عروة، وقال في كل منهما: صحيح ولم يخرجاه.
كذا قال.
وهذا السياق غريب جدا، فإن المشهور عند أصحاب المغازى أن الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الاسد كل من شهد أحدا، وكانوا سبعمائة، كما تقدم.
قتل منهم سبعون وبقى الباقون.
وقد روى ابن جرير من طريق العوفى، عن ابن عباس قال: إن الله قذف في قلب أبى سفيان الرعب يوم أحد بعد الذى كان منه، فرجع إلى مكة، وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدمون في ذى القعدة المدينة فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المسلمين القرح واشتكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتد عليهم الذى أصابهم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس لينطلقوا بهم ويتبعوا ما كانوا متبعين وقال لنا: ترتحلون الآن
فتأتون الحج ولا يقدرون على مثلها حتى عام قابل.
فجاء الشيطان يخوف أولياءه فقال: إن الناس قد جمعوا لكم.
فأبى عليه الناس أن يتبعوه فقال: إنى ذاهب وإن لم يتبعني أحد.
فانتدب معه أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وسعد و عبدالرحمن بن
عوف وأبو عبيدة وابن مسعود وحذيفة في سبعين رجلا، فساروا في طلب أبى سفيان حتى بلغوا الصفراء فأنزل الله: " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ".
وهذا غريب أيضا.
وقال ابن هشام: حدثنا أبو عبيدة، أن أبا سفيان بن حرب لما انصرف يوم أحد أراد الرجوع إلى المدينة، فقال لهم صفوان بن أمية: لا تفعلوا، فإن القوم قد حربوا، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذى كان، فارجعوا.
فرجعوا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الاسد حين بلغه أنهم هموا بالرجعة: " والذى نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب ! ".
قال: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ذلك قبل رجوعه المدينة، معاوية ابن المغيرة بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس، جد عبدالملك بن مروان لامه عائشة بنت معاوية، وأبا عزة الجمحى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسره ببدر ثم من عليه فقال: يا رسول الله أقلنى، فقال: لا والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول: خدعت محمدا مرتين.
اضرب عنقه يا زبير.
فضرب عنقه.
قال ابن هشام: وبلغني عن ابن المسيب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المؤمن لا يلدغ من حجر مرتين، اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت " فضرب عنقه.
وذكر ابن هشام: أن معاوية بن المغيرة بن أبى العاص استأمن له عثمان على ألا يقيم بعد ثلاث، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها زيد بن حارثة وعمار بن ياسر وقال: ستجدانه في مكان كذا وكذا فاقتلاه.
ففعلا رضى الله عنهما.
* * *
قال ابن إسحاق.
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان عبدالله بن أبى كما حدثنى الزهري له مقام يقومه كل جمعة لا ينكر له شرفا في نفسه وفى قومه، وكان فيهم شريفا، إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال: أيها الناس، هذا رسول الله بين أظهركم أكرمكم الله به وأعزكم به، فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا.
ثم يجلس..حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ورجع الناس قام يفعل ذلك كما كان يفعله، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا: اجلس أي عدو الله، والله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت.
فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بجرا (1) أن قمت أشدد أمره ! فلقيه رجال من الانصار بباب المسجد فقالوا: ويلك مالك ؟ قال: قمت أشدد أمره فوثب إلى رجال من أصحابه يجبذوننى ويعنفونني، لكأنما قلت بجرا أن قمت أشدد أمره.
قالوا: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: والله ما أبغى أن يستغفر لى.
* * * ثم ذكر ابن اسحاق ما نزل من القرآن في قصة أحد من سورة آل عمران عند قوله
" وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم ".
قال: إلى تمام ستين آية.
وتكلم عليها.
وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير بما فيه كفاية.
__________
(1) البجر: الشر والامر العظيم.
(*)
ثم شرع ابن إسحاق في ذكر شهداء أحد وتعدادهم بأسمائهم وأسماء آبائهم على قبائلهم كما جرت عادته.
فذكر من المهاجرين أربعة: حمزة ومصعب بن عمير و عبدالله بن جحش وشماس ابن عثمان رضى الله عنهم، ومن الانصار إلى تمام خمسة وستين رجلا.
واستدرك عليه ابن هشام خمسة أخرى فصاروا سبعين على قول ابن هشام.
ثم سمى ابن إسحاق من قتل من المشركين وهم اثنان وعشرون رجلا على قبائلهم أيضا.
قلت: ولم يؤسر من المشركين سوى أبى عزة الجمحى، كما ذكره الشافعي وغيره، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرا بين يديه، أمر الزبير، ويقال: عاصم بن ثابت ابن أبى الافلح، فضرب عنقه.
فصل فيما تقاول به المؤمنون والكفار في وقعة أحد من الاشعار وإنما نورد شعر الكفار لنذكر جوابها من شعر الاسلام، ليكون أبلغ في وقعها من الاسماع والافهام، وأقطع لشبهة الكفرة الطغام.
قال الامام محمد بن إسحاق رحمه الله: وكان مما قيل من الشعر يوم أحد قول هبيرة ابن أبى وهب المخزومى، وهو على دين قومه من قريش، فقال:
ما بال هم عميد بات يطرقني * بالود من هند إذ تعدو عواديها باتت تعاتبني هند وتعذلني * والحرب قد شغلت عنى مواليها مهلا فلا تعذليني إن من خلقي * ما قد علمت وما إن لست أخفيها مساعف لبنى كعب بما كلفوا * حمال عبء وأثقال أعانيها وقد حملت سلاحي فوق مشترف * ساط سبوح إذا تجرى يباريها (1) كأنه إذ جرى عير بفدفدة * مكدم لاحق بالعون يحميها (2) من آل أعوج يرتاح الندى له * كجذع شعراء مستعل مراقيها أعددته ورقاق الحد منتخلا * ومارنا لخطوب قد ألاقيها (4) هذا وبيضاء مثل النهى محكمة * لظت على فما تبدو مساويها (4) سقنا كنانة من أطراف ذى يمن * عرض البلاد على ما كان يزجيها قالت كنانة أنى تذهبون بنا * قلنا النخيل فأموها ومن فيها (5)
__________
(1) مشترف: مشرف.
والساطى: الفرس البعيد الخطو.
والسبوح: الذى يسبح في جريه.
(2) العير: حمار الوحش.
والفدفدة: الفلاة.
والمكدم المعضض.
والعون: جمع عانة وهو القطيع من حمر الوحش.
(3) رقاق الحد: السيوف.
ومنتخلا: متخيرا والمارن: الرمح الصلب اللدن.
(4) البيضاء: يريد بها الدرع.
والمنهى: الغزير ؟ ؟ لظت: لصقت.
(5) النخيل: عين قرب المدينة.
(*)
نحن الفوارس يوم الجر (1) من أحد * هابت معد فقلنا نحن نأتيها هابوا ضرابا وطعنا صادقا خذما * مما يرون وقد ضمت قواصيها (2) ثمت رحنا كأنا عارض برد * وقام هام بنى النجار يبكيها (3) كأن هامهم عند الوغى فلق * من قيض ربد نفته عن أداحيها (4) أو حنظل ذعذعته الريح في غصن * بال تعاوره منها سوافيها (5) قد نبذل المال سحا لا حساب له * ونطعن الخيل شزرا في مآقيها (6)
وليلة يصطلى بالفرث جازرها * يختص بالنقرى المثرين داعيها (7) وليلة من جمادى ذات أندية * جربا جمادية قد بت أسريها (8) لا ينبح الكلب فيها غير واحدة * من القريس ولا تسرى أفاعيها (9) أوقدت فيها لذى الضراء جاحمة * كالبرق ذاكية الاركان أحميها (10) أورثني ذالكم عمرو ووالده * من قبله كان بالمشتى يغاليها (11) كانوا يبارون أنواء النجوم فما * دنت عن السورة العليا مساعيها * * * قال ابن إسحاق: فأجابه حسان بن ثابت رضى الله عنه فقال: قال ابن هشام: وتروى لكعب بن مالك وغيره.
قلت: وقول ابن إسحاق أشهر وأكثر والله أعلم:
__________
(1) الجر: أصل الجبل.
(2) الخذم: القاطع.
(3) العارض: السحاب.
وبرد: به برد، وهو حب الغمام.
(4) القيض: القشرة العليا اليابسة من البيض.
والربد: النعام.
والاداحي: جمع أدحى وهو مبيض النعام.
(5) ذعذعته: حركته.
وتعاوره: تتداوله.
والسوافى: الرياح الشديدة.
(6) سحا: صبا.
والشزر في الطعن: أن يكون من ناحية غير مستقيمة.
(7) يصطلى: يستدفئ.
والنقرى: الدعوة الخاصة، أي يختص الاغنياء طلبا لمكافأتهم، يصف شدة الزمان.
(8) أندية: جمع ندى على غير قياس، وقيل: إنه جمع الجمع، والجرباء: المقحطة.
(9) القريس: البرد الشديد.
(10) الجاحمة: الملتهية.
(11) ابن هشام: بالمثنى.
وما هنا أوضح.
(*)
سقتم كنانة جهلا من سفاهتكم * إلى الرسول فجند الله مخزيها أوردتموها حياض الموت ضاحية * فالنار موعدها والقتل لاقيها جمعتموهم أحابيشا بلا حسب * أئمة الكفر غرتكم طواغيها
ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت * أهل القليب ومن ألقينه فيها كم من أسير فككناه بلا ثمن * وجز ناصية كنا مواليها قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يجيب هبيرة بن أبى وهب المخزومى أيضا: ألا هل أتى غسان عنا ودونهم * من الارض خرق سيره متنعنع (1) صحارى وأعلام كأن قتامها * من البعد نقع هامد متقطع (2) تظل به البزل العراميس رزحا * ويحلو به غيث السنين فيمرع (3) به جيف الحسرى يلوح صليبها * كما لاح كتان التجار الموضع (4) به العين والآرام يمشين خلفة * وبيض نعام قيضه يتقلع (5) مجالدنا عن ديننا كل فخمة * مذربة فيها القوانس تلمع (6) وكل صموت في الصوان كأنها * إذا لبست نهى من الماء مترع (7) ولكن ببدر سائلوا من لقيتم * من الناس والانباء بالغيب تنفع وإنا بأرض الخوف لو كان أهلها * سوانا لقد أجلوا بليل فأقشعوا إذا جاء منا راكب كان قوله * أعدوا لما يزجى ابن حرب ويجمع
__________
(1) المتنعنع: المضطرب.
(2) الاعلام: الجبال.
والقتام الغبار.
والنقع: الغبار أيضا.
(3) البزل: جمع بازل.
وهى الناقة التى تبلغ التاسعة.
والعراميس: الصلبة.
والرزح: المعيبة.
(4) الصليب: ودك العظام.
والموضع: المبسوط.
(5) العين: بقر الوحش والآرام.
وخلفة: قطعة وراء قطعة.
والقيض: قشور البيض.
ويتقلع: يتشقق (6) مذربة: محددة.
والقوانس: جمع قونس وهى بيضة السلاح.
(7) كل صموت: أراد به الدرع.
جعلها صموتا لشدة نسجها وإحكام صنعتها.
والنهى: الغدير.
والمترع: الملئ.
(*)
فمهما يهم الناس مما يكيدنا * فنحن له من سائر الناس أوسع
فلو غيرنا كانت جميعا تكيده البرية قد أعطوا يدا وتوزعوا نجالد لا تبقى علينا قبيلة * من الناس إلا أن يهابوا ويفظعوا ولما ابتنوا بالعرض قالت سراتنا * علام إذا لم نمنع العرض نزرع (1) وفينا رسول الله نتبع أمره * إذا قال فينا القول لا نتظلع (2) تدلى عليه الروح من عند ربه * ينزل من جو السماء ويرفع نشاوره فيما نريد وقصرنا (3) * إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع وقال رسول الله لما بدوا لنا * ذروا عنكم هول المنيات واطمعوا وكونوا كمن يشرى الحياة تقربا * إلى ملك يحيا لديه ويرجع ولكن خذوا أسيافكم وتوكلوا * على الله إن الامر لله أجمع فسرنا إليهم جهرة في رحالهم * ضحيا علينا البيض لا نتخشع بملمومة فيها السنور والقنا * إذا ضربوا أقدامها لا تورع (4) فجئنا إلى موج من البحر وسطه * أحابيش منهم حاسر ومقنع ثلاثة آلاف ونحن نصية * ثلاث مئين إن كثرنا فأربع (5) نغاورهم تجرى المنية بيننا * نشارعهم حوض المنايا ونشرع تهادى قسى النبع فينا وفيهم * وما هو إلا اليثربي المقطع (6) ومنجوفة حرمية صاعدية * يذر عليها السم ساعة تصنع (7)
__________
(1) العرض: سفح الجبل.
وهو جبل أحد.
(2) لا نتظلع: لا نميل عنه (3) قصرنا: غايتنا.
(4) الملمومة: الكتيبة.
والسنور: السلاح.
لا تورع: لا تكف.
(5) النصية: الخيار من القوم.
(6) النبع: شجر للقسى والسهام ينبت في قلة الجبل.
واليثربى: الوتر المنسوب إلى يثرب.
(7) المنجوفة: السهام.
والحرمية: المنسوبة إلى الحرم.
والصاعدية: منسوبة إلى صاعد، كان يصنعها (*)
تصوب بأبدان الرجال وتارة * تمر بأعراض البصار تقعقع (1) وخيل تراها بالفضاء كأنها * جراد صبا في قرة يتريع (2) فلما تلاقينا ودارت بنا الرحا * وليس لامر حمه الله مدفع ضربناهم حتى تركنا سراتهم * كأنهم بالقاع خشب مصرع لدن غدوة حتى استفقنا عشية * كأن ذكانا حر نار تلفع (3) وراحوا سراعا موجعين (4) كأنهم * جهام هراقت ماءه الريح مقلع (5) ورحنا وأخرانا بطاء كأننا * أسود على لحم ببيشة ضلع (6) فنلنا ونال القوم منا وربما * فعلنا ولكن ما لدى الله أوسع ودارت رحانا واستدارت رحاهم * وقد جعلوا كل من الشر يشبع ونحن أناس لا نرى القتل سبة * على كل من يحمى الذمار ويمنع جلاد على ريب الحوادث لا نرى * على هالك عينا لنا الدهر تدمع بنو الحرب لا نعيا بشئ نقوله * ولا نحن مما جرت الحرب نجزع بنو الحرب إن نظفر فلسنا بفحش * ولا نحن من أظفارنا نتوجع وكنا شهابا يتقى الناس حره * ويفرج عنه من يليه ويسفع (7) فخرت على ابن الزبعرى وقد سرى * لكم طلب من آخر الليل متبع فسل عنك في عليا معد وغيرها * من الناس من أخزى مقاما وأشنع
__________
(1) قال السهيلي: " يقول: تشق أبدان الرجال حتى تبلغ البصار فتقعقع فيها، وهى جمع بصرة، وهى حجارة لينة.
ويجوز أن يكون أراد جمع بصيرة، مثل كريمة وكرام.
والبصيرة: الدرع، وقيل: الترس ".
(2) الصبا: ريح شرقية.
والقرة: الليلة الباردة.
يتريع: يذهب ويجئ.
(3) ذكانا: حرارتنا في الحرب.
(4) ابن هشام: موجفين.
(5) الجهام: السحاب الرقيق.
(6) بيشة: موضع كثير الاسود.
وفى ابن هشام: ظلع.
(7) يفرح عنه: ينكشف.
ويسفع: يلفح.
(*)
ومن هو لم يترك له الحرب مفخرا * ومن خده يوم الكريهة أضرع شددنا بحول الله والنصر شدة * عليكم وأطراف الاسنة شرع تكر القنا فيكم كأن فروعها * عزالى مزاد ماؤها يتهزع (1) عمدنا إلى أهل اللواء ومن يطر * بذكر اللواء فهو في الحمد أسرع فحانوا وقد أعطوا يدا وتخاذلوا * أبى الله إلا أمره وهو أصنع * * * قال ابن إسحاق: وقال عبدالله بن الزبعرى في يوم أحد وهو يومئذ مشرك بعد: يا غراب البين أسمعت فقل * إنما تنطق شيئا قد فعل إن للخير وللشر مدى * وكلا ذلك وجه وقبل (2) والعطيات خساس بينهم * وسواء قبر مثر ومقل كل عيش ونعيم زائل * وبنات الدهر يلعبن بكل أبلغنا حسان عنى آية * فقريض الشعر يشفى ذا الغلل كم ترى بالجر من جمجمة * وأكف قد أترت ورجل (3) وسرابيل حسان سريت * عن كماة أهلكوا في المنتزل كم قتلنا من كريم سيد * ماجد الجدين مقدام بطل صادق النجدة قرم بارع * غير ملتاث لدى وقع الاسل فسل المهراس ما ساكنه * بين أقحاف وهام كالحجل (4) ليت أشياخى ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الاسل
__________
(1) العزالى: جمع عزلي، وهى مصب الماء من الراوية.
والمزاد: جمع مزادة وهى الراوية.
ويتهزع: يتقطع.
(2) القبل: العيان والمواجهة.
(3) الجر: أصل الجبل.
وأترت: قطعت.
(4) المهراس: ماء بأحد.
وفى ابن هشام: من ساكنه.
والاقحاف: جمع قحف.
والهام: الرؤوس.
والحجل: الذكر من القبج.
(*)
حين حكت بقباء بركها (1) * واستحر القتل في عبد الاشل ثم خفوا عند ذاكم رقصا * رقص الحفان يعلو في الجبل (2) فقتلنا الضعف من أشرافهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل لا ألوم النفس إلا أننا * لو كررنا لفعلنا المفتعل بسيوف الهند تعلو هامهم * عللا تعلوهم بعد نهل قال ابن إسحاق: فأجابه حسان بن ثابت رضى الله عنه: ذهبت بابن الزبعرى وقعة * كان منا الفضل فيها لو عدل ولقد نلتم ونلنا منكم * وكذك الحرب أحيانا دول نضع الاسياف في أكتافكم * حيث نهوى عللا بعد نهل نخرج الاصبح من أستاهكم * كسلاح النيب يأكلن العصل (3) إذ تولون على أعقابكم * هربا في الشعب أشباه الرسل (4) إذ شددنا شدة صادقة * فأجأناكم إلى سفح الجبل بخناطيل كأشداق الملا * من يلاقوه من الناس يهل (5) ضاق عنا الشعب إذ نجزعه * وملانا الفرط منه والرجل (6) برجال لستم أمثالهم * أيدوا جبريل نصرا فنزل (7)
__________
(1) البرك: الصدر.
وعبد الاشل: هم بنو عبد الاشهل.
(2) الرقص: الخبب في السير، وهو الاسراع.
والحفان: فراخ النعام.
(3) الاصبح: وصف للبن الممذوق المخرج من بطونهم، كما قال السهيلي 2 / 158 وتروى: الاضياح.
وهو اللبن الممزوج بالماء.
والنيب: النوق المسنة.
والعصل: نبات يصلح الابل إذا أكلته.
(4) الرسل: الغنم إذا أرسلها الراعى، والرسل: القطيع من كل شئ.
(5) الخناطيل: الجماعات.
والاشداق: جمع شدق، وهو من الوادي عرضاه وناحيتاه.
والملا: الفلاة ذات حر وسراب.
ويهل: يفزع.
(6) نجزعه: نقطعه عرضا.
والفرط: المرتفع من الارض.
والرجل: المطمئن منها.
(7) أيدوا جبريل: أراد: أيدوا بجبريل.
(*)

 
روابط عرض كتاب السيرة النبوية لابن كثير
ترجمة ابن كثير الحافظ
1.السيرة النبوية لابن كثير ج1 /1.
2.السيرة النبوية لابن كثير ج1 /2.
3.ج1/ 3 السيرة النبوية لابن كثير الحافظ.
4.السيرة النبوية لابن كثير ج1//4
5.السيرة النبوية لاب كثير ج2//1..
6.السيرة النبوية لاب كثير ج2//2..
7.السيرة النبوية لابن كثير ج2//3.
8.السيرة النبوية لابن كثير ج2//4.
9.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /1 .
10.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /2 .
11.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /3 .
12.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /4 .
13..السيرة النبوية لابن كثير ج4 ا ج4//1.
14.السيرة النبوية لابن كثير ج4 ا ج4//2.
15.السيرة النبوية لابن كثير 4//3.ذكر خروجه عليه ال...
ص16.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص17.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص18.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص19.السيرة النبوية لابن كثير الجزء السادس -ج6//1
ص20. ج6//2 السيرة النبوية لابن كثير
ص21.ج6//3 السيرة النبوية لابن كثير
ص22.ج6//4 السيرة النبوية لابن هشام الحافظ
الروابط الي الجزء 6
ص23.السيرة النبوية لابن كثير الجزء 7 بتصنيف الشاملة...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق