الجمعة، 15 يونيو 2018

14.السيرة النبوية لابن كثير ج4 ا ج4//2.


14. ج4 //2 السيرة النبوية لابن كثير /غزوة الحديبية وقد كانت في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف.

وممن نص على ذلك الزهري، ونافع مولى ابن عمر، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق بن يسار وغيرهم.

وهو الذي رواه ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة، أنها كانت في ذي القعدة سنة ست.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا إسماعيل بن الخليل، عن علي بن مسهر، أخبرني هشام بن عروة، عن أبيه: قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان، وكانت الحديبية في شوال: وهذا غريب جدا عن عروة.
وقد روى البخاري ومسلم جميعا عن هدبة، عن همام، عن قتادة، أن أنس بن مالك أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر في ذي القعدة إلا العمرة التي مع حجته، عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، ومن الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنائم حنين، وعمرة مع حجته.
وهذا لفظ البخاري.
* * * وقال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة رمضان وشوالا وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة ابن عبدالله الليثي.
قال ابن إسحاق: واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الاعراب ليخرجوا
معه، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الاعراب. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والانصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدى وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالا، وساق معه الهدى سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، وكانت كل بدنة عن عشرة نفر: وكان جابر ابن عبدالله فيما بلغني يقول: كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة.
* * *
قال الزهري: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر (1) بن سفيان الكعبي، فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل (2)، قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ويح قريش ! قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الاسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش ؟ فوالله لا أزال أجاهد على هذا الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة.
(3) ثم
__________
(1) ويقال له: بسر.
كما قال ابن هشام.
(2) العوذ المطافيل: النوق ذوات اللبن معها أولادها.
وهى كناية عن النساء معها الاطفال.
(3) السالفة: صفحة العنق.
وأراد بذلك الموت.
(*)
قال: من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟ قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر أن رجلا من أسلم قال: أنا يا رسول الله.
فسلك بهم طريقا وعرا أجرل (1) بين شعاب، فلما خرجوا منه وقد شق ذلك على المسلمين فأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، قال رسول الله: قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه.
فقالوا ذلك.
فقال: والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها.
قال ابن شهاب: فأمر رسول الله صلى عليه وسلم الناس فقال: اسلكوا ذات اليمين بين ظهرى الحمض.
في طريق يخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة.
قال: فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا
عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته فقال الناس: خلات (2).
فقال: ما خلات وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها.
* * * ثم قال للناس: انزلوا.
قيل له: يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه.
فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه فنزل به في قليب من تلك القلب، فغرزه في جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن (3).
__________
(1) الاجرل: الكثير الحجارة.
(2) خلات: حرنت وبركت من غير علة.
(3) ضرب الناس بعطن: أناخوا حول الماء بعد السقي (*).
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم عن رجال من أسلم أن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب (1)، سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وقد زعم بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول: أنا الذي نزلت بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله أعلم أي ذلك كان.
ثم استدل ابن إسحاق للاول أن جارية من الانصار جاءت البئر وناجية أسفله يميح (2) فقالت: يا أيها المائح دلوي دونكا * إني رأيت الناس يحمدونكا يثنون خيرا ويمجدونكا فأجابها فقال: قد علمت جارية يمانيه * أني أنا المائح واسمي ناجيه
وطعنة ذات رشاش واهيه * طعنتها عند صدور العاديه * * * قال الزهري في حديثه: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة، فكلموه وسألوه ما الذي جاء به ؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته.
ثم قال لهم نحو ما قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد، وإن محمدا لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت.
فاتهموهم وجبهوهم وقالوا: وإن جاء ولا يريد قتالا، فوالله لا يدخلها علينا عنوة ولا تحدث بذلك عنا العرب.
قال الزهري: وكانت خزاعة عيبة (3) نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئا كان بمكة.
__________
(1) ذكر ابن هشام بقية نسبه.
(2) يميح: يملا الدلاء.
(3) العيبة: موضع السر والخاصة.
(*).
قال: ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الاخيف أخا بني عامر بن لؤي، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: هذا رجل غادر.
فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا مما قال لبديل وأصحابه، فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بعثوا بحليس بن علقمة أو ابن زبان وكان يومئذ سيد الاحابيش، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدى في وجهه حتى يراه.
فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاما لما رأى، فقال لهم ذلك.
قال: فقالوا له: اجلس
فإنما أنت أعرابي لا علم لك.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر أن الحليس غضب عند ذلك وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاهدناكم، أيصد عن بيت الله من جاءه معظما له ؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لانفرن بالاحابيش نفرة رجل واحد.
قالوا: مه كف عنا حتى نأخذ لانفسنا ما نرضى به.
* * * قال الزهري في حديثه: ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذ جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس، وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي. قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم. فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد أجمعت أو شاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا.
قال: وأبو بكر الصديق رضى الله عنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: امصص بظر اللات ! أنحن ننكشف عنه ؟ قال: من هذا يا محمد ؟ قال: هذا ابن أبي قحافة.
قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بهذه.
قال: ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، والمغيرة ابن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد، قال: فجعل
يقرع يده إذ يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألا تصل إليك.
قال: فيقول عروة: ويحك ما أفظك وأغلظك !.
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عروة: من هذا يا محمد ؟ قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة.
قال: أي غدر وهل غسلت سوأتك إلا بالامس ! قال الزهري: فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو مما كلم به أصحابه، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا، فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ولا يسقط من شعره شئ إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قومه قط مثل محمد في أصحابه ! ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشئ أبدا، فروا رأيكم.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له يقال له الثعلب: ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله، فمنعه الاحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس، أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، أمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا فأخذوا، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل.
ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس بمكة من بني عدى أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكني أدلك على رجل أعز بها مني.
عثمان بن عفان.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته.
فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف.
قال: ما كنت لافعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واحتبسته قريش عندها.
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد
قتل.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم.
* * * ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، وكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة وكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت.
وكان جابر بن عبدالله يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على ألا نفر.
فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة، وكان جابر بن عبدالله يقول: والله لكأني أنظر
إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ (1) إليها يستتر من الناس.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل.
قال ابن هشام: ودكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، أن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الاسدي.
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له عن ابن أبي مليكة، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع لعثمان فضرب بإحدى يديه الاخرى.
وهذا الحديث الذي ذكره ابن هشام بهذا الاسناد ضعيف، لكنه ثابت في الصحيحين.
قال ابن إسحاق: قال الزهري: ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ائت محمدا وصالحه، ولا يكن في صلحه
__________
(1) ضبأ: لصق.
(*)
إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها عنوة أبدا.
فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.
فلما انتهى سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام، وتراجعا ثم جرى بينهما الصلح.
فلما التأم الامر ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله ؟ قال: بلى.
قال: أو لسنا بالمسلمين ؟ قال: بلى.
قال: أو ليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى.
قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال: أبو بكر: يا عمر الزم غرزه (1) فإني أشهد أنه رسول الله.
قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألست برسول الله ؟ قال: بلى.
قال: أو لسنا بالمسلمين ؟ قال: بلى.
قال أو ليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى.
قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال: أنا عبدالله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني وكان عمر رضى الله عنه يقول: ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمته يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيرا.
* * * قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضى الله عنه فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم قال فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم.
فكتبها.
ثم قال: اكتب: " هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو ".
قال: فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
__________
(1) الغرز: ركاب من جلد توضع فيه الرجل.
والمراد: اتبع أمره ولا تخالفه.
(*)
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب: " هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة (1) مكفوفة، وأنه لا إسلال (2) ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ".
فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده.
وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم.
وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وإنه إذا كان عام قابل خرجنا
عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا، معك سلاح الراكب: السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها.
قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه دخل على الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون.
فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه وقال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا.
قال: صدقت.
فجعل ينتره بتلبيبه ويجره
__________
(1) العيبة: موضع السر ومكفوفة: مطوية.
(2) الاسلال: السرقة الخفية.
والاغلال: الخيانة.
(21 - السيرة 3) (*)
يعني يرده (1) إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني.
فزاد ذلك الناس إلى ما بهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا.
إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم ".
قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر أبا جندل، فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب.
قال: ويدنى قائم السيف منه.
قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه ! قال: فضن الرجل بأبيه، ونفذت القضية.
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب اشهد على الصلح رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن ابن عوف، و عبدالله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة ومكرز بن حفص، وهو يومئذ مشرك، وعلي بن أبي طالب، وكتب، وكان هو كاتب الصحيفة.
* * * وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربا في الحل (2)، وكان يصلي في الحرم، فما فرغ من الصلح قام إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، وكان الذي حلقه في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي، فلما رأى الناس أن رسول الله وسلم قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون.
__________
(1) ابن هشام: ليرده.
(2) مضطربا: كانت خيامه مقامة في الحل.
(*)
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يرحم الله المحلقين " قالوا: والمقصرين يا رسول الله ؟ قال: " يرحم الله المحلقين " قالوا: والمقصرين يا رسول الله ؟ قال: " يرحم الله المحلقين " قالوا: والمقصرين يا رسول الله ؟ قال: " والمقصرين ".
قالوا: يا رسول الله فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين ؟ قال: لم يشكوا.
وقال عبدالله بن أبي نجيح: حدثني مجاهد، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في هداياه جملا لابي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ بذلك المشركين.
هذا سياق محمد بن إسحاق رحمه الله لهذه القصة، وفي سياق البخاري كما سيأتي مخالفة في بعض الاماكن لهذا السياق كما ستراها إن شاء الله وبه الثقة.
ولنوردها بتمامها، ونذكر في الاحاديث الصحاح والحسان ما فيه [ غناء ].
إن شاء الله تعالى وعليه التكلان وهو المستعان.
* * * قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثنا صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن عبدالله، عن زيد بن خالد، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فأصابنا مطر ذات ليلة، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: " أتدرون ماذا قال ربكم " ؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم.
فقال: قال الله تعالى: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من
قال: مطرنا برحمة وبفضل الله فهو مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنجم كذا فهو مؤمن بالكوكب كافر بي ".
وهكذا رواه في غير موضع من صحيحه،.
ومسلم من طرق عن الزهري، وقد روى عن الزهري عن عبيد الله بن عبدالله عن أبي هريرة.
وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: تعدون الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا.
انفرد به البخاري.
وقال ابن إسحاق في قوله تعالى: " فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ": صلح الحديبية.
قال الزهري: فما فتح في الاسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها وأمن الناس كلم بعضهم بعضا والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد في الاسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان دخل في الاسلام قبل ذلك أو أكثر.  قال ابن هشام: والدليل على ما قاله الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة رجل في قول جابر، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف.
وقال البخاري: حدثنا يوسف بن عيسى، حدثنا ابن فضيل، حدثنا حصين، عن سالم، عن جابر قال: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين
يديه ركوة فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالكم ؟ قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا ما نشرب إلا ما في ركوتك.
فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون.
قال: فشربنا وتوضأنا.
فقلنا لجابر: كم كنتم يومئذ ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة.
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من طرق، عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد عن جابر به.
وقال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قلت لسعيد بن المسيب: بلغني أن جابر بن عبدالله كان يقول: كانوا أربع
عشرة مائة.
فقال لي سعيد: حدثني جابر: كانوا خمس عشرة مائة الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية.
تابعه أبو داود، حدثنا قرة عن قتادة.
تفرد به البخاري.
ثم قال البخاري: حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا سفيان، قال عمرو: سمعت جابرا قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: " أنتم خير أهل الارض " وكنا ألفا وأربعمائة ولو كنت أبصر اليوم لاريتكم مكان الشجرة.
وقد روى البخاري أيضا ومسلم من طرق، عن سفيان بن عيينة به.
وهكذا رواه الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر قال: إن عبدا لحاطب جاء يشكوه فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كذبت لا يدخلها، شهد بدرا والحديبية ".
رواه مسلم.
وعند مسلم أيضا من طرق [ عن ] ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرا
يقول: أخبرتني أم ميسر أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: " لايدخل أحد النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها " فقالت حفصة: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقالت حفصة " وإن منكم إلا واردها " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قال تعالى: " ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ".
قال البخاري: وقال عبيد الله بن معاذ: حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، حدثني عبدالله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة وكانت أسلم ثمن المهاجرين. تابعه محمد بن بشار، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة.
هكذا رواه البخاري معلقا عن عبدالله.
وقد رواه مسلم عن عبيد الله بن معاذ، عن
أبيه عن شعبة به.
وعن محمد بن المثنى، عن أبى داود، عن إسحق بن إبراهيم، عن النضر.
ابن شميل كلاهما عن شعبة به.
ثم قال البخاري: حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن مروان والمسور بن مخرمة، قالا: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعر وأحرم منها.
تفرد به البخاري وسيأتي هذا السياق بتمامه.
* * * والمقصود أن هذه الروايات كلها مخالفة لما ذهب إليه ابن إسحاق من أن أصحاب الحديبية كانوا سبع مائة.
وهو والله أعلم إنما قال ذلك تفقها من تلقاء نفسه من حيث إن البدن كن سبعين بدنة، وكل منها عن عشرة على اختياره، فيكون المهلون سبعمائة.
ولا يلزم أن يهدى كلهم ولا أن يحرم كلهم أيضا، فقد ثبت أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعث طائفة منهم فيهم أبو قتادة ولم يحرم أبو قتادة حتى قتل ذلك الحمار الوحشي فأكل منه هو وأصحابه، وحملوا منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء الطريق فقال: هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ قالوا: لا.
قال: فكلوا ما بقى من الحمار.
وقد قال البخاري: حدثنا شعبة بن الربيع، حدثنا على بن المبارك، عن يحيى عن عبدالله بن أبي قتادة أن أباه حدثه قال: انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فأحرم أصحابي ولم أحرم.
* * * وقال البخاري: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا شبابة بن سوار الفزارى، حدثنا شعبة،
عن قتادة عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: لقد رأيت الشجرة ثم أتيتها بعد فلم أعرفها.
حدثنا موسى، حدثنا أبو عوانة، حدثنا طارق، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه أنه كان فيمن بايع تحت الشجرة فرجعنا إليها العام المقبل فعميت علينا.
وقال البخاري أيضا: حدثنا محمود، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن طارق بن عبد الرحمن، قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون، فقلت: ما هذا المسجد ؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان.
فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال: فلما كان من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها.
ثم قال سعيد: إن أصحاب محمد لم يعلموها، وعلمتموها أنتم ! فأنتم أعلم ؟ ورواه البخاري ومسلم من حديث الثوري وأبي عوانة وشبابة عن طارق.
وقال البخاري: حدثنا سعيد، حدثني أخي، عن سليمان، عن عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم قال: لما كان يوم الحرة والناس يبايعون لعبد الله بن حنظلة، فقال ابن
زيد: على ما يبايع ابن حنظلة الناس ؟ قيل له: على الموت.
فقال: لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شهد معه الحديبية.
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من طرق عن عمرو بن يحيى به.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد قلت لسلمة بن الاكوع: على أي شئ بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ؟ قال: على الموت.
ورواه مسلم من حديث يزيد بن أبي عبيد.
وفي صحيح مسلم عن سلمة أنه بايع ثلاث مرات في أوائل الناس ووسطهم وأواخرهم.
وفي الصحيح عن معقل بن يسار أنه كان آخذا بأغصان الشجرة عن وجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس، وكان أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أبو سنان، وهو وهب بن محصن أخو عكاشة بن محصن، وقيل سنان ابن أبي سنان.
وقال البخاري: حدثني شجاع بن الوليد، سمع النضر بن محمد، حدثنا صخر بن الربيع، عن نافع قال: إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر، وليس كذلك، ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبدالله إلى فرس له عند رجل من الانصار أن يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك، فبايعه عبدالله، فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي تحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر.
وقال هشام بن عمار: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عمر بن محمد العمري، أخبرني نافع، عن ابن عمر أن الناس كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجرة، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عبدالله انظر
ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهم يبايعون، فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع.
تفرد به البخاري من هذين الوجهين.
ذكرى سياق البخاري لعمرة الحديبية قال في كتاب المغازي: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا سفيان، سمعت الزهري حين حدث هذا الحديث حفظت بعضه وثبتني معمر، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يزيد أحدهما على صاحبه، قالا: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدى وأشعره (1) وأحرم منها بعمرة وبعث عينا له من خزاعة.
وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الاشطاط أتاه عينه قال: إن قريشا جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الاحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك.
فقال: أشيروا أيها الناس على، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله قد قطع عينا من المشركين وإلا تركناهم محروبين.
قال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه.
قال: امضوا على اسم الله.
هكذا رواه هاهنا ووقف ولم يزد شيئا على هذا.
وقال في كتاب الشهادات (2): حدثني عبدالله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، أخبرني الزهري، أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) أشعره: ألبسه الشعار تمييزا له.
(2) هو في كتاب الشروط صحيح البخاري 2 / 10 (*)
وسلم زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد ابن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين.
فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش.
وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل (1)، فألحت، فقالوا: خلات القصواء خلات القصواء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماخلات القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل.
ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها.
ثم زجرها فوثبت.
فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه (2) [ الناس (3) ] تبرضا فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش،
فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.
فبينما هم كذلك إذا جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة - وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة - فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا،
__________
(1) حل: كلمة تقال للناقة إذا بركت.
(2) يتبرضه: يأخذونه قليلا قليلا.
(3) من صحيح البخاري 2 / 10 (*)
وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لاقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن أمر الله.
قال بديل: سأبلغهم ما تقول.
فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا.
فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشئ.
وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول.
قال: سمعته يقول كذا وكذا.
فحدثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألست بالوالد ؟ قالوا: بلى.
قال: أو لستم بالولد ؟ قالوا بلى.
قال: فهل تتهموني ؟ قالوا: لا.
قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا (1) علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا: بلى.
قال: فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آتيه، فقالوا: ائته.
فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الاخرى فإني والله لا أرى وجوها وإني لارى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك.
فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات ! أنحن نفر عنه وندعه ؟ ! قال: من ذا ؟ قالوا: أبو بكر.
قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لاجبتك.
قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال له: أخر
__________
(1) بلحوا: أبطأوا.
(*)
يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فرفع عروة رأسه فقال.
من هذا ؟ قالوا: المغيرة بن شعبة.
فقال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك ! وكان المغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الاسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شئ.
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له.
فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب
محمد محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده (1).
وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
* * * فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه.
فقالوا: ائته.
فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له.
فبعثت له واستقبله الناس يلبون.
فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت.
فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
__________
(1) لعل هذا الوصف مبالغة في الحب والتعظيم، كان فيه مخالفة لمبادئ الاسلام التي تدعو إلى النظافة وتحث على التطهر، ولعل هذا لا يتناسب مع ما كان عليه المسلمون من وضاءة وطهر.
ونحن لا ننكر الرواية ولكننا نحملها على المبالغة والتجوز.
(*)
فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آتيه.
قالوا: ائته.
فلما أشرف عليهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مكرز وهو رجل فاجر.
فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.
قال معمر: فأخبرني أيوب، عن عكرمة، أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد سهل لكم من أمركم ".
قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل فقال: هات فاكتب بيننا وبينكم كتابا.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب
باسمك اللهم كما كنت تكتب.
فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم.
ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله.
فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبدالله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد ابن عبدالله.
قال الزهري: وذلك لقوله: لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله، إلا أعطيتهم إياها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به.
قال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل.
فكتب.
فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وأن كان على دينك إلا رددته إلينا.
قال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما.
فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد.
قال: فوالله إذا لم أصالحك على شئ أبدا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجزه لي.
قال ما أنا بمجيزه لك.
قال: بلى فافعل.
قال: ما أنا بفاعل.
قال مكرز: بلى قد أجزناه لك.
قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون ما قد لقيت ؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله.
فقال عمر رضى الله عنه: فأتيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقا ؟ قال: بلى.
قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى.
قلت: فلم نعطي الدنية ؟ في ديننا إذن ؟.
قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري.
قلت: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال: " بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام " ؟ قال: قلت: لا.
قال: " فإنك آتيه ومطوف به ".
قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا.
قال: بلى.
قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل.
قال: بلى.
قال: قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن.
قال: أيها الرجل إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق.
قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام.
فقلت: لا.
قال: فإنك آتيه ومطوف به.
قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا.
قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا.
قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقى من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك.
فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما.
ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن " حتى بلغ " بعصم الكوافر " فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له
في الشرك.
فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والاخرى صفوان بن أمية.
ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير، رجل من قريش، وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا.
فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لاحد الرجلين: والله إني لارى سيفك هذا يا فلان جيدا.
فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت.
فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه.
فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: " لقد رأى هذا ذعرا ".
فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول.
فجاء أبو بصير فقال: يا نبى الله قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ويل أمه ! مسعر حرب لو كان له أحد ! فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.
قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون
بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم.
فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم.
فأنزل الله تعالى: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم " حتى بلغ: " الحمية حمية الجاهلية ".
وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت.
فهذا سياق فيه زيادات وفوائد حسنة ليست في رواية ابن إسحاق عن الزهري، فقد رواه عن الزهري عن جماعة منهم سفيان بن عيينة ومعمر ومحمد بن إسحاق، كلهم عن الزهري عن عروة عن مروان ومسور، فذكر القصة.
* * * وقد رواه البخاري في أول كتاب الشروط عن يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، عن عقيل عن الزهري عن عروة عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر القصة.
وهذا هو الاشبه، فإن مروان ومسورا كانا صغيرين يوم الحديبية، والظاهر أنهما أخذاه عن الصحابة رضى الله عنهم أجمعين.
وقال البخاري: حدثنا الحسن بن إسحاق، حدثنا محمد بن سابق، حدثنا مالك ابن مغول، سمعت أبا حصين قال: قال أبو وائل،: لما قدم سهيل بن حنيف من صفين أتيناه نستخبره فقال: اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا
عن عواتقنا لامر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه، قبل هذا الامر ما نسد منها خصما إلا انفجر علينا خصم (1) ما ندري كيف نأتي له.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وكان عمر بن الخطاب يسير معه ليلا، فسأله عمر بن الخطاب عن شئ فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر بن الخطاب: ثكلتك أمك يا عمر، نزرت (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك.
قال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام المسلمين، وخشيت أن ينزل في قرآن،
فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي، قال: فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن.
فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال: " لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس " ثم قرأ: " إنا فتحنا لك فتحا مبينا ".
قلت: وقد تكلمنا على سورة الفتح بكمالها في كتابنا التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة ومن أحب أن يكتب ذلك هنا فليفعل.
__________
(1) الخصم: الجانب.
ويريد بهذا الامر: الفتنة التي حدثت بين على ومعاوية.
(2) نزرت: ألحححت عليه.
(22 - السيرة 3) (*)
فصل في ذكر السرايا والبعوث التي كانت في سنة ست من الهجرة وتلخيص ذلك ما أورده الحافظ البيهقي عن الواقدي: في ربيع الاول منها أو الآخر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عكاشة بن محصن في أربعين رجلا إلى [ غرو مرزوق ] (1) فهربوا منه ونزل على مياههم وبعث في آثارهم وأخذ منهم مائتي بعير فاستاقها إلى المدينة.
وفيها كان بعث أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة بأربعين رجلا أيضا، فساروا إليهم مشاة حتى أتوها في عماية الصبح، فهربوا منه في رءوس الجبال، فأسر منهم رجلا فقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثه محمد بن مسلمة في عشرة نفر وكمن القوم لهم حتى باتوا [ فقتل (2) ] أصحاب محمد بن مسلمة كلهم وأفلت هو جريحا.
وفيها كان بعث زيد بن حارثة بالجموم (3) فأصاب امرأة من مزينة يقال لها حليمة، فدلتهم على محلة من محال بني سليم فأصابوا منها نعما وشاء وأسروا [ جماعة من المشركين ] (4) وكان فيهم زوج حليمة هذه فوهبه رسول الله صلى عليه وسلم
لزوجها وأطلقهما.
وفيها كان بعث زيد بن حارثة أيضا في جمادي الاولى إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا، فهربت منه الاعراب، فأصاب من نعمهم عشرين بعيرا ثم رجع بعد أربع ليال.
__________
(1) سقطت من الاصل وأثبتها من المواهب.
(2) سقطت من الاصل.
(3) الاصل: الحموم.
وما أثبته من المواهب.
(4) سقطت من الاصل وأثبتها من المواهب.
(*)
وفيها خرج زيد بن حارثة في جمادي الاولى إلى العيص.
قال: وفيها أخذت الاموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع، فاستجار بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجارته.
وقد ذكر ابن إسحاق قصته حين أخذت العير التي كانت معه وقتل أصحابه وفر هو من بينهم حتى قدم المدينة، وكانت امرأته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هاجرت بعد بدر، فلما جاء المدينة استجار بها فأجارته بعد صلاة الصبح، فأجاره لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس برد ما أخذوا من عيره، فردوا كل شئ كانوا أخذوه منه حتى لم يفقد منه شيئا، فلما رجع بها إلى مكة وأدى إلى أهلها ما كان لهم معه من الودائع أسلم، وخرج من مكة راجعا إلى المدينة، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته بالنكاح الاول ولم يحدث نكاحا ولا عقدا كما تقدم بيان ذلك.
وكان بين إسلامه وهجرتها ست سنين، ويروى سنتين.
وقد بينا أنه لا منافاة بين الروايتين، وأن إسلامه تأخر عن وقت تحريم المؤمنات على الكفار بسنتين، وكان إسلامه في سنة ثمان في سنة الفتح لا كما تقدم في كلام الواقدي من أنه سنة ست.
فالله أعلم.
وذكر الواقدي في هذه السنة أن دحية بن خليفة الكلبي أقبل من عند قيصر،
قد أجازه بأموال وخلع، فلما كان بحسمى لقيه ناس من جذام فقطعوا عليه الطريق فلم يتركوا معه شيئا، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة أيضا رضى الله عنه.
قال الواقدي: حدثني عبدالله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة، قال: خرج علي رضى الله عنه في مائة رجل إلى أن نزل إلى حي من بني أسد بن بكر، وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فسار إليهم بالليل
وكمن بالنهار وأصاب عينا لهم، فأقر له أنه بعث إلى خيبر يعرض عليهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر.
قال الواقدي رحمه الله تعالى: وفي سنة ست في شعبان كانت سرية عبدالرحمن بن عوف إلى دومة الجندل وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هم أطاعوا فتزوج بنت ملكهم، فأسلم القوم وتزوج عبدالرحمن بنت ملكهم تماضر بنت الاصبع الكلبية، وهي أم أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف * * * قال الواقدي: في شوال سنة ست كانت سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم كرز بن جابر في عشرين فارسا فردوهم.
وكان من أمرهم ما أخرجه البخاري ومسلم، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، أن رهطا من عكل وعرينة - وفي رواية: من عكل أو عرينة - أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا أناس أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف فاستوخمنا المدينة.
فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود (1) وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا
كانوا بناحية الحرة قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود وكفروا بعد إسلامهم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم، فأمر بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر (2) أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا وهم كذلك.
قال قتادة: فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب بعد ذلك حض على الصدقة ونهى عن المثلة.
__________
(1) الذود: القطيع من الابل بين الثلاث إلى العشر.
(2) سمر: فقأ.
(*)
وهذا الحديث قد رواه جماعة عن قتادة ورواه جماعة عن أنس بن مالك.
وفي رواية مسلم عن معاوية بن قرة عن أنس، أن نفرا من عرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وبايعوه، وقد وقع في المدينة الموم - وهو البرسام (1) - فقالوا: هذا الموم قد وقع يا رسول، لو أذنت لنا فرجعنا إلى الابل.
قال: نعم فاخرجوا فكونوا فيها.
فخرجوا فقتلوا الراعيين وذهبوا بالابل.
وعنده: سار من الانصار قريب عشرين فأرسلهم إليهم وبعث معهم قائفا يقتص أثرهم، فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم.
وفي صحيح البخاري من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، أنه قال: قدم رهط من عكل فأسلموا واجتووا المدينة، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال: الحقوا بالابل واشربوا من أبوالها وألبانها.
فذهبوا وكانوا فيها ما شاء الله، فقتلوا الراعي واستاقوا الابل فجاء الصريخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ترتفع الشمس حتى أتى بهم فأمر بمسامير فأحميت فكواهم بها وقطع أيديهم وأرجلهم، وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا ولم يحمهم.
وفي رواية عن أنس قال: فلقد رأيت أحدهم يكدم الارض بفيه من العطش.
قال أبو قلابة: فهؤلاء قتلوا وسرقوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله
صلى الله عليه وسلم.
وقد روى البيهقي من طريق عثمان بن أبي شيبة، عن عبدالرحمن بن سليمان، عن محمد بن عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث في آثارهم قال: اللهم عم عليهم الطريق، واجعلها عليهم أضيق من مسك جمل، قال: فعمى الله عليهم السبيل: فأدركوا فأتى بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم.
وفي صحيح مسلم: إنما سملهم لانهم سملوا أعين الرعاء.
__________
(1) البرسام: ذات الجنب.
وهو التهاب في الغشاء المحيط بالرئة.
(*)
فصل فيما وقع من الحوادث في هذه السنة أعنى سنة ست من الهجرة.
فيها نزل فرض الحج، كما قرره الشافعي رحمه الله زمن الحديبية في قوله تعالى " وأتموا الحج والعمرة لله ".
ولهذا ذهب إلى أن الحج على التراخي لا على الفور، لانه صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا في سنة عشر.
وخالفه الثلاثة مالك وأبو حنيفة وأحمد، فعندهم أن الحج يحب على كل من استطاعه على الفور، ومنعوا أن يكون الوجوب مستفادا من قوله تعالى: " وأتموا الحج والعمرة لله " وإنما في هذه الآية الامر بالاتمام بعد الشروع فقط، واستدلوا بأدلة قد أوردنا كثيرا منها عند تفسير هذه الآية من كتابنا التفسير ولله الحمد والمنة بما فيه كفاية.
وفي هذه السنة حرمت المسلمات على المشركين، تخصيصا لعموم ما وقع به الصلح عام الحديبية على أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته علينا، فنزل قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم
بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن " الآية.
وفي هذه السنة كانت غزوة المريسيع التي كان فيها قصة الافك ونزول براءة أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها كما تقدم.
وفيها كانت عمرة الحديبية، وما كان من صد المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف وقع الصلح بينهم على وضع الحرب بينهم عشر سنين، فأمن الناس فيهن
بعضهم بعضا، وعلى أنه لا إغلال ولا إسلال.
وقد تقدم كل ذلك مبسوطا في أماكنه ولله الحمد والمنة.
وولى الحج في هذه السنة المشركون.
قال الواقدي: وفيها في ذي الحجة منها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر مصطحبين حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الاسكندرية.
وشجاع بن وهب ابن أسد بن جذيمة شهد بدرا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يعني ملك عرب النصارى، ودحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر، وهو هرقل ملك الروم، و عبدالله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك الفرس، وسليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي، وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك النصارى بالحبشة وهو أصحمة بن الحر.
بسم الله الرحمن الرحيم سنة سبع من الهجرة غزوة خيبر في أولها قال شعبة عن الحاكم، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى في قوله: " وأثابهم فتحا قريبا " قال: خيبر.
وقال موسى بن عقبة: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية مكث
عشرين يوما أو قريبا من ذلك ثم خرج إلى خيبر، وهي التي وعده الله إياها.
وحكى موسى عن الزهري أن افتتاح خيبر في سنة ست والصحيح أن ذلك في أول سنة سبع.
كما قدمنا.
قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر.
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن الزهري، عن عروة عن مروان والمسور قالا: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فنزلت عليه سورة الفتح بين مكة والمدينة، فقدم المدينة في ذي الحجة فأقام بها حتى سار إلى خيبر فنزل بالرجيع: واد بين [ خيبر و ] غطفان فتخوف أن تمدهم غطفان، حتى أصبح فغدا عليهم.
قال البيهقي: وبمعناه رواه الواقدي عن شيوخه في خروجه أول سنة سبع من الهجرة.
وقال عبدالله بن إدريس: عن إسحاق، حدثني عبدالله بن أبي بكر، قال: لما كان افتتاح خيبر في عقيب المحرم، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم في آخر صفر.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة بن عبدالله الليثي.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا خثيم يعني ابن عراك، عن أبيه أن أبا هريرة قدم المدينة في رهط من قومه والنبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وقد استخلف سباع بن عرفطة يعني الغطفاني على المدينة.
قال: فانتهيت إليه وهو يقرأ في صلاة الصبح في الركعة الاولى كهيعص وفي الثانية ويل للمطففين، فقلت في نفسي: ويل لفلان إذا اكتال [ اكتال ] بالوافي وإذا كال كال بالناقص.
قال: فلما صلى رددنا شيئا حتى أتينا خيبر وقد افتتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر،
قال: فكلم المسلمين فأشركونا في سهامهم.
وقد رواه البيهقي من حديث سليمان بن حرب، عن وهيب، عن خثيم بن عراك، عن أبيه عن نفر من بني غفار قال: إن أبا هريرة قدم المدينة فذكره.
* * * قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المدينة إلى خيبر سلك على عصر وبنى له فيها مسجدا ثم على الصهباء، ثم أقبل بجيشه حتى نزل به بواد يقال له الرجيع، فنزل بينهم وبين غطفان، ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر، كانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغني أن غطفان لما سمعوا بذلك جمعوا ثم خرجوا ليظاهروا اليهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حسا، ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم فرجعوا على أعقابهم فأقاموا في أموالهم وأهليهم وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن مسلمة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن
بشير أن سويد بن النعمان أخبره أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر حتى إذا كانوا بالصهباء - وهي من أدنى خيبر - صلى العصر ثم دعا بالازواد فلم يؤت إلا بالسويق فأمر به فثرى فأكل وأكلنا: ثم قام إلى المغرب فمضمض ثم صلى ولم يتوضأ.
* * * وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن مسلمة، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن زيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الاكوع قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر ألا تسمعنا من هنيهاتك ؟ وكان عامر رجلا شاعرا.
فنزل يحدو بالقوم يقول: لا هم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما أبقينا * وألقين سكينة علينا وثبت الاقدام إن لاقينا * إنا إذا صيح بنا أبينا وبالصياح عولوا علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا السائق ؟ قالوا: عامر بن الاكوع قال: يرحمه الله ! فقال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله لولا أمتعتنا به ! فأتينا خيبر فناصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة.
ثم إن الله فتحها عليهم فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذه النيران على أي شئ توقدون ؟ قالوا: على لحم.
قال: على أي لحم ؟ قالوا: لحم الحمر الانسية.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أهريقوها واكسروها.
فقال رجل: يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها ؟ فقال: أو ذاك.
فلما تصاف الناس كان سيف عامر قصيرا فتناول به ساق يهودي ليضربه فيرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه، فلما قفلوا قال سلمة: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي قال: مالك ؟ قلت: فداك أبي وأمي
زعموا أن عامرا حبط عمله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذب من قاله، إن له لاجرين - وجمع بين إصبعيه - إنه لجاهد مجاهد قل عربي مشى بها مثله.
ورواه مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل وغيره عن يزيد بن أبى عبيد مثله.
ويكون [ مثله ] منصوبا على الحالية من نكرة، وهو سائغ إذا دلت على تصحيح معنى، كما جاء في الحديث " فصلى وراءه رجال قياما ".
* * * وقد روى ابن إسحاق قصة عامر بن الاكوع من وجه آخر فقال: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي الهيثم بن نصر بن دهر الاسلمي، أن أباه حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الاكوع، وهو عم
سلمة بن عمرو بن الاكوع: " انزل يا بن الاكوع فخذ لنا من هناتك ".
قال: فنزل يرتجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا إنا إذا قوم بغوا علينا * وإن أرادو فتنة أبينا فأنزلن سكينة علينا * وثبت الاقدام إن لاقينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك ربك.
فقال عمر بن الخطاب: وجبت يا رسول الله لو أمتعتنا به.
فقتل يوم خيبر شهيدا.
ثم ذكر صفة قتله كنحو ما ذكره البخاري.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عطاء بن أبي مروان الاسلمي، عن أبيه عن أبي معتب بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر قال لاصحابه وأنا فيهم: قفوا، ثم قال: " اللهم رب السموات وما أظللن ورب الارضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية
وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، أقدموا بسم الله ".
وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه.
وقد رواه الحافظ البيهقي، عن الحاكم، عن الاصم، عن العطاردي، عن يونس ابن بكير، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن صالح بن كيسان، عن أبي مروان الاسلمي، عن أبيه عن جده قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر حتى إذا كنا قريبا وأشرفنا عليها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس:، قفوا.
فوقف الناس فقال: " اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الارضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ونعوذ بك من
شر هذه القرية وشر أهلها وشر ما فيها، أقدموا بسم الله الرحمن الرحيم ".
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك وإن لم يسمع أذانا أغار، فنزلنا خيبر ليلا فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح لم يسمع أذانا، فركب وركبنا معه وركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقبلنا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش قالوا: محمد والخميس معه ! فأدبروا هرابا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
قال ابن إسحاق: حدثنا هرون عن حميد عن أنس بمثله.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن يوسف، حدثنا مالك، عن حميد الطويل، عن
أنس بن مالك أن رسول الله أتى خيبر ليلا وكان إذا أتى قوما بليل لم يغربهم حتى يصبح، فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
تفرد به دون مسلم.
وقال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، حدثنا أبو عيينة، حدثنا أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك، قال: صبحنا خيبر بكرة فخرج أهلها بالمساحي، فلما بصروا بالنبي صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد والله، محمد والخميس ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
قال: فأصبنا من لحوم الحمر فنادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس.
تفرد به البخاري دون مسلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس، قال: لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر فوجدهم حين خرجوا إلى زرعهم ومساحيهم، فلما رأوه ومعه الجيش نكصوا فرجعوا إلى حصنهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
تفرد به أحمد وهو على شرط الصحيحين.
وقال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال صلى رسول الله عليه وسلم الصبح قريبا من خيبر بغلس، ثم قال: الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
فخرجوا يسعون بالسكك فقتل النبي صلى الله عليه وسلم المقاتلة وسبى الذرية
وكان في السبي صفية، فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل عتقها صداقها.
قال عبد العزيز بن صهيب لثابت: يا أبا محمد، أأنت قلت لانس: ما أصدقها ؟ فحرك ثابت رأسه تصديقا له.
تفرد به دون مسلم.
وقد أورد البخاري ومسلم النهي عن لحوم الحمر الاهلية من طرق تذكر في كتاب الاحكام.
* * * وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو طاهر الفقيه، أنبأنا خطاب بن أحمد الطوسي، حدثنا محمد بن حميد الابيوردي، حدثنا محمد بن الفضل، عن مسلم الاعور الملائي، عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض ويتبع الجنائز
ويجيب دعوة المملوك ويركب الحمار، وكان يوم بني قريظة والنضير على حمار، ويوم خيبر على حمار مخطوم برسن ليف وتحته إكاف من ليف.
وقد روى هذا الحديث بتمامه الترمذي، عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، وابن ماجه، عن محمد بن الصباح، عن سفيان، وعن عمر بن رافع عن جرير، كلهم عن مسلم، وهو ابن كيسان الملائي الاعور الكوفي، عن أنس به.
وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديثه وهو يضعف.
قلت: والذي ثبت في الصحيح عند البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرى في رفاق خيبر حتى انحسر الازار عن فخذه، فالظاهر أنه كان يومئذ على فرس لا على حمار.
ولعل هذا الحديث إن كان صحيحا محمول على أنه ركبه في بعض الايام وهو محاصرها.
والله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن سعيد الخزاعي، حدثنا زياد بن الربيع، عن
أبى عمران الجوني، قال: نظر أنس إلى الناس يوم الجمعة فرأى طيالسة فقال: كأنهم الساعة يهود خيبر.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن مسلمة، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الاكوع قال: كان علي بن أبي طالب تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر وكان رمدا، فقال: أنا أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فلحق به.
فلما بتنا الليلة التي فتحت خيبر قال: لاعطين الراية غدا، أو ليأخذن الراية غذا رجل يحبه الله ورسوله يفتح عليه.
فنحن نرجوها، فقيل: هذا علي.
فأعطاه ففتح عليه.
وروى البخاري أيضا ومسلم عن قتيبة عن حاتم به.
ثم قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا يعقوب بن عبدالرحمن، عن أبي حازم قال: أخبرني سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لاعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.
قال: فبات الناس يدوكون (1) ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب ؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه.
قال: فأرسل إليه فأتى، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الاسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لان يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم.
__________
(1) يدوكون: يختلفون ويسألون.
(*)
وقد رواه مسلم والنسائي جميعا عن قتيبة به.
وفي صحيح مسلم والبيهقي من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله وسوله يفتح الله عليه ".
قال عمر: فما أحببت الامارة إلا يومئذ ! فدعا عليا فبعثه ثم قال: " اذهب فقاتل حتى يفتح الله عليك ولا تلتفت " قال علي: على ما أقاتل الناس ؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ".
لفظ البخاري.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا مصعب بن المقدام وجحش بن المثنى، قالا: حدثنا إسرائيل، حدثنا عبدالله بن عصمة العجلي، سمعت أبا سعيد الخدري رضى الله عنه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الراية فهزها ثم قال: من يأخذها بحقها ؟ فجاء فلان فقال: أنا.
قال: امض.
ثم جاء رجل آخر فقال: امض.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي كرم وجه محمد لاعطينها رجلا لا يفر " فقال: هاك يا علي.
فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر وفدك وجاء بعجوتها وقديدها.
تفرد به أحمد وإسناده لا بأس به، وفيه غرابة.
وعبد الله به عصمة، ويقال ابن أعصم، وهكذا يكنى بأبى علوان العجلي، وأصله من اليمامة سكن الكوفة، وقد وثقه ابن معين، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال
أبو حاتم: شيخ.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ كثيرا.
وذكره في الضعفاء، وقال: يحدث عن الاثبات مما لا يشبه حديث الثقات حتى يسبق إلى القلب أنها موهومة أو موضوعة.
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: حدثني بريدة بن سفيان بن فروة الاسلمي، عن أبيه، عن سلمة بن عمرو بن الاكوع رضى الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضى الله عنه إلى بعض حصون خيبر، فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهد.
ثم بعث عمر رضى الله عنه فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، يفتح الله
على يديه، وليس بفرار.
قال سلمة: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضى الله عنه، وهو يومئذ أرمد، فتفل في عينيه ثم قال: " خذ الراية وامض بها حتى يفتح الله عليك ".
فخرج بها والله يأنح (1) يهرول هرولة، وإنا لخلفه نتبع أثره، حتى ركز رايته في رضم (2) من حجارة تحت الحصن، فاطلع يهودي من رأس الحصن فقال: من أنت ؟ قال: أنا علي بن أبي طالب.
فقال اليهودي: غلبتم وما أنزل على موسى.
فما رجع حتى فتح الله على يديه.
وقال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الاصم، أنبأنا العطاردي، عن يونس بن بكير، عن الحسين بن واقد، عن عبدالله بن بريدة، أخبرني أبي، قال: لما كان يوم خيبر أخذ اللواء
__________
(1) يأنح: من لانيح وهو علو النفس من شدة العدو.
وتروى: يصول.
(2) الرضم: حجارة بعضها فوق بعض، من غير بناء.
(23 - السيرة 3) (*)
أبو بكر، فرجع ولم يفتح له، وقتل محمود بن مسلمة ورجع الناس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لادفعن لوائي غدا إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لن يرجع حتى يفتح الله له " فبتنا طيبة نفوسنا أن الفتح غدا، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، ثم دعا باللواء وقام قائما، فما منا من رجل له منزلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل، حتى تطاولت أنا لها ورفعت رأسي لمنزلة كانت لي منه، فدعا علي بن أبي طالب وهو يشتكي عينيه.
قال: فمسحها ثم دفع إليه اللواء ففتح له، فسمعت عبدالله بن بريدة يقول: حدثني أبي أنه كان صاحب مرحب.
قال يونس: قال ابن إسحاق: كان أول حصون خيبر فتحا حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقيت عليه رحى منه فقتلته.
* * * ثم روى البيهقي، عن يونس بن بكير، عن المسيب بن مسلمة الازدي، حدثنا عبدالله بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما أخذته الشقيقة (1) فلبث اليوم واليومين لا يخرج، فلما نزل خيبر أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس، وإن أبا بكر أخذ راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهض فقاتل قتالا شديدا ثم رجع فأخذها عمر فقاتل قتالا شديدا هو أشد من القتال الاول ثم رجع، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لاعطينها غدا [ رجلا ] يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يأخذها عنوة " وليس ثم علي، فتطاولت لها قريش، ورجا كل رجل منهم أن يكون صاحب ذلك، فأصبح وجاء علي بن أبي طالب على بعير له حتى أناخ قريبا وهو أرمد قد عصب عينه بشقة برد
__________
(3) الشقيقة: وجع يأخذ نصف الرأس والوجه.
(*)
قطرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك ؟ قال: رمدت بعدك.
قال: ادن مني.
فتفل في عينه فما وجعها حتى مضى لسبيله.
ثم أعطاه الراية فنهض بها وعليه جبة أرجوان حمراء قد أخرج خملها، فأتى مدينة خيبر وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر يماني وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه وهو يرتجز ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب * شاك سلاحي بطل مجرب إذا الليوث أقبلت تلهب * وأحجمت عن صولة المغلب فقال على رضى الله عنه: أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث غابات شديد القسوره
أكيلكم بالصاع كيل السندره (1) قال: فاختلفا ضربتين، فبدره علي بضربة فقد الحجر والمغفر ورأسه، ورقع في الاضراس، وأخذ المدينة.
* * * وقد روى الحافظ البزار عن عباد بن يعقوب، عن عبدالله بن بكر، عن حكيم ابن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قصة بعث أبي بكر ثم عمر يوم خيبر ثم بعث علي فكان الفتح على يديه.
وفي سياقه غرابة ونكارة وفي إسناده من هو متهم بالتشيع.
والله أعلم.
وقد روى مسلم والبيهقي واللفظ له، من طريق عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة ابن الاكوع عن أبيه، فذكر حديثا طويلا وذكر فيه رجوعهم عن غزوة بني فزارة.
قال: فلم نمكث إلا ثلاثا حتى خرجنا إلى خيبر.
قال: وخرج عامر فجعل يقول:
__________
(1) السندرة: ضرب من الكيل غراف جراف.
(*)
والله لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا ونحن من فضلك ما استغنينا * فأنزلن سكينة علينا وثبت الاقدام إن لاقينا قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا القائل ؟ فقالوا: عامر.
فقال: غفر لك ربك.
قال: وما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم قط أحدا به إلا استشهد.
فقال عمر وهو على جمل: لولا متعتنا بعامر ! قال: فقدمنا خيبر فخرج مرحب وهو يخطر بسيفه ويقول: قد عملت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب
قال: فبرز له عامر رضى الله عنه وهو يقول: قد علمت خيبر أني عامر * شاكي السلاح بطل مغامر قال: فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر فذهب يسعل له (1)، فرجع على نفسه فقطع أكحله فكانت فيها نفسه.
قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: بطل عمل عامر قتل نفسه ! قال:، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: مالك ؟ فقلت: قالوا: أن عامرا بطل عمله.
فقال: من قال ذلك ؟ فقلت: نفر من أصحابك.
فقال: كذب أولئك، بل له الاجر مرتين.
قال: وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي رضى الله عنه يدعوه وهو أرمد وقال: لاعطين الراية اليوم رجلا يحبه الله ورسوله.
قال: فجئت به أقوده.
قال: فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينه فبرأ، فأعطاه الراية، فبرز مرحب وهو يقول:
__________
(1) يسعل: ينشط.
(*)
قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب قال: فبرز له علي وهو يقول: أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث غابات كريه المنظره أو فيهم بالصاع كيل السندره قال: فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله.
وكان الفتح.
هكذا وقع في هذا السياق أن عليا هو الذي قتل مرحبا اليهودي لعنه الله.
وقال أحمد:، حدثنا حسين بن حسن الاشقر، حدثني قابوس بن أبي ظبيان، عن
أبيه عن جده عن علي قال: لما قتلت مرحبا جئت برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى موسى بن عقبة عن الزهري، أن الذي قتل مرحبا هو محمد بن مسلمة.
وكذلك قال محمد بن إسحاق: حدثني عبدالله بن سهل أحد بني حارثة، عن جابر بن عبدالله، قال: خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر وهو يرتجز ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب أطعن أحيانا وحينا أضرب * إذا الليوث أقبلت تلهب إن حماي للحمى لا يقرب قال: فأجابه كعب بن مالك: قد علمت خيبر أني كعب * مفرج الغماء جرى صلب إذ شبت الحرب وثار (1) الحرب * معي حسام كالعقيق عضب يطأكم حتى يذل الصعب * بكف ماض ليس فيه عيب قال: وجعل مرحب يرتجز ويقول: هل من مبارز ؟ فقال رسول الله صلى الله
__________
(1) ابن هشام: تلتها الحرب (*)
عليه وسلم: من لهذا ؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا له يارسول الله، أنا والله الموتور والثائر، قتلوا أخي بالامس.
فقال: قم إليه اللهم أعنه عليه.
قال: فلما دنا أحدهما من صاحبه دخلت بينهما شجرة عمرية (1) من شجر العشر (2) المسد (3)، فجعل كل واحد منهما يلوذ من صاحبه بها، كلما لاذ بها أحدهما اقتطع بسيفه ما دونه، حتى برز كل واحد منهما لصاحبه وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن، ثم حمل على محمد بن مسلمة فضربه فاتقاه بالدرقة فوقع سيفه فيها فعضت [ به ]، فاستله وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله.
وقد رواه الامام أحمد، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن إسحاق بنحوه.
قال ابن إسحاق: وزعم بعض الناس أن محمدا ارتجز حين ضربه وقال: قد علمت خيبر أني ماض * حلو إذا شئت وسم قاض وهكذا رواه الواقدي عن جابر وغيره من السلف، أن محمد بن مسلمة هو الذي قتل مرحبا.
ثم ذكر الواقدي أن محمدا قطع رجلي مرحب فقال له: أجهز علي.
فقال: لا، ذق الموت كما ذاقه محمود بن مسلمة.
فمر به علي وقطع رأسه، فاختصما في سلبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة سيفه ورمحه ومغفره وبيضته.
قال: وكان مكتوبا على سيفه: هذا سيف مرحب * من يذقه يعطب
__________
(1) العمرية: القديمة.
(2) العشر: شجر فيه حراق لم يقتدح الناس في أجود منه.
(3) المسد: الشديد الفتل.
ولم ترد هذه الكلمة في ابن هشام.
(*)
ثم ذكر ابن إسحاق أن أخا مرحب وهو ياسر خرج بعده وهو يقول: هل من مبارز ؟ فزعم هشام بن عروة أن الزبير خرج له، فقالت أم صفية بنت عبدالمطلب: يقتل ابني يا رسول الله.
فقال: بل ابنك يقتله إن شاء الله فالتقيا فقتله الزبير.
قال: فكان الزبير إذا قيل له: والله إن كان سيفك يومئذ صار ما يقول: والله ما كان بصارم ولكني أكرهته.
وقال يونس عن ابن إسحاق، عن بعض أهله عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خرجنا مع علي إلى خيبر، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل منهم من يهود فطرح ترسه من يده،
فتناول علي باب الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتني في نفر معي سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.
وفي هذا الخبر جهالة وانقطاع ظاهر.
ولكن روى الحافظ البيهقي والحاكم من طريق مطلب بن زياد، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي جعفر الباقر، عن جابر، أن عليا حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه فافتتحوها، وإنه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا ! وفيه ضعف أيضا.
وفي رواية ضعيفة عن جابر: ثم اجتمع عليه سبعون رجلا وكان جهدهم أن أعادوا الباب.
وقال البخاري: حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد، قال: رأيت أثر ضربة في ساق سلمة، فقلت: يا أبا مسلم ما هذه الضربة ؟ قال: هذه ضربة أصابتني
يوم خيبر فقال الناس: أصيب سلمة.
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات، فما اشتكيتها حتى الساعة.
* * * ثم قال البخاري: حدثنا عبدالله بن مسلمة، حدثنا ابن أبي حازم، عن أبيه عن سهل، قال: التقى النبي صلى الله عليه وسلم والمشركون في بعض مغازيه فاقتتلوا، فمال كل قوم إلى عسكرهم، وفي المسلمين رجل لا يدع من المشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها فضربها بسيفه، فقيل: يا رسول الله ما أجزا منا أحد ما أجزأ فلان.
قال: إنه من أهل النار.
فقالوا: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار ؟ ! فقال رجل من القوم: لاتبعنه فإذا أسرع وأبطأ كنت معه، حتى جرح فاستعجل الموت فوضع نصاب سيفه بالارض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه.
فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله قال: وما ذاك ؟ فأخبره فقال: " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه من أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وإنه من أهل الجنة.
رواه أيضا عن قتيبة عن يعقوب، عن أبي حازم، عن سهل.
فذكره مثله أو نحوه.
ثم قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني سعيد ابن المسيب أن أبا هريرة قال: شهدنا خيبر فقال رسول الله صلى لله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي الاسلام: هذا من أهل النار.
فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراحة، حتى كاد بعض الناس يرتاب.
فوجد الرجل ألم جراحه فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهما فنحر بها نفسه، فاشتد رجال من المسلمين فقالوا: يا رسول الله صدق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه.
فقال: قم يا فلان فأذن: إنه لا يدخل
الجنة إلا مؤمن، وإن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر ! ".
* * * وقد روى موسى بن عقبة عن الزهري قصة العبد الاسود الذي رزقه الله الايمان والشهادة في ساعة واحدة.
وكذلك رواها ابن لهيعة عن أبي الاسود، عن عروة قالا: وجاء عبد حبشي أسود من أهل خيبر كان في غنم لسيده، فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح سألهم قال: ما تريدون ؟ قالوا: نقاتل هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي.
فوقع في نفسه ذكر النبي فأقبل بغنمه حتى عمد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إلى ما تدعو ؟ قال: أدعوك إلى الاسلام، إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وألا تعبد إلا الله.
قال: فقال العبد: فماذا يكون لي إن شهدت بذلك وآمنت بالله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجنة إن مت على ذلك.
فأسلم العبد فقال: يا نبي الله إن هذه الغنم عندي أمانة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجها من عسكرنا وارمها بالحصا، فإن الله سيؤدي عنك أمانتك.
ففعل فرجعت الغنم إلى سيدها، فعرف اليهودي أن غلامه قد أسلم.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظ الناس فذكر الحديث في إعطائه الراية عليا ودنوه من حصن اليهود وقتله مرحبا، وقتل مع علي ذلك العبد الاسود، فاحتمله المسلمون إلى عسكرهم فأدخل في الفسطاط، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع في الفسطاط ثم اطلع على أصحابه فقال: " لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير، قد كان الاسلام في قلبه حقا، وقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين ! ".
وقد روى الحافظ البيهقي من طريق ابن وهب، عن حيوة بن شريح عن ابن الهاد، عن شرحبيل بن سعد، عن جابر بن عبدالله، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في غزوة خيبر، فخرجت سرية فأخذوا إنسانا معه غنم يرعاها فذكر نحو قصة هذا العبد الاسود وقال فيه: قتل شهيدا وما سجد لله سجدة ! ثم قال البيهقي: حدثنا محمد بن محمد بن محمد الفقيه، حدثنا أبو بكر القطان، حدثنا أبو الأزهر، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أنس أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أني رجل أسود اللون قبيح الوجه لا مال لى، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل أدخل الجنة ؟ قال: نعم.
فتقدم فقاتل حتى قتل، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقتول فقال: لقد حسن الله وجهك وطيب ريحك وكثر مالك وقال: " لقد رأيت زوجتيه من الحور العين يتنازعان جبته عليه، يدخلان فيما بين جلده وجبته ".
ثم روى البيهقي من طريق ابن جريج، أخبرني عكرمة بن خالد، عن ابن أبي عمار، عن شداد بن الهاد، أن رجلا من الاعراب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
فآمن به واتبعه فقال: أهاجر معك.
فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه فقال: ما هذا ؟ قالوا: قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما على هذا اتبعتك ولكني اتبعتك على أن أرمى هاهنا، وأشار إلى حلقه بسهم، فأموت فأدخل الجنة.
فقال: " إن تصدق الله يصدقك ".
ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل وقد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو هو ؟ قالوا: نعم.
قال: " صدق الله فصدقه ".
وكفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدمه فصلى
عليه وكان مما ظهر من صلاته: " اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك قتل شهيدا وأنا عليه شهيد ".
وقد رواه النسائي عن سويد بن نصر، عن عبدالله بن المبارك عن ابن جريج به نحوه.
فصل قال ابن إسحاق: وتدنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الاموال بأخذها مالا مالا ويفتتحها حصنا حصنا، وكان أول حصونهم فتح حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رحى منه فقتلته.
ثم القموص حصن بني أبي الحقيق.
وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبايا، منهم صفية بنت حيى بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وبنتي عم لها، فاصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه، وكان دحية بن خليفة قد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
صفية، فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتي عمها.
قال: وفشت السبايا من خيبر في المسلمين، وأكل الناس لحوم الحمر فذكر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عن أكلها.
وقد اعتنى البخاري بهذا الفصل، فأورد النهي عنها من طرق جيدة.
وتحريمها مذهب جمهور العلماء سلفا وخلفا وهو مذهب الائمة الاربعة.
وقد ذهب بعض السلف، منهم ابن عباس إلى إباحتها، وتنوعت أجوبتهم عن الاحاديث الواردة في النهي عنها.
فقيل: لانها كانت ظهرا يستعينون بها في الحمولة.
وقيل: لانها لم تكن خمست بعد.
وقيل: لانها كانت تأكل العذرة، يعني جلالة.
والصحيح أنه نهى عنها لذاتها، فإن في الاثر الصحيح أنه نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر، فإنها رجس.
فأكفأوها والقدور تفور بها.
وموضع تقرير ذلك في كتاب الاحكام.
قال ابن إسحاق: حدثني سلام بن كركرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبدالله، ولم يشهد جابر خيبر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر أذن لهم في لحوم الخيل.
وهذا الحديث أصله ثابت في الصحيحين، من حديث حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي، عن جابر رضى الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص في الخيل.
لفظ البخاري.
قال ابن إسحاق: وحدثنا عبدالله بن أبي نجيح، عن مكحول، أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهاهم يومئذ عن أربع: عن إتيان الحبالى من النساء، وعن أكل الحمار الاهلي، وعن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم.
وهذا مرسل.
* * * وقال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق مولى تجيب، عن حنش الصنعاني، قال: غزونا مع رويفع بن ثابت الانصاري المغرب، فافتتح قرية من قرى المغرب يقال لها جربة، فقام فينا خطيبا فقال: أيها الناس إني لا أقول فيكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فينا يوم خيبر، قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماءه زرع
غيره، يعني إتيان الحبالى من السبي، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس يوما من فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه.
وهكذا روى هذا الحديث أبو داود من طريق محمد بن إسحاق.
ورواه الترمذي عن حفص بن عمرو الشيباني، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن ربيعة بن سليم، عن بشر بن عبيد الله، عن رويفع بن ثابت مختصرا.
وقال: حسن.
وفي صحيح البخاري عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الاهلية وعن أكل الثوم.
وقد حكى ابن حزم عن علي وشريك بن الحنبل أنهما ذهبا إلى تحريم البصل والثوم النئ.
والذي نقله الترمذي عنهما الكراهة.
فالله أعلم.
* * * وقد تكلم الناس في الحديث الوارد في الصحيحين من طريق الزهري، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية، عن أبيهما، عن أبيه علي بن أبي طالب رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الاهلية.
هذا لفظ الصحيحين من طريق مالك وغيره، عن الزهري وهو يقتضي تقييد تحريم نكاح المتعة بيوم خيبر.
وهو مشكل من وجهين: أحدهما أن يوم خيبر لم يكن ثم نساء يتمتعون بهن، إذ قد حصل لهم الاستغناء بالسباء عن نكاح المتعة.
الثاني: أنه قد ثبت في صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة، عن معبد عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لهم في المتعة زمن الفتح، ثم لم يخرج من مكة حتى نهى عنها وقال: إن الله قد حرمها إلى يوم القيامة.
فعلى هذا يكون قد نهى عنها ثم أذن فيها ثم حرمت، فيلزم النسخ مرتين وهو بعيد.
ومع هذا فقد نص الشافعي على أنه لا يعلم شيئا أبيح ثم حرم، ثم أبيح ثم حرم، غير نكاح المتعة.
وما حداه على هذا رحمه الله إلا اعتماده على هذين الحديثين كما قدمناه (1).
وقد حكى السهيلي وغيره عن بعضهم أنه ادعى أنها أبيحت ثلاث مرات، وحرمت ثلاث مرات.
وقال آخرون: أربع مرات.
وهذا بعيد جدا.
والله أعلم.
واختلفوا أي وقت أول ما حرمت، فقيل: في خيبر.
وقيل: في عمرة القضاء.
وقيل: في عام الفتح.
وهذا يظهر.
وقيل: في أوطاس.
وهو قريب من الذي قبله.
وقيل:
في تبوك.
وقيل: في حجة الوداع.
رواه أبو داود.
وقد حاول بعض العلماء أن يجيب عن حديث علي رضى الله عنه بأنه وقع فيه تقديم وتأخير.
وإنما المحفوظ فيه ما رواه الامام أحمد: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن الحسن و عبدالله ابني محمد عن أبيهما، وكان حسن أرضاهما في أنفسهما، أن عليا قال لابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الاهلية زمن خيبر.
__________
(1) بالاصل بياض بمقدار سطر.
(*)
قالوا: فاعتقد الراوي أن قوله خيبر ظرف للمنهى عنهما، وليس كذلك إنما هو ظرف للنهى عن لحوم الحمر، فأما نكاح المتعة فلم يذكر له ظرفا، وإنما جمعه معه لان عليا رضى الله عنه بلغه أن ابن عباس أباح نكاح المتعة ولحوم الحمر الاهلية كما هو المشهور عنه، فقال له أمير المؤمنين علي: إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة ولحوم الحمر الاهلية يوم خيبر.
فجمع له النهي ليرجع عما كان يعتقده في ذلك من الاباحة.
وإلى هذا التقرير كان ميل شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي تغمده الله برحمته آمين.
ومع هذا ما رجع ابن عباس عما كان يذهب [ إليه ] من [ إباحة ] الحمر والمتعة.
أما النهي عن الحمر فتأوله بأنها كانت حمولتهم، وأما المتعة فإنما كان يبيحها عند الضرورة في الاسفار، وحمل النهي على ذلك في حال الرفاهية والوجدان، وقد تبعه على ذلك طائفة من أصحابه وأتباعهم، ولم يزل ذلك مشهورا عن علماء الحجاز إلى زمن ابن جريج وبعده.
وقد حكى عن الامام أحمد بن حنبل رواية كمذهب ابن عباس، وهي ضعيفة.
وحاول بعض من صنف في الحلال نقل رواية عن الامام بمثل ذلك.
ولا يصح أيضا والله أعلم.
وموضع تحرير ذلك في كتاب الاحكام.
وبالله المستعان.
* * * قال ابن إسحاق: ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدنى الحصون والاموال.
فحدثني عبدالله بن أبي بكر، أنه حدثه بعض من أسلم (1) أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله لقد جهدنا وما بأيدينا شئ فلم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يعطيهم إياه، فقال: " اللهم إنك قد عرفت حالهم وأن ليست لهم قوة وأن ليس بيدي شئ أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء (2)
__________
(1) ابن هشام: بعض أسلم (2) الاصل: غنى.
وما أثبته من ابن هشام.
(*)
وأكثرها طعاما وودكا ".
فغدا الناس ففتح عليهم حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه.
قال ابن إسحاق: ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم ما افتتح وحاز من الاموال ما حاز انتهوا إلى حصنهم الوطيح والسلالم، وكان آخر حصون خيبر افتتاحا، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة.
قال ابن هشام: وكان شعارهم يوم خيبر: يا منصور أمت أمت.
قال ابن إسحاق: وحدثني بريدة بن سفيان الاسدي الاسلمي، عن بعض رجال بني سلمة، عن أبى اليسر كعب بن عمرو، قال: إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ذات عشية إذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم ونحن محاصروهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يطعمنا من هذه الغنم ؟ قال أبو اليسر: فقلت: أنا يا رسول الله.
قال: فافعل.
قال: فخرجت أشتد مثل الظليم، فلما نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا قال: اللهم أمتعنا به.
قال: فأدركت الغنم وقد دخلت أولها الحصن، فأخذت شاتين من أخراها فاحتضنتهما تحت يدي، ثم جئت بهما أشتد كأنه ليس معي شئ، حتى ألقيتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبحوهما فأكلوهما.
فكان أبو اليسر من آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موتا.
وكان إذا حدث هذا الحديث بكى ثم قال: أمتعوا بي لعمري ! حتى كنت من آخرهم.
وقال الحافظ البيهقى في الدلائل: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الاصبهاني، حدثنا أبو سعيد بن الاعرابي، حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الاحول، عن أبي عثمان النهدي، أو عن أبي قلابة، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر قدم والثمرة خضرة، قال: فأسرع الناس إليها فحموا فشكوا ذلك إليه.
فأمرهم
أن يقرسوا الماء في الشنان (1) ثم يجرونه عليهم إذا أتى الفجر ويذكرون اسم الله عليه، ففعلوا ذلك فكأنما نشطوا من عقل.
* * * قال البيهقي: ورويناه عن عبدالرحمن بن رافع موصولا، وعنه: بين صلاتي المغرب والعشاء.
وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى وبهز، قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، حدثنا عبدالله بن مغفل، قال: دلى جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت: لا أعطي أحدا منه شيئا.
قال: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم.
وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، عن عبدالله بن مغفل، قال: كنا نحاصر قصر خيبر، فألقى إلينا جراب فيه شحم، فذهبت فأخذته فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت.
وقد أخرجه صاحبا الصحيح من حديث شعبة.
ورواه مسلم أيضا عن شيبان بن فروخ، عن عثمان بن المغيرة.
وقال ابن إسحق:، وحدثني من لاأتهم عن عبدالله بن مغفل المزني قال: أصبت من فئ خيبر جراب شحم، قال: فاحتملته على عنقي إلى رحلي وأصحابي.
قال: فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها، فأخذ بناحيته وقال: هلم حتى تقسمه بين المسلمين.
قال: وقلت: لا والله لا أعطيكه.
قال: وجعل يجاذبني الجراب، قال: فرآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصنع ذلك فتبسم ضاحكا، ثم قال لصاحب المغانم: خل بينه وبينه.
قال: فأرسله فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي فأكلناه.
__________
(1) يقرسوا: يبردوا.
والشنان: القرب.
(24 - السيرة 3) (*)
وقد استدل الجمهور بهذا الحديث على الامام مالك في تحريمه شحوم ذبائح اليهود وما كان غلبهم عليه غيرهم من المسلمين، لان الله تعالى قال: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " قال: " لكم " قال: وليس هذا من طعامهم.
فاستدلوا عليه بهذا الحديث وفيه نظر.
وقد يكون هذا الشحم مما كان حلالا لهم والله أعلم.
وقد استدلوا بهذا الحديث على أن الطعام لا يخمس، ويعضد ذلك ما رواه الامام أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو معاوية، حدثنا إسحاق الشيباني، عن محمد بن أبي مجالد، عن عبدالله بن أبي أوفى قال: قلت: كنتم تخمسون الطعام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أصبنا طعاما يوم خيبر، وكان الرجل يجئ فيأخذ منه قدر ما يكفيه ثم ينصرف.
تفرد به أبو داود وهو حسن.
ذكر قصة صفية بنت حيى بن أخطب النضرية رضى الله عنها كان من شأنها أنه لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير من المدينة كما تقدم، فذهب عامتهم إلى خيبر وفيهم حيى بن أخطب وبنو أبي الحقيق، وكانوا ذوى أموال وشرف في قومهم، وكانت صفية إذ ذاك طفلة دون البلوغ، ثم لما تأهلت للتزويج تزوجها بعض بني عمها، فلما زفت إليه وأدخلت إليه بنى بها ومضى على ذلك ليال، رأت في منامها كأن قمر السماء قد سقط في حجرها، فقصت رؤياها على ابن عمها فلطم وجهها وقال: أتتمنين ملك يثرب أن يصير بعلك !.
فما كان إلا مجئ رسول الله صلى عليه وسلم وحصاره إياهم، فكانت صفية في جملة السبي، وكان زوجها في جملة القتلى.
ولما اصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصارت في حوزه وملكه كما سيأتي، وبنى بها بعد استبرائها وحلها وجد أثر تلك اللطمة في خدها، فسألها ما شأنها فذكرت له ما كانت رأت من تلك الرؤيا الصالحة رضى الله عنها وأرضاها.
* * * قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح قريبا من خيبر بغلس ثم قال: " الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ".
فخرجوا يسعون في السكك، فقتل النبي صلى الله عليه وسلم المقاتلة وسبى الذرية، وكان في السبي صفية فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل عتقها صداقها.
ورواه مسلم أيضا من حديث حماد بن زيد، وله طرق عن أنس.
وقال البخاري: حدثنا آدم، عن شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سبى النبي صلى الله عليه وسلم صفية فأعتقها وتزوجها.
قال ثابت لانس: ما أصدقها ؟ قال: أصدقها نفسها فأعتقها.
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
قال البخاري: حدثنا عبد الغفار بن داود، حدثنا يعقوب بن عبدالرحمن ح.
وحدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا وهب، أخبرني يعقوب بن عبدالرحمن الزهري، عن عمرو مولى المطلب، عن أنس بن مالك قال: قدمنا خيبر فلما فتح صلى الله عليه وسلم الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيى بن أخطب، وقد قتل زوجها وكانت عروسا، فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، فخرج بها حتى بلغ بها سد الصهباء (1) حلت فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صنع حيسا في نطع (2) صغير ثم قال لي: آذن من حولك.
فكانت تلك وليمته على صفية.
ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة ثم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب.
تفرد به دون مسلم.
وقال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير، أخبرني حميد، أنه سمع أنسا يقول: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمد ثلاث ليال يبنى عليه بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمته وما كان فيها من خبز ولحم، وما كان فيها إلا أن أمر بلالا بالانطاع فبسطت فألقى عليها التمر والاقط والسمن، فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه ؟ فقالوا: إن حجبها فهي إحدى
__________
(1) الصهباء: موضع بينه وبين خيبر مرحلة.
والسد: الحاجز.
(2) النطع: بساط من الاديم.
(*)
أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه.
فلما ارتحل وطأ لها خلفه ومد الحجاب.
انفرد به البخاري.
وقال أبو داود: حدثنا مسدد، حدثنا حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك، قال: صارت صفية لدحية الكلبي، ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو داود: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: جمع السبى - يعني بخيبر - فجاء دحية فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي قال: اذهب فخذ جارية.
فأخذ صفية بنت حيى، فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أعطيت دحية.
قال يعقوب: صفية بنت حيى سيدة قريظة والنضير، ما تصلح إلا لك.
قال: ادعوا بها.
فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذ جارية من السبي غيرها.
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها وتزوجها.
وأخرجاه من حديث ابن علية.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن خلاد الباهلي، حدثنا بهز بن أسد، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت عن أنس، قال: وقع في سهم دحية جارية جميلة، فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس، ثم دفعها إلى أم سلمة تصنعها وتهيئها.
قال حماد: وأحسبه قال: وتعتد في بيتها، صفية بنت حيى.
تفرد به أبو داود.
* * * قال ابن إسحاق: فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم القموص حصن بني أبي
الحقيق أتى بصفية بنت حيى بن أخطب وأخرى معها، فمر بهما بلال - وهو الذي جاء بهما - على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعزبوا (1) عني هذه الشيطانة.
وأمر بصفية فحيزت خلفه وألقى عليها رداءه، فعرف المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفاها لنفسه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال، فيما بلغني، حين رأى بتلك اليهودية ما رأى: أنزعت منك الرحمة يا بلال حتى تمر بامرأتين على قتلى رجالهما !.
وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمرا وقع في حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمدا.
فلطم وجهها لطمة خضر عينها منها.
فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منه، فسألها ما هذا، فأخبرته الخبر.
قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله بكنانة بن الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه فجحد أن يكون يعلم مكانه.
فأتى رسول لله صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة، أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك ؟ قال: نعم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقى فأبى أن يؤديه فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده.
وكان الزبير يقدح بزنده (2) في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة.
__________
(1) أعزبوا: أبعدوا.
(2) ابن هشام: زند.
(*)
فصل قال ابن إسحاق: وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم، حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم وأن يحقن دماءهم.
ففعل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حاز الاموال كلها الشق والنطاة والكتيبة وجميع حصونهم، إلا ما كان من ذينك الحصنين، فلما سمع [ بهم ] أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسيرهم ويحقن دماءهم ويخلوا له الاموال ففعل.
وكان ممن مشى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم في ذلك محيصة بن مسعود أخو بني حارثة.
فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم في الاموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم وأعمر لها.
فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم.
وعامل أهل فدك بمثل ذلك.
فصل في فتح حصونها وقسمة أرضها.
قال الواقدي: لما تحولت اليهود من حصن ناعم وحصن الصعب بن معاذ إلى قلعة الزبير حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود يقال له عزال فقال: يا أبا القاسم تؤمنني على أن أدلك على ما تستريح به من أهل النطاة وتخرج إلى أهل الشق، فإن أهل الشق قد هلكوا رعبا منك ؟ قال: فأمنه رسول الله على أهله وماله فقال له اليهودي: إنك لو أقمت شهرا تحاصرهم ما بالوا بك، إن لهم تحت الارض دبولا (1) يخرجون بالليل فيشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم.
__________
(1) الدبول: الجداول.
(*)
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع دبولهم، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، وقتل من المسلمين يومئذ نفر وأصيب من اليهود عشرة، وافتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان آخر حصون النطاة.
وتحول إلى الشق، وكان به حصون ذوات عدد، فكان أول حصن بدأ به منها حصن أبي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على قلعة يقال لها سموان فقاتل عليها أشد القتال، فخرج منهم رجل يقال له عزول فدعا إلى البراز فبرز إليه الحباب بن المنذر، فقطع يده اليمنى من نصف ذراعه ووقع السيف من يده، وفر اليهودي راجعا فاتبعه الحباب فقطع عرقوبه.
وبرز منهم آخر فقام إليه رجل من المسلمين فقتله اليهودي، فنهض إليه أبو دجانة فقتله وأخذ سلبه، وأحجموا عن البراز فكبر المسلمون، ثم تحاملوا على الحصن فدخلوه وأمامهم أبو دجانة، فوجدوا فيه أثاثا ومتاعا وغنما وطعاما، وهرب من كان فيه من المقاتلة وتقحموا الجزر كأنهم الضباب حتى صاروا إلى حصن البزاة بالشق، وتمنعوا أشد الامتناع، فزحف إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فتراموا ورمى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة، حتى أصاب نبلهم بنانه عليه الصلاة والسلام فأخذ عليه السلام كفا من الحصا فرمى حصنهم بها فرجف بهم حتى ساخ في الارض وأخذهم المسلمون أخذا باليد.
قال الواقدي: ثم تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الاخبية والوطيح والسلالم، حصني أبي الحقيق، وتحصنوا أشد التحصن وجاء إليهم كل من كان انهزم من النطاة إلى الشق، فتحصنوا معهم في القموص وفي الكتيبة، وكان حصنا منيعا وفي الوطيح والسلالم وجعلوا لا يطلعون من حصونهم، حتى هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب المنجنيق عليهم.
فلما أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوما نزل إليه ابن أبي الحقيق فصالحه على حقن دمائهم ويسيرهم ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبين ما كان لهم من الارض والاموال والصفراء والبيضاء والكراع والحلقة وعلى البز، إلا ما كان على ظهر إنسان، يعني لباسهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتم شيئا.
فصالحوه على ذلك.
قلت: ولهذا لما كتموا وكذبوا وأخفوا ذلك المسك الذي كان فيه أموال جزيلة، تبين أنه لا عهد لهم، فقتل ابني أبي الحقيق وطائفة من أهله، بسبب نقض العهود منهم والمواثيق.
* * * وقال الحافظ البيهقي: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد المقري الاسفراييني، حدثنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب، حدثنا عبد الواحد بن غياث، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا عبيد الله بن عمر، فيما يحسب أبو سلمة، عن نافع عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلب على الارض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء، ويخرجون منها، واشترط عليهم ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد.
فغيبوا مسكا (1) فيه مال وحلي لحيى بن أخطب، وكان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ: ما فعل مسك حيى الذي جاء به من النضير ؟ فقال: أذهبته النفقات والحروب.
فقال: العهد قريب والمال أكثر من ذلك فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فمسه بعذاب، وقد كان حيى قبل ذلك دخل خربة، فقال: قد رأيت حييا يطوف في خربة هاهنا.
فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة.
فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق، وأحدهما زوج صفية بنت
__________
(1) المسك: الجلد.
(*)
حيى بن أخطب، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا.
وأراد إجلاءهم منها، فقالوا: يا محمد دعنا نكون في هذه الارض نصلحها ونقوم عليها.
ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لاصحابه غلال يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون أن يقوموا عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخيل وشئ، ما بد الرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان عبدالله بن رواحة يأتيهم كل عام فيخرجها عليهم، ثم يضمنهم الشطر، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة خرصه، وأرادوا أن يرشوه فقال: يا أعداء الله تطمعوني السحت ! والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي، ولانتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم.
فقالوا: بهذا قامت السموات والارض ! قال: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعين صفية خضرة، فقال: يا صفية ما هذه الخضرة ؟ فقالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق وأنا نائمة، فرأيت كأن قمرا وقع في حجري، فأخبرته بذلك فلطمني وقال: تتمنين ملك يثرب.
قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبغض الناس إلى، قتل زوجي وأبي، فما زال يعتذر إلي ويقول: إن أباك ألب علي العرب وفعل ما فعل، حتى ذهب ذلك من نفسي.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا من تمر كل عام وعشرين وسقا من شعير، فلما كان في زمان عمر غشوا المسلمين وألقوا ابن
عمر من فوق بيت ففدعوا (1) يديه، فقال عمر: من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها.
فقسمها.
بينهم.
فقال رئيسهم: لا تخرجنا دعنا نكون فيها كما أقرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر.
فقال عمر: أتراني سقط علي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف بك إذا وقصت (2) بك راحلتك نحو الشام يوما ثم يوما ثم يوما ".
وقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية.
وقد رواه أبو داود مختصرا من حديث حماد بن سلمة.
قال البيهقي: وعلقه البخاري في كتابه فقال: ورواه حماد بن سلمة.
قلت: ولم أره في الاطراف فالله أعلم.
* * * وقال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري، حدثنا ابن وهب، أخبرني أسامة ابن زيد الليثي، عن نافع، عن عبدالله بن عمر، قال: لما فتحت خيبر سألت يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم على أن يعملوا على النصف مما خرج منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقركم فيها على ذلك ما شئنا.
فكانوا على ذلك، وكان التمر يقسم على السهمان من نصف خيبر ويأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس، وكان أطعم كل امرأة من أزواجه من الخمس مائة وسق من تمر وعشرين وسقا من شعير.
فلما أراد عمر إخراج اليهود أرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهن: من أحب منكن أن أقسم لها مائة وسق فيكون لها أصلها وأرضها وماؤها، ومن الزرع مزرعة عشرين وسقا من شعير فعلنا، ومن أحب أن نعزل الذي لها في الخمس كما هو فعلنا.
__________
(1) الفدع: اعوجاج الرسغ من اليد أو الرجل.
(2) وقصت: أسرعت.
(*)
وقد روى أبو داود من حديث محمد بن إسحاق حدثني نافع، عن عبدالله بن عمر، أن عمر قال: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أن يخرجهم إذا شاء، فمن كان له مال فليلحق به، فإني مخرج يهود.
فأخرجهم.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن جبير بن مطعم أخبره قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة منك.
فقال: " إنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد ".
قال جبير بن مطعم،: ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس وبني نوفل شيئا.
تفرد به دون مسلم.
وفي لفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن بني هاشم وبني عبدالمطلب شئ واحد، إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام ".
قال الشافعي: دخلوا معهم في الشعب وناصروهم في إسلامهم وجاهليتهم.
قلت: وقد ذم أبو طالب بني عبد شمس ونوفلا حيث يقول: جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * عقوبة شر عاجلا غير آجل وقال البخاري: حدثنا الحسن بن إسحاق، حدثنا محمد بن ثابت، حدثنا زائدة، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهما.
قال: فسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، وإن لم يكن معه فرس فله سهم.
وقال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر، أخبرني زيد،
عن أبيه، أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس ببانا (1) ليس لهم شئ ما فتحت على قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها.
وقد رواه البخاري أيضا من حديث مالك، وأبو داود عن أحمد بن حنبل، عن ابن مهدي، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه عن عمر به.
وهذا السياق يقتضي أن خيبر بكمالها قسمت بين الغانمين.
وقد قال أبو داود: حدثنا ابن السرح، أنبأنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال وترك من ترك من أهلها بعد القتال.
وبهذا قال الزهري: خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ثم قسم سائرها على من شهدها.
وفيما قاله الزهري نظر، فإن الصحيح أن خيبر جميعها لم تقسم، وإنما قسم نصفها بين الناس كما سيأتي بيانه.
وقد احتج بهذا مالك ومن تابعه على أن الامام مخير في الاراضي المغنومة، إن شاء قسمها وإن شاء أرصدها لمصالح المسلمين، وإن شاء قسم بعضها وأرصد بعضها لما ينوبه في الحاجات والمصالح (2).
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا يحيى ابن زكريا، حدثني سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين، نصفا لنوائبه، ونصفا بين المسلمين: قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما.
__________
(1) ببانا: أي على طريقة واحدة، وهي كلمة غير عربية.
(2) ت: " إن شاء قسمها، وإن شاء قسم بعضها، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر،
فإنه خمسها ثم قسم نصفها في الغانمين، وأرصد نصفها لما ينوبه في الحاجات والمصالح ".
(*)
تفرد به أبو داود.
ثم رواه أبو داود من حديث بشير بن يسار مرسلا، فعين نصف النوائب الوطيح والكتيبة والسلالم وما حيز معها، ونصف المسلمين الشق والنطاة وما حيز معهما، وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حيز معهما.
وقال أيضا: حدثنا حسين بن علي، حدثنا محمد بن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار مولى الانصار، عن رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر فقسمها على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك، وعزل النصف الثاني لمن نزل به من الوفود والامور ونوائب الناس.
تفرد به أبو داود.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا مجمع بن يعقوب بن مجمع بن يزيد الانصاري، سمعت أبي يعقوب بن مجمع يقول عن عمه عبدالرحمن بن يزيد الانصاري، عن عمه مجمع بن حارثة الانصاري - وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن - قال: قسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما، وكان الجيش ألفا وخمسمائة فيهم ثلثمائة فارس، فأعطى الفارس، سهمين وأعطى الراجل سهما.
تفرد به أبو داود.
وقال مالك عن الزهري، أن سعيد بن المسيب أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح بعض خيبر عنوة.
ورواه أبو داود.
ثم قال أبو داود: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا شاهد، أخبركم ابن وهب، حدثني مالك بن أنس، عن ابن شهاب أن خيبر بعضها كان عنوة
وبعضها صلحا، والكتيبة أكثرها عنوة وفيها صلح، قلت لمالك: وما الكتيبة ؟
قال: أرض خيبر، وهي أربعون ألف عذق.
قال أبو داود: والعذق: النخلة.
والعذق العرجون.
ولهذا قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا حرمى، حدثنا شعبة، حدثنا عمارة، عن عكرمة، عن عائشة قالت: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر.
حدثنا الحسن، حدثنا قرة بن حبيب، حدثنا عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار، عن أبيه، عن ابن عمر قال: ما شبعنا - يعني من التمر - حتى فتحنا خيبر.
وقال محمد بن إسحاق: كانت الشق والنطاة في سهمان المسلمين، الشق: ثلاثة عشر سهما ونطاة خمسة أسهم، قسم الجميع على ألف وثمانمائة سهم، ودفع ذلك إلى من شهد الحديبية من حضر خيبر ومن غاب عنها، ولم يغب عن خيبر ممن شهد الحديبية إلا جابر ابن عبدالله فضرب له بسهمه.
قال: وكان أهل الحديبية ألفا وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس لكل فرس سهمان، فصرف إلى كل مائة رجل سهم من ثمانية عشر سهما، وزيد المائتا فارس أربعمائة سهم لخيولهم.
وهكذا رواه البيهقي من طريق سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن صالح بن كيسان أنهم كانوا ألفا وأربعمائة معهم مائتا فرس.
قلت: وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم بسهم وكان أول سهم من سهمان الشق مع عاصم بن عدي.
قال ابن إسحاق: وكانت الكتيبة خمسا لله تعالى (1)، وسهم النبي صلى الله عليه وسلم، وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وطعمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وطعمة أقوام مشوا في صلح أهل فدك، منهم محيصة بن مسعود أقطعه رسول الله
__________
(1) ابن هشام: خمس الله.
(*)
صلى الله عليه وسلم ثلاثين وسقا من تمر وثلاثين وسقا من شعير.
قال: وكان وادياها اللذان قسمت عليه يقال لهما وادي السرير ووادي خاص.
ثم ذكر ابن إسحاق تفاصيل الاقطاعات منها، فأجاد وأفاد رحمه الله.
قال: وكان الذي ولى قسمتها وحسابها جبار بن صخر بن أمية بن خنساء أخو بنى سلمة وزيد بن ثابت رضى الله عنهما.
قلت: وكان الامير على خرص نخيل خيبر عبدالله بن رواحة فخرصها سنتين، ثم لما قتل رضى الله عنه في يوم مؤتة ولى بعده جبار بن صخر رضى الله عنه.
وقد قال البخاري: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن عبدالمجيد بن سهيل، عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكل تمر خيبر هكذا ؟ " قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: " لا تفعل بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا ".
قال البخاري: وقال الدراوردي، عن عبدالمجيد، عن سعيد بن المسيب، أن أبا سعيد وأبا هريرة حدثاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بنى عدى من الانصار إلى خيبر وأمره عليها.
وعن عبدالمجيد عن أبي صالح السمان، عن أبي سعيد وأبي هريرة مثله.
* * * قلت: كان سهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي أصاب مع المسلمين مما قسم بخيبر وفدك بكمالها، وهي طائفة كبيرة من أرض خيبر، نزلوا من شدة رعبهم منه صلوات الله وسلامه عليه فصالحوه، وأموال بني النضير المتقدم ذكرها مما لم يوجف المسلمون عليه
بخيل ولا ركاب.
فكانت هذه الاموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وكان يعزل منها نفقة أهله لسنة، ثم يجعل ما بقى مجعل مال الله يصرفه في الكراع والسلاح ومصالح المسلمين.
فلما مات صلوات الله وسلامه عليه اعتقدت فاطمة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم - أو أكثرهن - أن هذه الاراضي تكون موروثة عنه، ولم يبلغهن ما ثبت عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: " نحن معشر الانبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة ".
ولما طلبت فاطمة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم والعباس نصيبهم من ذلك وسألوا الصديق أن يسلمه إليهم، ذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا نورث ما تركنا صدقة " وقال: أنا أعول من كان يعول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي.
وصدق رضى الله عنه وأرضاه، فإنه البار الراشد في ذلك التابع للحق.
وطلب العباس وعلي على لسان فاطمة، إذ قد فاتهم الميراث، أن ينظرا في هذه الصدقة وأن يصرفا ذلك في المصارف التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصرفها فيها، فأبى عليهم الصديق ذلك، ورأى أن حقا عليه أن يقوم فيما كان يقوم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وألا يخرج من مسلكه ولا عن سننه.
فتغضبت فاطمة رضى الله عنها عليه في ذلك ووجدت في نفسها بعض الموجدة.
ولم يكن لها ذلك، والصديق من قد عرفت هي والمسلمون محله ومنزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامه في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، فجزاه الله عن نبيه وعن الاسلام وأهله خيرا.
وتوفيت فاطمة رضى الله عنها بعد ستة أشهر ثم جدد علي البيعة بعد ذلك، فلما كان أيام عمر بن الخطاب سألوه أن يفوض أمر هذه الصدقة إلى علي والعباس، وثقلوا
(25 - السيرة 3)
عليه بجماعة من سادات الصحابة، ففعل عمر رضى الله عنه ذلك، وذلك لكثرة أشغاله واتساع مملكته وامتداد رعيته.
فتغلب علي على عمه العباس فيها، ثم تساوقا يختصمان إلى عمر، وقدما بين أيديهما جماعة من الصحابة وسألا منه أن يقسمها بينهما فينظر كل منهما فيما لا ينظر فيه الآخر.
فامتنع عمر من ذلك أشد الامتناع وخشى أن تكون هذه القسمة تشبه قسمة المواريث وقال: انظرا فيها وأنتما جميع، فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي، والذي تقوم السماء والارض بأمره لا أقضى فيها قضاء غير هذا.
فاستمرا فيها ومن بعدهما إلى ولدهما إلى أيام بني العباس، تصرف في المصارف التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفها فيها، أموال بني النضير وفدك وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر.
فصل وأما من شهد خيبر من العبيد والنساء فرضخ (1) لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من الغنيمة ولم يسهم لهم.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا بشر بن المفضل، عن محمد بن زيد، حدثني عمير مولى آبى اللحم قال: شهدت خيبر مع سادتي، فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بي فقلدت سيفا، فإذا أنا أجره، فأخبر أني مملوك، فأمر لي بشئ من طريق المتاع.
ورواه الترمذي والنسائي جميعا، عن قتيبة، عن بشر بن المفضل به.
وقال الترمذي:
__________
(1) الرضخ: عطاء من الغنيمة غير محدد.
(*)
حسن صحيح.
ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد عن وكيع عن هشام بن سعد عن محمد بن زيد بن المهاجر، عن منقذ عن عمير به.
وقال محمد بن إسحاق: وشهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء فرضخ لهن [ من الفئ (1) ] ولم يضرب لهن بسهم.
حدثني سليمان بن سحيم، عن أمية بنت أبي الصلت، عن امرأة من بني غار قد سماها لي، قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غفار، فقلنا: يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا - وهو يسير إلى خيبر - فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا فقال: " على بركة الله ".
قالت: فخرجنا معه، قالت: وكنت جارية حدثة السن، فأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيبة رحله، قالت: [ فوالله لنزل رسول صلى الله عليه وسلم إلى الصبح ونزلت عن حقيبة رحله (1) ] قالت: وإذا بها دم مني وكانت أول حيضة حضتها، قالت: فتقبضت إلى الناقة واستحييت.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم قال: " مالك ؟ لعلك نفست " قالت: قلت: نعم، قال: " فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك ".
قالت: فلما فتح الله خيبر رضخ لنا من الفئ، وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي فأعطانيها وعلقها بيده في عنقي، فوالله لا تفارقني أبدا.
وكانت في عنقها حتى ماتت، ثم أوصت أن تدفن معها.
قالت: وكانت لا تطهر من حيضها إلا جعلت في طهورها ملحا، وأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت.
وهكذا رواه الامام أحمد وأبو داود من حديث محمد بن إسحاق به.
__________
(1) من ابن هشام.
(*)
قال شيخنا أبو الحجاج المزي في أطرافه: ورواه الواقدي، عن أبي بكر بن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن أم علي بنت أبي الحكم، عن أمية بنت أبي الصلت عن النبي صلى الله عليه وسلم به.
وقال الامام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا رافع بن سلمة الاشجعي، حدثني حشرج بن زياد، عن جدته أم أبيه، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة خيبر وأنا سادسة ست نسوة، قالت: فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن معه نساء، قالت: فأرسل إلينا فدعانا، قالت: فرأينا في وجهه الغضب فقال: " ما أخرجكن وبأمر من خرجتن ؟ " قلنا: خرجنا نناول السهام ونسقي السويق، ومعنا دواء للجرحى ونغزل الشعر فنعين به في سبيل الله.
قال: فمرن فانصرفن.
قالت: فلما فتح الله عليه خيبر أخرج لنا سهاما كسهام الرجال، فقلت لها: يا جدة وما الذي أخرج لكن ؟ قالت: تمرا.
قلت: إنما أعطاهن من الحاصل، فأما أنه أسهم لهن في الارض كسهام الرجال فلا ! والله أعلم.
وقال الحافظ البيهقي: وفي كتابي عن أبي عبدالله الحافظ، أن عبدالله الاصبهاني أخبره، حدثنا الحسين بن الجهم، حدثنا الحسين بن الفرج، حدثنا الواقدي، حدثني عبد السلام بن موسى بن جبير، عن أبيه عن جده، عن عبدالله بن أنيس قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ومعي زوجتي وهي حبلى فنفست في الطريق، فأخبرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: " انقع لها تمرا فإذا انغمر فأمر به لتشربه " ففعلت فما رأت شيئا تكرهه، فلما فتحنا خيبر أجدى (1) النساء ولم يسهم لهن، فأجدى زوجتي وولدي الذي ولد.
قال عبد السلام: لست أدري غلام أو جارية.
__________
(1) أجدى: أعطى.
(*)
ذكر قدوم جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه ومن كان بقى بالحبشة ممن هاجر إليها من المسلمين، ومن انضم إليهم من أهل اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مخيم بخيبر.
قال البخاري: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة، حدثنا بريد بن عبدالله بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهما أبو بردة والآخر أبورهم، إما قال: في بضع، وإما قال: في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا من قومي.
فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا، فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فكان أناس من الناس يقولون لنا - يعني لاهل السفينة -: سبقناكم بالهجرة.
ودخلت أسماء بنت عميس - وهي ممن قدم معنا - على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها فقال حين رأى أسماء: من هذه ؟ قالت: أسماء ابنة عميس.
قال عمر: الحبشية هذه ؟ البحرية هذه ؟ قالت أسماء: نعم.
قال سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم.
فغضبت وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار - أو في أرض - البعداء والبغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وايم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله، ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه.
فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا.
قالت: قال:
" فما قلت له ؟ " قالت: قلت كذا وكذا.
قال: " ليس بأحق بي منكم، وله ولاصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان ".
قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأهل السفينة يأتوني أرسالا يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شئ هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو بردة: قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني.
وقال أبو بردة عن أبي موسى: قال النبي صلى الله عليه وسلم " إني لاعرف أصوات رفقة الاشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار، ومنهم حكيم بن حزام إذا لقى العدو - أو قال الخيل - قال لهم: إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم ".
وهكذا رواه مسلم عن أبي كريب وعبد الله بن براد عن أبي أسامة به.
ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا حفص بن غياث، حدثنا بريد [ ابن عبدالله (1) ] عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن افتتح خيبر، فقسم لنا ولم يقسم لاحد لم يشهد الفتح غيرنا.
تفرد به البخاري دون مسلم ورواه أبو داود والترمذي وصححه من حديث بريد به.
وقد ذكر محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي يطلب منه من بقى من أصحابه بالحبشة، فقدموا صحبة جعفر وقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر.
قال: وقد ذكر سفيان بن عيينة عن الاجلح عن الشعبي، أن جعفر بن أبي طالب قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح خيبر، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه والتزمه وقال: " ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ".
__________
(1) من صحيح البخاري.
(*)
وهكذا رواه سفيان الثوري عن الاجلح، عن الشعبي مرسلا.
وأسند البيهقي من طريق حسن بن حسين العرزمي، عن الاجلح، عن الشعبي عن جابر قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر قدم جعفر من الحبشة، فتلقاه وقبل جبهته وقال: " والله ما أدري بأيهما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ".
ثم قال البيهقي، حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا الحسين بن أبي إسماعيل العلوي، حدثنا أحمد بن محمد البيروتي، حدثنا محمد بن أحمد بن أبي طيبة، حدثني مكي بن إبراهيم الرعيني، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر جعفر إليه حجل - قال مكي: يعني مشى على رجل واحدة - إعظاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه.
ثم قال البيهقي: في إسناده من لا يعرف إلى الثوري.
* * * قال ابن إسحاق: وكان الذين تأخروا مع جعفر من أهل مكة إلى أن قدموا معه خيبر ستة عشر رجلا.
وسرد أسماءهم وأسماء نسائهم وهم: جعفر بن أبي طالب الهاشمي، وأمرأته أسماء بنت عميس، وابنه عبدالله ولد بالحبشة، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، وأمرأته أمينة بنت خلف بن أسعد، وولداه سعيد، وأمة بنت خالد ولدا بأرض الحبشة، وأخوه عمرو بن سعيد بن العاص، ومعيقيب بن أبي فاطمة، وكان إلى آل سعيد بن العاص.
قال: وأبو موسى الاشعري عبدالله بن قيس حليف آل عتبة بن ربيعة، وأسود ابن نوفل بن خويلد بن أسد الاسدي، وجهم بن قيس بن عبد شرحبيل العبدري، وقد ماتت امرأته أم حرملة بنت عبد الاسود بأرض الحبشة، وابنه عمرو، وابنته خزيمة
ماتا بها رحمهم الله، وعامر بن أبي وقاص الزهري، وعتبة بن مسعود حليف لهم من
هذيل، والحارث بن خالد بن صخر التيمي، وقد هلكت بها امرأته ريطة بنت الحارث رحمها الله، وعثمان بن ربيعة بن أهبان الجمحي، ومحمية بن جزء الزبيدي حليف بني سهم، ومعمر بن عبدالله بن نضلة العدوي، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس، ومالك ابن ربيعة بن قيس بن عبد شمس العامريان، ومع مالك هذا امرأته عمرة بنت السعدي، والحارث بن عبد شمس بن لقيط الفهري.
قلت: ولم يذكر ابن إسحاق أسماء الاشعريين الذين كانوا مع أبي موسى الاشعري وأخويه أبا بردة وأبا رهم وعمه أبا عامر، بل لم يذكر من الاشعريين غير أبي موسى ولم يتعرض لذكر أخويه وهما أسن منه كما تقدم في صحيح البخاري.
وكأن ابن إسحاق رحمه الله لم يطلع على حديث أبي موسى في ذلك.
والله أعلم.
قال: وقد كان معهم في السفينتين نساء من نساء من هلك من المسلمين هنالك وقد حرر هاهنا شيئا كثيرا حسنا.
* * * قال البخاري: حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا سفيان، سمعت الزهري، وسأله إسماعيل بن أمية قال: أخبرني عنبسة بن سعيد، أن أبا هريرة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله - يعني أن يقسم له - فقال بعض بني سعيد بن العاص: لا تعطه.
فقال أبو هريرة: هذا قاتل ابن قوقل.
فقال: واعجبا لوبر تدلى من قدوم الضأن (1).
تفرد به دون مسلم.
قال البخاري: ويذكر عن الزبيدي عن الزهري، أخبرني عنبسة بن سعيد، أنه
__________
(1) الوبر: فراء دويبة تشبه السنور، وتسمى غنم بني إسرائيل.
وتدلى: أنحدر.
وقدوم الضأن: جبل بأرض دوس قوم أبي هريرة.
أراد بذلك تحقيره.
ورواية صحيح البخاري: قدوم الضأل باللام.
وما هنا رواية الاصل وأبى ذر.
(*)
سمع أبا هريرة يخبر سعيد بن العاص قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبانا على سرية من المدينة قبل نجد.
قال أبو هريرة: فقدم أبان وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد ما افتتحها، وإن حزم خيلهم لليف.
قال أبو هريرة: فقلت: يا رسول الله لا تقسم لهم.
فقال أبان: وأنت بهذا ياوبر تحدر من رأس ضأل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبان اجلس " ولم يقسم لهم.
وقد أسند أبو داود هذا الحديث، عن سعيد بن منصور، عن إسماعيل بن عياش، عن محمد بن الوليد الزبيدي به نحوه.
ثم قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، أخبرني جدي وهو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، أن أبان بن سعيد أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فقال أبو هريرة: يا رسول الله هذا قاتل ابن قوقل.
فقال أبان لابي هريرة: واعجبا لك ياوبر (1) تردى من قدوم ضأن، تنعى علي امرءا أكرمه الله بيدي، ومنعه أن يهينني بيده ؟.
هكذا رواه منفردا به هاهنا (2).
وقال في الجهاد بعد حديث الحميدي، عن سفيان، عن الزهري عن عنبسة بن سعيد، عن أبي هريرة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بعد ما افتتحها، فقلت: يا رسول الله أسهم لي.
فقال بعض آل سعيد ابن العاص: لا تقسم له.
فقلت: يا رسول الله هذا قاتل ابن قوقل.
الحديث.
قال سفيان: حدثنيه السعيدي - يعني عمرو بن يحيى بن سعيد - عن جده عن أبي هريرة بهذا.
ففي هذا الحديث التصريح من أبي هريرة بأنه لم يشهد خيبر وتقدم في أول هذه
__________
(1) صحيح البخاري: واعجبا لك وبر تدأدأ.
(2) من هنا إلى أول خبر الحجاج علاط ساقطة من (أ).
(*)
الغزوة.
رواه الامام أحمد من طريق عراك بن مالك، عن أبي هريرة وأنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما افتتح خيبر فكلم المسلمين فأشركونا في أسهامهم.
وقال الامام أحمد: حدثنا روح، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن يزيد، عن عمار بن أبي عمار، قال: ما شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مغنما قط إلا قسم لي، إلا خيبر فإنها كانت لاهل الحديبية خاصة.
قلت: وكان أبو هريرة وأبو موسى جاءا بين الحديبية وخيبر.
وقد قال البخاري: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن مالك بن أنس، حدثني ثور، حدثني سالم مولى [ عبدالله ] بن مطيع، أنه سمع أبا هريرة يقول: افتتحنا خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة، إنما غنمنا الابل والبقر والمتاع والحوائط، ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى ومعه عبد له يقال له مدعم أهداه له بعض بني الضبيب، فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عاثر حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس: هنيئا له الشهادة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أصابها يوم خيبر لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا ".
فجاء رجل حين سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراك أو شراكين فقال: هذا شئ كنت أصبته.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شراك أو شراكين من نار ".
ذكر قصة الشاة المسمومة وما كان من أمر البرهان الذي ظهر عندها والحجة البالغة فيها
قال البخاري: رواه عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
حدثنا عبدالله بن يوسف، حدثنا الليث، حدثني سعيد، عن أبي هريرة قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم.
هكذا أورده هاهنا مختصرا.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا ليث، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة قال: لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجمعوا لي من كان هاهنا من يهود " فجمعوا له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني سائلكم عن شئ فهل أنتم صادقي عنه ؟ " قالوا: نعم يا أبا القاسم.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أبوكم ؟ " قالوا: أبونا فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كذبتم بل أبوكم فلان " قالوا: صدقت وبررت.
فقال: " هل أنتم صادقي عن شئ إذا سألتكم عنه ؟ " قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أهل النار ؟ " فقالوا: نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " والله لا نخلفكم فيها أبدا ".
ثم قال لهم: " هل أنتم صادقي عن شئ إذا سألتكم ؟ " فقالوا: نعم يا أبا القاسم.
فقال: " هل جعلتم في هذه الشاة سما ؟ " فقالوا: نعم.
قال: " ما حملكم على ذلك ؟ ".
قالوا أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك.
وقد رواه البخاري في الجزية عن عبدالله بن يوسف، وفي المغازي أيضا عن قتيبة، كلاهما عن الليث به.
وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبدالله الحافظ، أنبأنا أبو العباس الاصم، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة، أن امرأة من يهود أهدت لرسول
الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة فقال لاصحابه: " أمسكوا فإنها مسمومة " وقال لها:
" ما حملك على ما صنعت ؟ " قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا فسيطلعك الله عليه، وإن كنت كاذبا أريح الناس منك.
قال: فما عرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه أبو داود عن هارون بن عبدالله، عن سعيد بن سليمان به.
ثم روى البيهقي عن طريق عبدالملك بن أبي نضرة، عن أبيه، عن جابر بن عبدالله نحو ذلك.
وقال الامام أحمد: حدثنا شريح، حدثنا عباد، عن هلال - هو ابن خباب - عن عكرمة، عن ابن عباس أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة، فأرسل إليها فقال: " ما حملك على ما صنعت ؟ " قالت: أحببت - أو أردت - إن كنت نبيا فإن الله سيطلعك عليه، وإن لم تكن نبيا أريح الناس منك.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد من ذلك شيئا احتجم، قال: فسافر مرة فلما أحرم وجد من ذلك شيئا فاحتجم.
تفرد به أحمد وإسناده حسن.
وفي الصحيحين من حديث شعبة عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك، أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها، فجئ بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك، قالت: أردت لاقتلك.
فقال: " ما كان الله ليسلطك علي " أو قال: " على ذلك ".
قالوا: ألا تقتلها ؟ قال: " لا ".
قال أنس: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: كان جابر بن عبدالله يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة
مصلية (1) ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارفعوا أيديكم ".
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فدعاها فقال لها " أسممت هذه الشاة ؟ " قالت اليهودية: من أخبرك ؟ قال: " أخبرتني هذه التي في يدي " وهي الذراع، قالت: [ نعم ].
قال: " فما أردت بذلك ؟ " قالت: قلت: إن كنت نبيا فلن تضرك، وإن لم تكن نبيا استرحنا منك.
فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها، وتوفى بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم النبي صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة وهو مولى لبني بياضة من الانصار.
* * * ثم قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية، حدثنا خالد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية نحو حديث جابر.
قال: فمات بشر بن البراء بن معرور، فأرسل إلى اليهودية فقال: " ما حملك على الذي صنعت ؟ " فذكر نحو حديث جابر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت ولم يذكر أمر الحجامة.
قال البيهقي: ورويناه من حديث حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
قال: ويحتمل أنه لم يقتلها في الابتداء، ثم لما مات بشر بن البراء أمر بقتلها.
وروى البيهقي من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبدالرحمن
__________
(1) مصلية: مشوية.
(*)
ابن كعب بن مالك، أن امرأة يهودية أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مصلية بخيبر، فقال: " ما هذه ؟ " قالت: هدية.
وحذرت أن تقول صدقة فلا يأكل.
قال: فأكل وأصحابه ثم قال: " أمسكوا " ثم قال للمرأة: " هل سممت ؟ " قالت: من أخبرك هذا ؟ قال: " هذا العظم " لساقها وهو في يده، قالت: نعم.
قال: " لم " قالت: أردت إن كنت كاذبا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك.
قال: فاحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكاهل وأمر أصحابه فاحتجموا.
ومات بعضهم.
قال الزهري: فأسلمت فتركها النبي صلى الله عليه وسلم.
قال البيهقي: هذا مرسل، ولعله قد يكون عبد الرحمن حمله عن جابر بن عبدالله رضى الله عنه.
وذكر ابن لهيعة عن أبي الاسود، عن عروة، وكذلك موسى بن عقبة عن الزهري قالوا: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وقتل منهم من قتل، أهدت زينب بنت الحارث اليهودية وهي ابنة أخي مرحب لصفية شاة مصلية وسمتها، وأكثرت في الكتف والذراع، لانه بلغها أنه أحب أعضاء الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية ومعه بشر بن البراء بن معرور، وهو أحد بني سلمة، فقدمت إليهم الشاة المصلية، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف وانتهش منها، وتناول بشر عظما فانتهش منه، فلما استرط (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم لقمته استرط بشر بن البراء ما في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارفعوا أيديكم فإن كتف هذه الشاة يخبرني أني نعيت فيها " فقال بشر بن البراء:
__________
(1) استرط: ابتلع.
(*)
والذي أكرمك لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت، فما منعني أن ألفظها إلا أني أعظمتك أن أبغضك طعامك، فلما أسغت ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك ورجوت أن لا تكون استرطتها وفيها نعى.
فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان وماطله وجعه حتى كان لا يتحول حتى يحول.
قال الزهري: قال جابر: واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، حجمه مولى بني بياضة بالقرن والشفرة، وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفي فيه فقال: " ما زلت أجد من الاكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر عدادا (1) حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري ".
فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا.
* * * وقال محمد بن إسحاق: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية، وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها الذراع.
فأكثرت فيها من السم، ثم سمت سائر الشاة ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها ثم قال: " إن هذا العظ يخبرني أنه مسموم " ثم دعا بها فاعترفت، فقال: " ما حملك على ذلك " قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان كذابا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيخبر.
قال: فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بشر من أكلته التي أكل.
__________
(1) عدادا: معاودة للالم.
(*)
قال ابن إسحاق: وحدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في مرضه الذي توفى فيه - ودخلت عليه أخت بشر بن البراء بن معرور -: " يا أم بشر إن هذا الاوان وجدت [ فيه ] انقطاع أبهري من الاكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر ".
قال ابن هشام: الابهر: العرق المعلق بالقلب.
قال: فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيدا مع ما أكرمه الله به من النبوة.
* * * وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا هلال بن بشر وسليمان بن يوسف الحراني، قالا: حدثنا أبو غياث سهل بن حماد، حدثنا عبدالملك بن أبي نضرة عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، أن يهودية أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة سميطا، فلما بسط القوم أيديهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمسكوا فإن عضوا من أعضائها يخبرني أنها مسمومة " فأرسل إلى صاحبتها: " أسممت طعامك ؟ " قالت: نعم.
قال: " ما حملك على ذلك ؟ " قالت: إن كنت كذابا أن أريح الناس منك، وإن كنت صادقا علمت أن الله سيطلعك عليه.
فبسط يده وقال: " كلوا بسم الله ".
قال: فأكلنا وذكرنا اسم الله فلم يضر أحدا منا.
ثم قال: لا يروى عن عبدالملك بن أبي نضرة إلا من هذا الوجه.
قلت: وفيه نكارة وغرابة شديدة.
والله أعلم.
وذكر الواقدي أن عيينة بن حصن قبل أن يعلم رأى في منامه رؤيا ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر خيبر، فطمع من رؤياه أن يقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيظفر به، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وجده قد افتتحها، فقال: يا محمد أعطني ما غنمت من حلفائي - يعني أهل خيبر - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كذبت رؤياك " وأخبره بما رأى.
فرجع عيينة فلقيه الحارث بن عوف فقال: ألم أقل إنك توضع في غير شئ، والله ليظهرن محمد على ما بين المشرق والمغرب، وإن يهود كانوا يخبروننا بهذا، أشهد لسمعت أبا رافع سلام بن أبي الحقيق يقول: إنا لنحسد محمدا على النبوة حيث خرجت من بني هارون، إنه لمرسل، ويهود لا تطاوعني على هذا.
ولنا منه ذبحان، واحد بيثرب وآخر بخيبر.
قال الحارث: قلت لسلام: يملك الارض ؟ قال: نعم والتوراة التي أنزلت على موسى وما أحب أن تعلم يهود بقولي فيه.
فصل قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر انصرف إلى وادي القرى فحاصر أهلها ليالي ثم انصرف راجعا إلى المدينة.
ثم ذكر من قصة مدعم وكيف جاءه سهم غارب فقتله، وقال الناس: هنيئا له الشهادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر لم يصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا ".
وقد تقدم في صحيح البخاري نحو ما ذكره ابن إسحاق والله أعلم.
وسيأتي ذكر قتاله عليه السلام بوادي القرى.
قال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أبي عمرة، عن زيد بن خالد الجهني، أن رجلا من أشجع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى يوم خيبر، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " صلوا على صاحبكم " (26 - السيرة 3)
فتغير وجوه الناس من ذلك، فقال: " إن صاحبكم غل في سبيل الله " ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز يهود ما يساوي درهمين.
وهكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث يحيى بن سعيد القطان.
ورواه أبو داود وبشر بن المفضل وابن ماجه من حديث الليث بن سعد ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد الانصاري به.
وقد ذكر البيهقي أن بني فزارة أرادوا أن يقاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من خيبر وتجمعوا لذلك فبعث إليهم يواعدهم موضعا معينا فلما تحققوا ذلك هربوا كل مهرب، وذهبوا من طريقه كل مذهب.
وتقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلت صفية من استبرائها دخل بها بمكان يقال له سد الصهباء في أثناء طريقه إلى المدينة، وأولم عليها بحيس، وأقام ثلاثة أيام يبنى عليه بها، وأسلمت فأعتقها وتزوجها وجعل عتاقها صداقها، وكانت إحدى أمهات المؤمنين كما فهمه الصحابة لما مد عليها الحجاب وهو مردفها وراءه رضى الله عنها.
وذكر محمد بن إسحاق في السيرة قال: لما أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية بخيبر - أو ببعض الطريق - وكانت التي جملتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشطتها وأصلحت من أمرها أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك، وبات بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة له وبات أبو أيوب متوشحا بسيفه يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطيف بالقبة حتى أصبح، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه قال: " مالك يا أبا أيوب ؟ " قال: خفت عليك من هذه المرأة، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها، وكانت حديثة عهد بكفر فخفتها عليك.
فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني ".
ثم قال: حدثني الزهري عن سعيد بن المسيب، فذكر نومهم عن صلاة الصبح مرجعهم من خيبر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أولهم استيقاظا فقال: " ماذا صنعت بنا يا بلال ؟ " قال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك.
قال: " صدقت " ثم اقتاد ناقته غير كثير ثم نزل فتوضأ وصلى كما كان يصليها قبل ذلك.
وهكذا رواه مالك عن الزهري عن سعيد مرسلا.
وهذا مرسل من هذا الوجه.
وقد قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر، فسار ليلة حتى إذا أدركنا الكرى عرس وقال لبلال: " اكلا لنا الليل " قال: فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته فلم يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظا، ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " يا بلال " قال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
قال: فاقتادوا رواحلهم شيئا ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بلالا فأقام الصلاة وصلى لهم الصبح، فلما أن قضى الصلاة قال: " من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى يقول: " وأقم الصلاة لذكري ".
قال يونس: وكان ابن شهاب يقرأها كذلك.
وهكذا رواه مسلم عن حرملة بن يحيى، عن عبدالله بن وهب به، وفيه أن ذلك كان مرجعهم من خيبر.
وفي حديث شعبة عن جامع بن شداد، عن عبدالرحمن بن أبي علقمة، عن ابن مسعود أن ذلك كان مرجعهم من الحديبية، ففي رواية عنه أن بلالا هو الذي كان يكلؤهم، وفي رواية عنه أنه هو الذي كان يكلؤهم.
قال الحافظ البيهقي: فيحتمل أن ذلك كان مرتين.
قال: وفي حديث عمران بن حصين وأبي قتادة نومهم عن الصلاة، وفيه حديث الميضأة، فيحتمل أن ذلك إحدى هاتين المرتين أو مرة ثالثة.
قال: وذكر الواقدي في حديث أبي قتادة أن ذلك كان مرجعهم من غزوة تبوك.
قال: وروى زافر بن سليمان، عن شعبة، عن جامع بن شداد، عن عبدالرحمن، عن ابن مسعود أن ذلك كان مرجعهم من تبوك.
فالله أعلم.
ثم أورد البيهقي ما رواه صاحب الصحيح من قصة عوف الاعرابي، عن أبي رجاء عن عمران بن حصين، في قصة نومهم عن الصلاة وقصة المرأة صاحبة السطيحتين وكيف أخذوا منهما ماء روى الجيش بكماله ولم ينقص ذلك منهما شيئا.
ثم ذكر ما رواه مسلم من حديث ثابت البناني، عن عبدالله بن رباح، عن أبي قتادة، وهو حديث طويل وفيه نومهم عن الصلاة وتكثير الماء من تلك الميضأة.
وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة.
وقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد، عن عاصم عن أبي عثمان، عن أبي موسى الاشعري قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبرا، وقال: لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير: الله أكبر لا إله إلا الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم ".
وأنا خلف دابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعني وأنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
فقال: يا عبدالله بن قيس.
قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: " ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة ؟ " قلت: بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي.
قال: " لا حول ولا قوة إلا بالله ".
وقد رواه بقية الجماعة من طرق، عن عبدالرحمن بن مل أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الاشعري.
والصواب أنه كان مرجعهم من خيبر، فإن أبا موسى إنما قدم بعد فتح خيبر.
كما تقدم.
* * * قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - قد أعطى ابن لقيم العبسي حين افتتح خيبر ما بها من دجاجة أو داجن، وكان فتح خيبر في صفر، فقال ابن لقيم في فتح خيبر: رميت نطاة من الرسول بفيلق * شهباء ذات مناكب وفقار (1) واستيقنت بالذل لما شيعت * ورجال أسلم وسطها وغفار صبحت بني عمرو بن زرعة غدوة * والشق أظلم أهله بنهار جرت بأبطحها الذيول فلم تدع * إلا الدجاج تصيح بالاسحار ولكل حصن شاغل من خيلهم * من عبد الاشهل أو بني النجار ومهاجرين قد أعلموا سيماهم * فوق المغافر لم ينوا لفرار ولقد علمت ليغلبن محمد * وليثوين بها إلى أصفار (2) فرت يهود عند ذلك في الوغى * تحت العجاج غمائم الابصار (3)
__________
(1) نطاة: حصن بخيبر.
والفيلق الكتيبة.
والشهباء: الكثيرة السلاح وذات مناكب وفقار: شديدة.
(2) أصفار: جمع صفر وهو الشهر المعروف.
(3) الغمائم: جفون العين.
قال السهيلي: وهو بيت مشكل، غير أن في بعض النسخ وهي قليلة عن ابن هشام أنه قال: فرت: فتحت، من قولك: فرت الدابة، إذا فتحت فاها، وغمائم الابصار: هي
مفعول فرت، وهي جفون أعينهم.
انظر الروض الانف.
(*)
فصل في ذكر من استشهد بخيبر من الصحابة رضى الله عنهم على ما ذكره ابن إسحاق بن يسار رحمه الله وغيره من أصحاب المغازي فمن خير المهاجرين ربيعة بن أكثم بن سخبرة الاسدي مولى بني أمية، وثقيف بن عمرو ورفاعة بن مسروح حلفاء بني أمية، وعبد الله بن الهبيب بن أهيب بن سحيم بن غيرة من بني سعد بن ليث حليف بني أسد وابن أختهم.
ومن الانصار بشر بن البراء ابن معرور من أكلة الشاة المسمومة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وفضيل ابن النعمان السلميان، ومسعود بن سعد بن قيس بن خالد بن عامر بن زريق الزرقي، ومحمود بن مسلمة الاشهلي، وأبو ضياح حارثة بن ثابت بن النعمان العمري، والحارث بن حاطب، وعروة بن مرة بن سراقة، وأوس [ بن ] الفائد (1) وأنيف بن حبيب، وثابت بن أثلة وطلحة، وعمارة بن عقبة رمى بسهم فقتله، وعامر بن الاكوع ثم سلمة ابن عمرو بن الاكوع أصابه طرف سيفه في ركبته فقتله رحمه الله كما تقدم، والاسود الراعي.
وقد أفرد ابن إسحاق هاهنا قصته وقد أسلفناها في أوائل الغزوة ولله الحمد والمنة.
قال ابن إسحاق: وممن استشهد بخيبر فيما ذكره ابن شهاب من بني زهرة مسعود ابن ربيعة حليف لهم من القارة، ومن الانصار ثم من بني عمرو بن عوف أوس بن قتادة رضى الله عنهم أجمعين.
__________
(1) الاصل: وأوس الفارض.
وما أثبته عن الاصابة.
(*)
خبر الحجاج بن علاط البهزي رضى الله عنه
قال ابن إسحاق: ولما فتحت خيبر كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الححاج بن علاط السلمي ثم البهزي فقال: يا رسول الله إن لي بمكة مالا عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة - وكانت عنده له منها معرض بن الحجاج - ومالا متفرقا في تجار أهل مكة، فأذن لي يا رسول الله.
فأذن له، فقال: إنه لابد لي يا رسول الله من أن أقول.
قال: قل.
قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالا من قريش يستمعون الاخبار ويسألون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغهم أنه قد سار إلى خيبر وقد عرفوا أنها قرية الحجاز ريفا ومنعة ورجالا، وهم يتجسسون الاخبار من الركبان (1).
فلما رأوني قالوا: الحجاج بن علاط - قال: ولم يكونوا علموا بإسلامي - عنده والله الخبر، أخبرنا يا أبا محمد فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر وهي بلد يهود وريف الحجاز.
قال: قلت: قد بلغني ذلك وعندي من الخبر ما يسركم.
فالتبطوا (2) بجنبي ناقتي يقولون: إيه يا حجاج ؟ قال: قلت: هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وقد قتل أصحابه قتلا لم تسمعوا بمثله قط، وأسر محمد أسرا، وقالوا: لا نقتله ؟ ؟ نبعث به إلى مكة [ فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم.
قال: فقاموا وصاحوا بمكة ] (3) وقالوا: قد جاءكم الخبر، وهذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم.
__________
(1) ابن هشام: يتحسسون الاخبار ويسألون الركبان.
(2) التبطوا: مشوا بجانبها ولازموها.
(3) من ابن هشام.
(*)
قال: قلت: أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي، فإني أريد أن أقدم خيبر فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك.
قال: فقاموا
فجمعوا لي ما كان لى كأحث جمع سمعت به، قال: وجئت صاحبتي فقلت: مالي، وكان [ لي ] (1) عندها مال موضوع، فلعلي ألحق بخيبر فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقني التجار.
قال: فلما سمع العباس بن عبدالمطلب الخبر وما جاءه عني أقبل حتى وقف إلى جنبي وأنا في خيمة من خيم التجار، فقال: يا حجاج ما هذا الذي جئت به ؟ قال: قلت: وهل عندك حفظ لما وضعت عندك ؟ قال: نعم.
قال: قلت: فاستأخر حتى ألقاك على خلاء، فإني في جمع مالي كما ترى، فانصرف حتى أفرغ.
قال: حتى إذا فرغت من جمع كل شئ كان لي بمكة وأجمعت الخروج لقيت العباس فقلت: احفظ علي حديثي يا أبا الفضل، فإني أخشى الطلب ثلاثا ثم قل ما شئت.
قال: أفعل.
قلت: فإني والله تركت ابن أخيك عروسا على بنت ملكهم - يعني صفية بنت حيى - وقد افتتح خيبر وانتثل ما فيها وصارت له ولاصحابه.
قال: ما تقول يا حجاج ؟ قال: قلت: إي والله فاكتم عني، ولقد أسلمت وما جئت إلا لآخذ مالي فرقا عليه من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك فهو والله على ما تحب، قال: حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له وتخلق (2) وأخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى الكعبة فطاف بها، فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحر المصيبة ! قال: كلا والله الذي حلفتم به، لقد افتتح محمد خيبر ونزل عروسا على بنت ملكهم وأحرز أموالهم وما فيها، وأصبحت له ولاصحابه.
قالوا: من جاءك بهذا الخبر ؟ قال: الذي جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلما وأخذ أمواله فانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه
__________
(1) من ابن هشام.
(2) تخلق: تطيب بالخلوق.
(*)
فيكون معه، فقالوا: يالعباد الله ! انفلت عدو الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن.
قال: ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك.
* * * وهكدا ذكر ابن إسحاق هذه القصة منقطعة.
وقد أسند ذلك الامام أحمد بن حنبل فقال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، سمعت ثابتا يحدث عن أنس قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر قال الحجاج ابن علاط: يا رسول الله إن لي بمكة مالا وإن لي بها أهلا، وإني أريد أن آتيهم، أفأنا في حل إن أنا نلت منك أو قلت شيئا ؟ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما شاء، فأتى امرأته حين قدم فقال: اجمعي لي ما كان عندك، فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم.
قال: وفشا ذلك بمكة، فانقمع المسلمون وأظهر المشركون فرحا وسرورا.
قال: وبلغ الخبر العباس فعقر وجعل لا يستطيع أن يقوم.
قال معمر: فأخبرني عثمان الخزرجي عن مقسم قال: فأخذ ابنا يقال له قثم واستلقى ووضعه على صدره وهو يقول.
حبي قثم * شبه ذي الانف الاشم بنى ذي النعم * برغم من زعم قال ثابت بن أنس: ثم أرسل غلاما له إلى حجاج بن علاط فقال: ويلك ما جئت به وماذا تقول ؟ فما وعد الله خير مما جئت به.
فقال: حجاج بن علاط: اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له فليخل لي في بعض بيوته لآتيه، فإن الخبر على ما يسره.
فجاء غلامه فلما بلغ الدار قال: أبشر يا أبا الفضل.
قال: فوثب العباس فرحا حتى قبل بين عينيه، فأخبره ما قال حجاج فأعتقه.
قال: ثم جاءه الحجاج فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد افتتح خيبر وغنم
أموالهم، وجرت سهام الله في أموالهم، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية
بنت حيى واتخذها لنفسه، وخيرها أن يعتقها وتكون زوجه أو تلحق بأهلها، فأختارت أن يعتقها وتكون زوجته.
قال: ولكني جئت لمال كان هاهنا أردت أن أجمعه فأذهب به، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لي أن أقول ما شئت، فأخف على ثلاثا ثم اذكر ما بدا لك.
قال: فجمعت امرأته ما كان عندها من حلي أو متاع فجمعته ودفعته إليه ثم انشمر به، فلما كان بعد ثلاث أتى العباس امرأة الحجاج فقال: ما فعل زوجك ؟ فأخبرته أنه ذهب يوم كذا وكذا، وقالت: لا يحزنك الله يا أبا الفضل لقد شق علينا الذي بلغك، قال: أجل لا يحزنني الله ولم يكن بحمد الله إلا ما أحببنا، فتح الله خيبر على رسوله وجرت فيها سهام الله، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه، فإن كانت لك حاجة في زوجك فالحقي به.
قالت: أظنك والله صادقا ؟ قال: فإني صادق والامر على ما أخبرتك، ثم ذهب حتى أتى مجالس قريش وهم يقولون إذا مر بهم: لا يصيبك إلا خير يا أبا الفضل.
قال: لم يصبني إلا خير بحمد الله، أخبرني الحجاج بن علاط أن خيبر فتحها الله على رسوله وجرت فيها سهام الله واصطفى صفية لنفسه، وقد سألني أن أخفي عنه ثلاثا، وإنما جاء ليأخذ ماله وما كان له من شئ هاهنا ثم يذهب.
قال: فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين، وخرج المسلمون من كان دخل بيته مكتئبا حتى أتى العباس فأخبرهم الخبر، فسر المسلمون ورد ما كان من كآبة أو غيظ أو حزن على المشركين.
وهذا الاسناد على شرط الشيخين ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى النسائي عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق به نحوه.
ورواه الحافظ البيهقي من طريق محمود بن غيلان عن عبد الرزاق.
ورواه أيضا من طريق يعقوب بن سفيان، عن زيد بن المبارك، عن محمد بن ثور عن معمر به نحوه.
وكذلك ذكر موسى بن عقبة في مغازيه أن قريشا كان بينهم تراهن عظيم وتبايع، منهم من يقول: يظهر محمد وأصحابه.
ومنهم من يقول: يظهر الحليفان ويهود خيبر.
وكان الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي قد أسلم وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح خيبر، وكان تحته أم شيبة أخت عبد الدار بن قصي، وكان الحجاج مكثرا من المال، وكانت له معادن أرض بني سليم، فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر استأذن الحجاج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى مكة يجمع أمواله، فأذن له نحو ما تقدم.
والله أعلم.
[ قال السهيلي رحمه الله: روينا في سبب إسلام الحجاج هذا أمرا عجيبا مع الجن.
قال: وهو والد نصر بن حجاج الذي نفاه عمر بن الخطاب رضى الله عنه من المدينة بسبب افتتان بعض جواري المدينة.
وفيه تقول الفريعة بنت همام أم الحجاج بن يوسف الثقفي: ألا سبيل إلى خمر فأشربها * ولا سبيل إلى نصر بن حجاج قال: فلما ذهب إلى الشام فهوى امرأة أبي الاسود السلمي وأضنى من حبها، وكان يقال له الضني.
ومات بذلك ] (1).
قال ابن إسحاق: ومما قيل من الشعر في غزوة خيبر قول حسان: بئس ما قاتلت خيابر عما * جمعوا من مزارع ونخيل كرهوا الموت فاستبيح حماهم * وأقروا فعل الذميم الذليل أمن الموت يهربون فإن المو * ت موت الهزال غير جميل وقال كعب بن مالك فيما ذكره ابن هشام عن أبي زيد الانصاري: ونحن وردنا خيبرا وفروضه * بكل فتى عاري الاشاجع مذود (2)
__________
(1) سقط من المطبوعة.
(2) الفروض: مواضع الشرب من الانهار.
والاشاجع: عروق ظاهر الكف.
والمذود:، الحامي المدافع.
(*)
جواد لدى الغايات لا واهن القوى * جرئ على الاعداء في كل مشهد عظيم رماد القدر في كل شتوة * ضروب بنصل المشرفي المهند يرى القتل مدحا إن أصاب شهادة * من الله يرجوها وفوزا بأحمد يذود ويحمى عن ذمار محمد * ويدفع عنه باللسان وباليد وينصره من كل أمر يريبه * يجود بنفس دون نفس محمد يصدق بالانباء بالغيب مخلصا * يريد بذاك العز والفوز في غد فصل في مروره عليه السلام بوادي القرى ومحاصرته قوما من اليهود ومصالحته يهود على ما ذكره الواقدي قال الواقدي: حدثني عبدالرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى، وكان رفاعة بن زيد بن وهب الجذامي قد وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا أسود يقال له مدعم، فكان يرحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نزلنا بوادي القرى انتهينا إلى يهود وقدم إليها ناس من العرب، فبينا مدعم يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استقبلتنا يهود بالرمي حين نزلنا ولم نكن على تعبية، وهم يصيحون في آطامهم، فيقبل سهم عائر فأصاب مدعما فقتله، فقال الناس: هنيئا له الجنة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا " فلما سمع بذلك الناس جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراك أو شراكين.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " شراك من نار
أو شراكان من نار " وهذا الحديث في الصحيحين من حديث مالك عن ثور بن يزيد
عن أبي الغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
قال الواقدي: فعبى رسول الله أصحابه للقتال وصفهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، وراية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حنيف، وراية إلى عباد ابن بشر، ثم دعاهم إلى الاسلام وأخبرهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم وحسابهم على الله.
قال: فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه علي فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلا، كلما قتل منهم رجلا دعى من بقى منهم إلى الاسلام.
ولقد كانت الصلاة تحضر ذلك اليوم فيصلى بأصحابه ثم يعود فيدعوهم إلى الاسلام وإلى الله عزوجل ورسوله، وقاتلهم حتى أمسى (1)، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا بأيديهم، وفتحها عنوة وغنمهم الله أموالهم وأصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القرى أربعة أيام، فقسم ما أصاب على أصحابه، وترك الارض والنخيل في أيدي اليهود وعاملهم عليها، فلما بلغ يهود تيماء ما وطئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وفدك ووادي القرى صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية، وأقاموا بأيديهم أموالهم.
فلما كان عمر أخرج يهود خيبر وفدك ولم يخرج أهل تيماء ووادى القرى لانهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز، ومن وراء ذلك من الشام.
قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة بعد أن فرغ من خيبر ووادي القرى وغنمه الله عزوجل.
__________
(1) ا: أمسوا.
(*)
قال الواقدي: حدثني يعقوب بن محمد، عن عبدالرحمن بن عبدالله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجرف وهو يقول: " لا تطرقوا النساء بعد صلاة العشاء " قالت: فذهب رجل من الحي فطرق أهله فوجد ما يكره، فخلى سبيلها ولم يهجر، وضن بزوجته أن يفارقها وكان له منها أولاد وكان يحبها، فعصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى ما يكره.
فصل ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح خيبر عامل يهودها عليها على شطر ما يخرج منها من تمر أو زرع.
وقد ورد في بعض ألفاظ هذا الحديث على أن يعملوها من أموالهم، وفي بعضها: وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " نقركم فيها ما شئنا ".
وفي السنن أنه كان يبعث عليهم عبد الله بن رواحة يخرصها عليهم عند استواء ثمارها ثم يضمنهم إياه، فلما قتل عبد الله بن رواحة بمؤتة بعث جبار بن صخر كما تقدم.
وموضع تحرير ألفاظه وبيان طرقه كتاب المزارعة من كتاب الاحكام إن شاء الله وبه الثقة.
وقال محمد بن إسحاق: سألت ابن شهاب كيف أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود خيبر نخلهم ؟ فأخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال، وكانت خيبر مما أفاء الله عليه، خمسها وقسمها بين المسلمين ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن شئتم
دفعت إليكم هذه الاموال على أن تعملوها وتكون ثمارها بيننا وبينكم، فأقركم ما أقركم الله ".
فقبلوا وكانوا على ذلك يعملونها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبدالله ابن رواحة فيقسم ثمرها ويعدل عليهم في الخرص.
فلما توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أقرها أبو بكر بأيديهم على المعاملة التي عاملهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفى، ثم أقرهم عمر بن الخطاب صدرا من إمارته، ثم بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في وجعه الذي قبضه الله فيه: لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان " ففحص عمر عن ذلك حتى بلغه الثبت، فأرسل إلى يهود فقال: إن الله أذن لي في إجلائكم.
وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يجتمعن في جزيرة العرب دينان " فمن كان عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأتني به أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد فليتجهز للجلاء.
فأجلى عمر من لم يكن عنده عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: قد ادعى يهود خيبر في أزمان متأخرة بعد الثلاثمائة أن بأيديهم كتابا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أنه وضع الجزية عنهم.
وقد اغتر بهذا الكتاب بعض العلماء حتى قال بإسقاط الجزية عنهم، من الشافعية الشيخ أبو على بن خيرون، وهو كتاب مزور [ مكذوب مفتعل لا أصل له، وقد بينت بطلانه من وجوه عديدة في كتاب مفرد ] (1) وقد تعرض لذكره وإبطاله جماعة من الاصحاب في كتبهم كابن الصباغ في مسائله، والشيخ أبي حامد في تعليقته، وصنف فيه ابن المسلمة جزءا منفردا للرد عليه، وقد تحركوا به بعد السبعمائة وأظهروا كتابا فيه نسخة ما ذكره الاصحاب في كتبهم، وقد وقفت عليه فإذا هو مكذوب، فإن فيه شهادة سعد بن معاذ، وقد كان مات قبل زمن
__________
(1) سقط من ا.
(*)
خيبر، وفيه شهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم يومئذ، وفي آخره: وكتبه علي
ابن أبي طالب.
وهذا لحن وخطأ، وفيه وضع الجزية ولم تكن شرعت بعد، فإنها إنما شرعت أول ما شرعت وأخذت من أهل نجران.
وذكروا أنهم وفدوا في حدود سنة تسع.
والله أعلم.
* * * ثم قال ابن إسحاق: وحدثني نافع مولى عبدالله بن عمر، عن ابن عمر قال: خرجت أنا والزبير بن العوام والمقداد بن الاسود إلى أموالنا بخيبر نتعاهدها، فلما قدمنا تفرقنا في أموالنا، قال: فعدى علي تحت الليل وأنا نائم على فراشي ففدعت يداي من مرفقي، فلما استصرخ على صاحباي فأتياني فسألاني من صنع هذا بك ؟ فقلت: لا أدري، فأصلحا من يدي، ثم قدما بي على عمر، فقال: هذا عمل يهود خيبر.
ثم قام في الناس خطيبا فقال: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبدالله بن عمر ففدعوا يديه كما بلغكم مع عدوتهم على الانصاري قبله، لا نشك أنهم كانوا أصحابه ليس لنا هناك عدو غيرهم، فمن كان له مال من خيبر فليلحق به فإني مخرج يهود.
فأخرجهم.
قلت: كان لعمر بن الخطاب سهمه الذي بخيبر، وقد كان وقفه في سبيل الله وشرط في الوقف ما أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو ثابت في الصحيحين، وشرط أن يكون النظر فيه للارشد فالارشد من بناته وبنيه.
قال الحافظ البيهقي في الدلائل: جماع أبواب السرايا التي تذكر بعد فتح خيبر وقبل عمرة القضية، وإن كان تاريخ بعضها ليس بالواضح عند أهل المغازي.
سرية أبي بكر الصديق إلى بني فزارة قال الامام أحمد: حدثنا بهز، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا إياس بن سلمة، حدثني أبي، قال: خرجنا مع أبي بكر ابن أبي قحافة وأمره رسول الله صلى الله عليه
وسلم علينا فغزونا بني فزارة، فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر فعرسنا، فلما صلينا الصبح أمرنا أبو بكر فشننا الغارة، فقتلنا على الماء من مر قبلنا.
قال سلمة: ثم نظرت إلى عنق من الناس فيه الذرية والنساء نحو الجبل وأنا أعدو في آثارهم، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل، قال: فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر حتى أتيته على الماء وفيهم امرأة من فزارة عليها قشع (1) من أدم ومعها ابنة لها من أحسن العرب، قال: فنفلني أبو بكر بنتها، قال: فما كشفت لها ثوبا حتى قدمت المدينة، ثم بت فلم أكشف لها ثوبا، قال: فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال لي " يا سملة هب لي المرأة " قال: فقلت: والله يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا.
قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني، حتى إذا كان من الغد لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال: " يا سلمة هب لي المرأة ".
قال: فقلت: يا رسول الله والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا.
قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني، حتى إذا كان من الغد لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال: " يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك " قال: قلت: يا رسول الله والله ما كشفت لها ثوبا وهي لك يا رسول الله.
قال: بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة وفي أيديهم أسارى من المسلمين ففداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة.
وقد رواه مسلم والبيهقي من حديث عكرمة بن عمار به.
__________
(1) القشع: الفرو الخلق.
(27 - السيرة 3) (*)
سرية عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى تربة من أرض هوازن وراء مكة بأربعة أميال
ثم أورد البيهقي من طريق الواقدي بأسانيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب رضى الله عنه في ثلاثين راكبا ومعه دليل من بني هلال، وكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار، فلما انتهوا إلى بلادهم هربوا منهم وكر عمر راجعا إلى المدينة، فقيل له: هل لك في قتال خثعم ؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرني إلا بقتال هوازن في أرضهم.
سرية عبدالله بن رواحة إلى يسير بن رزام اليهودي ثم أورد من طريق إبراهيم بن لهيعة، عن أبي الاسود، عن عروة، ومن طريق موسى بن عقبة عن الزهري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبدالله بن رواحة في ثلاثين راكبا فيهم عبدالله بن راحة إلى يسير بن رزام اليهودي حتى أتوه بخيبر، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يجمع غطفان ليغزوه بهم، فأتوه فقالوا: أرسلنا إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملك على خيبر.
فلم يزالوا به حتى تبعهم في ثلاثين رجلا مع كل رجل منهم رديف من المسلمين، فلما بلغوا قرقرة نيار وهي من خيبر على ستة أميال ندم يسير بن رزام فأهوى بيده إلى سيف عبدالله بن رواحة، ففطن له عبدالله بن رواحة فزجر بعيره ثم اقتحم يسوق بالقوم، حتى استمكن من يسير ضرب رجله فقطعها، واقتحم يسير وفي يده مخراش من شوحط (1) فضرب به وجه عبدالله بن رواحة فشجه شجة مأمومة (2).
وانكفأ كل رجل من المسلمين على رديفه فقتله، غير رجل واحد من اليهود أعجزهم شدا ولم يصب من المسلمين أحد،
__________
(1) المخراش المجن، وهو عصا معقوفة.
والشوحط: شجر من النبع.
(2) مأمومة: في أم رأسه.
(*)
وبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شجة عبدالله بن رواحة فلم تقيح ولم تؤذه حتى مات.
سريه أخرى مع بشير بن سعد
روى من طريق الواقدي بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بشير بن سعد في ثلاثين راكبا إلى بني مرة من أرض فدك فاستاق نعمهم، فقاتلوه وقتلوا عامة من معه وصبر هو يومئذ صبرا عظيما، وقاتل قتالا شديدا، ثم لجأ إلى فدك فبات بها عند رجل من اليهود، ثم كر راجعا إلى المدينة.
قال الواقدي: ثم بعث إليهم رسول لله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبدالله، ومعه جماعة من كبار الصحابة، فذكر منهم أسامة بن زيد، وأبا مسعود البدري، وكعب بن عجرة.
ثم ذكر مقتل أسامة بن زيد لمرداس بن نهيك حليف بني مرة، وقوله حين علاه بالسيف: لا إله إلا الله، وأن الصحابة لاموه على ذلك حتى سقط في يده وندم على ما فعل.
وقد ذكر هذه القصة يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن شيخ من بني سلمة، عن رجال من قومه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غالب بن عبدالله الكلبي إلى أرض بني مرة فأصاب مرداس بن نهيك [ حليفا لهم من الحرقة فقتله أسامة.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن أسامة بن محمد بن أسامة عن أبيه عن جده أسامة بن زيد ؟ قال: أدركته أنا ورجل من الانصار - يعني مرداس بن نهيك (1) ] فلما شهرنا عليه السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فلم ننزع عنه حتى قتلناه.
__________
(1) من ا.
(*)
فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه فقال " يا أسامة من لك بلا إله إلا الله " فقلت: يا رسول الله إنما قالها تعوذا من القتل.
قال: " فمن لك يا أسامة بلا إله إلا الله ".
فوالذي بعثه بالحق ما زال يرددها علي حتى تمنيت أن ما مضى من إسلامي لم يكن، وأني أسلمت يومئذ ولم أقتله.
فقلت: إني أعطى الله عهدا ألا أقتل رجلا يقول لا إله إلا
الله أبدا.
فقال: " بعدي يا أسامة " فقلت بعدك.
وقال الامام أحمد: حدثنا هشيم بن بشير، أنبأنا حصين، عن أبي ظبيان، قال: سمعت أسامة بن زيد يحدث قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبحناهم وكان منهم رجل إذا أقبل القوم كان من أشدهم علينا، وإذا أدبروا كان حاميتهم، قال: فغشيته أنا ورجل من الانصار، فلما تغشيناه قال: لا إله إلا الله.
فكف عنه الانصاري وقتلته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ ! " قال: فقلت: يا رسول الله إنما كان متعوذا من القتل.
قال: فكررها علي، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.
وأخرجه البخاري ومسلم من حديث هشيم به نحوه.
* * * وقال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة، عن مسلم بن عبدالله الجهني، عن جندب بن مكيث الجهني قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبدالله الكلبي كلب ليث إلى بني الملوح بالكديد وأمره أن يغير عليهم، وكنت في سريته، فمضينا حتى إذا كنا بالقديد (1) لقينا الحارث بن مالك بن البرصاء الليثي فأخذناه فقال: إني إنما جئت لاسلم، فقال له غالب بن عبدالله: إن كنت إنما جئت لتسلم فلا يضيرك
__________
(1) ابن هشام: بقديد.
(*)
رباط يوم وليلة، وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك.
قال: فأوثقه رباطا وخلف عليه رويجلا أسود كان معنا، وقال: امكث معه حتى نمر عليك، فإن نازعك فاحتز رأسه.
ومضينا حتى أتينا بطن الكديد، فنزلنا عشية بعد العصر، فبعثني أصحابي إليه فعمدت إلى تل يطلعني على الحاضر، فانبطحت عليه وذلك قبل غروب الشمس، فخرج رجل منهم فنظر فرآني منبطحا على التل فقال لامرأته: إني
لارى سوادا على هذا التل ما رأيته في أول النهار، فانظري لا تكون الكلاب اجترت بعض أوعيتك.
فنظرت فقالت: والله ما أفقد منها شيئا، قال: فناوليني قوسي وسهمين من نبلي، فناولته فرماني بسهم في جنبي أو قال في جبيني، فنزعته فوضعته ولم أتحرك، ثم رماني بالآخر فوضعه في رأس منكبي فنزعته فوضعته ولم أتحرك، فقال لامرأته: أما والله لقد خالطه سهماي ولو كان ربيئة (1) ربيئة لتحرك، فإذا أصبحت فابتغي سهمي فخذيهما لا تمضغهما علي الكلاب.
قال: فأملهنا حتى إذا راحت روائحهم وحتى احتلبوا وعطنوا وسكنوا وذهبت عتمة من الليل، شننا عليهم الغارة، فقتلنا واستقنا النعم ووجهنا قافلين به، وخرج صريخ القوم إلى قومهم بقربنا، قال: وخرجنا سراعا حتى نمر بالحارث بن مالك بن البرصاء وصاحبه، فانطلقنا به معنا وأتانا صريخ الناس فجاءنا مالا قبل لنا به، حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا بطن الوادي من قديد بعث الله من حيث شاء ماء ما رأينا قبل ذلك مطرا ولا حالا، وجاء بما لا يقدر أحد أن يقدم عليه، فلقد رأيتهم وقوفا ينظرون إلينا ما يقدر أحد منهم أن يقدم عليه، ونحن نجذبها أو نحدوها - شك النفيلي - فذهبنا سراعا حتى أسندنا بها في المسلك، ثم حدرنا عنه حتى أعجزنا القوم بما في أيدينا.
وقد رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق في روايته عبدالله بن غالب، والصواب غالب بن عبدالله كما تقدم.
__________
(1) الربيئة: طليعة القوم.
وفي المطبوعة: ريبة.
وهو تحريف.
(*)
وذكر الواقدي هذه القصة بإسناد آخر وقال فيه: وكان معه من الصحابة مائة وثلاثون رجلا.
ثم ذكر البيهقي من طريق الواقدي سرية بشير بن سعد أيضا إلى ناحية خيبر، فلقوا جمعا من العرب وغنموا نعما كثيرا، وكان بعثه في هذه السرية بإشارة أبي بكر وعمر
رضى الله عنهما، وكان معه من المسلمين ثلاثمائة رجل ودليله حسيل بن نويرة وهو الذي كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، قاله الواقدي.
سرية أبي حدرد إلى الغابة قال يونس عن محمد بن إسحاق: كان من حديث قصة أبي حدرد وغزوته إلى الغابة ما حدثني جعفر بن عبدالله بن أسلم عن أبي حدرد قال: تزوجت امرأة من قومي فأصدقتها مائتي درهم، قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على نكاحي.
فقال: " كم أصدقت ؟ " فقلت: مائتي درهم، فقال " سبحان الله والله لو كنتم تأخذونها من واد ما زدتم، والله ما عندي ما أعينك به " فلبثت أياما ثم أقبل رجل من جشم بن معاوية يقال له رفاعة بن قيس - أو قيس بن رفاعة - في بطن عظيم من جشم حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة يريد أن يجمع قيسا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذا اسم وشرف في جشم، قال: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين من المسلمين فقال: " اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتوا منه بخبر وعلم ".
وقدم لنا شارفا عجفاء فحمل عليه أحدنا، فوالله ما قامت به ضعفا حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى استقلت وما كادت، وقال: " تبلغوا على هذه ".
فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف، حتى إذا جئنا قريبا من الحاضر مع غروب الشمس فكمنت في ناحية وأمرت صاحبي فكمنا في ناحية أخرى من حاضر القوم،
وقلت لهما: إذا سمعتماني قد كبرت وشددت في العسكر فكبرا وشدا معي.
فوالله إنا كذلك ننتظر أن نرى غرة أو نرى شيئا وقد غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء، وقد كان لهم راع قد سرح في ذلك البلد فأبطأ عليهم وتخوفوا عليه، فقام صاحبهم رفاعة بن قيس فأخذ سيفه فجعله في عنقه فقال: والله لاتيقنن أمر راعينا ولقد أصابه شر، فقال نفر ممن معه: والله لا تذهب نحن نكفيك.
فقال: لا إلا أنا.
قالوا:
نحن معك.
فقال: والله لا يتبعني منكم أحد.
وخرج حتى مر بي، فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده، فوالله ما تكلم فوثبت إليه فاحتززت رأسه، ثم شددت ناحية العسكر وكبرت وشد صاحباي وكبرا، فوالله ما كان إلا النجا ممن كان فيه عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم وما خف معهم من أموالهم، واستقنا إبلا عظيمة وغنما كثيرة فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجئت برأسه أحمله معي، فأعطاني من تلك الابل ثلاثة عشر بعيرا في صداقي فجمعت إلى أهلي.
السرية التي قتل فيها محلم بن جثامة عامر بن الاضبط قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن عبدالله بن قسيط، عن ابن عبدالله (1) بن أبي حدرد، عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم في نفر من المسلمين منهم، أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الاضبط الاشجعي على قعود له معه متيع له ووطب (2) من لبن، فسلم علينا بتحيه الاسلام فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشئ كان بينه وبينه وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه الخبر فنزل فينا القرآن " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى اليكم
__________
(1) ابن هشام: عن القعقاع بن عبدالله بن أبي حدرد.
(2) المتيع: المتاع القليل.
والوطب وعاء اللبن.
(*)
السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا، فعند الله مغانم كثيرة، كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا (1) ".
هكذا رواه الامام أحمد، عن يعقوب عن أبيه عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبدالله بن قسيط، عن القعقاع بن عبدالله بن أبي حدرد عن أبيه.
فذكره.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر، سمعت زياد بن ضميرة بن سعد الضمري (2)
يحدث عن عروة بن الزبير، عن أبيه وعن جده قالا - وكانا شهدا حنينا - قالا: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر فقام إلى ظل شجرة فقعد فيه فقام إليه عيينة بن بدر فطلب بدم عامر بن الاضبط الاشجعي وهو سيد عامر: هل لكم أن تأخذوا منا الآن خمسين بعيرا وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة ؟ فقال عيينة بن بدر: والله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحزن مثل ما أذاق نسائي.
فقام رجل من بني ليث يقال له ابن مكيل وهو قصير من الرجال، فقال: يا رسول الله ما أجد لهذا القتيل شبها في غرة الاسلام إلا كغنم وردت فرميت (3) أولاها فنفرت أخراها، اسنن (4) اليوم وغير غدا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل لكم أن تأخذوا خمسين بعيرا الآن وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة ؟ " فلم يزل بهم حتى رضوا بالدية، فقال قوم محلم بن جثامة: إبتوا به حتى يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: فجاء رجل طوال ضرب (5) اللحم في حلة قد تهيأ فيها للقتل، فقام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تغفر لمحلم " قالها ثلاثا.
فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه.
قال محمد بن إسحاق: زعم قومه أنه استغفر له بعد ذلك.
__________
(1) سورة النساء 94.
(2) ابن هشام: السلمي.
(3) غير ا: فشربت.
(4) اسنن: ضع الاحكام والسنن.
(5) ضرب اللحم: خفيفه.
(*)
وهكذا رواه أبو داود من طريق حماد بن سلمة عن ابن إسحاق، ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي خالد الاحمر عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن زيد بن ضميرة عن أبيه وعمه، فذكر بعضه.
والصواب كما رواه ابن إسحاق عن محمد بن جعفر عن زياد بن سعد بن ضميرة (1)
عن أبيه وعن جده.
وهكذا رواه أبو داود من طريق ابن وهب، عن عبدالرحمن بن أبي الزناد، وعن عبدالرحمن بن الحارث، عن محمد بن جعفر عن زياد بن سعد بن ضميرة عن أبيه وجده بنحوه كما تقدم.
وقال ابن إسحاق: حدثني سالم أبو النضر أنه قال (2): لم يقبلوا الدية حتى قام الاقرع بن حابس فخلا بهم وقال: يا معشر قيس، سألكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتيلا تتركونه ليصلح به بين الناس فمنعتموه إياه، أفأمنتم أن يغضب عليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب الله لغضبه، ويلعنكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلعنكم الله بلعنته لكم، لتسلمنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لآتين بخمسين من بني تميم كلهم يشهدون أن القتيل كافر ما صلى قط فلا يطلبن (3) دمه.
فلما قال ذلك لهم أخذوا الدية.
وهذا منقطع معضل.
وقد روى ابن إسحاق عمن لا يتهم عن الحسن البصري، أن محلما لما جلس بين يديه عليه الصلاة والسلام قال له: " أمنته ثم قتلته ؟ " ثم دعا عليه.
قال الحسن: فوالله ما مكث محلم إلا سبعا حتى مات فلفظته الارض ثم دفنوه فلفظته الارض ثم دفنوه فلفظته الارض، فرضموا عليه من الحجارة حتى واروه، فبلغ
__________
(1) ابن هشام: زياد بن ضميرة بن سعد.
(2) ابن هشام: وأخبرنا سالم أبو النضر أنه حدث أن عيينة بن حصن...(3) ابن هشام: فلا طلبن.
(*)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الارض لتطابق على من هو شر منه، ولكن الله أراد أن يعظكم في حرم ما بينكم لما أراكم منه ".
وقال ابن جرير: حدثنا وكيع، حدثنا جرير، عن ابن إسحاق، عن نافع عن ابن عمر، قال: بعث رسول الله صلى عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثا فلقيهم عامر بن الاضبط
فحياهم بتحية الاسلام - وكانت بينهم هنة في الجاهلية - فرماه محلم بسهم فقتله، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فيه عيينة والاقرع، فقال الاقرع: يا رسول الله سن اليوم وغير غدا، فقال عيينة: لا والله حتى تذوق نساؤه من الثكل ما أذاق نسائي محلم في بردين فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا غفر الله لك " فذكروا ذلك له فقال: " إن الارض لتقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم من حرمتكم " ثم طرحوه في جبل فألقوا عليه من الحجارة ونزلت: " يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا " الآية.
وقد ذكره موسى بن عقبة عن الزهري، ورواه شعيب عن الزهري عن عبدالله بن وهب، عن قبيصة بن ذؤيب نحو هذه القصة، إلا أنه لم يسم محلم بن جثامة ولا عامر بن الاضبط، وكذلك رواه البيهقي عن الحسن البصري بنحو هذه القصة وقال: وفيه نزل قوله تعالى: " يأيها الذين آمنو إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا " الآية.
قلت: وقد تكلمنا في سبب نزول هذه الآية ومعناها في التفسير بما فيه الكفاية.
ولله الحمد والمنة.
سرية عبدالله بن حذافة السهمي ثبت في الصحيحين من طريق الاعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبدالرحمن
الحبلى، عن علي بن أبي طالب قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الانصار على سرية بعثهم وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، قال: فأغضبوه في شئ فقال: اجمعوا لي حطبا.
فجمعوا.
فقال: أوقدوا نارا.
فأوقدوا.
ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا ؟ قالوا: بلى.
قال: فادخلوها.
قال: فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار.
قال: فسكن غضبه وطفئت النار.
فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال: " لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف ".
وهذه القصة ثابتة أيضا في الصحيحين من طريق يعلى بن مسلم، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس، وقد تكلمنا على هذه بما فيه كفاية في التفسير ولله الحمد والمنة.
بسم الله الرحمن الرحيم عمرة القضاء ويقال القصاص.
ورجحه السهيلي.
ويقال عمرة القضية، فالاولى قضاء عما كان أحصر عام الحديبية والثاني من قوله تعالى: " والحرمات قصاص " والثالث من المقاضاة التي كان قاضاهم عليها على أن يرجع عنهم عامه هذا ثم يأتي في العام القابل ولا يدخل مكة إلا في جلبان (1) السلاح وألا يقيم أكثر من ثلاثة أيام.
وهذه العمرة هي المذكورة في قوله تعالى في سورة الفتح المباركة: " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آءمين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون " الآية.
وقد تكلمنا عليها مستقصى في كتابنا التفسير بما فيه كفاية.
وهي الموعود بها في قوله عليه الصلاة والسلام لعمر بن الخطاب حين قال له: ألم تكن تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال: " بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا ؟ " قال: لا.
قال: " فإنك آتية ومطوف به ".
وهي المشار إليها في قول عبدالله بن رواحة حين دخل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة يوم عمرة القضاء وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله * اليوم نضر بكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله
__________
(1) الجلبان: شبه الجراب من الجلد يوضع فيه السيف.
(*)
أي هذا تأويل الرؤيا التي كان رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت مثل فلق الصبح.
* * * قال ابن إسحاق،: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى المدينة أقام بها شهري ربيع وجماديين ورجبا وشعبان وشهر رمضان وشوالا، يبعث فيما بين ذلك سراياه.
ثم خرج من ذي القعدة في الشهر الذي صده فيه المشركون معتمرا عمرة القضاء مكان عمرته التي صدوه عنها.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عويف بن الاضبط الدؤلي.
ويقال لها عمرة القصاص، لانهم صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة في الشهر الحرام من سنة ست، فافتص رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم فدخل مكة في ذي القعدة في الشهر الحرام الذي صدوه فيه من سنة سبع.
بلغنا عن ابن عباس أنه قال: فأنزل الله تعالى في ذلك " والحرمات قصاص ".
وقال معتمر بن سليمان عن أبيه في مغازيه: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر أقام بالمدينة وبعث سراياه حتى استهل ذو القعدة، فنادى في الناس: أن تجهزوا للعمرة.
فتجهزوا وخرجوا إلى مكة.
وقال ابن إسحاق: وخرج معه المسلمون ممن كان صد معه في عمرته تلك وهي سنة سبع، فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه وتحدثت قريش بينها أن محمدا في عسرة
وجهد وشدة.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم، عن عبدالله بن عباس قال: صفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد
اضطبع بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال: " رحم الله امرءا أراهم اليوم من نفسه قوة ".
ثم استلم الركن، ثم خرج يهرول ويهرول أصحابه معه، حتى إذا واراه البيت منهم واستلم الركن اليماني مشى حتى يستلم الركن الاسود، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ومشى سائرها.
فكان ابن عباس يقول: كان الناس يظنون أنها ليست عليهم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما صنعها لهذا الحي من قريش للذي بلغه عنهم حتى حج حجة الوداع فلزمها فمضت السنة بها.
وقال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد - هو ابن زيد - عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد وهنهم حمى يثرب.
فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الاشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الاشواط كلها إلا الابقاء عليهم.
قال أبو عبد الله: وزاد بن سلمة - يعني حماد بن سلمة - عن أيوب، عن سعيد عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم لعامهم الذي استأمن قال: " ارملوا ليرى المشركون قوتهم، والمشركون من قبل قعيقعان.
ورواه مسلم عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد.
وأسنده البيهقي طريق حماد بن سلمة.
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا سفيان، حدثنا إسماعيل بن أبي
خالد، سمع ابن أبي أوفى يقول: لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسيأتي بقية الكلام على هذا المقام.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة في تلك العمرة دخلها و عبدالله بن رواحة آخذ بخطام ناقته يقول: خلوا بني الكفار عن سبيله * خلوا فكل الخير في رسوله يا رب إني مؤمن بقيله * أعرف حق الله في قبوله نحن قتلناكم على تأويله * كما قتلناكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله قال ابن هشام: نحن قتلناكم على تأويله إلى آخر الابيات لعمار بن ياسر في غير هذا اليوم - يعني يوم صفين - قاله السهيلي.
قال ابن هشام: والدليل على ذلك أن ابن رواحة إنما أراد المشركين، والمشركون لم يقروا بالتنزيل، وإنما يقاتل على التأويل من أقر بالتنزيل.
وفيما قاله ابن هشام نظر، فإن الحافظ البيهقي روى من غير وجه عن عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن أنس قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء مشى عبدالله بن رواحة بين يديه، وفي رواية وهو آخد بغرزه وهو يقول: خلوا بني الكفار عن سبيله * قد نزل الرحمن في تنزيله بأن خير القتل في سبيله * نحن قتلناكم على تأويله وفي رواية بهذا الاسناد بعينه: خلوا بني الكفار عن سبيله * اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله يا رب إني مؤمن بقيله
وقال يونس بن بكير عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام القضية مكة فطاف بالبيت على ناقته واستلم الركن بمحجنه.
قال ابن هشام: من غير علة، والمسلمون يشتدون حوله، و عبدالله بن رواحة يقول: باسم الذي لا دين إلا دينه * باسم الذي محمد رسوله خلوا بني الكفار عن سبيله * * * قال موسى بن عقبة عن الزهري: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام القابل من عام الحديبية معتمرا في ذي القعدة سنة سبع، وهو الشهر الذي صده المشركون عن المسجد الحرام، حتى إذا بلغ يأجج وضع الاداة كلها الحجف والمجان والرماح والنبل، ودخلوا بسلاح الراكب السيوف، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه جعفر بن أبى طالب إلى ميمونة بنت الحارث العامرية فخطبها عليه، فجعلت أمرها إلى العباس وكان تحته أختها أم الفضل بنت الحارث، فزوجها العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه قال: " اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف ".
ليرى المشركون جلدهم وقوتهم، وكان يكايدهم بكل ما استطاع، فاستكف (1) أهل مكة الرجال والنساء والصبيان ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يطوفون بالبيت، و عبدالله بن رواحة يرتجز بين يدي رسول الله صلى عليه وسلم متوشحا بالسيف وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله * أنا الشهيد أنه رسوله
__________
(1) استكف: أحاطوا به.
(*)
قد أنزل الرحمن في تنزيله * في صحف تتلى على رسوله فاليوم نضربكم على تأويله * كما ضربناكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله قال: وتغيب رجال من أشراف المشركين أن ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيظا وحنقا، ونفاسة وحسدا.
وخرجوا إلى الخندمة (1)، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وأقام ثلاث ليال، وكان ذلك آخر القضية يوم الحديبية.
فلما أتى الصبح من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبدالعزى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس الانصار يتحدث مع سعد بن عبادة، فصاح حويطب بن عبدالعزى: نناشدك الله والعقد لما خرجت من أرضنا، فقد مضت الثلاث.
فقال سعد بن عبادة: كذبت لا أم لك ليس بأرضك ولا بأرض آبائك والله لا يخرج.
ثم نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلا وحويطبا فقال: " إني قد نكحت فيكم امرأة فما يضركم أن أمكث حتى أدخل بها ونصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا " فقالوا: نناشدك الله والعقد إلا خرجت عنا.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع فأذن بالرحيل، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل ببطن سرف وأقام المسلمون وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع ليحمل ميمونة، وأقام بسرف حتى قدمت عليه ميمونة، وقد لقيت ميمونة ومن معها عناء وأذى من سفهاء المشركين ومن صبيانهم، فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف فبنى بها ثم أدلج فسار حتى أتى المدينة.
وقدر الله أن يكون موت ميمونة بسرف بعد ذلك بحين، فماتت حيث بنى بها
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(2) الخندمة: جبل بمكة (28 - السيرة 3) (*)
ثم ذكر قصة ابنة حمزة إلى أن قال: وأنزل الله عزوجل في تلك العمرة " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص " فاعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهر الحرام الذي صد فيه.
* * * وقد روى ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة بن الزبير نحوا من هذا السياق، ولهذا السياق شواهد كثيرة من أحاديث متعددة.
ففي صحيح البخاري من طريق فليح بن سليمان، عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ولا يحمل سلاحا إلا سيوفا، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا.
فاعتمر من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثا أمروه أن يخرج فخرج.
وقال الواقدي: حدثني عبدالله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال: لم تكن هذه عمرة قضاء وإنما كانت شرطا على المسلمين أن يعتمروا من قابل في الشهر الذي صدهم فيه المشركون.
وقال أبو داود: حدثنا النفيلي، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن ميمون، سمعت أبا حاضر الحميري يحدث أن ميمون بن مهران قال: خرجت معتمرا عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة، وبعث معي رجال من قومي بهدي.
قال: فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخل الحرم، قال: فنحرت الهدي مكاني ثم أحللت ثم رجعت، فلما كان من العام المقبل خرجت لاقضي عمرتي، فأتيت بن عباس فسألته فقال: أبدل الهدي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه
أن يبدلوا الهدى الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء.
تفرد به أبو داود من حديث أبي حاضر عثمان بن حاضر الحميري، عن ابن عباس فذكره.
وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني عمرو بن ميمون قال: كان أبي يسأل كثيرا: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدل هديه الذي نحر حين صده المشركون عن البيت ؟ ولا يجد في ذلك شيئا، حتى سمعته يسأل أبا حاضر الحميري عن ذلك فقال له: على الخبير سقطت ! حججت عام ابن الزبير في الحصر الاول، فأهديت هديا فحالوا بيننا وبين البيت، فنحرت في الحرم ورجعت إلى اليمن وقلت: لي برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، فلما كان العام المقبل حججت فلقيت ابن عباس فسألته عما نحرت علي بدله أم لا ؟ قال: نعم فأبدل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد أبدلوا الهدي الذي نحروا عام صدهم المشركون فأبدلوا ذلك في عمرة القضاء، فعزت الابل عليهم فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في البقر.
وقال الواقدي: حدثني غانم بن أبي غانم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب الاسلمي على هديه يسير بالهدي أمامه يطلب الرعي في الشجر معه أربعة فتيان من أسلم، وقد ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية ستين بدنة.
فحدثني محمد بن نعيم المجمر، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: كنت مع صاحب البدن أسوقها.
قال الواقدي: وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي والمسلمون معه يلبون، ومضى محمد بن مسلمة بالخيل إلى مر الظهران، فيجد بها نفرا من قريش، فسألوا محمد بن مسلمة فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح هذا المنزل غدا إن شاء الله.
ورأوا سلاحا كثيرا مع بشير بن سعد، فخرجوا سراعا حتى أتوا قريشا فأخبروهم بالذي رأوا
من السلاح والخيل، ففزعت قريش وقالوا: والله ما أحدثنا حدثا، وإنا على كتابنا وهدنتنا، ففيم يغزونا محمد في أصحابه ؟ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح إلى بطن يأجج حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وبعثت قريش مكرز بن حفص بن الاحنف في نفر من قريش، حتى لقوه ببطن يأجج ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه والهدي والسلاح قد تلاحقوا، فقالوا: يا محمد ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر، تدخل بالسلاح في الحرم على قومك، وقد شرطت لهم ألا تدخل إلا بسلاح المسافر السيوف في القرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لا أدخل عليهم السلاح " فقال مكرز بن حفص: هذا الذي تعرف به، البر والوفاء، ثم رجع سريعا بأصحابه إلى مكة.
فلما أن جاء مكرز بن حفص بخبر النبي صلى الله عليه وسلم خرجت قريش من مكة إلى رءوس الجبال وخلوا مكة وقالوا: لا ننظر إليه ولا إلى أصحابه.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي أمامه حتى حبس بذي طوى، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو على ناقته القصواء وهم محدقون به يلبون وهم متوشحون السيوف، فلما انتهى إلى ذي طوى وقف على ناقته القصواء وابن رواحة آخذ بزمامها وهو يرتجز بشعره ويقول: خلوا بني الكفار عن سبيله * إلى آخره
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة - يعني من ذي القعدة سنة سبع - فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنهم حمى يثرب.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا
الاشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الاشواط كلها إلا الابقاء عليهم.
قال الامام أحمد: حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن عبدالله ابن عثمان، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر الظهران من عمرته بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشا تقول: ما يتباعثون من العجف (1).
فقال أصحابه: لو انتحرنا من ظهرنا فأكلنا من لحومه وحسونا من مرقه أصبحنا غدا حين ندخل على القوم وبنا جمامة (2)، فقال: " لا تفعلوا ولكن اجمعوا لي من أزوادكم " فجمعوا له وبسطوا الانطاع فأكلوا حتى تركوا، وحشا كل واحد منهم في جرابه.
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد وقعدت قريش نحو الحجر، فاضطبع بردائه ثم قال: " لا يرى القوم فيكم غميزة " فاستلم الركن ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الاسود، فقالت قريش: ما يرضون بالمشي أما إنهم لينفرون نفر الظباء ! ففعل ذلك ثلاثة أطواف فكانت سنة.
قال أبو الطفيل: وأخبرني ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع.
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقال أبو داود، حدثنا أبو سلمة موسى، حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - انبأنا أبو عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: يزعم قومك أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد رمل بالبيت وأن ذلك سنة ؟ فقال: صدقوا وكذبوا.
قلت: ما صدقوا وما كذبوا ؟ قال: صدقوا، رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذبوا ليس بسنة، إن قريشا زمن الحديبية قالت: دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت
__________
(1) العجف: الهزال.
(2) جمامة: بقية من قوة.
(*)
النغف (1)، فلما صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركون من قبل قعيقعان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: " ارملوا بالبيت ثلاثا " قال: وليس بسنة.
وقد رواه مسلم من حديث سعيد الجريري، و عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين و عبدالملك بن سعيد بن أبجر، ثلاثتهم عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن ابن عباس به نحوه.
وكون الرمل في الطواف سنة مذهب الجمهور، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في عمرة القضاء وفي عمرة الجعرانة أيضا، كما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبدالله ابن عثمان بن خثيم، عن أبي الطفيل عن ابن عباس فذكره.
وثبت في حديث جابر عند مسلم وغيره أنه عليه السلام رمل في حجة الوداع في الطواف، ولهذا قال عمر بن الخطاب: فيم الرملان وقد أطال الله الاسلام ؟ ومع هذا لا نترك شيئا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وموضع تقرير هذا كتاب الاحكام.
وكان ابن عباس في المشهور عنه لا يرى ذلك سنة، كما ثبت في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: إنما سعى النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وبالصفا والمروة ليرى المشركين قوته.
لفظ البخاري.
وقال الواقدي: لما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسكه في القضاء دخل البيت،
فلم يزل فيه حتى أذن بلال الظهر فوق ظهر الكعبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك، فقال عكرمة بن أبي جهل: لقد أكرم الله أبا الحكم حين لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول ! وقال صفوان بن أمية: الحمد لله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا.
وقال
__________
(1) النغف: دود في أنوف الابل والغنم، ويقال للمحتقر: نغفة.
(*)
خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم حتى يقوم بلال ينهق فوق البيت.
وأما سهيل بن عمر ورجال معه لما سمعوا بذلك غطوا وجوههم.
قال الحافظ البيهقي: قد أكرم الله أكثرهم بالاسلام.
قلت: كذا ذكره البيهقي من طريق الواقدي أن هذا كان في عمرة القضاء، والمشهور أن ذلك كان في عام الفتح.
والله أعلم.
وأما قصة تزويجه عليه السلام بميمونة فقال ابن إسحاق: حدثني أبان بن صالح وعبد الله بن أبي نجيح، عن عطاء ومجاهد، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك وهو حرام، وكان الذي زوجه إياها العباس بن عبدالمطلب.
قال ابن هشام: كانت جعلت أمرها إلى أختها أم الفضل، فجعلت أم الفضل أمرها إلى زوجها العباس، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقها عنه أربعمائة درهم.
وذكر السهيلي أنه لما انتهت إليها خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وهي راكبة بعيرا قالت: الجمل وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وفيها نزلت الآية: " وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين " (2).
وقد روى البخاري من طريق أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، وبنى بها وهو حلال، وماتت بسرف.
قال السهيلي (1) وروى الدارقطني من طريق أبي الاسود يتيم عروة، ومن طريق مطر
__________
(1) سورة الاحزاب 50 (2) كذا في ا وفي ت: البيهقي.
(*)
الوراق، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال.
قال: وتأولوا رواية ابن عباس الاولى أنه كان محرما، أي في شهر حرام، كما قال الشاعر: قتلوا ابن عفان الخليفة محرما * فدعا فلم أر مثله مخذولا أي في شهر حرام.
قلت: وفي هذا التأويل نظر، لان الروايات متظافرة عن ابن عباس بخلاف ذلك، ولا سيما [ من ] (1) قوله: " تزوجها وهو محرم وبنى بها وهو حلال " وقد كان في شهر ذي القعدة أيضا وهو شهر حرام.
وقال محمد بن يحيى الذهلي، حدثنا عبد الرزاق، قال: قال لي الثوري: لا يلتفت (2) إلى قول أهل المدينة.
أخبرني عمرو عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج وهو محرم.
قال أبو عبد الله: قلت لعبد الرزاق: روى سفيان الحديثين جميعا، عن عمرو، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس وابن خثيم (3)، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نعم، أما حديث ابن خثيم فحدثنا هاهنا - يعني باليمن - وأما حديث عمرو فحدثنا ثم - يعني بمكة -.
وأخرجاه (4) في الصحيحين من حديث عمرو بن دينار به.
وفي صحيح البخاري من طريق الاوزاعي، حدثنا عطاء، عن ابن عباس، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم.
فقال سعيد بن المسيب: وهم
__________
(1) من ا (2) ا: لا تلتفت.
(3) ا خيثم وهو تحريف.
(4) ا: أخرجاه.
(*)
ابن عباس وإن كانت خالته، ما تزوجها إلا بعد ما أحل.
وقال يونس عن ابن إسحاق: حدثني بقية، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: هذا عبدالله بن عباس يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم فذكر كلمته، إنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فكان الحل والنكاح جميعا، فشبه ذلك على ابن عباس (1) وروى مسلم وأهل السنن من طرق عن يزيد بن الاصم العامري، عن خالته ميمونة بنت الحارث، قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان (2) بسرف.
لكن قال الترمذي: روى غير واحد هذا الحديث عن يزيد بن الاصم مرسلا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة.
وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عبدالله الاصفهاني الزاهد، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا مطر الوراق، عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى (3) بها وهو حلال وكنت الرسول بينهما.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا، عن قتيبة، عن حماد بن زيد به، ثم قال الترمذي: حسن ولا نعلم أحدا أسنده عن حماد عن مطر.
ورواه مالك عن ربيعة عن سليمان مرسلا.
[ ورواه سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلا.
قلت: وكانت وفاتها بسرف سنة ثلاث وستين، ويقال: سنة ستين، رضى الله عنها ] (4)
__________
(1) ا: على الناس.
(2) غير ا: حلال.
(3) ا: وبنى.
(4) سقطت من ا.
(*)

روابط عرض كتاب السيرة النبوية لابن كثير
3.   3. ج1/ 3 ..



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق