الجمعة، 15 يونيو 2018

3. ج1/ 3 السيرة النبوية لابن كثير الحافظ.




ابن كثير سيرة ج1/ 3.
واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا، واختار من قريش بنى هاشم، واختارني من بنى هاشم، فأنا خيار من خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم ".
هذا أيضا حديث غريب.
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ".
وروى الحاكم والبيهقي أيضا من حديث موسى بن عبيدة، حدثنا عمرو بن عبد الله بن نوفل، عن الزهري، عن أبى أسامة أو أبى سلمة، عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال لى جبريل: قلبت الارض من مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد، وقلبت الارض مشارقها ومغاربها فلم أجد بنى أب أفضل من بنى هاشم ".
قال الحافظ البيهقى: وهذه الاحاديث وإن كان في رواتها من لا يحتج به فبعضها يؤكد بعضا، ومعنى جميعها يرجع إلى حديث واثلة بن الاسقع.
والله أعلم.
قلت: وفى هذا المعنى يقول أبو طالب يمتدح النبي صلى الله عليه وسلم: إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر * فعبد مناف سرها وصميمها فإن حصلت أشراف عبد منافها * ففى هاشم أشرافها وقديمها وإن فخرت يوما فإن محمدا * هو المصطفى من سرها وكريمها تداعت قريش غثها وسمينها * علينا فلم تظفر وطاشت حلومها وكنا قديما لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها
ونحمى حماها كل يوم كريهة * ونضرب عن أجحارها من يرومها
بنا انتعش العود الذواء وإنما * بأكنافنا تندى وتنمى أرومها وقال أبو السكن زكريا بن يحيى الطائى في الجزء المنسوب إليه المشهور: حدثنى عمر بن أبى زحر بن حصين، عن جده حميد بن منهب، قال: قال جدى خريم بن أوس: هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمت عليه منصرفه من تبوك، فأسلمت، فسمعت العباس بن عبد المطلب يقول: يا رسول الله إنى أريد أن أمتدحك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل، لا يفضض الله فاك.
فأنشأ يقول: من قبلها طبت في الظلال وفى * مستودع حيث يخصف الورق ثم هبطت البلاد لا بشر أن * - ت ولا مضغة ولا علق بل نطفة تركب السفين وقد * ألجم نسرا وأهله الغرق تنقل من صلب (1) إلى رحم * إدا مضى عالم بدا طبق حتى احتوى بيتك المهيمن من * خندف علياء تحتها النطق (2) وأنت لما ولدت أشرقت الار * ض وضاءت بنورك الافق فنحن في ذلك الضياء وفى ال * نور وسبل الرشاد نخترق وقد روى هذا الشعر لحسان بن ثابت.
فروى الحافظ أبو القاسم بن عساكر من طريق أبى الحسن بن أبى الحديد: أخبرنا محمد بن أبى نصر، أنبأنا عبد السلام بن محمد بن أحمد القرشى، حدثنا أبو حصين محمد ابن إسماعيل بن محمد التميمي، حدثنا محمد بن عبد الله الزاهد الخراساني.
حدثنى إسحاق ابن إبراهيم بن سنان، حدثنا سلام بن سليمان أبو العباس المكفوف المدائني، حدثنا ورقاء بن عمر، عن ابن أبى نجيح، عن عطاء ومجاهد عن ابن عباس قال: سألت
__________
(1) الشفا والبدء والتاريخ: من صالب.
(2) النطق: جمع ناطق.
(*)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: فداك أبى وأمى، أين كنت وآدم في الجنة ؟ قال: فتبسم حتى بدت نواجذه ثم قال: " كنت في صلبه، وركب بى السفينة في صلب أبى نوح، وقذف بى في صلب أبى إبراهيم، لم يلتق أبواي على سفاح قط، لم يزل الله ينقلني من الاصلاب الحسيبة إلى الارحام الطاهرة صفيا مهذبا (1) لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما، وقد أخذ الله بالنبوة ميثاقي وبالاسلام عهدي، ونشر في التوراة والانجيل ذكرى، وبين كل نبى صفتي، تشرق الارض بنورى والغمام بوجهي، وعلمني كتابه وزادني [ شرفا ] في سمائه، وشق لى اسما من أسمائه، فذو العرش محمود وأنا محمد وأحمد، ووعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر، وأن يجعلني أول شافع وأول مشفع، ثم أخرجنى من خير قرن لامتي، وهم الحمادون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ".
قال ابن عباس: فقال حسان بن ثابت في النبي صلى الله عليه وسلم: من قبلها طبت في الظلال وفى * مستودع يوم يخصف الورق ثم سكنت البلاد لا بشر أن * - ت ولا نطفة ولا علق مطهر تركب السفين وقد * ألجم نسرا وأهله الغرق تنقل من صلب إلى رحم * إذا مضى طبق بدا طبق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله حسانا " فقال على بن أبى طالب: وجبت الجنة لحسان ورب الكعبة.
ثم قال الحافظ ابن عساكر: هذا حديث غريب جدا.
__________
(1) المطبوعة: صفتي مهدى، وهو تحريف.
(*)
قلت: بل منكر جدا.
والمحفوظ أن هذه الابيات للعباس رضى الله عنه.
ثم أوردها
من حديث أبى السكن زكريا بن يحيى الطائى كما تقدم.
قلت: ومن الناس من يزعم أنها للعباس بن مرداس السلمى.
فالله أعلم.
تنبيه: قال القاضى عياض في كتابه " الشفاء ": " وأما أحمد الذى أتى في الكتب وبشرت به الانبياء فمنع الله بحكمته أن يسمى به أحد غيره ولا يدعى به مدعو قبله، حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب أو شك.
وكذلك محمد [ أيضا ] لم يسم به أحد من العرب ولا غيرهم، إلى أن شاع قبيل وجوده وميلاده أن نبيا يبعث اسمه محمد، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو والله أعلم حيث يجعل رسالته.
وهم: محمد بن أحيحة بن الجلاح الاوسي، ومحمد بن مسلمة (1) الانصاري، ومحمد بن براء البكري (2)، ومحمد بن سفيان بن مجاشع، ومحمد بن حمران الجعفي، ومحمد بن خزاعي السلمى لا سابع لهم.
ويقال إن أول من سمى محمدا محمد بن سفيان (بن مجاشع) (3) واليمن تقول: بل محمد بن اليحمد من الازد.
ثم إن الله حمى كل من تسمى به أن يدعى النبوة أو يدعيها له أحد، أو يظهر عليه سبب يشكك (4) أحدا في أمره، حتى تحققت الشيمتان له صلى الله عليه وسلم لم ينازع فيهما " (5) هذا لفظه.
__________
(1) المطبوعة: سلمة، وهو خطأ.
(2) كذا في الشفاء.
وكان الاصل: ابن البراء الكندى.
(3) ليست في الشفاء.
(4) المطبوعة: يشكل وهو خطأ.
(5) الشفاء 190 الطبعة العثمانية.
(*)
باب مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد صلوات الله عليه وسلامه يوم الاثنين.
لما رواه مسلم في صحيحه من حديث غيلان بن جرير عن (1) عبد الله بن معبد الزمانى (2)،
عن أبى قتادة أن أعرابيا قال: يا رسول الله، ما تقول في صوم يوم الاثنين ؟ فقال: " ذاك يوم ولدت فيه وأنزل على فيه ".
وقال الامام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبى عمران، عن حنش الصنعانى، عن ابن عباس، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفى يوم الاثنين، ورفع الحجر يوم الاثنين.
تفرد به أحمد، ورواه عمرو بن بكير عن ابن لهيعة، وزاد: نزلت سورة المائدة يوم الاثنين " اليوم أكملت لكم دينكم ".
وهكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود به، وزاد أيضا: وكانت وقعة بدر يوم الاثنين.
وممن قال هذا يزيد بن حبيب.
وهذا منكر جدا.
قال ابن عساكر: والمحفوظ أن بدرا ونزول " اليوم أكملت لكم دينكم " يوم الجمعة وصدق ابن عساكر.
وروى عبد الله بن عمر، عن كريب، عن ابن عباس: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وتوفى يوم الاثنين.
وهكذا روى من غير هذا الوجه عن ابن عباس أنه ولد يوم الاثنين.
__________
(1) ط: جرير بن عبد الله، وهو خطأ فاحش.
(2) نسبة إلى زمان بن مالك بطن من ربيعة.
(*)
وهذا مالا خلاف فيه أنه ولى صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين.
وأبعد بل أخطأ من قال: ولد يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من ربيع الاول.
نقله الحافظ ابن دحية فيما قرأه في كتاب " إعلام الروى بأعلام الهدى " لبعض الشيعة.
ثم شرع ابن دحية في تضعيفه وهو جدير بالتضعيف إذ هو خلاف النص.
ثم الجمهور على أن ذلك كان في شهر ربيع الاول، فقيل: لليلتين خلتا منه.
قاله
ابن عبد البر في الاستيعاب، ورواه الواقدي عن أبى معشر نجيح بن عبد الرحمن المدنى.
وقيل لثمان خلون منه.
حكاه الحميدى عن ابن حزم.
ورواه مالك وعقيل ويونس ابن يزيد وغيرهم عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم.
ونقل ابن عبد البر عن أصحاب التاريخ أنهم صححوه وقطع به الحافظ الكبير محمد ابن موسى الخوارزمي.
ورجحه الحافظ أبو الخطاب بن دحية في كتابه: " التنوير في مولد البشر النذير ".
وقيل لعشر خلون منه نقله ابن دحية في كتابه.
ورواه ابن عساكر عن أبى جعفر الباقر ورواه مجالد عن الشعبى كما مر.
وقيل لثنتى عشرة خلت منه.
نص عليه ابن إسحاق.
ورواه ابن أبى شيبة في مصنفه عن عفان، عن سعيد بن ميناء، عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الاول وفيه بعث وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر وفيه مات.
وهذا هو المشهور عند الجمهور والله أعلم.
وقيل لسبعة عشر خلت منه: كما نقله ابن دحية عن بعض الشيعة.
وقيل لثمان بقين منه: نقله ابن دحية من خط الوزير أبى رافع بن الحافظ أبى محمد
ابن حزم عن أبيه.
والصحيح عن ابن حزم الاول أنه لثمان مضين منه، كما نقله عنه الحميدى وهو أثبت.
والقول الثاني: أنه ولد في رمضان.
نقله ابن عبد البر عن الزبير بن بكار، وهو قول غريب جدا، وكان مستنده أنه عليه الصلاة والسلام أوحى إليه في رمضان بلا خلاف، وذلك على رأس أربعين سنة من عمره، فيكون مولده في رمضان وهذا فيه نظر والله أعلم.
وقد روى خيثمة بن سليمان الحافظ، عن خلف بن محمد كردوس الواسطي، عن المعلى بن عبد الرحمن، عن عبد الحميد بن جعفر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في ربيع الاول، وأنزلت عليه النبوة يوم الاثنين في أول شهر ربيع الاول، وأنزلت عليه البقرة يوم الاثنين في ربيع الاول.
وهذا غريب جدا.
رواه ابن عساكر.
قال الزبير بن بكار: حملت به أمه في أيام التشريق في شعب أبى طالب عند الجمرة الوسطى.
وولد بمكة بالدار المعروفة بدار محمد بن يوسف أخى الحجاج بن يوسف لثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.
ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن عثمان بن عقبة بن مكرم، عن المسيب ابن شريك.
عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء في المحرم، وولد يوم الاثنين لثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل.
وذكر غيره أن الخيزران، وهى أم هارون الرشيد، لما حجت أمرت ببناء هذه الدار مسجدا.
فهو يعرف بها اليوم.
وذكر السهيلي أن مولده عليه الصلاة والسلام كان في العشرين من نيسان.
وهذا أعدل الزمان والفصول، وذلك لسنة اثنتين وثمانين وثمانمائة لذى القرنين فيما ذكر أصحاب الزيج.
وزعموا أن الطالع كان لعشرين درجة من الجدى، وكان المشترى وزحل مقترنين في ثلاث درج من العقرب وهى درجة وسط السماء.
وكان موافقا من البروج الحمل، وكان ذلك عند طلوع القمر أول الليل.
نقله كله ابن دحية والله أعلم.
قال ابن إسحاق: وكان مولده عليه الصلاة والسلام عام الفيل.
وهذا هو المشهور عن الجمهور.
قال إبراهيم بن المنذر الحزامى (1): وهو الذى لا يشك فيه أحد من علمائنا أنه عليه الصلاة والسلام ولد عام الفيل، وبعث على رأس أربعين سنة من الفيل.
وقد رواه البيهقى من حديث أبى إسحاق السبيعى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل.
وقال محمد بن إسحاق: حدثنى المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن أبيه عن جده قيس بن مخرمة، قال ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، كنا لدين (2).
قال: وسأل عثمان رضى الله عنه قباث بن أشيم أخا بنى يعمر بن ليث، أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر منى، وأنا أقدم منه في الميلاد.
ورأيت خزق الفيل (3) أخضر محيلا.
ورواه الترمذي والحاكم من حديث محمد بن إسحاق به.
__________
(1) نسبة إلى جده الاعلى خالد بن حزام.
(2) ابن هشام: فنحن لدان.
(3) خزق الفيل: روثه.
(*)
قال إبن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عكاظ ابن عشرين سنة.
وقال ابن إسحاق: كان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة، وكان بناء الكعبة بعد الفجار بخمس عشرة سنة، والمبعث بعد بنائها بخمس سنين.
وقال محمد بن جبير بن مطعم: كانت عكاط بعد الفيل بخمس عشرة سنة، وبناء الكعبة بعد عكاظ بعشر سنين، والمبعث بعد بنائها بخمس عشرين سنة.
وروى الحافظ البيهقى من حديث عبد العزيز بن أبى ثابت المدينى: حدثنا الزبير ابن موسى، عن أبى الحويرث قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم
الكنانى ثم الليثى: يا قباث أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر منى، وأنا أسن.
ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بى أمي على روث الفيل محيلا أعقله، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثنا نعيم، يعنى ابن ميسرة، عن بعضهم، عن سويد بن غفلة أنه قال: أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدت عام الفيل.
قال البيهقى: وقد روى عن سويد بن غفلة أنه قال: أنا أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين.
قال يعقوب: وحدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا عبد العزيز بن أبى ثابت، حدثنى عبد الله بن عثمان بن أبى سليمان النوفلي، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم.
قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وكانت بعده عكاظ (1) بخمس عشرة سنة،
__________
(1) عكاظ: يوم من أيام العرب.
(*)
وبنى البيت على رأس خمس وعشرين سنة من الفيل، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة من الفيل.
والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل على قول الجمهور.
فقيل بعده بشهر، وقيل بأربعين يوما، وقيل بخمسين يوما، وهو أشهر.
وعن أبى جعفر الباقر: كان قدوم الفيل للنصف من المحرم، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بخمس وخمسين ليلة.
وقال آخرون: بل كان عام الفيل قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين.
قاله ابن أبزى.
وقيل بثلاث وعشرين سنة رواه شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده كما تقدم.
وقيل: بعد الفيل بثلاثين سنة.
قاله موسى بن عقبة عن الزهري رحمه الله.
واختاره موسى بن عقبة أيضا رحمه الله.
وقال أبو زكريا العجلاني: بعد الفيل بأربعين عاما، رواه ابن عساكر وهذا غريب جدا.
وأغرب منه ما قاله خليفة بن خياط: حدثنى شعيب بن حبان، عن عبد الواحد ابن أبى عمرو عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفيل بخمس عشرة سنة.
وهذا حديث غريب ومنكر وضعيف أيضا.
قال خليفة بن خياط: والمجمع عليه أنه عليه السلام ولد عام الفيل.
صفة مولده الشريف عليه الصلاة والسلام قد تقدم أن عبد المطلب لما ذبح تلك الابل المائة عن ولده عبد الله، حين كان نذر ذبحه فسلمه الله تعالى، لما كان قدر في الازل من ظهور النبي الامي صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وسيد ولد آدم من صلبه، ذهب كما تقدم فزوجه أشرف عقيلة في قريش، آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهرية، فحين دخل بها وأفضى إليها حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كانت أم قتال رقيقة بنت نوفل، أخت ورقة بن نوفل، توسمت ما كان بين عينى عبد الله قبل أن يجامع آمنة من النور، فودت أن يكون ذلك متصلا بها لما كانت تسمع من أخيها من البشارات بوجود محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه قد أزف زمانه فعرضت نفسها عليه.
قال بعضهم: ليتزوجها وهو أظهر.
والله أعلم، فامتنع عليها، فلما انتقل ذلك النور الباهر إلى آمنة بمواقعته إياها كأنه ندم على ما كانت عرضت
عليه.
فتعرض لها لتعاوده.
فقالت: لا حاجة لى فيك.
وتأسفت على ما فاتها من ذلك وأنشدت في ذلك ما قدمناه من الشعر الفصيح البليغ.
وهذه الصيانة لعبد الله ليست له وإنما هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال تعالى " الله أعلم حيث يجعل رسالته ".
وقد تقدم الحديث المروى من طريق جيد أنه قال عليه الصلاة والسلام: " ولدت من نكاح لا من سفاح ".
والمقصود أن أمه حين حملت به توفى أبوه عبد الله وهو حمل في بطن أمه على المشهور.
قال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر، هو الواقدي، حدثنا موسى بن عبيدة اليزيدى،
وحدثنا سعيد بن أبى زيد، عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبى صعصعة، قال: خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام إلى غزة في عير من عيران قريش يحملونه تجارات، ففرغوا من تجاراتهم، ثم انصرفوا فمروا بالمدينة، وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض، فقال أتخلف عند أخوالى بنى عدى بن النجار.
فأقام عندهم مريضا شهرا ومضى أصحابه فقدموا مكة، فسألهم عبد المطلب عن ابنه عبد الله، فقالوا: خلفناه عند أخواله بنى عدى بن النجار وهو مريض.
فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث، فوجده قد توفى ودفن في دار النابغة فرجع إلى أبيه فأخبره.
فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجدا شديدا.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حمل، ولعبد الله بن عبد المطلب يوم توفى خمس وعشرون سنة.
قال الواقدي: هذا هو أثبت الاقاويل في وفاة عبد الله وسنه عندنا.
قال الواقدي: وحدثني معمر عن الزهري، أن عبد المطلب بعث عبد الله إلى المدينة يمتار لهم تمرا فمات.
قال محمد بن سعد: وقد أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبى عن أبيه، وعن عوانه بن الحكم.
قالا: توفى عبد الله بن عبد المطلب بعدما أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهرا، وقيل سبعة أشهر.
وقال محمد بن سعد: والاول أثبت، أنه توفى ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل.
وقال الزبير بن بكار: حدثنى محمد بن حسن، عن عبد السلام، عن ابن خربوذ،
قال: توفى عبد الله بالمدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن شهرين، وماتت أمه وهو ابن أربع سنين، ومات جده وهو ابن ثمان سنين فأوصى به إلى عمه أبى طالب.
والذى رجحه الواقدي وكاتبه الحافظ محمد بن سعد أنه عليه الصلاة والسلام توفى أبوه وهو جنين في بطن أمه.
وهذا أبلغ اليتم وأعلى مراتبه.
وقد تقدم في الحديث " ورؤيا أمي الذى رأت حين حملت بى كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ".
وقال محمد بن إسحاق: فكانت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الامة، فإذا وقع إلى الارض فقولي: أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، من كل بر عاهد (1) وكل عبد رائد، يذود عنى ذائد، فإنه عند الحميد الماجد، حتى أراه قد أتى المشاهد.
وآية ذلك أنه يخرج معه نور يملا قصور بصرى من أرض الشام، فإذا وقع فسميه محمدا، فإن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الارض، واسمه في الانجيل أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الارض، واسمه في القرآن محمد.
وهذا وذاك يقتضى أنها رأت حين حملت به عليه السلام كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، ثم لما وضعته رأت عيانا تأويل ذلك كما رأته قبل ذلك هاهنا.
والله أعلم.
__________
(1) الذى في ابن هشام إلى قوله: حاسد.
وهذه الزيادة باختلاف في الوفا والدلائل.
(*)
وقال محمد بن سعد: أنبأنا محمد بن عمر، هو الواقدي، حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم، عن الزهري.
وقال الواقدي: حدثنا موسى بن عبدة، عن أخيه، ومحمد بن كعب القرظى، وحدثني عبد الله بن جعفر الزهري، عن عمته أم بكر بنت المسور عن أبيها.
وحدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم المزني وزياد ابن حشرج، عن أبى وجزة.
وحدثنا معمر، عن أبى نجيح، عن مجاهد.
وحدثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس.
دخل حديث بعضهم في حديث بعض: أن آمنة بنت وهب قالت: لقد علقت به - تعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فما وجدت له مشقة حتى وضعته، فلما فصل منى خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، ثم وقع إلى الارض معتمدا على يديه، ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء.
وقال بعضهم: وقع جاثيا على ركبتيه، وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام وأسواقها، حتى رؤيت أعناق الابل ببصرى، رافعا رأسه إلى السماء.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقى: أنبأنا محمد بن عبد الله الحافظ، وأنبانا محمد بن إسماعيل أنبأنا محمد بن إسحاق، حدثنا يونس بن مبشر بن الحسن، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا عبد العزيز بن عمران حدثنا عبد الله بن عثمان بن أبى سليمان بن جبير بن
مطعم، عن أبيه، عن ابن أبى سويد الثقفى، عن عثمان بن أبى العاص، حدثتني أمي: أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ولدته، قالت: فما شئ أنظره في البيت إلا نور، وإنى أنظر إلى النجوم تدنو حتى إنى لاقول لتقعن على.
وذكر القاضى عياض عن الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف أنها كانت قابلته، وأنها أخبرت به حين سقط على يديها واستهل سمعت قائلا يقول: يرحمك الله.
وإنه سطع منه نور رئيت منه قصور الروم.
قال محمد بن إسحاق: فلما وضعته بعثت إلى عبد المطلب جاريتها، وقد هلك أبوه وهى حبلى، ويقال إن عبد الله هلك والنبى صلى الله عليه وسلم ابن ثمانية وعشرين شهرا، فالله أعلم أي ذلك كان - فقالت: قد ولد لك غلام فانظر إليه.
فلما جاءها أخبرته وحدثته بما كانت رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت أن تسميه.
فأخذه عبد المطلب فأدخله على هبل في جوف الكعبة، فقام عبد المطلب يدعو ويشكر الله عزوجل ويقول: الحمد لله الذى أعطاني * هذا الغلام الطيب الاردان قد ساد في المهد على الغلمان * أعيذه بالبيت ذى الاركان حتى يكون بلغة الفتيان * حتى أراه بالغ البنيان أعيذه من كل ذى شنآن * من حاسد مضطرب العنان ذى همة ليس له عينان * حتى أراه رافع اللسان أنت الذى سميت في القرآن * في كتب ثابتة المثانى * أحمد مكتوب على اللسان * وقال البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبانا أبو بكر محمد بن أحمد بن حاتم الدرابردى (1) - بمرو - حدثنا أبو عبد الله البوشنجى، حدثنا أبو أيوب سليمان بن
سلمة الخبائرى، حدثنا يونس بن عطاء بن عثمان ين ربيعة بن زياد بن الحارث الصدائى بمصر، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس ابن عبد المطلب رضى الله عنه.
قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختونا
__________
(1) كذا ولعلها نسبة إلى دراورد.
(*)
مسرورا.
قال: فأعجب جده عبد المطلب وحظي عنده، وقال: ليكونن لابنى هذا شأن.
فكان له شأن.
وهذا الحديث في صحته نظر.
وقد رواه الحافظ ابن عساكر، من حديث سفيان بن محمد المصيصى، عن هشيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كرامتي على الله أنى ولدت مختونا ولم ير سوأتي أحد ".
ثم أورده من طريق الحسن بن عرفة عن هشيم به.
ثم أورده من طريق محمد بن محمد بن سليمان - هو الباغندى - حدثنا عبد الرحمن ابن أيوب الحمصى، حدثنا موسى بن أبى موسى المقدسي، حدثنى خالد بن سلمة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا مختونا.
وقال أبو نعيم: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفى، حدثنا الحسين بن أحمد بن عبد الله المالكى، حدثنا سليمان بن سلمة الخبائرى، حدثنا يونس بن عطاء، حدثنا الحكم ابن أبان، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختونا مسرورا، فأعجب ذلك جده عبد المطلب وحظي عنده، وقال ليكونن لابنى هذا شأن.
فكان له شأن.
وقد ادعى بعضهم صحته لما ورد له من الطرق، حتى زعم بعضهم أنه متواتر.
وفى هذا كله نظر.
ومعنى مختونا: أي مقطوع الختان.
ومسرورا: أي مقطوع السرة من بطن أمه.
وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن عيينة البصري، حدثنا على ابن محمد المدائني السلمى، حدثنا سلمة بن محارب بن مسلم بن زياد، عن أبيه، عن أبى بكرة، أن جبريل ختن النبي صلى الله عليه وسلم حين طهر قلبه.
وهذا غريب جدا.
وقد روى أن جده عبد المطلب ختنه وعمل له دعوة جمع قريشا عليها.
والله أعلم.
وقال البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأني محمد بن كامل القاضى - شفاها - أن محمد بن إسماعيل حدثه - يعنى السلمى - حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثنى معاوية بن صالح، عن أبى الحكم التنوخى.
قال: كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة من قريش إلى الصبح يكفأن عليه برمة، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه عبد المطلب إلى نسوة فكفأن عليه برمة، فلما أصبحن أتين فوجدن البرمة قد انفلقت عنه باثنتين، ووجدنه مفتوح العينين شاخصا ببصره إلى السماء.
فأتاهن عبد المطلب فقلن له: ما رأينا مولودا مثله، وجدناه قد انفلقت عنه البرمة، ووجدناه مفتوحا عينيه شاخصا ببصره إلى السماء.
فقال: احفظنه فإنى أرجو أن يكون له شأن، أو أن يصيب خيرا.
فلما كان اليوم السابع ذبح عنه ودعا له قريشا، فلما أكلوا قالوا: يا عبد المطلب، أرأيت ابنك هذا الذى أكرمتنا على وجهه، ما سميته ؟ قال: سميته محمدا.
قالوا: فما رغبت به عن أسماء أهل بيته ؟ قال: أردت أن يحمده الله في السماء وخلقه في الارض.
قال أهل اللغة: كل جامع لصفات الخير يسمى محمدا، كما قال بعضهم:
إليك - أبيت اللعن - أعملت ناقتي * إلى الماجد القرم الكريم المحمد
وقال بعض العلماء: ألهمهم الله عزوجل أن سموه محمدا لما فيه من الصفات الحميدة، ليلتقي الاسم والفعل، ويتطابق الاسم والمسمى في الصورة والمعنى، كما قال عمه أبو طالب، ويروى لحسان: وشق له من إسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد وسنذكر أسماءه عليه الصلاة والسلام وشمائله، وهى صفاته الظاهرة وأخلاقه الطاهرة ودلائل نبوته وفضائل منزلته في آخر السيرة إن شاء الله.
قال الحافظ أبو بكر البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن شيبان الرملي، حدثنا أحمد بن إبراهيم الحبلى، حدثنا الهيثم ابن جميل، حدثنا زهير، عن محارب بن دثار، عن عمرو بن يثربى، عن العباس بن عبد المطلب، قال قلت: يا رسول الله، دعاني إلى الدخول في دينك أمارة لنبوتك، رأيتك في المهد تناغى القمر وتشير إليه بإصبعك، فحيث أشرت إليه مال.
قال: " إنى كنت أحدثه ويحدثني ويلهينى عن البكاء، واسمع وجبته حين يسجد تحت العرش ".
ثم قال: تفرد به [ أحمد بن إبراهيم الحبلى ] وهو مجهول (1).
فصل فيما وقع من الآيات ليلة مولده عليه الصلاة والسلام قد ذكرنا في باب هواتف الجان ما تقدم من خرور كثير من الاصنام ليلتئذ لوجوهها وسقوطها عن أماكنها، وما رآه النجاشي ملك الحبشة، وظهور النور معه
__________
(1) الاصل: تفرد به الليثى.
وما أثبته عن الخصائص.
وليس في السند الليثى.
وهذا الخبر أخرجه أيضا الخطيب وابن عساكر في تاريخهما.
وهو غريب الاسناد والمتن (*)
حتى أضاءت له قصور الشام حين ولد، وما كان من سقوطه جاثيا رافعا رأسه إلى السماء، وانفلاق تلك البرمة عن وجهه الكريم، وما شوهد من النور في المنزل الذى ولد فيه ودنو النجوم منهم وغير ذلك.
حكى السهيلي عن تفسير بقى بن مخلد الحافظ، أن إبليس رن أربع رنات: حين لعن، وحين أهبط، وحين ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين أنزلت الفاتحة.
قال محمد بن إسحاق: وكان هشام بن عروة يحدث عن أبيه عن عائشة قالت: كان يهودى قد سكن مكة يتجر بها، فلما كانت الليلة التى ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس قريش: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود ؟ فقال القوم: والله ما نعلمه.
فقال الله أكبر، أما إذا أخطأكم فلا بأس، انظروا واحفظوا ما أقول لكم: ولد هذه الليلة نبى هذه الامة الاخيرة، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس، لا يرضع ليلتين، وذلك أن عفريتا من الجن أدخل أصبعه في فمه فمنعه الرضاع.
فتصدع القوم من مجلسهم وهم يتعجبون ؟ ؟ من قوله وحديثه، فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله فقالوا: قد والله ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا.
فالتقى القوم فقالوا: هل سمعتم حديث اليهودي وهل بلغكم مولد هذا الغلام ؟ فانطلقوا حتى جاءوا اليهودي فأخبروه الخبر.
قال فاذهبوا معى حتى أنظر إليه.
فخرجوا به حتى أدخلوه على آمنة فقالوا: أخرجي إلينا ابنك.
فأخرجته وكشفوا له عن ظهره.
فرأى تلك الشامة، فوقع اليهودي مغشيا عليه، فلما أفاق قالوا له: مالك ويلك ؟ قال: قد ذهبت والله
النبوة من بنى إسرائيل، فرحتم بها يا معشر قريش ؟ والله ليسطون بكم سطوة يخرج
خبرها من المشرق والمغرب (1).
وقال محمد بن إسحاق: حدثنى صالح بن إبراهيم [ بن عبد الرحمن بن عوف ] (2) عن يحيى [ بن عبد الله ] (2) بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قال: حدثنى من شئت من رجال قومي [ ممن لا أتهم ] (3) عن حسان بن ثابت.
قال: إنى لغلام يفعة ابن سبع سنين - أو ثمان، أعقل ما رأيت وسمعت (4) إذا بيهودي في يثرب يصرخ ذات غداة: يا معشر يهود.
فاجتمعوا إليه - وأنا أسمع - فقالوا ويلك مالك ؟ قال: قد طلع نجم أحمد الذى يولد به في هذه الليلة.
وروى الحافظ أبو نعيم في كتاب " دلائل النبوة " من حديث أبى بكر بن عبد الله العامري، عن سليمان بن سحيم وذريح (5) بن عبد الرحمن، كلاهما عن عبد الرحمن ابن أبى سعيد عن أبيه، قال: سمعت أبى مالك بن سنان يقول: جئت بنى عبد الاشهل يوما لاتحدث فيهم، ونحن يومئذ في هدنة من الحرب، فسمعت يوشع اليهودي يقول: أظل خروج نبى يقال له أحمد يخرج من الحرم.
فقال له خليفة بن ثعلبة الاشهلى، كالمستهزئ به: ما صفته ؟ فقال رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يلبس الشملة ويركب الحمار، سيفه على عاتقه وهذا البلد مهاجره.
قال: فرجعت إلى قومي
__________
(1) كان الرسول نبى رحمة ولم يكن نبى عذاب، " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " لذلك لابد من الاحتراس في فهم هذه النصوص التى تكررت مثل قوله فيما سبق: ولهم آخر الزمان نبى * يكثر القتل فيهم والخموشا ولعلها من تزيد الرواة.
(2) سقطت من المطبوعة.
(3) ليست في ابن هشام.
(4) ابن هشام: " أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب: يا معشر يهود حتى إذا اجتمعوا إليه.." وهذا مثل على عدم التزام المؤلف للنص فيما ينقل.
(5) دلائل النبوة: ورميح بن عبد الرحمن (*)
بنى خدرة وأنا يومئذ أتعجب مما يقول يوشع، فأسمع رجلا منا يقول: ويوشع يقول هذا وحده ؟ ! كل يهود يثرب يقولون هذا.
قال أبى مالك بن سنان: فخرجت حتى جئت بنى قريظة فأجد جمعا، فتذاكروا النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الاحمر الذى لم يطلع إلا لخروج نبى أو ظهوره، ولم يبق أحد إلا أحمد، وهذا مهاجره.
قال أبو سعيد: فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أبى هذا الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أسلم الزبير لاسلم ذووه من رؤساء اليهود، إنما هم له تبع ".
وقال أبو نعيم: حدثنا عمر بن محمد، حدثنا إبراهيم بن السندي، حدثنا النضر بن سلمة، حدثنا إسماعيل بن قيس بن سليمان بن زيد بن ثابت، عن إبراهيم بن يحيى بن ثابت، سمعت زيد بن ثابت يقول: كان أحبار يهود بنى قريظة والنضير يذكرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طلع الكوكب الاحمر أخبروا أنه نبى وأنه لا نبى بعده، واسمه أحمد ومهاجره إلى يثرب، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنكروا وحسدوا وكفروا.
وقد أورد هذه القصة الحافظ أبو نعيم في كتابه من طرق أخرى ولله الحمد.
وقال أبو نعيم ومحمد بن حبان: حدثنا أبو بكر بن أبى عاصم، حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد، قال: قال زيد بن عمرو بن نفيل: قال لى حبر من أحبار الشام: قد خرج في بلدك نبى، أو هو خارج، قد خرج نجمه، فارجع فصدقه واتبعه.
ذكر ارتجاس الايوان وسقوط الشرفات، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، وغير ذلك من الدلالات قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب هواتف الجان:
حدثنا على بن حرب، حدثنا أبو أيوب يعلى بن عمران، من آل جرير بن عبد الله البجلى، حدثنى مخزوم بن هانئ المخزومى، عن أبيه - وأتت عليه خمسون ومائة سنة - قال: لما كانت الليلة التى ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة.
ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادهم، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك فتصبر عليه تشجعا، ثم رأى أنه لا يدخر ذلك عن مرازبته، فجمعهم ولبس تاجه وجلس على سريره.
ثم بعث إليهم فلما اجتمعوا عنده.
قال: أتدرون فيم بعثت إليكم ؟ قالوا: لا إلا أن يخبرنا الملك.
فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب خمود النيران فازداد غما إلى غمه، ثم أخبرهم بما رأى وما هاله.
فقال الموبذان: وأنا، أصلح الله الملك، قد رأيت في هذه الليلة رؤيا.
ثم قص عليه رؤياه في الابل.
فقال: أي شئ يكون هذا يا موبذان ؟ قال: حدث يكون في ناحية العرب.
وكان أعلمهم من أنفسهم.
فكتب عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر، أما بعد فوجه إلى برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه.
فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة (1).
الغساني، فلما ورد عليه قال له: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه ؟ فقال: لتخبرنى أو ليسلني الملك عما أحب، فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلم.
فأخبره بالذى
__________
(1) المطبوعة: نفيلة وهو خطأ.
(*)
وجه به إليه فيه.
قال: علم ذلك عند خال لى يسكن مشارف الشام يقال له سطيح.
قال فائته فاسأله عما سألتك عنه ثم ائتنهى بتفسيره.
فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح وقد أشفى على الضريح، فسلم عليه وكلمه
فلم يرد إليه سطيح جوابا فأنشأ يقول: أصم أم يسمع غطريف اليمن * أم فاد فازلم به شأو العنن (1) يا فاصل الخطة أعيت من ومن * أتاك شيخ الحى من آل سنن وأمه من آل ذئب بن حجن * أزرق نهم الناب صرار الاذن (2) أبيض فضفاض الرداء والبدن * رسول قيل العجم يسرى للوسن (3) تجوب بى الارض علنداة شزن * لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن (4) ترفعني وجنا وتهوى بى وجن * حتى أتى عارى الجآجى والقطن (5)
__________
(1) فاد: مات.
قال: رعى خرزات الملك عشرين حجة * وعشرين حتى فاد والشيب شامل وازلم: ذهب مسرعا.
والاصل فيه ازلام فحذفت الهمزة تخفيفا.
وقيل: أصلها ازلام، كاشهاب فحذفت الالف تخفيفا أيضا.
وشأو العنن: اعتراض الموت على الخلق.
وقيل: ازلم: قبض.
والعنن: الموت.
أي عرض له الموت فقبضه.
وقد تصحفت الرواية في النهاية: أن فار.
انظر النهاية 2 / 139.
(2) صرار الاذن: ينصبها للاستماع.
(3) وتروى: ينمى للوسن.
والوسن: أول النوم.
(4) العلنداة: القوية من النوق.
والشزن: التى تمشى من نشاطها على جانب.
شزن فلان إذا نشط.
وقيل: الشزن: المعي من الحفاء.
هذا والمشهور في رواية البيت: تجوب بى الارض علنداة شزن * ترفعني وجنا وتهوى بى وجن أما الشطر الثاني هنا فيروى: رسول قيل العجم ينمى للوسن * لا يرهب الوغد ولا ريب الزمن (5) الوجن بفتح فسكون وبفتحتين: الارض الغليظة الصلبة.
ويروى بالضم جمع وجين.
والجآجى: جمع جؤجؤ، وهو عظام الصدر.
والقطن بفتح الطاء: أسفل الظهر.
وقيل: الصواب القطن بكسر
الطاء جمع قطنة وهى ما بين الفخذين.
(*)
تلفه في الريح بوغاء الدمن * كأنما حثحث من حضنى ثكن (1) قال: فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه يقول: عبد المسيح، على جمل مشيح، أتى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بنى ساسان، لارتجاس الايوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها.
يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادى السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما.
يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات وكلما هو آت آت.
ثم قضى سطيح مكانه.
فنهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول: شمر فإنك ماضى العزم شمير * لا يفزعنك تفريق وتغيير إن يمس ملك بنى ساسان أفرطهم * فإن ذا الدهر أطوار دهارير فربما ربما اضحوا بمنزلة * يخاف صولهم الاسد المهاصير منهم أخو الصرح بهرام وإخوته * والهرمزان وسابور وسابور والناس أولاد علات فمن علموا * أن قد أقل فمحقور ومهجور ورب قوم لهم صحبان ذى أذن * بدت تلهيهم فيه المزامير وهم بنو الام إما إن رأوا نشبا * فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
__________
(1) البوغاء: التراب الناعم.
والدمن: ما تدمن منه، أي تجمع وتلبد.
وتشهد له الرواية الاخرى: * تلفحه الريح ببوغاء الدمن * وحثحث: حرك.
والثكن: جبل.
وقد وردت هذه القصة في لسان العرب 3 / 312، وفى الاكتفا للكلاعي بتحقيقي باختلاف وزيادة ونقص قال الازهرى وهو حديث حسن غريب.
(*)
والخير والشر مقرونان في قرن * فالخير متبع والشر محذور قال: فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بما قال له سطيح، فقال كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا كانت أمور وأمور ! فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضى الله عنه.
ورواه البيهقى من حديث عبد الرحمن بن محمد بن إدريس، عن على بن حرب الموصلي بنحوه.
قلت: كان آخر ملوكهم - الذى سلب منه الملك يزدجرد بن شهريار بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان وهو الذى انشق الايوان في زمانه.
وكان لاسلافه في الملك ثلاثة آلاف سنة ومائة وأربعة وستون سنة.
وكان أول ملوكهم جيومرت (1) بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح [ وقد تقدم ترجمة شق وسطيح في أخبار أهل اليمن ] (2).
أما سطيح هذا فقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه: هو الربيع بن ربيعة بن مسعود ابن مازن بن ذئب بن عدى بن مازن بن الازد.
ويقال الربيع بن مسعود وأمه ردعا بنت سعد بن الحارث الحجورى.
وذكر غير ذلك في نسبه.
قال: وكان يسكن الجابية.
ثم روى عن أبى حاتم السجستاني قال: سمعت المشيخة منهم أبو عبيدة وغيره قالوا: وكان من بعد لقمان بن عاد.
ولد في زمن سيل العرم وعاش إلى ملك ذى نواس وذلك نحو من ثلاثين قرنا، وكان مسكنه البحرين وزعمت عبد القيس أنه منهم وتزعم الازد أنه منهم وأكثر المحدثين يقولون هو من الازد ولا ندرى ممن هو غير أن ولده يقولون إنه من الازد.
__________
(1) ويقال له: كيومرث.
؟ في ط: خيومرث (2) من المخطوطة ا.
(3) من هنا إلى قوله وقال أبو نعيم مكتوب بحاشية الحلبية لم يرد في النسخة ا واكتفى بقوله: وقد تقدم..(*)
وروى عن ابن عباس أنه قال: لم يكن شئ من بنى آدم يشبه سطيحا، إنما كان لحما على وضم ليس فيه عظم ولا عصب إلا في رأسه وعينيه وكفيه، وكان يطوى كما يطوى الثوب من رجليه إلى عنقه، ولم يكن فيه شئ يتحرك إلا لسانه.
وقال غيره: إنه كان إذا غضب انتفخ وجلس.
ثم ذكر ابن عباس أنه قدم مكة فتلقاه جماعة من رؤسائهم منهم عبد شمس وعبد مناف أبناء قصى، فامتحنوه في أشياء فأجابهم فيها بالصدق، فسألوه عما يكون في آخر الزمان، فقال: خذوا منى ومن إلهام الله إياى: أنتم الآن يا معشر العرب في زمان الهرم، سواء بصائركم وبصائر العجم، لا علم عندكم ولا فهم، وينشو من عقبكم ذوو فهم، يطلبون أنواع العلم فيكسرون الصنم، ويتبعون الردم، ويقتلون العجم، يطلبون الغنم.
ثم قال: والباقى الابد، والبالغ الامد ليخرجن من ذا البلد، نبى مهتد، يهدى إلى الرشد، يرفض يغوث والفند، يبرأ عن عبادة الضد، يعبد ربا انفرد، ثم يتوفاه الله بخير دار محمودا، من الارض مفقودا، وفي السماء مشهودا، ثم يلى أمره الصديق، إذا قضى صدق، وفي رد الحقوق لا خرق ولا نزق، ثم يلى أمره الحنيف، مجرب غطريف، قد أضاف المضيف، وأحكم التحنيف.
ثم ذكر عثمان ومقتله وما يكون بعد ذلك من أيام بنى أمية ثم بنى العباس.
وما بعد ذلك من الفتن والملاحم.
ساقه ابن عساكر بسنده عن ابن عباس بطوله.
وقد قدمنا قوله لربيعة بن نصر ملك اليمن حين أخبره برؤياه قبل أن يخبره بها، ثم ما يكون في بلاد اليمن من الفتن وتغيير الدول، حتى يعود إلى سيف بن ذى يزن فقال له: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع ؟ قال: بل ينقطع.
قال: ومن يقطعه ؟ قال نبى زكى
يأتيه الوحى من قبل العلى.
قال: وممن هذا النبي ؟ قال: من ولد غالب بن فهر، بن مالك
ابن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر.
قال: وهل للدهر من آخر ؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الاولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون.
قال أحق ما تخبرني ؟ قال: نعم والشفق والغسق والقمر إذا اتسق إن ما أنبأتك عليه لحق.
ووافقه على ذلك شق سواء بسواء بعبارة أخرى كما تقدم.
ومن شعر سطيح قوله: عليكم بتقوى الله في السر والجهر * ولا تلبسوا صدق الامانة بالغدر وكونوا لجار الجنب خصنا وجنة * إذا ما عرته النائبات من الدهر وروى ذلك الحافظ ابن عساكر، ثم أورد ذلك المعافى بن زكريا الجريرى فقال: وأخبار سطيح كثيرة وقد جمعها غير واحد من أهل العلم.
والمشهور أنه كان كاهنا، وقد أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن نعته ومبعثه.
وروى لنا بإسناد الله به أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن سطيح فقال: " نبى ضيعه قومه ".
قلت: أما هذا الحديث فلا أصل له في شئ من كتب الاسلام المعهودة، ولم أره بإسناد أصلا، ويروى مثله في خبر خالد بن سنان العبسى ولا يصح أيضا.
وظاهر هذه العبارات تدل على علم جيد لسطيح، وفيها روائح التصديق، لكنه لم يدرك الاسلام كما قال الجريرى.
فإنه قد ذكرنا في هذا الاثر أنه قال لابن أخته: يا عبدالمسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادى السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت.
ثم قضى سطيح مكانه وكان ذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر - أو شيعه (1) - أي أقل منه.
*
__________
(1) المطبوعة: أوشية.
وهو تحريف.
(*)
وكانت وفاته بأطراف الشام مما يلى أرض العراق.
فالله أعلم بأمره وما صار إليه.
وذكر ابن طرار الجريرى (1) أنه عاش سبعمائة سنة.
وقال غيره خمسمائة سنة، وقيل ثلاثمائة سنة فالله أعلم.
وقد روى ابن عساكر أن ملكا سأل سطيحا عن نسب غلام اختلف فيه، فأخبره على الجلية في كلام طويل مليح فصيح.
فقال له الملك يا سطيح ألا تخبرني عن علمك هذا ؟ فقال: إن علمي هذا ليس منى ولا بجزم ولا بظن، ولكن أخذته عن أخ لى قد سمع الوحى بطور سيناء.
فقال له أرأيت أخاك هذا الجنى أهو معك لا يفارقك ؟ فقال: إنه ليزول حيث أزول، ولا أنطلق إلا بما يقول.
وتقدم أنه ولد هو وشق بن مصعب بن يشكر بن رهم بن بسر بن عقبة الكاهن الآخر، ولدا في يوم واحد، فحملا إلى الكاهنة طريفة بنت الحسين الحميدية فتفلت في أفواههما فورثا منها الكهانة، وماتت من يومها.
وكان نصف إنسان ويقال إن خالد بن عبد الله القسرى من سلالته، وقد مات شق قبل سطيح بدهر.
وأما عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة (2) الغساني النصراني فكان من المعمرين.
وقد ترجمه الحافظ بن عساكر في تاريخه وقال هو الذى صالح خالد بن الوليد على [ الحيرة (3) ] وذكر له معه قصة طويلة وأنه أكل من يده سم ساعة فلم يصبه سوء، لانه لما أخذه قال: بسم الله وبالله رب الارض والسماء الذى لا يضر مع اسمه أذى.
ثم أكله
__________
(1) ابن طرار الجريرى: هو الامام المشهور أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريرى النهرواني.
وقد ذكره ابن كثير قريبا باسمه.
اللباب 1 / 224.
(2) المطبوعة: نفيلة.
وهو خطأ.
(3) سقطت من الاصل وهى من الاشتقاق لابن دريد 485.
(*)
فعلته غشية فضرب بيديه على صدره، ثم عرق وأفاق رضى الله عنه وذكر لعبد المسيح أشعارا غير ما تقدم (1).
وقال أبو نعيم: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا محمد بن عثمان بن أبى شيبة، حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا المسيب بن شريك، حدثنا محمد بن شريك، عن شعيب بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: كان بمر الظهران راهب من الرهبان يدعى عيصا من أهل الشام، وكان متخفرا بالعاص بن وائل، وكان الله قد آتاه علما كثيرا وجعل فيه منافع كثيرة لاهل مكة من طيب ورفق وعلم.
وكان يلزم صومعة له ويدخل مكة في كل سنة فيلقى الناس ويقول: إنه يوشك أن أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة يدين له العرب ويملك العجم، هذا زمانه، ومن أدركه واتبعه أصاب حاجته، ومن أدركه فخالفه أخطأ حاجته، وبالله ما تركت أرض الخمر والخمير والامن ولا حللت بأرض الجوع والبؤس والخوف إلا في طلبه.
وكان لا يولد بمكة مولد إلا يسأل عنه، فيقول ما جاء بعد.
فيقال له: فصفه.
فيقول لا.
ويكتم ذلك للذى قد علم أنه لاق من قومه، مخافة على نفسه أن يكون ذلك داعية إلى أدنى ما يكون إليه من الاذى يوما.
ولما كان صبيحة اليوم الذى ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عبد الله ابن عبد المطلب حتى أتى عيصا، فوقف في أصل صومعته ثم نادى: يا عيصاه.
فناداه من هذا ؟ فقال: أنا عبد الله.
فأشرف عليه فقال: كن أباه فقد ولد المولود الذى كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث يوم الاثنين، ويموت الاثنين.
__________
(1) إلى هنا آخر الحاشية التى أثبتتها المطبوعة عن النسخة الحلبية (*)
قال: فإنه قد ولد لى مع الصبح مولود.
قال فما سميته ؟ قال: محمدا قال: والله لقد كنت أشتهى أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال نعرفه بها، منها أن نجمه طلع البارحة، وأنه ولد اليوم، وأن اسمه محمد.
انطلق إليه فإن الذى كنت أخبركم عنه ابنك.
قال فما يدريك أنه ابني ؟ ولعله أن يولد في هذا اليوم مولود غيره ؟ قال: قد وافق ابنك الاسم، ولم يكن الله ليشبه علمه على العلماء فإنه حجة.
وآية ذلك أنه الآن وجع فيشتكى أياما ثلاثة، فيظهر به الجوع ثلاثا ثم يعافى.
فاحفظ لسانك، فإنه لم يحسد أحد حسده قط، ولم يبغ على أحد كما يبغى عليه، إن تعش حتى يبدو مقاله ثم يدعو لظهر لك من قومك ما لا تحتمله إلا على صبر وعلى ذل، فاحفظ لسانك ودار عنه.
قال: فما عمره ؟ قال: إن طال عمره وإن قصر لم يبلغ السبعين، يموت في وتر دونها من الستين في إحدى وستين أو ثلاث وستين في أعمار جل أمته.
قال: وحمل برسول الله صلى الله عليه وسلم في عاشر المحرم.
وولد يوم الاثنين لثنتى عشرة خلت من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل.
هكذا رواه أبو نعيم (1) وفيه غرابة.
ذكر حواضنه ومراضعه عليه الصلاة والسلام كانت أم أيمن واسمها بركة تحضنه، وكان قد ورثها عليه الصلاة والسلام من أبيه فلما كبر أعتقها وزوجها مولاه زيد بن حارثة، فولدت له أسامة بن زيد رضى الله عنهم.
وأرضعته مع أمه عليه الصلاة والسلام مولاة عمه أبى لهب ثويبة قبل حليمة السعدية.
__________
(1) ورواه أيضا ابن عساكر (*)
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديت الزهري عن عروة بن الزبير، عن
زينب بنت أم سلمة، عن أم حبيبة بنت أبى سفيان، قالت: يا رسول الله انكح أختى بنت أبى سفيان ولمسلم: " عزة بنت أبى سفيان ".
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أو تحبين ذلك ؟ " قلت: نعم لست لك بمخلية وأحب من شاركني في خير أختى.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فإن ذلك لا يحل لى ".
قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبى سلمة، وفى رواية: " درة بنت أبى سلمة " قال: " بنت أم سلمة ؟ " قلت: نعم.
قال: " إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لى، إنها لابنة أخى من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثوبية، فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن ".
زاد البخاري: قال عروة: وثويبة مولاة لابي لهب أعتقها فأرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر خيبة، فقال له: ماذا لقيت ؟ فقال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيرا، غير أنى سقيت في هذه بعتاقتى ثويبة.
أشار إلى النقرة التى بين الابهام والتى تليها من الاصابع.
وذكر السهيلي وغيره: أن الرائى له هو أخوه العباس.
وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبى لهب بعد وقعة بدر.
وفيه إن أبا لهب قال للعباس: إنه ليخفف على في مثل يوم الاثنين.
قالوا: لانه لما بشرته ثويبة بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد الله أعتقها من ساعته، فجوزي بذلك لذلك.
ذكر رضاعه عليه الصلاة والسلام من حليمة بنت أبى ذؤيب السعدية وما ظهر عليه من البركة وآيات النبوة
قال محمد بن إسحاق: فاسترضع له عليه الصلاة والسلام من حليمة بنت أبى ذؤيب، واسمه عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة [ بن فصية بن نصر ] (1) ابن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة (2) بن قيس عيلان ابن مضر.
قال: واسم أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى أرضعه - يعنى زوج حليمة.
الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن.
وإخوته عليه الصلاة والسلام من الرضاعة: عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وخدامة (3) بنت الحارث، وهى الشيماء، وذكروا أنها كانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه إذ كان عندهم.
قال ابن إسحاق: وحدثني جهم بن أبى جهم [ مولى لامرأة من بنى تميم كانت عند الحارث بن حاطب، ويقال له ] (4) مولى الحارث بن حاطب، قال: حدثنى من سمع عبد الله بن جعفر بن أبى طالب قال: حدثت عن حليمة بنت الحارث أنها قالت: قدمت مكة في نسوة - وذكر الواقدي بإسناده أنهن كن عشرة نسوة من بنى سعد بن بكر يلتمسن بها الرضعاء - من بنى سعد نلتمس بها الرضعاء في سنة شهباء (5)، فقدمت
__________
(1) من ابن هشام.
(2) المطبوعة: حفصة، وهو خطأ.
(3) قال السهيلي: وقال غيره حذافة بالحاء المضمومة وبالفاء مكان الميم.
(4) ليست في ابن هشام.
(5) شهباء: مجدبة.
(*)
على أتان لى قمراء كانت أذمت بالركب (1)، ومعى صبى لنا، وشارف لنا والله ما تبض (2) بقطرة، وما ننام لينا ذلك أجمع مع صبينا ذاك، ما نجد (3) في ثدى ما يغنيه ولا في شارفنا ما يغذيه، ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتانى تلك فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا.
فقدمنا مكة، فو الله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل إنه يتيم، تركناه قلنا: ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه ؟ إنما نرجو المعروف من أبى الولد، فأما أمه فماذا عسى أن تصنع إلينا ! فو الله ما بقى من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعا غيرى.
فلما لم نجد غيره وأجمعنا الانطلاق قلت لزوجي الحارث بن عبد العزى: والله إنى لاكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معى رضيع، لانطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه.
فقال: لا عليك أن تفعلي، فعسى أن يجعل الله لنا فيه بركة.
فذهبت فأخذته، فوالله ما أخذته إلا أنى لم أجد غيره.
فما هو إلا أن أخذته فجئت به رحلى فأقبل عليه ثدياى بما شاء من لبن، فشرب حتى روى وشرب أخوه حتى روى، وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا، فبتنا بخير ليلة.
__________
(1) القمراء التى يميل لونها إلى الخضرة.
وقد ذكرها السهيلي أولا: أذممت وقال: تريد أنها حبستهم وكأنه من الماء الدائم وهو الواقف.
ويروى: " حتى أذمت " أي أذمت الاتان أي جاءت بما تذم عليه " والمعنى أنها أبطأت عليهم حتى حبستهم.
(2) ما تبض: ما ترشح.
(3) العجب أن ابن كثير رحمه الله يعدل عن لفظ ابن إسحاق ويخلطه بما يفسد المعنى، ولو أنه أثبته بنصه لكفى وأغنى، وإليك نص ابن إسحاق: " وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذى معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديى...الخ " ولو ذهبنا نتتبع مفارقات المؤلف في نقله عن ابن إسحاق لطال بنا الامر، ويكفى أن نعلم أن ابن كثير يخلص المعنى بعبارته ويزيد ويحذف ولا يلتزم النص إلا قليلا.
(*)
فقال صاحبي حين أصبحنا: يا حليمة والله إنى لاراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم ترى ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه ؟ ! فلم يزل الله عزوجل يزيدنا خيرا.
ثم خرجنا راجعين إلى بلادنا فو الله لقطعت أتانى بالركب حتى ما يتعلق بها حمار، حتى أن صواحبي ليقلن: ويلك يا بنت أبى ذؤيب ! هذه أتانك التى خرجت عليها معنا ؟ فأقول: نعم والله إنها لهى.
فيقلن: والله إن لها لشأنا.
حتى قدمنا أرض بنى سعد، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فإن كانت غنمي لتسرح ثم تروح شباعا لبنا فنحلب ما شئنا، وما حوالينا أو حولنا أحد تبض له شاة بقطرة لبن، وإن أغنامهم لتروح جياعا، حتى إنهم ليقولون لرعاتهم أو لرعيانهم: ويحكم انظروا حيث تسرح غنم بنت أبى ذؤيب فاسرحوا معهم.
فيسرحون مع غنمي حيث تسرح، فتروح أغنامهم جياعا ما فيها قطرة لبن، وتروح أغنامي شباعا لبنا نحلب ما شئنا.
فلم يزل الله يرينا البركة نتعرفها.
حتى بلغ سنتين فكان يشب شبابا لا تشبه الغلمان، فو الله ما بلغ السنتين حتى كان غلاما جفرا (1) فقدمنا به على أمه ونحن أضن شئ به مما رأينا فيه من البركة، فلما رأته أمه، قلت لها: دعينا نرجع بابننا هذه السنة الاخرى، فإنا نخشى عليه وباء مكة.
فو الله مازلنا بها حتى قالت: نعم.
فسرحته معنا فأقمنا به شهرين أو ثلاثة.
فبينما هو خلف بيوتنا مع أخ له من الرضاعة في بهم لنا جاء أخوه ذلك يشتد، فقال: ذاك أخى القرشى جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه.
__________
(1) الجفر: الغليظ.
(*)
فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه، فنجده قائما منتقعا لونه، فاعتنقه أبوه وقال: يا بنى ما شأنك ؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، أضجعاني وشقا بطني، ثم استخرجا منه شيئا فطرحاه ثم رداه كما كان.
فرجعنا به معنا، فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب فانطلقي بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف.
قالت حليمة:
فاحتملناه فلم ترع أمه إلا به، فقدمنا به عليها فقالت: ما رد كما به ياظئر، فقد كنتما عليه حريصين ؟ فقالا: لا والله، إلا أن الله قد أدى عنا وقضينا الذى علينا وقلنا نخشى الاتلاف والاحداث نرده إلى أهله.
فقالت: ما ذاك بكما، فاصدقاني شأنكما.
فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره، فقالت: أخشيتما عليه الشيطان ؟ ! كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، والله إنه لكائن لابنى هذا شأن، ألا أخبركما خبره ؟ قلنا: بلى.
قالت: حملت به فما حملت حملا قط أخف منه (1)، فأريت في النوم حين حملت به كأنه خرج منى نور أضاءت له قصور الشام، ثم وقع حين ولدته وقوعا ما يقعه المولود، معتمدا على يديه رافعا رأسه إلى السماء، فدعاه عنكما.
وهذا الحديث قد روى من طرق أخر، وهو من الاحاديث المشهورة المتداولة بين أهل السير والمغازى.
وقال الواقدي: حدثنى معاذ بن محمد، عن عطاء بن أبى رباح، عن ابن عباس، قال: خرجت حليمة تطلب النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجدت البهم تقيل، فوجدته مع أخته فقالت: في هذا الحر ؟ فقالت أخته: يا أمه ما وجد أخى حرا، رأيت غمامة تظل عليه، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، حتى انتهى إلى هذا الموضع.
وقال ابن إسحاق: حدثنى ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا له: أخبرنا عن نفسك.
قال: " نعم أنا دعوة أبى إبراهيم
__________
(1) يوهم ذلك أنها حملت بغيره، وهو غير ثابت.
(*)
وبشرى عيسى عليهما السلام، ورأت أمي حين حملت بى أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، واسترضعت في بنى سعد بن بكر، فبينا أنا في بهم لنا أتانى رجلان عليهما ثياب بيض معهما طست من ذهب مملوء ثلجا، فأضجعاني فشقا بطني ثم استخرجا قلبى فشقاه فأخرجا منه علقة سوداء فألقياها، ثم غسلا قلبى وبطني بذلك الثلج، حتى إذا أنقياه
رداه كما كان، ثم قال أحدهما لصاحبه.
زنه بعشرة من أمته.
فوزننى بعشرة فوزنتهم، ثم قال: زنه بمائة من أمته.
فوزننى بمائة فوزنتهم.
ثم قال زنه بألف من أمته.
فوزننى بألف فوزنتهم، فقال: دعه عنك، فو وزنته بأمته لوزنهم ".
وهذا إسناد جيد قوى.
وقد روى أبو نعيم الحافظ في الدلائل من طريق عمر بن الصبح، وهو أبو نعيم، عن ثور بن يزيد، عن مكحول، عن شداد بن أوس هذه القصة مطولة جدا، ولكن عمر بن صبح هذا متروك كذاب متهم بالوضع.
فلهذا لم نذكر لفظ الحديث إذ لا يفرح به.
ثم قال: وحدثنا أبو عمرو بن حمدان، حدثنا الحسن بن نفير، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا بقية بن الوليد، عن بحير بن سعيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن ابن عمرو السلمى، عن عتبة بن عبد الله، أنه حدثه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله ؟ قال: " كانت حاضنتى من بنى سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ معنا زادا، فقلت: يا أخى اذهب فائتنا بزاد من عند أمنا.
فانطلق أخى ومكثت عند البهم، فأقبل طائران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصحابه: أهو هو ؟ فقال نعم ! فأقبلا يبتدراني، فأخذاني فبطحاني للقفا فشفا بطني ثم استخرجا قلبى فشقاه، فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه:
ائتنى بماء ثلج.
فغسلا به جوفى.
ثم قال: ائتنى بماء برد.
فغسلا به قلبى.
ثم قال: ائتنى بالسكينة فذرها في قلبى.
ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه.
فخاطه وختم على قلبى بخاتم النبوة، فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفة واجعل ألفا من أمته في كفة.
فإذا أنا أنظر إلى الالف فوقى أشفق أن يخر على بعضهم.
فقال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم.
ثم انطلقا فتركاني وفرقت فرقا شديدا، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذى لقيت، فأشفقت
أن يكون قد لبس بى، فقالت: أعيذك بالله.
فرحلت بعيرا لها وحملتني على الرحل.
وركبت خلفي، حتى بلغنا إلى أمي، فقالت: أديت أمانتى وذمتي.
وحدثتها بالذى لقيت، فلم يرعها، وقالت: إنى رأيت خرج منى نور أضاءت منه قصور الشام ".
ورواه أحمد من حديث بقية بن الوليد به.
وهكذا رواه عبد الله بن المبارك وغيره عن بقية بن الوليد به.
وقد رواه ابن عساكر من طريق أبى داود الطيالسي، حدثنا جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشى، أخبرني عمير بن عمر بن عروة بن الزبير، قال سمعت عروة بن الزبير يحدث عن أبى ذر الغفاري قال: قلت يا رسول الله كيف علمت أنك نبى حين علمت ذلك واستيقنت أنك نبى ؟ قال: " يا أبا ذر، أتانى ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة، فوقع أحدهما على الارض، وكان الآخر بين السماء والارض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو ؟ قال: هو هو.
قال زنه برجل.
فوزننى برجل فرجحته " وذكر تمامه، وذكر شق صدره وخياطته وجعل الخاتم بين كتفيه قال: " فما هو إلا أن وليا عنى فكأنما أعاين الامر معاينة ".
ثم أورده ابن عساكر عن أبى بن كعب بنحو ذلك، ومن حديث شداد بن أوس بأبسط من ذلك.
وثبت في صحيح مسلم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب واستخرج منه علقة سوداء، فقال: هذا حظ الشيطان، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لامه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعنى ظئره - فقالوا: إن محمدا قد قتل.
فاستقبلوه وهو منتقع
اللون.
قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره.
وقد رواه ابن عساكر من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث عن عبد ربه ابن سعيد، عن ثابت البنانى، عن أنس، أن الصلاة فرضت بالمدينة، وأن ملكين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبا به إلى زمزم فشقا بطنه فأخرجا حشوته في طست من ذهب فغسلاه بماء زمزم ثم لبسا جوفه حكمة وعلما.
ومن طريق ابن وهب أيضا، عن يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه عن عبد الرحمن بن عامر بن عتبة بن أبى وقاص، عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال: قال خذوا خيرهم وسيدهم، فأخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمد به إلى زمزم، فشق جوفه ثم أتى بتور من ذهب فغسل جوفه ثم ملئ حكمة وإيمانا.
وثبت من رواية سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس.
وفي الصحيحين من طريق شريك بن أبى نمر، عن أنس، وعن الزهري عن أنس، عن أبى ذر وقتادة عن أنس، وعن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الاسراء كما سيأتي قصة شرح الصدر ليلتئذ وأنه غسل بماء زمزم.
ولا منافاة لاحتمال وقوع ذلك مرتين، مرة وهو صغير، ومرة ليلة الاسراء ليتأهب للوفود إلى الملا الاعلى ولمناجاة الرب عزوجل والمثول بين يديه تبارك وتعالى.
وقال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لاصحابه: " أنا أعربكم، أنا قرشي واسترضعت في بنى سعد بن بكر ".
وذكر ابن إسحاق: أن ؟ لمية لما أرجعته إلى أمه بعد فطامه مرت به على ركب من النصارى فقاموا إليه عليه الصلاة والسلام فقلبوه وقالوا إنا سنذهب بهذا الغلام إلى ملكنا فإنه كائن له شأن.
فلم تكد تنفلت منهم إلا بعد جهد.
وذكر أنها لما ردته حين تخوفت عليه أن يكون أصابه عارض، فلما قربت من مكة افتقدته فلم تجده، فجاءت جده عبد المطلب فخرج هو وجماعة في طلبه، فوجده ورقة بن نوفل ورجل آخر من قريش فأتيا به جده، فأخذه على عاتقه وذهب فطاف به يعوذه ويدعو له ثم رده إلى أمه آمنة.
وذكر الاموى من طريق عثمان بن عبد الرحمن الوقاصى، وهو ضعيف، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قصة مولده عليه الصلاة والسلام ورضاعه من حليمة على غير سياق محمد بن إسحاق.
وذكر أن عبد المطلب أمر ابنه عبد الله أن يأخذه فيطوف به في أحياء العرب ليتخذ له مرضعة، فطاف حتى استأجر حليمة على رضاعه، وذكر أنه أقام عندها ست سنين تزيره جده في كل عام، فلما كان من شق صدره عندهم ما كان ردته إليهم، فأقام عند أمه حتى كان عمره ثمانى سنين ماتت، فكفله جده عبد المطلب فمات وله عليه الصلاة والسلام عشر سنين، فكفله عماه شقيقا أبيه الزبير وأبو طالب، فلما كان له بضع عشرة سنة خرج مع عمه الزبير إلى اليمن.
فذكر أنهم رأوا منه آيات في تلك السفرة، منها أن فحلا من الابل كان قد قطع بعض الطريق في واد ممرهم عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم برك حتى حك بكلكله الارض، فركبه عليه الصلاة والسلام، ومنها أنه خاض بهم سيلا عرما فأيبسه الله تعالى حتى جاوزوه، ثم مات عمه الزبير وله أربع عشرة سنة فانفرد به أبو طالب.
والمقصود أن بركته عليه الصلاة والسلام حلت على حليمة السعدية وأهلها وهو صغير، ؟ م عادت على هوازن بكمالهم فواضله حين أسرهم بعد وقعتهم، وذلك بعد فتح مكة بشهر.
فمتوا إليه برضاعه فأعتقهم وتحنن عليهم وأحسن إليهم، كما سيأتي مفصلا في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال محمد بن إسحاق في وقعة هوازن: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده.
قال:
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين، فلما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا يا رسول الله إنا أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك.
وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله إن ما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتى كن يكفلنك، فلو أنا ملحنا (1) ابن أبى شمر، أو النعمان بن المنذر ثم أصابنا منهما مثل الذى أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت خير المكفولين.
ثم أنشد: امنن علينا رسول الله في كرم * فإنك المرء نرجوه وندخر امنن على بيضة قد عاقها قدر * ممزق شملها في دهرها غير أبقت لنا الدهر هتافا على حزن * على قلوبهم الغماء والغمر إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا أرجح الناس حلما حين يختبر امنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك يملؤه من محضها درر امنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتى وما تذر لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فإنا معشر زهر إنا لنشكر للنعمى وإن كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر وقد رويت هذه القصة من طريق عبيد الله بن رماحس الكلبى الرملي
__________
(1) يعنى أرضعنا.
وابن أبى شمر هو الحارث الغساني.
(*)
عن زياد بن طارق الجشمى، عن أبى صرد زهير بن جرول، وكان رئيس قومه، قال لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فبينا هو يميز بين الرجال والنساء وثبت حتى قعدت بين يديه وأسمعته شعرا، أذكره حين شب ونشأ في هوازن حيث أرضعوه: امنن علينا رسول الله في دعة * فإنك المرء نرجوه وننتظر
امنن على بيضة قد عاقها قدر * ممزق شملها في دهرها غير أبقت لنا الحرب هتافا على حزن * على قلوبهم الغماء والغمر إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا أرجح الناس حلما حين يختبر امنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك تملؤه من محضها الدرر إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتى وما تذر لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فإنا معشر زهر إنا لنشكر للنعمى وإن كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر فألبس العفو من قد كنت ترضعه * من أمهاتك إن العفو مشتهر إنا نؤمل عفوا منك تلبسه * هذى البرية إذ تعفو وتنتصر فاغفر عفا الله عما أنت راهبه * يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما ما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لله ولكم " فقالت الانصار: وما كان لنا فهو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وسيأتى أنه عليه الصلاة والسلام أطلق لهم الذرية، وكانت ستة آلاف ما بين صبى وامرأة، وأعطاهم أنعاما وأناسى كثيرا.
حتى قال أبو الحسين بن فارس: فكان قيمة ما أطلق لهم يومئذ خمسمائة ألف ألف درهم.
فهذا كله من بركته العاجلة في الدنيا، فكيف ببركته على من اتبعه في الدار الآخرة ؟ !
فصل قال ابن إسحاق بعد ذكر رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى أمه آمنة بعد رضاعة حليمة له.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بنت وهب وجده عبد المطلب في كلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتا حسنا، لما يريد به من كرامته، فلما بلغ ست سنين
توفيت أمه آمنة بنت وهب.
قال ابن إسحاق: حدثنى عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة توفيت وهو ابن ست سنين بالابواء بين مكة والمدينة، كانت قد قدمت به على أخواله من بنى عدى بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهى راجعة به إلى مكة.
وذكر الواقدي بأسانيده أن النبي صلى الله عليه وسلم خرجت به أمه إلى المدينة ومعها أم أيمن وله ست سنين، فزارت أخواله.
قالت أم أيمن: فجاءني ذات يوم رجلان من يهود المدينة فقالا لى: أخرجي إلينا أحمد ننظر إليه فنظرا إليه وقلباه، فقال أحدهما لصاحبه: هذا نبى هذه الامة وهذه دار هجرته، وسيكون بها من القتل والسبي أمر عظيم.
فلما سمعت أمه خافت وانصرفت به، فماتت بالابواء وهى راجعة.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا أيوب بن جابر، عن سماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن بريدة عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم حتى إذا كنا بودان قال " مكانكم حتى آتيكم " فانطلق ثم جاءنا وهو ثقيل، فقال: " إنى أتيت قبر أم محمد فسألت ربى الشفاعة - يعنى لها - فمنعنيها، وإنى كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها، وكنت نهيتكم عن لحوم الاضاحي بعد ثلاثة أيام فكلوا وأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن الاشربة في هذه الاوعية فاشربوا ما بدا لكم ".
وقد رواه البيهقى من طريق سفيان الثوري، عن علقمة بن يزيد، عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسم قبر فجلس وجلس الناس حوله فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، ثم بكى.
فاستقبله عمر فقال ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال:
" هذا قبر آمنة بنت وهب استأذنت ربى في أن أزور قبرها فأذن لى، واستأذنته في الاستغفار لها فأبى على، وأدركتني رقتها فبكيت ".
قال: فما رؤيت ساعة أكثر باكيا من تلك الساعة.
تابعه محارب بن دثار عن بريدة عن أبيه.
ثم روى البيهقى عن الحاكم، عن الاصم، عن بحر بن نصر، عن عبد الله بن وهب، حدثنا ابن جريج، عن أيوب بن هانئ، عن مسروق بن الاجدع، عن عبد الله بن مسعود قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في المقابر، وخرجنا معه، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها - فناجاه طويلا ثم ارتفع نحيب رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا، فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل علينا فتلقاه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ما الذى أبكاك ؟ لقد أبكانا وأفزعنا.
فجاء فجلس إلينا فقال: " أفزعكم بكائى " ؟ قلنا نعم ! قال: " إن القبر الذى رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب، وإنى استأذنت ربى في زيارتها فأذن لى، واستأذنت ربى في الاستغفار لها فلم يأذن لى فيه، ونزل على (ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لاواه حليم (1)) فأخذني ما يأخذني الولد للوالدة من الرقة، فذلك الذى أبكاني ".
غريب ولم يخرجوه.
وروى مسلم عن أبى بكر بن أبى شيبة، عن محمد بن عبيد، عن يزيد بن كيسان،
عن أبى حازم، عن أبى هريرة قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله ثم قال: " استأذنت ربى في زيارة قبر أمي فأذن لى، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لى، فزوروا القبور تذكركم الموت ".
وروى مسلم عن أبى بكر بن أبى شيبة، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن رجلا قال يا رسول الله أين أبى ؟ قال: " في النار " فلما قفا دعاه فقال: " إن أبى وأباك في النار ".
وقد روى البيهقى من حديث أبى نعيم الفضل بن دكين، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبى كان يصل الرحم، وكان وكان، فأين هو ؟ قال: " في النار ".
قال: فكأن الاعرابي وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله أين أبوك ؟ قال: " حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار ".
__________
(1) سورة التوبة 113، 114.
(*)
قال: فأسلم الاعرابي بعد ذلك.
فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار ! غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد - هو ابن أبى أيوب - حدثنا ربيعة بن سيف المعافرى، عن أبى عبد الرحمن الحبلى، عن عبد الله بن عمرو، قال: بينما نحن نمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بإمرأة لا يظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما أخرجك من بيتك يا فاطمة ؟ " فقالت: أتيت أهل هذا البيت فترحمت إليهم ميتهم وعزيتهم.
قال: " لعلك بلغت معهم الكدى " قالت: معاذ الله
أن أكون بلغتها معهم وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر.
قال: " لو بلغتيها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك.
ثم رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي من حديث ربيعة بن سيف بن مانع المعافرى الصنمى الاسكندرى، وقد قال البخاري عنده مناكير.
وقال النسائي: ليس به بأس.
وقال مرة: صدوق، وفى نسخة ضعيف.
وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان يخطئ كثيرا.
وقال الدارقطني: صالح.
وقال ابن يونس في تاريخ مصر: في حديثه مناكير.
توفى قريبا من سنة عشرين ومائة.
والمراد بالكدى: القبور.
وقيل: النوح.
والمقصود أن عبد المطلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية خلافا لفرقة الشيعة فيه وفى ابنه أبى طالب.
على ما سيأتي في وفاة أبى طالب.
وقد قال البيهقى - بعد روايته هذه الاحاديث في كتابه " دلائل النبوة ": وكيف
لا يكون أبواه وجده عليه الصلاة والسلام بهذه الصفة في الآخرة، وقد كانوا يعبدون الوثن، حتى ماتوا ولم يدينوا دين عيسى بن مريم عليه السلام، وكفرهم لا يقدح في نسبه عليه الصلاة والسلام، لان أنكحة الكفار صحيحة.
ألا تراهم يسلمون مع زوجاتهم فلا يلزمهم تجديد العقد ولا مفارقتهن، إذا كان مثله يجوز في الاسلام.
وبالله التوفيق.
انتهى كلامه.
قلت: وإخباره صلى الله عليه وسلم عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار لا ينافى الحديث الوارد عنه من طرق متعددة أن أهل الفترة والاطفال والمجانين والصم يمتحنون في العرصات يوم القيامة، كما بسطناه سندا ومتنا [ في تفسيرنا ] عند قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) فيكون منهم من يجيب ومنهم من لا يجيب.
فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب فلا منافاة.
ولله الحمد والمنة.
وأما الحديث الذى ذكره السهيلي وذكر أن في إسناده مجهولين إلى ابن أبى الزناد، عن عروة، عن عائشة رضى الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يحيى أبويه، فأحياهما وآمنا به، فإنه حديث منكر جدا.
وإن كان ممكنا بالنظر إلى قدرة الله تعالى.
لكن الذى ثبت في الصحيح يعارضه.
والله أعلم.
فصل قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب بن هاشم يعنى بعد موت أمه آمنة بنت وهب - فكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب: إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني فو الله إن له لشأنا.
ثم يجلسه معه على فراشه ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع.
وقال الواقدي: حدثنى محمد بن عبد الله، عن الزهري.
وحدثنا عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله.
وحدثنا هاشم بن عاصم الاسلمي، عن المنذر بن جهم.
وحدثنا معمر عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد.
وحدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز عن أبى الحويرث.
وحدثنا ابن أبى سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن نافع، عن ابن جبير - دخل حديث بعضهم في بعض - قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون مع أمه آمنة بنت وهب، فلما توفيت قبضه إليه جده عبد المطلب وضمه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يقر به منه ويدنيه، ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام.
وكان يجلس على فراشه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك: دعوا ابني إنه يؤسس ملكا.
وقال قوم من بنى مدلج لعبد المطلب: احتفظ به، فإنا لم نر قدما أشبه بالقدم الذى
في المقام منه.
وقال عبد المطلب لابي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء ! فكان أبو طالب يحتفظ به.
وقال عبد المطلب لام أيمن - وكانت تحضنه -: يا بركة لا تغفلي عن ابني، فإنى وجدته مع غلمان قريب من السدرة، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبى هذه الامة.
وكان عبد المطلب لا يأكل طعاما إلا يقول: على بابنى.
فيؤتى به إليه.
فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياطته.
ثم مات عبد المطلب ودفن بالحجون.
وقال ابن إسحاق: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمان سنين هلك جده عبد المطلب بن هاشم.
ثم ذكر جمعه بناته وأمره إياهن أن يرثينه.
وهن: أروى، وأميمة، وبرة، وصفية، وعاتكة، وأم حكيم البيضاء.
وذكر أشعارهن وما قلن في رثاء أبيهن وهو يسمع قبل موته، وهذا أبلغ النوح.
وبسط القول في ذلك.
وقد قال ابن هشام: ولم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر.
قال ابن إسحاق: فلما هلك عبد المطلب بن هاشم ولى السقاية وزمزم بعده ابنه العباس، وهو من أحدث إخوته سنا.
فلم تزل إليه حتى قام الاسلام وأقرها في يده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده عبد المطلب مع عمه أبى طالب لوصية
عبد المطلب له به، ولانه كان شقيق أبيه عبد الله، أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
قال: فكان أبو طالب هو الذى يلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إليه ومعه.
وقال الواقدي: أخبرنا معمر، عن ابن نجيح، عن مجاهد.
وحدثنا معاذ بن محمد الانصاري، عن عطاء، عن ابن عباس.
وحدثنا محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر
وإبراهيم بن إسماعيل بن أبى حبيبة - دخل حديث بعضهم في حديث بعض - قالوا: لما توفى عبد المطلب قبض أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكون معه.
وكان أبو طالب لا مال وكان يحبه حبا شديدا لا يحبه ولده، وكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه.
وصب به أبو طالب صبابة لم يصب مثلها بشئ قط.
وكان يخصه بالطعام، وكان إذا أكل عيال أبى طالب جميعا أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا.
فكان إذا أراد أن يغديهم قال كما أنتم حتى يأتي ولدى.
فيأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم فكانوا يفضلون من طعامهم، وإن لم يكن معهم لم يشبعوا فيقول أبو طالب: إنك لمبارك.
وكان الصبيان يصبحون رمصا شعثا ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دهينا كحيلا.
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا على بن ثابت، عن طلحة بن عمرو، سمعت عطاء ابن أبى رباح، سمعت ابن عباس يقول: كان بنو أبى طالب يصبحون رمصا عمصا ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم صقيلا دهينا.
وكان أبو طالب يقرب إلى الصبيان صفحتهم أول البكرة، فيجلسون وينتهبون، ويكف رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فلا ينتهب معهم.
فلما رأى ذلك عمه عزل له طعامه على حدة.
وقال ابن إسحاق: حدثنى يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن أباه حدثه أن رجلا من لهب كان عائفا، فكان إذا قدم مكة أتاه رجال من قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فيهم.
قال: فأتى أبو طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام مع من يأتيه.
قال: فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم شغله عنه شئ.
فلما فرغ قال: الغلام على به.
فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه، فجعل يقول: ويلكم ردوا على الغلام الذى رأيته آنفا فو الله ليكونن له شأن.
قال: وانطلق به أبو طالب.
فصل في خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه أبى طالب إلى الشام وقصته مع بحيرى الراهب قال ابن إسحاق: ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام.
فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير صب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يزعمون.
فرق له أبو طالب وقال: والله لاخرجن به معى ولا أفارقه ولا يفارقنى أبدا.
أو كما قال.
فخرج به.
فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيرى في صومعة له.
وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب
فيها إليه يصير علمهم عن كتاب، فيما يزعمون، يتوارثونه كابرا عن كابر.
فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى - وكانوا كثيرا ما يمرون به فلا يكلمهم ولا يعرض لهم، حتى كان ذلك العام، فلما نزلوا قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا، وذلك فيما يزعمون عن شئ رآه وهو في صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الركب حتى أقبل وغمامة تظلله من بين القوم، ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه.
فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها.
فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إنى صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم، كبيركم وصغيركم، عبدكم وحركم.
فقال له رجل منهم: والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم ! ما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم ؟ قال له بحيرى: صدقت قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلون منه كلكم.
فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة فلما رآهم بحيرى لم ير الصفة التى يعرف ويجده عنده فقال: يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي.
قالوا: يا بحيرى ما تخلف أحد ينبغى له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدثنا سنا فتخلف في رحالنا.
قال: لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم.
قال: فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى إن كان للؤم بنا أن يتخلف
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا.
ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم.
فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها
عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرى وقال له: يا غلام: أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه.
وإنما قال له بحيرى ذلك لانه سمع قومه يحلفون بهما.
فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسألني باللات والعزى شيئا، فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما.
فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه ؟ فقال له: سلنى عما بدا لك.
فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره.
فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته.
ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه موضعه من صفته التى عنده.
فلما فرغ أقبل على عمه أبى طالب فقال: ما هذا الغلام منك ؟ قال: ابني.
قال بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغى لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا.
قال: فإنه ابن أخى.
قال فما فعل أبوه ؟ قال: مات وأمه حبلى به.
قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده.
فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.
قال ابن إسحاق: فزعموا فيما روى الناس أن زريرا، وتماما ودريسا (1) - وهم نفر من أهل الكتاب - قد كانوا رأوا [ من (2) ] رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما رأى بحيرى
في ذلك السفر الذى كان فيه مع عمه أبى طالب، فأرادوه فردهم عنه بحيرى، فذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم [ إن (2) ] أجمعوا لما أردوا به لم يخلصوا
__________
(1) محرفة بالاصل: تماما ودريسما.
وما أثبته من ابن هشام.
(2) سقطت من الاصل.
(*)
إليه.
حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال فتركوه وانصرفوا عنه.
وقد ذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن أبا طالب قال في ذلك ثلاث قصائد.
هكذا ذكر ابن إسحاق هذا السياق من غير إسناد منه.
وقد ورد نحوه من طريق مسند مرفوع.
فقال الحافظ أبو بكر الخرائطي: حدثنا عباس بن محمد الدوري، حدثنا قراد أبو نوح، حدثنا يونس، عن ابن (1) إسحاق، عن أبى بكر بن أبى موسى، عن أبيه قال: خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب - يعنى بحيرى - هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج ولا يلتفت إليهم.
قال: فنزل وهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا سيد العالمين.
وفى رواية البيهقى زيادة: هذا رسول رب العالمين، بعثه الله رحمة للعالمين.
فقال له أشياخ من قريش: وما علمك ؟ فقال إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدون إلا لنبى، وإنى أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه.
ثم رجع فصنع لهم طعاما فلما أتاهم به - وكان هو في رعية الابل - فقال: أرسلوا إليه.
فأقبل وغمامة تظله.
فلما دنا من القوم قال: انظروا إليه عليه غمامة.
فلما دنا من
القوم وجدهم قد سبقوه إلى فئ الشجرة فلما جلس مال فئ الشجرة عليه.
قال: انظروا إلى فئ الشجرة مال عليه.
__________
(1) الاصل أبى وهو تحريف.
(*)
قال فبينما هو قائم عليهم وهو ينشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه، فالتفت فإذا هو بسبعة نفر من الروم قد أقبلوا.
قال: فاستقبلهم فقال ما جاء بكم ؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس، وإنا أخبرنا خبره إلى طريقك هذه.
قال: فهل خلفكم أحد هو خير منكم ؟ قالوا: لا إنما أخبرنا خبره إلى طريقك هذه.
قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده ؟ فقالوا: لا.
قال: فبايعوه وأقاموا معه عنده.
قال: فقال الراهب: أنشدكم الله أيكم وليه ؟ قالوا: أبو طالب.
فلم يزل يناشده حتى رده وبعث معه أبو بكر بلالا وزوده الراهب من الكعك والزيت.
هكذا رواه الترمذي عن أبى العباس الفضل بن سهل الاعرج عن قراد أبى نوح به.
والحاكم والبيهقي وابن عساكر من طريق أبى العباس محمد بن يعقوب الاصم عن عباس بن محمد الدوري به.
وهكذا رواه غير واحد من الحفاظ من حديث أبى نوح عبد الرحمن بن غزوان الخزاعى مولاهم، ويقال له الضبى ويعرف بقراد، سكن بغداد وهو من الثقات الذين أخرج لهم البخاري، ووثقه جماعة من الائمة والحفاظ ولم أر أحدا جرحه.
ومع هذا في حديثه هذا غرابة.
قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال عباس الدوري: ليس في الدنيا أحد يحدث به غير قراد أبى نوح، وقد
سمعه منه أحمد بن حنبل رحمه الله ويحيى بن معين لغرابته وانفراده.
حكاه البيهقى وابن عساكر.
قلت: فيه من الغرائب أنه من مرسلات الصحابة، فإن أبا موسى الاشعري إنما قدم في سنة خيبر سنة سبع من الهجرة.
ولا يلتفت إلى قول ابن إسحاق في جعله له من المهاجرة إلى أرض الحبشة من مكة.
وعلى كل تقدير فهو مرسل، فإن هذه القصة كانت ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر فيما ذكره بعضهم ثنتا عشرة سنة، ولعل أبا موسى تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون أبلغ، أو من بعض كبار الصحابة رضى الله عنهم، أو كان هذا مشهورا مذكورا أخذه من طريق الاستفاضة.
الثاني: أن الغمامة لم تذكر في حديث أصح من هذا.
الثالث: أن قوله: " وبعث معه أبو بكر بلالا " إن كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك ثنتى عشرة سنة فقد كان عمر أبى بكر إذ ذاك تسع سنين أو عشرة، وعمر بلال أقل من ذلك، فأين كان أبو بكر إذ ذاك ؟ ثم أين كان بلال ؟ كلاهما غريب، اللهم إلا أن يقال إن هذا كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم كبيرا، إما بأن يكون سفره بعد هذا، أو إن كان القول بأن عمره كان إذ ذاك ثنتى عشرة سنة غير محفوظ، فإنه إنما ذكره مقيدا بهذا الواقدي.
وحكى السهيلي عن بعضهم أنه كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك تسع سنين والله أعلم.
قال الواقدي: حدثنى محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر وإبراهيم بن إسماعيل بن أبى حبيبة، عن داود بن الحصين.
قالوا: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتى عشرة سنة خرج به عمه أبو طالب إلى الشام في العير التى خرج فيها للتجارة ونزلوا بالراهب بحيرى.
فقال لابي طالب بالسر ما قال.
وأمره أن يحتفظ به فرده معه
أبو طالب إلى مكة.
وشب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبى طالب يكلؤه الله ويحفظه ويحوط من أمور الجاهلية معائبها لما يريد من كرامته.
حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما وأمانة، وأصدقهم حديثا، وأبعدهم من الفحش والاذى.
ما رؤى ملاحيا ولا مماريا أحدا، حتى سماه قومه الامين، لما جمع الله فيه من الامور الصالحة.
فكان أبو طالب يحفظه ويحوطه وينصره ويعضده حتى مات.
وقال محمد بن سعد: أخبرنا خالد بن معدان، حدثنا معتمر بن سليمان، سمعت أبى يحدث عن أبى مجلز أن عبد المطلب أو أبا طالب - شك خالد - قال: لما مات عبد الله عطف على محمد، فكان لا يسافر سفرا إلا كان معه فيه.
وإنه توجه نحو الشام فنزل منزلا فأتاه فيه راهب، فقال إن فيكم رجلا صالحا.
ثم قال: أين أبو هذا الغلام ؟ قال: فقال ها أنا ذا وليه - أو قيل هذا وليه - قال: احتفظ بهذا الغلام ولا تذهب به إلى الشام، إن اليهود حسد وإنى أخشاهم عليه.
قال: ما أنت تقول ذلك، ولكن الله يقوله.
فرده وقال: اللهم إنى أستودعك محمدا.
ثم إنه مات.
قصة بحيرى حكى السهيلي عن سير الزهري أن بحيرى كان حبرا من أحبار يهود.
قلت: والذى يظهر من سياق القصة أنه كان راهبا نصرانيا والله أعلم.
وعن المسعودي أنه كان من عبد القيس، وكان اسمه جرجيس.
وفى كتاب " المعارف " لابن قتيبة: سمع هاتف في الجاهلية قبل الاسلام بقليل يهتف ويقول: ألا إن خير أهل الارض ثلاثة، بحيرى، ورئاب بن البراء الشنى، والثالث المنتظر.
وكان الثالث المنتظر هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن قتيبة: وكان قبر رئاب الشنى وقبر ولده من بعده لا يزال يرى عندهما طش، وهو المطر الخفيف.
فصل في منشئه عليه الصلاة والسلام ومرباه وكفاية الله له، وحياطته وكيف كان يتيما فآواه وعائلا فأغناه قال محمد بن إسحاق: فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلؤه الله ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جورا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والاخلاق التى تدنس الرجال، تنزها وتكرما.
حتى ما اسمه في قومه إلا الامين، لما جمع الله فيه من الامور الصالحة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما ذكر لى، يحدث عما كان يحفظه به في صغره وأمر جاهليته أنه قال: " لقد رأيتنى في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب الغلمان، كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإنى لاقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمنى لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك
إزارك.
قال فأخذته فشددته على، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزارى على من بين أصحابي ".
وهذه القصة شبيهة بما في الصحيح عند بناء الكعبة، حين كان ينقل هو وعمه العباس فإن لم تكنها فهى متقدمة عليها كالتوطئة لها.
والله أعلم.
قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة، فقال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة.
ففعل فخر إلى الارض وطمحت عيناه إلى السماء، ثم قام فقال: " إزارى " فشد عليه إزاره.
أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق.
وأخرجاه أيضا من حديث روح ابن عبادة، عن زكرياء بن أبى إسحاق، عن عمرو بن دينار عن جابر بنحوه.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبى عمرو، قالا: أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق الصاغانى، حدثنا محمد بن بكير الحضرمي، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكى، حدثنا عمرو بن أبى قيس، عن سماك، عن عكرمة، حدثنى ابن عباس عن أبيه أنه كان ينقل الحجارة إلى البيت حين بنت قريش البيت، قال: وأفردت قريش رجلين رجلين، الرجال ينقلون الحجارة، وكانت النساء تنقل الشيد (1).
قال: فكنت أنا وابن أخى، وكنا نحمل على رقابنا وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا الناس ائتزرنا.
فبينما أنا أمشى ومحمد أمامى قال فخر وانبطح على وجهه، فجئت أسعى وألقيت حجري وهو ينظر إلى السماء، فقلت: ما شأنك ؟ فقام وأخذ إزاره قال: " إنى نهيت أن أمشى عريانا ".
قال: وكنت أكتمها من الناس مخافة أن يقولوا مجنون.
وروى البيهقى من حديث يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثنى محمد
__________
(1) الشيد: ما طلى به حائط من جص ونحوه.
(*)
ابن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن على بن أبى طالب، عن أبيه، عن
جده على بن أبى طالب.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما هممت بشئ مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء، إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله عزوجل فيهما.
قلت ليلة لبعض فتيان مكة - ونحن في رعاء غنم أهلها - فقلت لصاحبي: أبصر لى غنمي حتى أدخل مكة أسمر فيها كما يسمر الفتيان.
فقال بلى.
قال: فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالغرابيل والمزامير، فقلت ما هذا ؟ قالوا: تزوج فلان فلانة.
فجلست أنظر وضرب الله على أذنى فو الله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت ؟ فقلت: ما فعلت شيئا.
ثم أخبرته بالذى رأيت.
ثم قلت له ليلة أخرى أبصر لى غنمي حتى أسمر.
ففعل، فدخلت فلما جئت مكة سمعت مثل الذى سمعت تلك الليلة، فسألت فقيل نكح فلان فلانة، فجلست أنظر وضرب الله على أذنى، فو الله ما أيقظني إلا مس الشمس.
فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت ؟ فقلت: لا شئ.
ثم أخبرته الخبر.
فو الله ما هممت ولا عدت بعدهما لشئ من ذلك حتى أكرمنى الله عزوجل بنبوته ".
وهذا حديث غريب جدا، وقد يكون عن على نفسه ويكون قوله في آخره: " حتى أكرمنى الله عزوجل بنبوته " مقحما والله أعلم.
وشيخ ابن إسحاق هذا ذكره ابن حبان في الثقات.
وزعم بعضهم أنه من رجال الصحيح.
قال شيخنا في تهذيبه: ولم أقف على ذلك.
والله أعلم.
وقال الحافظ البيهقى: حدثنى أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن بن على بن عفان العامري، حدثنا أبو أسامة، حدثنا محمد بن عمرو، عن
أبى سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد، عن زيد بن حارثة،
قال: كان صنم من نحاس يقال له إساف ونائلة يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه، فلما مررت مسحت به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تمسه ".
قال زيد: فطفنا فقلت في نفسي لامسنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألم تنه " قال البيهقى: زاد غيره عن محمد بن عمرو بإسناده قال زيد: فو الذى أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ما استلم صنما قط حتى أكرمه الله تعالى بالذى أكرمه وأنزل عليه.
وتقدم قوله عليه الصلاة والسلام لبحيرى حين سأله باللات والعزى " لا تسألني بهما فو الله ما أبغضت شيئا بغضهما ".
فأما الحديث الذى قاله الحافظ أبو بكر البيهقى، أخبرنا أبو سعد المالينى، أنبأنا أبو أحمد ابن عبد الحافظ، حدثنا إبراهيم بن أسباط، حدثنا عثمان بن أبى شيبة، حدثنا جرير، عن سفيان الثوري، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد مع المشركين مشاهدهم قال: فسمع ملكين خلفه وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: كيف نقوم خلفه وإنما عهده باستلام الاصنام ؟ !.
قال: فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم.
فهو حديث أنكره غير واحد من الائمة على عثمان أبى شيبة، حتى قال الامام أحمد فيه: لم يكن أخوه يتلفظ بشئ من هذا.
وقد حكى البيهقى عن بعضهم أن معناه أنه شهد مع من يستلم الاصنام، وذلك قبل قبل أن يوحى إليه والله أعلم.
وقد تقدم في حديث زيد بن حارثة أنه اعتزل شهود مشاهد المشركين حتى أكرمه الله برسالته.
وثبت في الحديث أنه كان لا يقف بالمزدلفة ليلة عرفة بل كان لا يقف مع الناس بعرفات.
كما قال يونس بن بكير.
عن محمد بن إسحاق، حدثنى عبد الله بن أبى بكر، عن عثمان ابن أبى سليمان، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه جبير.
قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على دين قومه، وهو يقف على بعير له بعرفات من بين قومه حتى يدفع معهم، توفيقا من الله عزوجل له.
قال البيهقى: معنى قوله: " على دين قومه " ما كان بقى من إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ولم يشرك بالله قط صلوات الله وسلامه عليه دائما.
قلت: ويفهم من قوله هذا أيضا أنه كان يقف بعرفات قبل أن يوحى إليه.
وهذا توفيق من الله له.
ورواه الامام أحمد عن يعقوب، عن محمد بن إسحاق به.
ولفظه " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه وإنه لواقف على بعير له مع الناس بعرفات حتى يدفع معهم توفيقا من الله.
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان، عن عمرو، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: أضللت بعيرا لى بعرنة (1) فذهبت أطلبه، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم واقف فقلت إن هذا من الحمس (2) ما شأنه هاهنا ؟ وأخرجاه من حديث سفيان بن عيينة به.
__________
(1) عرنة: واد بحذاء عرفات.
(2) الحمس: جمع أحمس.
وكان يسمى به قريش، لما ابتدعوا في شعائر الحج (*)
ذكر شهوده عليه الصلاة والسلام حرب الفجار قال ابن إسحاق: هاجت حرب الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة.
وإنما سمى يوم الفجار، بما استحل فيه هذان الحيان - كنانة وقيس عيلان - من المحارم بينهم.
وكان قائد قريش وكنانة حرب بن أمية بن عبد شمس.
وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس.
وقال ابن هشام: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة - أو خمس عشرة سنة - فيما حدثنى به أبو عبيدة النحوي، عن أبى عمرو بن العلاء، هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معها من كنانة وبين قيس عيلان.
وكان الذى هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن أجاز لطيمة - أي تجارة - للنعمان بن المنذر.
فقال البراض بن قيس، أحد بنى ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة،: أتجيزها على كنانة ؟ قال: نعم وعلى الخلق.
فخرج فيها عروة الرحال وخرج البراض يطلب غفلته، حتى إذا كان بتيمن ذى طلال بالعالية غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام، فلذلك سمى الفجار، وقال البراض في ذلك: وداهية تهم الناس قبلى * شددت لها بنى بكر ضلوعي هدمت بها بيوت بنى كلاب * وأرضعت الموالى بالضروع رفعت له بذى طلال كفى * فخر يميد كالجذع الصريع
وقال لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب: وأبلغ - إن عرضت - بنى كلاب * وعامر والخطوب لها موالى وأبلغ - إن عرضت - بنى نمير * وأخوال القتيل بنى هلال بأن الوافد الرحال أمسى * مقيما عند تيمن ذى طلال
قال ابن هشام: فأتى آت قريشا فقال: إن البراض قد قتل عروة، وهو في الشهر الحرام بعكاظ.
فارتحلوا وهوازن لا تشعر بهم.
ثم بلغهم الخبر فاتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم.
فاقتتلوا حتى جاء الليل فدخلوا الحرم فأمسكت هوازن عنهم.
ثم التقوا بعد هذا اليوم أياما والقوم متساندون على كل قبيل من قريش وكنانة رئيس منهم، وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم.
قال: وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أيامهم.
أخرجه أعمامه معهم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كنت أنبل على أعمامي " أي أرد عليهم نبل عدوهم إدا رموهم بها.
قال ابن هشام: وحديث الفجار طويل هو أطول مما ذكرت، وإنما منعنى من استقصائه قطعه حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال السهيلي: والفجار بكسر الفاء على وزن قتال.
وكانت الفجارات في العرب أربعة ذكرهن المسعودي.
وآخرهن، فجار البراض هذا.
وكان القتال فيه في أربعة أيام، يوم شمطة، ويوم العبلاء، وهما عند عكاظ، ويوم الشرب - وهو أعظمها يوما - وهو الذى حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه قيد رئيس قريش وبنى كنانة وهما حرب بن أمية وأخوه سفيان أنفسهما لئلا يفروا.
وانهزمت يومئذ قيس إلا بنى نضر فإنهم ثبتوا.
ويوم
الحريرة عند نخلة.
ثم تواعدوا من العام المقبل إلى عكاظ.
فلما توافوا الموعد ركب عتبة ابن ربيعة جمله ونادى: يا معشر مضر علام تقاتلون ؟ فقالت له هوازن: ما تدعو إليه ؟ قال: الصلح.
قالوا وكيف ؟ قال ندى قتلاكم ونرهنكم رهائن عليها، ونعفو عن دياتنا.
قالوا: ومن لنا بذلك ؟ قال أنا.
قالوا: ومن أنت ؟ قال: عتبة بن ربيعة.
فوقع الصلح على ذلك وبعثوا إليهم أربعين رجلا فيهم حكيم بن حزام،
فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن في أيديهم عفوا عن دياتهم وانقضت حرب الفجار.
وقد ذكر الاموى حروب الفجار وأيامها واستقصاها مطولا فيما رواه عن الاثرم، وهو المغيرة بن على، عن أبى عبيدة معمر بن المثنى فذكر ذلك.
فصل (في شهوده عليه الصلاة والسلام حلف الفضول) قال الحافظ البيهقى: أخبرنا أبو سعد المالينى، أنبأنا أبو أحمد بن عيد الحافظ، حدثنا يحيى بن على بن هاشم الخفاف، حدثنا اسماعيل بن علية، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه.
قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: " شهدت مع عمومتي حلف المطيبين فما أحب أن أنكثه - أو كلمة نحوها - وإن لى حمر النعم ".
قال: وكذلك رواه بشر بن المفضل عن عبد الرحمن.
قال: وأخبرنا أبو نصر بن قتادة، حدثنا أبو عمرو بن مطر، حدثنا أبو بكر بن
أحمد بن داود السمنانى، حدثنا معلى بن مهدى، حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبى سلمة، عن أبيه، عن أبى هريرة.
قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: " ما شهدت حلفا لقريش إلا حلف المطيبين، وما أحب أن لى حمر النعم وأنى كنت نقضته ".
قال: والمطيبون هاشم، وأمية، وزهرة، ومخزوم.
قال البيهقى: كذا روى هذا التفسير مدرجا في الحديث ولا أدرى قائله.
وزعم بعض أهل السير أنه أراد حلف الفضول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيبين.
قلت: هذا لا شك فيه، وذلك أن قريشا تحالفوا بعد موت قصى وتنازعوا في الذى
كان جعله قصى لابنه عبد الدار من السقاية، والرفادة، واللواء، والندوة، والحجابة، ونازعهم فيه بنو عبد مناف وقامت مع كل طائفة قبائل من قريش وتحالفوا على النصرة لحزبهم.
فأحضر أصحاب بنى عبد مناف جفنة فيها طيب، فوضعوا أيديهم فيها وتحالفوا.
فلما قاموا مسحوا أيديهم بأركان البيت.
فسموا المطيبين كما تقدم وكان هذا قديما.
ولكن المراد بهذا الحلف حلف الفضول وكان في دار عبد الله بن جدعان كما رواه الحميدى، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله، عن محمد وعبد الرحمن ابني أبى بكر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الاسلام لاجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها وألا يعز (1) ظالم مظلوما ".
قالوا: وكان حلف الفضول قبل المبعث بعشرين سنة في شهر ذى القعدة، وكان بعد حرب الفجار بأربعة أشهر.
وذلك لان الفجار كان في شعبان من هذه السنة.
__________
(1) الاصل: يعد وما أثبته من الروض الانف.
ومعنى يعز: يغلب.
(*)
وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب، وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب.
وكان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدى الاحلاف عبد الدار ومخزوما وجمحا وسهما وعدى بن كعب، فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل وزبروه - أي انتهروه - فلما رأى الزبيدى الشر أوفى على أبى قبيس عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فنادى بأعلى صوته: يا آل فهر لمظلوم بضاعته * ببطن مكة نائى الدار والنفر ومحرم أشعث لم يقض عمرته * يا للرجال وبين الحجر والحجر إن الحرام لمن تمت كرامته * ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترك.
فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما، وتحالفوا في ذى القعدة في شهر حرام، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة، وما رسى ثبير وحراء مكانهما، وعلى التأسى في المعاش.
فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وقالو: لقد دخل هؤلاء في فضل من الامر.
ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سامة الزبيدى فدفعوها إليه.
وقال الزبير بن عبد المطلب في ذلك: حلفت لنعقدن حلفا عليهم * وإن كنا جميعا أهل دار نسميه الفضول إذا عقدنا * يعز به الغريب لذى الجوار ويعلم من حوالى البيت أنا * أباة الضيم نمنع كل عار
وقال الزبير أيضا: إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا * ألا يقيم ببطن مكة ظالم أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا * فالجار والمعتر فيهم سالم وذكر قاسم بن ثابت - في غريب الحديث -: أن رجلا من خثعم قدم مكة حاجا أو معتمرا، ومعه ابنة له يقال لها القتول من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج وغيبها عنه.
فقال الخثعمي: من يعديني على هذا الرجل ؟ فقيل له عليك بحلف الفضول.
فوقف عند الكعبة ونادى يال حلف الفضول.
فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب، وقد انتضوا أسيافهم يقولون: جاءك الغوث فما لك ؟ فقال: إن نبيها ظلمنى في بنتى وانتزعها منى قسرا.
فساروا معه حتى وقفوا على باب داره، فخرج إليهم فقالوا له: أخرج الجارية، ويحك فقد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه، فقال: أفعل، ولكن متعونى بها الليلة.
فقالوا لا والله ولا شخب لقحة (1)، فأخرجها إليهم وهو يقول: راح صحبى ولم أحيى القتولا * لم أودعهم وداعا جميلا إذ أجد الفضول أن يمنعوها * قد أرانى ولا أخاف الفضولا لا تخالى أنى عشية راح الرك * ب هنتم على أن لا يزولا (2) وذكرا أبياتا أخر غير هذه.
وقد قيل إنما سمى هذا حلف الفضول لانه أشبه حلفا تحالفته جرهم على مثل هذا من نصر المظلوم على ظالمه.
وكان الداعي إليه ثلاثة من أشرافهم، اسم كل واحد منهم:
__________
(1) الشخب: ما خرج من الضرع من اللبن - واللقحة الناقة الحلوب.
(2) الروس لانف: ألا أقولا.
(*)
فضل، وهم الفضل بن فضالة، والفضل بن وادعة، والفضل بن الحارث.
هذا قول ابن قتيبة.
وقال غيره: الفضل بن شراعة، والفضل بن بضاعة، والفضل بن قضاعة.
وقد أورد السهيلي هذا رحمه الله.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: وتداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه.
وكان حلفهم عنده بنو هاشم وبنو عبد المطلب وبنو أسد بن عبد العزى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة.
فتعاهدوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه وكانوا على من ظلمه حتى يرد عليه مظلمته.
فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول.
قال محمد بن إسحاق: فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر [ بن ] (1) قنفذ التيمى (2)، أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لى به حمر النعم ولو دعى به في الاسلام لاجبت ".
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادى (3) الليثى (4)، أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى حدثه أن كان بين الحسين بن على بن أبى طالب وبين الوليد بن عتبة بن أبى سفيان - والوليد يومئذ أمير المدينة، أمره عليها عمه معاوية بن أبى سفيان.
- منازعة في مال كان بينهما بذى المروة (5)، فكأن الوليد تحامل على
__________
(1) سقطت من المطبوعة.
(2) هو محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمى الجدعانى المدنى.
(3) ط: الهاد.
(4) هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادى الليثى المدنى أبو عبد الله، توفى بالمدينة سنة 139.
وكان ثقة كثير الحديث.
(5) ذو المروة: قرية بوادي القرى.
(*)
الحسين في حقه لسلطانه، فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقى أو لآخذن سيفى ثم لاقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لادعون بحلف الفضول.
قال: فقال عبد الله بن الزبير - وهو عند الوليد حين قال له الحسين ما قال - وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفى ثم لاقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا.
قال وبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك.
وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمى فقال مثل ذلك.
فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضى.
فصل في تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصبى
قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال على مالها مضاربة.
فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج لها في مال تاجرا إلى الشام وتعطيه أفضل ما تعطى غيره من التجار.
مع غلام لها يقال له ميسرة.
فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وخرج في مالها ذاك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى نزل الشام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان، فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال: من هذا الرجل الذى نزل تحت الشجرة ؟ فقال ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم.
فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبى (1).
ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته - يعنى تجارته - التى خرج بها، واشترى ما أراد أن يشترى، ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة.
فكان ميسرة - فيما يزعمون - إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره.
فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فأضعف أو قريبا، وحدثها ميسرة عن قول الراهب، وعما كان يرى من إظلال الملائكة إياه.
وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة، مع ما أراد الله بها من كرامتها.
فلما أخبرها ميسرة ما أخبرها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له فيما يزعمون، يا ابن عم إنى قد رغبت فيك لقرابتك ووسطتك (2) في قومك، وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك.
ثم عرضت نفسها عليه.
وكانت أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالا،: كل قومها كان
حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه.
فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لاعمامه، فخرج معه عمه حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه، فتزوجها عليه الصلاة والسلام.
قال ابن هشام: فأصدقها عشرين بكرة، وكانت أول امرأة تزوجها، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.
قال ابن إسحاق: فولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولده كلهم إلا إبراهيم: القاسم وكان به يكنى، والطيب والطاهر، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.
__________
(1) يريد: ما نزل الآن، وإلا فلم يخل أن ينزل تحتها كثير من الناس غير أنبياء.
(2) وسطتك: توسطك في قومك وكونك من أعرقهم.
وتروى: وصيتك.
(*)
قال ابن هشام: أكبرهم القاسم، ثم الطيب، ثم الطاهر.
وأكبر بناته رقية، ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة.
قال البيهقى عن الحاكم قرأت بخط أبى بكر بن أبى خيثمة: حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري، قال: أكبر ولده عليه الصلاة والسلام القاسم، ثم زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية.
وكان أول من مات من ولده القاسم، ثم عبد الله.
وبلغت خديجة خمسا وستين سنة، ويقال خمسين.
وهو أصح.
وقال غيره: بلغ القاسم أن يركب الدابة والنجيبة ثم مات بعد النبوة.
وقيل: مات وهو رضيع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن له مرضعا في الجنة يستكمل رضاعه ".
والمعروف أن هذا في حق إبراهيم.
وقال يونس بن بكير: حدثنا إبراهيم بن عثمان، عن القاسم، عن ابن عباس قال:
ولدت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين وأربع نسوة: القاسم، وعبد الله، وفاطمة، وأم كلثوم، وزينب ورقية.
وقال الزبير بن بكار: عبد الله هو الطيب وهو الطاهر، سمى بذلك لانه ولد بعد النبوة.
[ وأما الباقون ] فماتوا قبل البعثة.
وأما بناته فأدركن البعثة ودخلن في الاسلام وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: وأما إبراهيم فمن مارية القبطية التى أهداها له المقوقس صاحب اسكندرية من كورة أنضاء (1).
__________
(1) مدينة بالصعيد شرقي النيل.
(*)
وسنتكلم على أزواجه وأولاده عليه الصلاة والسلام في باب مفرد لذلك في آخرة السيرة إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
قال ابن هشام: وكان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة، فيما حدثنى غير واحد من أهل العلم، منهم أبو عمرو المدنى.
وقال يعقوب بن سفيان: كتبت عن إبراهيم بن المنذر: حدثنى عمر بن أبى بكر المؤملى، حدثنى غير واحد أن عمرو بن أسد زوج خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره خمس وعشرون سنة وقريش تبنى الكعبة.
وهكذا نقل البيهقى عن الحاكم أنه كان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة، وكان عمرها إذ ذاك خمسا وثلاثين.
وقيل خمسا وعشرين سنة.
وقال البيهقى: " باب ما كان يشتغل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة ".
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر بن عبد الله، أخبرنا الحسن بن
سفيان، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا عمرو بن أبى يحيى بن سعيد القرشى، عن جده سعيد عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بعث الله نبيا إلا راعى غنم " فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله ؟ قال: " وأنا رعيتها لاهل مكة بالقراريط ".
رواه البخاري عن أحمد بن محمد المكى عن عمرو بن يحيى به.
ثم روى البيهقى من طريق الربيع بن بدر، وهو ضعيف، عن أبى الزبير عن
جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " آجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوص ".
وروى البيهقى من طريق حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن عمار بن أبى عمار، عن ابن عباس: أن أبا خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو - أظنه قال - سكران.
ثم قال البيهقى: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، أنبأنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان، قال حدثنى إبراهيم بن المنذر، حدثنى عمر بن أبى بكر المؤملى حدثنى عبد الله بن أبى عبيد بن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه، عن مقسم بن أبى القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، أن عبد الله بن الحارث حدثه أن عمار بن ياسر كان إذا سمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وما يكثرون فيه يقول: أنا أعلم الناس بتزويجه إياها، إنى كنت له تربا وكنت له إلفا وخدنا، وإنى خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم حتى إذا كنا بالحزورة أجزنا على أخت خديجة وهى جالسة على أدم تبيعها، فنادتني فانصرفت إليها ووقف لى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت: أما بصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة ؟.
قال عمار: فرجعت إليه فأخبرته فقال: " بلى لعمري ".
فذكرت لها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: اغدوا علينا إذا أصبحنا.
فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة وألبسوا أبا خديجة حلة، وصفرت لحيته، وكلمت أخاها فكلم أباه وقد سقى خمرا، فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه، وسأله أن يزوجه فزوجه خديجة، وصنعوا من البقرة طعاما فأكلنا منه ونام أبوها ثم
استيقظ صاحيا.
فقال: ما هذه الحلة وما هذه الصفرة وهذا الطعام ؟ فقالت له ابنته التى كانت قد كلمت عمارا: هذه حلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك، وبقرة أهداها لك، فذبحناها حين زوجته خديجة.
فأنكر أن يكون زوجه، وخرج يصيح حتى جاء الحجر، وخرج بنو هاشم برسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءوه فكلموه.
فقال: أين صاحبكم الذى تزعمون أنى زوجته خديجة ؟ فبرز له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نظر إليه قال: إن كنت زوجته فسبيل ذاك، وإن لم أكن فعلت فقد زوجته.
وقد ذكر الزهري في سيره أن أباها زوجها منه وهو سكران.
وذكر نحو ما تقدم.
حكاه السهيلي.
قال المؤملى: المجتمع عليه أن عمها عمرو بن أسد هو الذى زوجها منه.
وهذا هو الذى رجحه السهيلي.
وحكاه عن ابن عباس وعائشة.
قالت: وكان خويلد مات قبل الفجار، وهو الذى نازع تبعا حين أراد أخذ الحجر الاسود إلى اليمن، فقام في ذلك خويلد وقام معه جماعة من قريش، ثم رأى تبع في منامه ما روعه، فنزع عن ذلك وترك الحجر الاسود مكانه.
وذكر ابن إسحاق في آخر السيرة أن أخاها عمرو بن خويلد هو الذى زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله أعلم.
فصل قال ابن إسحاق: وقد كانت خديجة بنت خويلد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصى وكان ابن عمها - وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم
الناس، ما ذكر لها غلامها من قو الراهب وما كان يرى منه إذ كان الملكان يضلانه.
فقال ورقة: لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبى هذه الامة، قد عرفت أنه كائن لهذه الامة نبى ينتظر هذا زمانه.
أو كما قال.
فجعل ورقة يستبطئ الامر ويقول حتى متى ؟ وقال في ذلك: لججت وكنت في الذكرى لجوجا * لهم طالما بعث النشيجا ووصف من خديجة بعد وصف * فقد طال انتظاري يا خديجا ببطن المكتين (1) على رجائي * حديثك أن أرى منه خروجا بما خبرتنا من قول قس * من الرهبان أكره أن يعوجا بأن محمدا سيسود يوما (2) ويخصم من يكون له حجيجا ويظهر في البلاد ضياء نور * يقيم (3) به البرية أن تموجا فليقى من يحاريه خسارا * ويلقى من يسالمه فلوجا (4) فياليتى إذا ما كان ذاكم * شهدت وكنت (5) أولهم ولوجا ولوجا في الذى كرهت قريش * ولو عجت بمكتها عجيجا أرجى بالذى كرهوا جميعا * إلى ذى العرش إن سفلوا عروجا وهل أمر السفالة غير كفر * بمن يختار، من سمك البروجا فإن يبقوا وأبق تكن أمور * يضج الكافرون لها ضجيجا وإن أهلك فكل فتى سيلقى * من الاقدار متلفة حروجا (6)
__________
(1) المكتين: جانبا مكة، أو بطاحها وظواهرها (2) ط: قوما وهو خطأ.
وفى ابن هشام: سيسود فينا.
(3) خ ط: يقوم وهو خطأ، وما أثبته عن ابن هشام.
(4) الفلوج: النجاح والظفر.
(5) ابن هشام: فكنت.
(6) ط: خروجا.
وهو خطأ.
(*)
وقال ورقة أيضا فيما رواه يونس بن بكير (1) عن ابن إسحاق عنه.
أتبكر أم أنت العشية رائح * وفى الصدر من إضمارك الحزن قادح ؟ لفرقة قوم لا أحب فراقهم * كأنك عنهم بعد يومين نازح وأخبار صدق خبرت عن محمد * يخبرها عنه إذا غاب ناصح أتاك (2) الذى وجهت يا خير حرة * بغور وبالنجدين حيث الصحاصح (3) إلى سوق بصرى في الركاب التى غدت * وهن من الاحمال قعص ؟ والح (4) فيخبرنا عن كل خير بعلمه * وللحق أبواب لهن مفاتح بأن ابن عبد الله أحمد مرسل * إلى كل من ضمت عليه الاباطح وظني به أن سوف يبعث صادقا * كما أرسل العبدان هود وصالح وموسى وإبراهيم حتى يرى له * بهاء ومنشور من الذكر واضح ويتبعه حيا لؤى وغالب * شبابهم والاشيبون الجحاجح فإن أبق حتى يدرك الناس دهره * فإنى به مستبشر الود فارح وإلا فإنى يا خديجة فاعلمي * عن ارضك في الارض العريضة سائح وزاد الاموى: فمتبع دين الذى أسس البنا * وكان له فضل على الناس راجح وأسس بنيانا بمكة ثابتا * تلالا فيه بالظلام المصابح مثابا لافناء القبائل كلها * تخب إليه اليعملات الطلائح (5)
حراجيج (6) أمثال القداح من السرى * يعلق في أرساغهن السرائح
__________
(1) ليست في ابن هشام، لان ابن هشام أثبت رواية زياد البكائى (2) الاكتفا: فتاك.
(3) الصحاصح: جمع صحصح وهى الارض المستوية (4) أي بطيئات مثقلات الخطو.
(5) اليعملات: جمع يعملة، وهى الناقة النجيبة.
والطلائح: المتعبات.
(6) الحراجيج: الطوال (*)
ومن شعره أورده أبو القاسم السهيلي في روضه: لقد نصحت لاقوام وقلت لهم * أنا النذير فلا يغرركم أحد لا تعبدن إلها غير خالقكم * فإن دعوكم فقولوا بيننا حدد (1) سبحان ذى العرش سبحانا يدوم له * وقبلنا سبح الجودى والجمد مسخر كل ما تحت السماء له * لا ينبغى أن يناوى ملكه أحد لا شئ مما ترى تبقى بشاشته * يبقى الاله ويودى المال والولد لم تغن عن هرمز يوما خزائنه * والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجرى الرياح به * والجن والانس فيما بينها مرد أين الملوك التى كانت لعزتها * من كل أوب إليها وافد يفد حوض هنالك مورود بلا كذب * لا بد من ورده يوما كما وردوا ثم قال: هكذا نسبه أبو الفرج إلى ورقة.
قال: وفيه أبيات تنسب إلى أمية ابن أبى الصلت.
قلت: وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه كان يستشهد في بعض الاحيان بشئ من هذه الابيات.
والله أعلم.
فصل في تجديد قريش بناء الكعبة قبل المبعث بخمس سنين ذكر البيهقى بناء الكعبة قبل تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة.
والمشهور أن بناء قريش الكعبة بعد تزويج خديجة كما ذكرناه بعشر سنين.
__________
(1) الحدد: الخصومة.
(*)
ثم شرع البيهقى في ذكر بناء الكعبة في زمن إبراهيم كما قدمناه في قصته، وأورد حديث ابن عباس المتقدم في صحيح البخاري، وذكر ما ورد من الاسرائيليات في بنائه في زمن آدم.
ولا يصح ذلك، فإن ظاهر القرآن يقتضى أن إبراهيم أول من بناه مبتدئا، وأول من أسسه، وكانت بقعته معظمة قبل ذلك معتنى بها مشرفة في سائر الاعصار والاوقات.
قال الله تعالى: " إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " (1).
وثبت في الصحيحين عن أبى ذر قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال: " المسجد الحرام " قلت ثم أي ؟ قال " المسجد الاقصى " قلت كم بينهما ؟ قال: أربعون سنة " وقد تكلمنا على هذا (2) وأن المسجد الاقصى أسسه إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام.
وفى الصحيحين " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والارض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ".
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله الصفار، حدثنا أحمد ابن مهران، حدثنا عبيد الله، حدثنا إسرائيل، عن أبى يحيى، عن مجاهد، عن عبد الله ابن عمرو.
قال: كان البيت قبل الارض بألفى سنة، " وإذا الارض مدت ".
قال: من تحته مدت.
قال: وقد تابعه منصور عن مجاهد.
__________
(1) سورة آل عمران.
(2) وذلك في الجزء الاول من البداية والنهاية للمؤلف.
(*)
قلت: وهذا غريب جدا، وكأنه من الزاملتين اللتين أصابهما عبد الله بن عمرو يوم اليرموك، وكان فيهما إسرائيليات يحدث منها، وفيهما منكرات وغرائب ثم قال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الله البغدادي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، حدثنا أبو صالح الجهنى، حدثنى ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى الخير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما ابنيا لى بيتا، فخط لهما جبريل، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل، حتى أجابه الماء نودى من تحته حسبك يا آدم.
فلما بنيا أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به، وقيل له أنت أول الناس، وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه ".
قال البيهقى: تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعا.
قلت: وهو ضعيف، ووقفه على عبد الله بن عمرو أقوى وأثبت.
والله أعلم.
وقال الربيع: أنبأنا الشافعي، أنبأنا سفيان، عن ابن أبى لبيد، عن محمد بن كعب القرظى - أو غيره - قال: حج آدم فلقيته الملائكة فقالوا: بر نسكك يا آدم، لقد حججنا قبلك بألفى عام.
وقال يونس بن بكير: عن ابن اسحاق حدثنى بقية - أو قال ثقة من أهل المدينة - عن عروة بن الزبير أنه قال: ما من نبى إلا وقد حج البيت، إلا ما كان من هود وصالح.
قلت: وقد ذكرنا حجهما إليه (1).
المقصود الحج إلى محله وبقعته،، وإن لم يكن ثم بناء.
والله أعلم.
__________
(1) وذلك في الجزء الاول من البداية والنهاية للمؤلف.
(*)
ثم أورد البيهقى حديث ابن عباس المذكور في قصة إبراهيم عليه السلام بطوله وتمامه وهو في صحيح البخاري.
ثم روى البيهقى من حديث سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة.
قال: سأل رجل عليا عن قوله تعالى (إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين) أهو أول بيت بنى في الارض ؟ قال: لا، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة للناس والهدى، ومقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا.
وإن شئت نبأتك كيف بناؤه ! إن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم أن ابن لى بيتا في الارض.
فضاق به ذرعا فأرسل إليه السكينة وهى ريح خجوج (1) لها رأس، فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت ثم تطوقت في موضع البيت تطوق الحية، فبنى إبراهيم حتى بلغ مكان الحجر، قال لابنه: ابغنى حجرا.
فالتمس حجرا حتى أتاه به، فوجد الحجر الاسود قد ركب.
فقال لابيه: من أين لك هذا ؟ قال: جاء به من لا يتكل على بنائك، جاء به جبريل من السماء.
فأنمه.
قال: فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته جرهم.
ثم انهدم فبنته قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ رجل شاب.
فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الاسود اختصموا فيه فقالوا: نحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم، فقضى بينهم أن يجعلوه في مرط (2) ثم ترفعه جميع القبائل كلهم.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة وقيس وسلام كلهم عن سماك ابن حرب، عن خالد بن عرعرة، عن على بن أبى طالب قال: لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه.
__________
(1) الخجوج: الريح الشديدة المر أو الملتوية في هبوبها.
(2) المرط: كساء من صوف أو خز.
(*)
فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بنى شيبة فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب.
فرفعوه وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه.
قال يعقوب بن سفيان: أخبرني أصبغ بن فرج، أخبرني ابن وهب، عن يونس عن ابن شهاب، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم جمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت، فهدموها، حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن: أي القبائل تلى رفعه.
فقالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا، فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أخرج سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فكان هو يضعه.
فكان لا يزداد على السن إلا رضى حتى دعوه الامين قبل أن ينزل عليه الوحى، فطفقوا لا ينحرون جزورا إلا التمسوه فيدعو لهم فيها.
وهذا سياق حسن، وهو من سير الزهري.
وفيه من الغرابة قوله: " فلما بلغ الحلم " والمشهور أن هذا كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم عمره خمس وثلاثون سنة، وهو الذى نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله.
وقال موسى بن عقبة: كان بناء الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة.
وهكذا قال مجاهد، وعروة، ومحمد بن جبير بن مطعم، وغيرهم.
فالله أعلم.
وقال موسى بن عقبة: كان بين الفجار وبين بناء الكعبة خمس عشرة سنة.
قلت: وكان الفجار وحلف الفضول في سنة واحدة، إذ كان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون سنة وهذا يؤيد ما قال محمد بن إسحاق والله أعلم.
قال موسى بن عقبة: وإنما حمل قريشا على بنائها أن السيول كانت تأتى من فوقها، من فوق الردم الذى صفوه فخربه، فخافوا أن يدخلها الماء.
وكان رجل يقال له مليح سرق طيب الكعبة.
فأرادوا أن يشيدوا بنيانها وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاءوا.
فأعدوا لذلك نفقة وعمالا، ثم غدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر أن يمنعهم [ الله ] (1) الذى أرادوا.
فكان أول رجل طلعها وهدم منها شيئا الوليد بن المغيرة، فلما رأوا الذى فعل الوليد تتابعوا فوضعوها فأعجبهم ذلك.
فلما أرادوا أن يأخذوا في بنيانها أحضروا عمالهم فلم يقدر رجل منهم أن يمضى أمامه موضع قدم.
فزعموا أنهم رأوا حية قد أحاطت بالبيت، رأسها عند ذنبها، فأشفقوا منها شفقة شديدة، وخشوا أن يكونوا قد وقعوا مما عملوا في هلكة.
وكانت الكعبة حرزهم ومنعتهم من الناس وشرفا لهم، فلما سقط في أيديهم والتبس عليهم أمرهم قام فيهم المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، فذكر ما كان من نصحه لهم وأمره إياهم أن لا يتشاجروا ولا يتحاسدوا في بنائها، وأن يقتسموها أرباعا، وأن لا يدخلوا في بنائها مالا حراما.
وذكر أنهم لما عزموا على ذلك ذهبت الحية في السماء وتغيبت عنهم ورأوا أن ذلك من الله عزوجل.
__________
(1) من ابن هشام (*)
قال: ويقول بعض الناس: إنه اختطفها طائر وألقاها نحو أجياد.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبناء الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضما (1) فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها.
وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان [ يكون ] (2) في بئر في جوف الكعبة.
وكان الذى وجد عند الكنز دويك مولى لبنى مليح بن عمرو بن (3) خزاعة.
فقطعت قريش يده.
وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك.
وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم، فتحطمت.
فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها.
قال الاموى: كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم تحمل آلات البناء من الرخام والخشب والحديد، سرحها قيصر مع باقوم الرومي إلى الكنيسة التى احرقها الفرس للحبشة، فلما بلغت مرساها من جدة بعث الله عليها ريحا فحطمتها.
قال ابن إسحاق: وكان بمكة رجل قبطى نجار، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها.
وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التى كانت تطرح فيها ما يهدى إليها كل يوم، فتتشرق (4) على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد
__________
(1) أي حجارة نضد بعضها على بعض من غير ملاط.
(2) من ابن هشام.
(3) ابن هشام: من خزاعة.
(4) تتشرق: تبرز للشمس.
وفى ط: تتشرف، وهو خطأ.
(*)
إلا احزألت وكشت (1) وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينما هي يوما تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله عليها طائرا فاختطفها فذهب بها.
فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضى ما أردنا، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية.
وحكى السهيلي عن رزين، أن سارقا دخل الكعبة في أيام جرهم ليسرق كنزها، فانهار البئر عليه حتى جاءوا فأخرجوه وأخذوا منه ما كان أخذه، ثم سكنت هذا البئر حية رأسها كرأس الجدى، وبطنها أبيض وظهرها أسود، فأقامت فيها خمسمائة عام.
وهى التى ذكرها محمد بن اسحاق.
قال محمد ابن اسحاق: فلما أجمعوا أمرهم لهدمها (2) وبنيانها قام أبو وهب [ بن (3) ] عمرو بن عائذ (4) بن عبد بن عمران بن مخزوم - وقال ابن هشام: عائذ (4) بن عمران بن مخزوم - فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه.
فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من گسبكم إلا طيبا، لا يدخل (5) فيها مهر بغى ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.
والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر (6) بن مخزوم.
ثم رجح ابن اسحاق أن قائل ذلك أبو وهب ابن عمرو.
قال: وكان خال أبى النبي صلى الله عليه وسلم وكان شريفا ممدحا.
قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا تجزأت الكعبة.
فكان شق الباب لبنى عبد مناف وزهرة، وما بين الركن الاسود والركن اليماني لبنى مخزوم وقبائل من قريش انضموا
__________
(1) احزألت: رفعت رأسها.
وكشت: صوتت من جلدها لا من فيها.
(2) ابن هشام: في هدمها.
(3) سقطت من ط.
(4) ط: عايد، وهو خطأ.
(5) ابن هشام: لا تدخلوا.
(6) ط: عمرو، وهو خطأ.
(*)
إليهم.
وكان ظهر الكعبة لبنى جمح وسهم.
وكان شق الحجر لبنى عبد الدار بن قصى،
ولبنى أسد بن عبد العزى ولبنى عدى بن كعب رهو (1) الحطيم.
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها.
فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع (2)، اللهم إنا لا نريد إلا الخير.
ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شئ فقد رضى الله ما صنعنا [ من هدمها (3) ].
فأصبح الوليد غاديا على عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الاساس، أساس إبراهيم عليه السلام، أفضوا إلى حجارة خضر كالاسنة آخذ بعضها بعضا.
ووقع في صحيح البخاري عن يزيد بن رومان " كأسنمة الابل " قال السهيلي: وأرى رواية السيرة " كالاسنة (4) " وهما والله أعلم.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض من يروى الحديث: أن رجلا من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر انتفضت (5) مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الاساس.
وقال موسى بن عقبة: وزعم عبد الله بن عباس أن أولية قريش كانوا يحدثون أن رجلا من قريش لما اجتمعوا لينزعوا الحجارة إلى تأسيس إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، عمد رجل منهم إلى حجر من الاساس الاول فرفعه وهو لا يدرى أنه من
__________
(1) الرهو: ما اطمأن من الارض وارتفع ما حوله.
وفى المطبوعة: وهو، وهذا تحريف.
(2) أي لم نفزع الكعبة.
ويروى: اللهم لم نزغ.
(3) ليست في ابن هشام.
(4) ط: كالاسنة وهو تحريف.
(5) ابن هشام: نقضت.
(*)
الاساس الاول، فأبصر القوم برقة تحت الحجر كادت تلتمع بصر الرجل ونزا الحجر من
يده فوقع في موضعه، وفزع الرجل والبناة.
فلما ستر الحجر عنهم ما تحته إلى مكانه عادوا إلى بنيانهم، وقالوا لا تحركوا هذا الحجر ولا شيئا بحذائه.
قال ابن اسحاق: وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية فلم يعرفوا ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا هو أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السماوات والارض، وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها - قال ابن هشام: يعنى جبلاها - مبارك لاهلها في الماء واللبن.
قال ابن اسحاق: وحدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه: مكة [ بيت (1) ] الله الحرام، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، لا يحلها أول من أهلها.
قال: وزعم ليث بن أبى سليم أنهم وجدوا [ حجرا (2) ] في الكعبة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة، إن كان ما ذكر حقا، مكتوبا فيه: من يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يزرع شرا يحصد ندامة، تعملون السيئات وتجزون الحسنات ؟ ! أجل كما [ لا (3) ] يجتنى من الشوك العنب.
وقال سعيد بن يحيى الاموى: حدثنا المعتمر بن سليمان الرقى، عن عبد الله بن بشر الزهري - يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال: " وجد في المقام ثلاثة أصفح، في الصفح الاول: إنى أنا الله ذو بكة، صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، وباركت لاهلها في اللحم واللبن.
__________
(1) سقطت من المطبوعة.
(2) سقطت من المطبوعة.
(3) من ابن هشام.
(*)
وفى الصفح الثاني: إنى أنا الله ذو بكة، خلقت الرحم وشققت لها من اسمى، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته ؟.
وفى الصفح الثالث: إنى أنا الله ذو بكة، خلقت الخير والشر وقدرته، فطوبى لمن
أجريت الخير على يديه، وويل لمن أجريت الشر على يديه.
قال ابن اسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة.
ثم بنوها حتى بلغ البناء موضع الركن، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الاخرى.
حتى تحاوروا (1) وتحالفوا، وأعدوا للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدى بن كعب بن لؤى على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة.
فسموا لعقة الدم.
فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر (2) بن مخزوم - وكان عامئذ أسن قريش كلها، قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم فيه، ففعلوا.
فكان أول داخل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الامين رضينا، هذا محمد.
فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هلموا إلى ثوبا ".
فأتى به وأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال: " لتأخذ كل قبيلة
__________
(1) وتروى: تحاوزوا بالزاى.
أي انحازت كل قبيلة إلى جهة.
وفى ط: تحاوروا أو تحالفوا وهو خطأ (2) ط: عمرو، وهو خطأ.
(*)
بناحية من الثوب.
ثم ارفعوه جميعا " ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم.
ثم بنى عليه.
وكانت قريش تسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الامين.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا ثابت - يعنى أبا يزيد - حدثنا هلال
يعنى ابن حبان، عن مجاهد عن مولاه - وهو السائب بن عبد الله - أنه حدثه أنه كان فيمن بنى الكعبة في الجاهلية قال: وكان لى حجر أنا نحته أعبده من دون الله، قال: وكنت أجئ باللبن الخاثر الذى آنفه على نفسي فأصبه عليه فيجئ الكلب فيلحسه ثم يشغر فيبول عليه، قال: فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر ولا يرى الحجر أحد.
فإذا هو وسط أحجارنا مثل رأس الرجل يكاد يتراءى منه وجه الرجل.
فقال بطن من قريش: نحن نضعه.
وقال آخرون: نحن نضعه.
فقالوا: اجعلوا بينكم حكما.
فقالوا: أول رجل يطلع من الفج.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتاكم الامين.
فقالوا له، فوضعه في ثوب.
ثم دعا بطونهم فرفعوا نواحيه فوضعه هو صلى الله عليه وسلم (1).
قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانى عشرة ذراعا وكانت تكسى القباطى (2).
ثم كسيت بعد البرود (2) وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف.
قلت: وقد كانوا أخرجوا منها الحجر - وهو ستة أذرع أو سبعة أذرع من ناحية الشام - قصرت بهم النفقة، أي لم يتمكنوا أن يبنوه على قواعد إبراهيم.
وجعلوا للكعبة بابا واحدا من ناحية الشرق.
وجعلوه مرتفعا لئلا يدخل إليها كل أحد فيدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا.
__________
(1) القباطى: نوع من الثياب كان ينسج بمصر.
(2) المطبوعة: البرور وهو خطأ.
(*)
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: " ألم ترى أن قومك قصرت بهم النفقة.
ولولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا، وأدخلت فيها الحجر ".
ولهذا لما تمكن ابن الزبير بناها على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت
في غاية البهاء والحسن والسناء كاملة على قواعد الخليل، لها بابان ملتصقان بالارض شرقيا وغربيا، يدخل الناس من هذا ويخرجون من الآخر.
فلما قتل الحجاج ابن الزبير كتب إلى عبد الملك بن مروان، وهو الخليفة يومئذ، فيما صنعه ابن الزبير، اعتقدوا أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه.
فأمر بإعادتها إلى ما كانت عليه فعمدوا إلى الحائط الشامي فحصوه وأخرجوا منه الحجر ورصوا حجارته في أرض الكعبة، فارتفع باباها وسدوا الغربي، واستمر الشرقي على ما كان عليه، فلما كان في زمن المهدى - أو ابنه المنصور - استشار مالكا في إعادتها على ما كان صنعه ابن الزبير.
فقال مالك رحمه الله: إنى أكره أن يتخذها الملوك ملعبة فتركها على ما هي عليه.
فهى إلى الآن كذلك وأما المسجد الحرام: فأول من أخر البيوت من حول الكعبة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، اشتراها من أهلها وهدمها، فلما كان عثمان اشترى دورا وزادها فيه، فلما ولى ابن الزبير أحكم بنيانه، وحسن جدرانه وأكثر أبوابه.
ولم يوسعه شيئا آخر.
فلما استبد بالامر عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع جدرانه، وأمر بالكعبة فكسيت الديباج.
وكان الذى تولى ذلك بأمره الحجاج بن يوسف.
وقد ذكرنا قصة بناء البيت والاحاديث الواردة في ذلك في تفسير سورة البقرة عند
قوله (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) وذكرنا ذلك مطولا مستقصى، فمن شاء كتبه هاهنا.
ولله الحمد والمنة.
قال ابن إسحاق: فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا قال الزبير بن عبد المطلب (1)، فيما كان من أمر الحية التى كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها: عجبت لما تصوبت العقاب * إلى الثعبان وهى لها اضطراب وقد كانت تكون لها كشيش * وأحيانا يكون لها وثاب
إذا قمنا إلى التأسيس شدت * تهيبنا البناء وقد نهاب فلما أن خشينا الزجر جاءت * عقاب تتلئب (2) لها انصباب فضمتها إليها ثم خلت لنا البنيان ليس لها حجاب فقمنا حاشدين إلى بناء * لنا منه القواعد والتراب غداة يرفع التأسيس منه * وليس على مساوينا ثياب أعز به المليك بنى لؤى * فليس لاصله منهم ذهاب وقد حشدت هناك بنو عدى * ومرة قد تقدمها كلاب فبوأنا المليك بذاك عزا * وعند الله يلتمس الثواب وقد قدمنا في فصل ما كان الله يحوط به رسوله صلى الله عليه وسلم من أقذار الجاهلية، أنه كان هو والعباس عمه ينقلان الحجارة، وأنه عليه الصلاة والسلام لما وضع إزاره تحت الحجارة على كتفه نهى عن خلع إزاره، فأعاده إلى سيرته الاولى.
__________
(1) يبدو على تلك الابيات الصنعة والتكلف، ولا تصح نسبتها إلى الزبير.
(2) تتلئب: تقيم صدرها ورأسها.
والفعل: اتلاب.
(*)

 
روابط عرض كتاب السيرة النبوية لابن كثير
ترجمة ابن كثير الحافظ
1.السيرة النبوية لابن كثير ج1 /1.
2.السيرة النبوية لابن كثير ج1 /2.
3.ج1/ 3 السيرة النبوية لابن كثير الحافظ.
4.السيرة النبوية لابن كثير ج1//4
5.السيرة النبوية لاب كثير ج2//1..
6.السيرة النبوية لاب كثير ج2//2..
7.السيرة النبوية لابن كثير ج2//3.
8.السيرة النبوية لابن كثير ج2//4.
9.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /1 .
10.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /2 .
11.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /3 .
12.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /4 .
13..السيرة النبوية لابن كثير ج4 ا ج4//1.
14.السيرة النبوية لابن كثير ج4 ا ج4//2.
15.السيرة النبوية لابن كثير 4//3.ذكر خروجه عليه ال...
ص16.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص17.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص18.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص19.السيرة النبوية لابن كثير الجزء السادس -ج6//1
ص20. ج6//2 السيرة النبوية لابن كثير
ص21.ج6//3 السيرة النبوية لابن كثير
ص22.ج6//4 السيرة النبوية لابن هشام الحافظ
الروابط الي الجزء 6
ص23.السيرة النبوية لابن كثير الجزء 7 بتصنيف الشاملة...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق