الجمعة، 15 يونيو 2018

12.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /4 .

الحالي   12 . السيرة النبوية لابن كثير ج3 /4 .
...وعلونا يوم بدر بالتقى * طاعة الله وتصديق الرسل وقتلنا كل رأس منهم * وقتلنا كل جحجاح رفل (1) وتركنا في قريش عورة * يوم بدر وأحاديث المثل ورسول الله حقا شاهدا * يوم بدر والتنابيل الهبل (2) في قريش من جموع جمعوا * مثل ما يجمع في الخصب الهمل (3) نحن لا أمثالكم ولد استها * نحضر البأس إذا البأس نزل * * * قال ابن إسحاق: وقال كعب يبكى حمزة ومن قتل من المسلمين يوم أحد، رضى الله عنهم: نشجت وهل لك من منشج * وكنت متى تدكر تلجج تذكر قوم أتانى لهم * أحاديث في الزمن الاعوج فقلبك من ذكرهم خافق * من الشوق والحزن المنضج وقتلاهم في جنان النعيم * كرام المداخل والمخرج بما صبروا تحت ظل اللواء * لواء الرسول بذى الاضوج (4) غداة أجابت بأسيافها * جميعا بنو الاوس والخزرج وأشياع أحمد إذ شايعوا * على الحق ذى النور والمنهج
فما برحوا يضربون الكماة * ويمضون في القسطل المرهج (5)
__________
(1) الجحجاح: السيد.
والرفل: الذى يجر ثوبه خيلاء.
(2) التنابيل: القصار.
والهبل: الذين ثقلوا لكثرة اللحم عليهم.
(3) الهمل: الابل المهملة التى تركت دون راع.
(4) الاضوج: جمع ضوج، وهو منعطف الوادي.
(5) القسطل: الغبار.
(*)
كذلك حتى دعاهم مليك * إلى جنة دوحة المولج (1) وكلهم مات جر البلاء * على ملة الله لم يحرج كحمزة لما وفى صادقا * بذى هبة صارم سلجج (2) فلاقاه عبد بنى نوفل * يبربر كالجمل الادعج (3) فأوجره حربة كالشهاب * تلهب في اللهب الموهج ونعمان أوفى بميثاقه * وحنظلة الخير لم يحنج (4) عن الحق حتى غدت روحه * إلى منزل فاخر الزبرج (5) أولئك لا من ثوى منكم * من النار في الدرك المرتج * * * قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت يبكى حمزة ومن أصيب من المسلمين يوم أحد، وهى على روى قصيدة أمية بن أبى الصلت في قتلى المشركين يوم بدر.
قال ابن هشام: ومن أهل العلم بالشعر من ينكر هذه لحسان.
والله أعلم: يامى قومي فاندبي * بسحيرة شجو النوائح كالحاملات الوقر بالثقل الملحات الدوالح (6) المعولات الخامشا * ت وجوه حرات صحائح
وكأن سيل دموعها الانصاب تخضب بالذبائح ينقضن أشعارا لهن * هناك بادية المسائح (7) وكأنها أذناب خي * - ل بالضحى شمس روامح
__________
(1) الدوحة: الكثيرة الاغصان.
والمولج: المدخل (2) السلجج: المرهف.
(3) عبد بنى نوفل: وحشى قاتل حمزة.
ويبربر: يصيح.
والادعج: الاسود.
(4) لم يحنج: لم يمل.
(5) الزبرج: الوشى.
(6) الدوالح: الحاملات الثقل.
(7) المسائح: ذوائب الشعر.
(8 - السيرة - 3) (*)
من بين مشرور ومج * زور يذعذع بالبوارح (1) يبكين شجوا مسلبات * كدحتهن الكوادح ولقد أصاب قلوبها * مجل له جلب قوارح (2) إذ أقصد الحدثان من * كنا نرجى إذ نشايح (3) أصحاب أحد غالهم * دهر ألم له جوارح من كان فارسنا وحا * مينا إذا بعث المسالح (4) يا حمز لا والله لا * أنساك ماصر اللقائح لمناخ أيتام وأض * - ياف وأرملة تلامح (5) ولما ينوب الدهر في * حرب لحرب وهى لاقح يا فارسا يامدرها * يا حمز قد كنت المصامح (6) عنا شديدات الخطو * ب إذا ينوب لهن فادح ذكرتني أسد الرسو * ل وذاك مدرهنا المنافح عنا وكان يعد إذ * عد الشريفون الجحاجح يعلو القماقم جهرة * سبط اليدين أغر واضح
لا طائش رعش ولا * ذو علة بالحمل آنح (7) بحر فليس يغب جا * را منه سيب أو منادح أودى شباب أولى الحفا * ئظ والثقيلون المراجح المطعمون إذا المشا * تى ما يصفقهن ناضح
__________
(1) المشرور: الذى وضع لحمه على خصفة ليجف.
ويذعذع: يغرق.
والبوارح: الرياح الشديدة.
(2) المجل: أن يكون بين الجلد واللحم ماء.
والجلب: جمع جلبة وهو قشرة تعلو الجرح عند البرء.
(3) نشايح: تحذر.
(4) اللقائح: جمع لقحة وهى الناقة ذات اللبن.
(5) تلامح: تنظر لمحة ثم تغض بصرها.
(6) المصامح: المدافع القوى.
(7) آنح: ضعيف واهن.
يقال أنح البعير: إذا حمل الثقل أخرج من صدره صوت المعتصر.
(*)
لحم الجلاد وفوقه * من شحمه شطب شرائح ليدافعوا عن جارهم * مارام ذو الضغن المكاشح لهفى لشبان رزئ * ناهم كأنهم المصابح شم بطارقة غطا * رفة خضارمة مسامح (1) المشترون الحمد بالاموال إن الحمد رابح والجامزون بلجمهم يوما * إذا ما صاح صائح (2) من كان يرمى بالنوا * قر (3) من زمان غير صالح ما إن تزال ركابه * يرسمن في غبر صحاصح (4) راحت تبارى وهو في * ركب صدورهم رواشح حتى تئوب له المعا * لى ليس من فوز السفائح (5) يا حمزة قد أوحدتني * كالعود شذ به الكوافح (6) أشكو إليك وفوقك الترب المكور والصفائح
من جندل يلقيه فوقك * إذ أجاد الضرح ضارح (7) في واسع يحشونه * بالترب سوته المماسح فعزاؤنا أنا نقو * ل وقولنا برح بوارح (8) من كان أمسى وهو عما أوقع الحدثان جانح فليأتنا فلتبك عيناه لهلكانا النوافح (9)
__________
(1) البطارقة: الرؤساء، والغطارفة: السادة.
والخضارفة: المكثرون من العطاء.
والمسامح: الكرام.
(2) الجامزون: الواثبون.
واللجم: جمع لجام.
(3) النواقر: الدواهي والمصائب.
(4) يرسمن: يسرن الرسم، وهو نوع من سير الابل.
والغبر: جمع غبراء وهى الارض: والصحاصح: الارض المستوية: (5) السفائح: جمع سفيح وهو من قداح الميسر.
(6) الكوافح: الذين يتناولونه بالقطع.
(7) الضرح: الحفر للميت.
(8) برح: صعب.
(9) النوافح: من ينفحون بالعطاء والخير.
(*)
القائلين الفاعلين * ذوى السماحة والممادح من لا يزال ندى يديه له طوال الدهر مأخ (1) قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان.
* * * قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يبكى حمزة وأصحابه: طرقت همومك فالرقاد مسهد * وجزعت أن سلخ الشباب الاغيد ودعت فؤادك للهوى ضمرية * فهواك غورى وصحوك منجد فدع التمادي في الغواية سادرا * قد كنت في طلب الغواية تفند (2) ولقد أنى لك أن تناهى طائعا * أو تستفيق إذا نهاك المرشد
ولفد هددت لفقد حمزة هدة * ظلت بنات الجوف منها ترعد ولو انه فجعت حراء بمثله * لرأيت راسى صخرها يتبدد قرم تمكن في ذؤابة هاشم * حيث النبوة والندى والسؤدد والعاقر الكوم الجلاد إذا غدت * ريح يكاد الماء منها يجمد والتارك القرن الكمى مجدلا * يوم الكريهة والقنا يتقصد وتراه يرفل في الحديد كأنه * ذو لبدة شثن البراثن أربد (3) عم النبي محمد وصفيه * ورد الحمام فطاب ذاك المورد وأتى المنية معلما في أسرة * نصروا النبي ومنهم المستشهد ولقد إخال بذاك هندا بشرت * لتميت داخل غصة لا تبرد مما صبحنا بالعقنقل قومها * يوما تغيب فيه عنها الاسعد
__________
(1) مائح: طالب مبتغ.
(2) تفند: تعذل وتلام.
(3) ذو لبدة: يريد أسدا.
والشثن: الغليظ.
والبراثن للاسد كالاصابع للانسان.
والاربد: المغبر.
(*)
وببئر بدر إذ يرد وجوههم * جبريل تحت لوائنا ومحمد حتى رأيت لدى النبي سراتهم * قسمين نقتل من نشاء ونطرد فأقام بالعطن المعطن منهم * سبعون عتبة منهم والاسود وابن المغيرة قد ضربنا ضربة * فوق الوريد لها رشاش مزبد وأمية الجمحى قوم ميله * عضب بأيدى المؤمنين مهند فأتاك فل المشركين كأنهم * والخيل تثفنهم (1) نعام شرد شتان من هو في جهنم ثاويا * أبدا ومن هو في الجنان مخلد * * * قال ابن إسحاق: وقال عبدالله بن رواحة يبكى حمزة وأصحابه يوم أحد.
قال ابن
هشام: وأنشدينها أبو زيد لكعب بن مالك.
فالله أعلم: بكت عينى وحق لها بكاها * وما يغنى البكاء ولا العويل على أسد الاله غداة قالوا * أحمزة ذاكم الرجل القتيل أصيب المسلمون به جميعا * هناك وقد أصيب به الرسول أبا يعلى لك الاركان هدت * وأنت الماجد البر الوصول عليك سلام ربك في جنان * مخالطها نعيم لا يزول ألا يا هاشم الاخيار صبرا * فكل فعالكم حسن جميل رسول الله مصطبر كريم * بأمر الله ينطق إذ يقول ألا من مبلغ عنى لؤيا * فبعد اليوم دائلة تدول وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا * وقائعنا بها يشفى الغليل نسيتم ضربنا بقليب بدر * غداة أتاكم الموت العجيل
__________
(1) تثفنهم: تطردهم.
(*)
غداة ثوى أبو جهل صريعا * عليه الطير حائمة تجول وعتبة وابنه خرا جميعا * وشيبة عضه السيف الصقيل ومتركنا أمية مجلعبا * وفى حيزومه لدن نبيل (1) وهام بنى ربيعة سائلوها * ففى أسيافنا منها فلول ألا يا هند فابكى لا تملى * فأنت الواله العبرى الهبول ألا يا هند لا تبدى شماتا * بحمزة إن عزكم ذليل * * * قال ابن إسحاق: وقالت صفية بنت عبدالمطلب تبكى أخاها حمزة بن عبدالمطلب، وهى أم الزبير عمة النبي صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنهم أجمعين:
أسائلة أصحاب أحد مخافة * بنات أبى من أعجم وخبير فقال الخبير إن حمزة قد ثوى * وزير رسول الله خير وزير دعاه إله الحق ذو العرش دعوة * إلى جنة يحيا بها وسرور فذلك ما كنا نرجى ونرتجى * لحمزة يوم الحشر خير مصير فوالله لا أنساك ما هبت الصبا * بكاء وحزنا محضري ومسيري على أسد الله الذى كان مدرها (2) * يذود عن الاسلام كل كفور فياليت شلوى (3) عند ذاك وأعظمي * لدى أضبع تعتادنى ونسور أقول وقد أعلى النعى عشيرتي * جزى الله خيرا من أخ ونصير قال ابن إسحاق: وقالت نعم، امرأة شماس بن عثمان، تبكى زوجها والله أعلم ولله الحمد والمنة:
__________
(1) مجلعبا: ممتدا على الارض.
والحيزوم: ما اكتنف الحلقوم من جانب الصدر.
واللدن: اللين من الرماح.
(2) المدره: المدافع المحامي.
(3) الشلو: العضو.
(*)
يا عين جودى بفيض غير إبساس * على كريم من الفتيان لباس صعب البديهة ميمون نقيبته * حمال ألوية ركاب أفراس أقول لما أتى الناعي له جزعا * أودى الجواد وأودى المطعم الكاسى وقلت لما خلت منه مجالسه * لا يبعد الله منا قرب شماس قال: فأجابها أخوها الحكم بن سعيد بن يربوع يعزيها فقال: اقنى حياءك في ستر وفى كرم * فإنما كان شماس من الناس لا تقتلي النفس إذ حانت منيته * في طاعة الله يوم الروع والباس قد كان حمزة ليث الله فاصطبري * فذاق يومئذ من كأس شماس
وقالت هند بنت عتبة امرأة أبى سفيان حين رجعوا من أحد: رجعت وفى نفسي بلابل جمة * وقد فاتني بعض الذى كان مطلبي من اصحاب بدر من قريش وغيرهم * بنى هاشم منهم ومن أهل يثرب ولكننى قد نلت شيئا ولم يكن * كما كنت أرجو في مسيرى ومركبي * * * وقد أورد ابن إسحاق في هذا أشعارا كثيرة تركنا كثيرا منها خشية الاطالة وخوف الملالة، وفيما ذكرنا كفاية.
ولله الحمد.
وقد أورد الاموى في مغازيه من الاشعار أكثر مما ذكره ابن إسحاق كما جرت عادته، ولا سيما هاهنا.
فمن ذلك ما ذكره لحسان بن ثابت أنه قال في غزوة أحد.
فالله أعلم: طاوعوا الشيطان إذ أخزاهم * فاستبان الخزى فيهم والفشل حين صاحوا صيحة واحدة * مع أبى سفيان قالوا اعل هبل فأجبناهم جميعا كلنا * ربنا الرحمن أعلى وأجل
اثبتوا تستعملوها مرة * من حياض الموت والموت نهل واعلموا أنا إذا ما نضحت * عن خيال الموت قدر تشتعل وكأن هذه الابيات قطعة من جوابه لعبد الله بن الزبعرى.
والله أعلم.
" آخر الكلام على وقعة أحد " فصل قد تقدم ما وقع في هذه السنة الثالثة من الحوادث والغزوات والسرايا، ومن أشهرها وقعة أحد كانت في النصف من شوال منها، وقد تقدم بسطها ولله الحمد.
وفيها في أحد توفى شهيدا أبو يعلى، ويقال أبو عمارة أيضا، حمزة بن عبدالمطلب
عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الملقب بأسد الله وأسد رسوله، وكان رضيع النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو سلمة بن عبد الاسد، أرضعتهم ثويبة مولاة أبى لهب، كما ثبت ذلك في الحديث المتفق عليه.
فعلى هذا يكون قد جاوز الخمسين من السنين يوم قتل رضى الله عنهم، فإنه كان من الشجعان الابطال ومن الصديقين الكبار، وقتل معه يومئذ تمام السبعين.
رضى الله عنهم أجمعين.
وفيها عقد عثمان بن عفان على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أختها رقية، وكان عقده عليها في ربيع الاول منها، وبنى بها في جمادى الآخرة منها.
كما تقدم فيها.
ذكره الواقدي.
وفيها قال ابن جرير: ولد لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن على ابن أبى طالب.
قال: وفيها علقت بالحسين رضى الله عنهم.
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر سنة أربع من الهجرة النبوية في المحرم منها كانت سرية أبى سلمة بن عبد الاسد إلى طليحة الاسدي، فانتهى إلى ما يقال له قطن.
قال الواقدي: حدثنا عمر بن عثمان بن عبدالرحمن بن سعيد اليربوعي، عن سلمة ابن عبدالله بن عمر بن أبى سلمة وغيره، قالوا: شهد أبو سلمة أحدا فجرح جرحا على عضده، فأقام شهرا يداوى، فلما كان المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اخرج في هذه السرية فقد استعملتك عليها.
وعقد له لواء وقال: سر حتى تأتى أرض بنى أسد فأغر عليهم، وأوصاه بتقوى الله
وبمن معه من المسلمين خيرا.
وخرج معه في تلك السرية خمسون ومائة.
فانتهى إلى أدنى قطن، وهو ماء لبنى أسد، وكان هناك طليحة الاسدي وأخوه سلمة ابنا خويلد، وقد جمعا حلفاء من بنى أسد ليقصدوا حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما تمالاوا عليه فبعث معه أبا سلمة في سريته هذه.
فلما انتهوا إلى أرضهم تفرقوا وتركوا نعما كثيرا لهم من الابل والغنم، فأخذ ذلك كله أبو سلمة وأسر منهم معه ثلاثة مماليك، وأقبل راجعا إلى المدينة، فأعطى ذلك الرجل
الاسدي الذى دلهم نصيبا وافرا من المغنم، وأخرج صفى النبي صلى الله عليه وسلم، عبدا وخمس الغنيمة، وقسمها بين أصحابه.
ثم قدم المدينة.
قال عمر بن عثمان: فحدثني عبدالملك بن عبيد، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، عن عمر بن أبى سلمة قال: كان الذى جرح أبى أبو أسامة الجشمى، فمكث شهرا يداويه فبرأ، فلما برأ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحرم، يعنى من سنة أربع، إلى قطن، فغاب بضع عشرة ليلة، فلما دخل المدينة انتقض به جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الاولى.
قال عمر: واعتدت أمي حتى خلت أربعة أشهر وعشر، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها في ليال بقين من شوال، فكانت أمي تقول: ما بأس بالنكاح في شوال والدخول فيه، قد تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال وبنى فيه.
قال: وماتت أم سلمة في ذى القعدة سنة تسع وخمسين.
رواه البيهقى.
قلت: سنذكر في أواخر هذه السنة في شوالها تزيج النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة، وما يتعلق بذلك من ولاية الابن أمه في النكاح، ومذاهب العلماء في ذلك.
إن شاء الله تعالى.
وبه الثقة.
غزوة الرجيع قال الواقدي: وكانت في صفر يعنى سنة أربع.
بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ليجيزوه.
قال: والرجيع على ثمانية أميال من عسفان.
قال البخاري: حدثنى إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، عن عمرو بن أبى سفيان الثقفى، عن أبى هريرة، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت، وهو جد عاصم (1) بن عمر بن الخطاب.
فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة، ذكروا لحى من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مائة رام، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلا نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة فقالوا: هذا تمر يثرب.
فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم.
فلما انتهى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد (2)، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلا.
فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا رسولك.
فقاتلوهم حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر بالنبل.
وبقى خبيب وزيد ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق
__________
(1) قال الحافظ عبد العظيم: غلط عبد الرزاق وابن عبد البر فقالا في عاصم هذا: هو جد عاصم بن عمر
ابن الخطاب، وذلك وهم، وإنما هو خال عاصم، لان أم عاصم بن عمر جميلة بنت ثابت، وعاصم هو أخو جميلة، ذكر ذلك الزبير القاضى وعمه مصعب.
إرشاد السارى 6 / 312.
(2) فدفد: رابية مشرفة.
(*)
نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث الذى معهما: هذا أول الغدر ! فأبى أن يصحبهم.
فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل، فقتلوه.
وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات (1) الحارث يستحد بها فأعارته.
قالت: فغفلت عن صبى لى فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك منى، وفى يده الموسى فقال: أتخشين أن أقتله ؟ ما كنت لافعل ذلك إن شاء الله.
وكانت تقول: ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ من ثمرة، وإنه لموثق في الحديد وما كان إلا رزقا رزقه الله.
فخرجوا به من الحرم ليقتلوه فقال: دعوني أصلى ركعتين، ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن ما بى جزع من الموت لزدت.
فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو.
ثم قال: اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا.
ثم قال: ولست أبالى حين أقتل مسلما * على أي شق كان في الله مصرعي وذلك في ذات الاله وإن يشأ * يبارك على أوصال شلو ممزع (2) قال: ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشئ
من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيما من عظمائهم (3) يوم بدر، فبعث الله
__________
(1) اسمها زينب بنت الحارث: أخت عقبة بن الحارث الذى قتل خبيبا.
(2) أوصال: جمع وصل وهو العضو.
والشلو: الجسد والعضو.
(3) قيل: هو عقبة بن أبى معيط.
(*)
عليه مثل الظلة من الدبر (1) فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شئ.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع جابر بن عبدالله يقول: الذى قتل خبيبا هو أبو سروعة.
قلت: واسمه عقبة بن الحارث وقد أسلم بعد ذلك، وله حديث في الرضاع وقد قيل إن أبا سروعة وعقبة أخوان.
فالله أعلم.
* * * هكذا ساق البخاري في كتاب المغازى من صحيحه قصة الرجيع.
ورواه أيضا في التوحيد وفى الجهاد من طرق، عن الزهري، عن عمرو بن أبى سفيان وأسد ابن حارثة الثقفى جليف بنى زهرة، ومنهم من يقول عمر بن أبى سفيان والمشهور عمرو.
وفى لفظ للبخاري: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبى الاقلح.
وساق بنحوه.
وقد خالفه محمد بن إسحاق وموسى بن عقبة وعروة بن الزبير في بعض ذلك.
ولنذكر كلام ابن إسحاق ليعرف ما بينهما من التفاوت والاختلاف، على أن ابن إسحاق إمام في هذا الشأن غير مدافع، كما قال الشافعي رحمه الله: من أراد المغازى فهو عيال على محمد بن إسحاق ! قال محمد بن إسحاق: حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة، فقالوا: يا رسول الله إن فينا
إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرئوننا القرآن ويعلموننا شرائع الاسلام.
__________
(1) الظلة: السحابة.
والدبر: ذكور النحل.
(*)
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم نفرا ستة من أصحابه، وهم مرثد بن أبى مرثد الغنوى، حليف حمزة بن عبدالمطلب.
قال ابن إسحاق: وهو أمير القوم.
وخالد بن البكير الليثى حليف بنى عدى، وعاصم بن ثابت بن أبى الاقلح أخو بنى عمرو بن عوف، وخبيب بن عدى أخو بنى جحجبى بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدثنة أخو بنى بياضة بن عامر، و عبدالله بن طارق حليف بنى ظفر رضى الله عنهم.
هكذا قال ابن إسحاق أنهم كانوا ستة، وكذا ذكر موسى بن عقبة وسماهم كما قال ابن إسحاق.
وعند البخاري: أنهم كانوا عشرة، وعنده أن كبيرهم عاصم بن ثابت بن أبى الاقلح.
فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: فخرجوا (1) مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية الحجاز من صدور الهدأة (2) غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلا، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم.
فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا، وقال عاصم بن ثابت.
ولله أعلم ولله الحمد والمنة:
ما علتى وأنا جلد نابل * والقوس فيها وتر عنابل (3)
__________
(1) ابن هشام: فخرج.
(2) الهدأة: موضع بين عسفان ومكة، على سبعة أميال من عسفان.
(3) النابل: صاحب النبل.
والعنابل: الغليظ.
(*)
تزل عن صفحتها المعابل (1) * الموت حق والحياة باطل وكل ما حم الاله نازل * بالمرء والمرء إليه آيل إن لم أقاتلكم فأمي هابل وقال عاصم أيضا: أبو سليمان وريش المقعد * وضالة مثل الجحيم الموقد (2) إذا النواحى افترشت لم أرعد * ومجنأ من جلد ثور أجرد (3) ومؤمن بما على محمد وقال أيضا: أبو سليمان ومثلى رامى * وكان قومي معشرا كراما قال: ثم قاتل حتى قتل وقتل صاحباه.
فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن سهيل، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر.
فمنعته الدبر، فلما حالت بينهم وبينه قالوا: دعوه حتى يمسى فيذهب عنه فنأخذه، فبعث الله الوادي فاحتمل عاصما فذهب به.
وقد كان عاصم قد أعطى الله عهدا ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا.
تنجسا.
فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه أن الدبر منعته: يحفظ الله العبد المؤمن !
__________
(1) المعابل: جمع معبلة وهو نصل عريض طويل.
(2) المقعد: رجل كان يريش السهام.
والضالة: السلاح، أو السهام.
(3) المجنأ: الترس لا حديد فيه.
والاجرد: الاملس.
(*)
كان عاصم نذر ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا في حياته، فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته ! * * * قال ابن إسحاق: وأما خبيب وزيد الدثنة و عبدالله بن طارق، فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة وأعطوا بأيديهم، فأسروهم ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها.
حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبدالله بن طارق يده من القران ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بالظهران.
وأما خبيب بن عدى وزيد بن الدثنة، فقدموا بهما مكة، فباعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة.
قال ابن إسحاق: فابتاع خبيبا حجير بن أبى إهاب التميمي حليف بنى نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل، وكان أبو إهاب أخا الحارث بن عامر لامه ليقتله بأبيه.
قال: وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فبعثه مع مولى له يقال له نسطاس إلى التنعيم، وأخرجه من الحرم ليقتله، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك ؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنى
جالس في أهلى.
قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا !
قال: ثم قتله نسطاس.
قال: وأما خبيب بن عدى: فحدثني عبدالله بن أبى نجيح أنه حدث عن ماوية مولاة حجير بن أبى إهاب، وكانت قد أسلمت، قالت: كان عندي خبيب حبس في بيتى، فلقد اطلعت عليه يوما وإن في يده لقطفا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، وما أعلم في أرض الله عنبا يؤكل ! قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة و عبدالله بن أبى نجيح أنهما قالا: قالت: قال لى حين حضره القتل: ابعثى إلى بحديدة أتطهر بها للقتل.
قالت: فأعطيت غلاما من الحى الموسى، فقلت له: ادخل بها على هذا الرجل البيت.
فقالت: فوالله إن هو إلا أن ولى الغلام بها إليه فقلت: ماذا صنعت ؟ ! أصاب والله الرجل ثأره، يقتل هذا الغلام فيكون رجلا برجل.
فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال: لعمرك ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إلى ! ثم خلى سبيله.
قال ابن هشام: ويقال إن الغلام ابنها.
قال ابن إسحاق: قال عاصم: ثم خرجوا بخبيب حتى جاءوا به إلى التنعيم ليصلبوه.
وقال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، قالوا: دونك فاركع.
فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أنى إنما طولت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة.
قال: فكان خبيب أول من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين (1).
__________
(1) في هامش الاصل: " حاشية بخط المصنف.
قال السهيلي: وإنما صارت سنة لانها فعلت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم واستحسنت من صنيعه، قال: وقد صلاها زيد بن حارثة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
= (9 - السيرة 3) (*)
قال: ثم رفعوه على خشبة فلما أوثقوه قال: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يصنع بنا، ثم قال: اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا.
ثم قتلوه.
وكان معاوية بن أبى سفيان يقول: حضرته يومئذ فيمن حضره مع أبى سفيان، فلقد رأيته يلقيني إلى الارض فرقا من دعوة خبيب، وكانوا يقولون: إن الرجل إذا دعى عليه فاضطجع لجنبه زلت عنه.
وفى مغازى موسى بن عقبة: أن خبيبا وزيد بن الدثنة قتلا في يوم واحد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع يوم قتلا وهو يقول: وعليكما أو عليك السلام.
خبيب قتلته قريش ! وذكر أنهم لما صلبوا زيد بن الدثنة رموه بالنبل ليفتنوه عن دينه، فما زاده إلا إيمانا وتسليما.
__________
= ثم ساق بإسناده من طريق أبى بكر بن أبى خيثمة، عن يحيى بن معين، عن يحيى بن عبدالله بن بكير، عن الليث بن سعد قال: بلغني أن زيد بن حارثة استأجر من رجل بغلا من الطائف واشترط عليه الكرى أن ينزله حيث شاء، فمال به إلى خربة فإذا بها قتلى كثيرة، فلما هم بقتله قال له زيد: دعني حتى أصلى ركعتين.
فقال: صل ركعتين، فطالما صلى هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئا ! قال: فصليت ثم جاء ليقتلني فقلت: يا أرحم الراحمين، فإذا صارخ يقول: لا تقتله.
فهاب وذهب ينظر
فلم ير شيئا، ثم جاء ليقتلني فقلت: يا أرحم الراحمين.
فسمع أيضا الصوت يقول لا تقتله.
فذهب لينظر ثم جاء، فقلت يا أرحم الراحمين، فإذا أنا بفارس على فرس في يده حربة في رأسها شعلة من نار فطعنه بها حتى أنفذه فوقع ميتا، ثم قال: لما دعوت الله في المرة الاولى كنت في السماء السابعة، ولما دعوته في المرة الثانية كنت في السماء الدنيا، ولما دعوته في الثالثة أتيتك.
قال السهيلي: وقد صلاها حجر بن عدى بن الادبر حين حمل إلى معاوية من العراق ومعه كتاب زياد ابن أبيه وفيه: أنه خرج عليه وأراد خلعه، وفى الكتاب شهادة جماعة من التابعين منهم الحسن وابن سيرين، فلما دخل على معاوية قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين.
قال: أو أنا أمير المؤمنين ؟ وأمر بقتله.
فصلى ركعتين قبل قتله ثم قتل رحمه الله.
قال: وقد عاتبت عائشة معاوية في قتله فقال: إنما قتله من شهد عليه، ثم قال: دعينى وحجرا فإنى سألقاه على الجادة يوم القيامة !.
قالت: فأين ذهب عنك حلم أبى سفيان ؟ قال: حين غاب مثلك من قومي " اه.
(*)
وذكر عروة وموسى بن عقبة أنهم لما رفعوا خبيبا على الخشبة نادوه يناشدونه: أتحب أن محمدا مكانك ؟ قال: لا والله العظيم ما أحب أن يفدينى بشوكة يشاكها في قدمه ! فضحكوا منه.
وهذا ذكره ابن إسحاق في قصة زيد بن الدثنة.
فالله أعلم.
قال موسى بن عقبة: زعموا أن عمرو بن أمية دفن خبيبا.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عقبة بن الحارث، قال: سمعته يقول: والله ما أنا قتلت خبيبا، لانا كنت أصغر من ذلك، ولكن أبا ميسرة أخا بنى عبد الدار أخذ الحربة فجعلها في يدى، ثم أخذ بيدى وبالحربة ثم طعنه بها حتى قتله.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا قال: كان عمر بن الخطاب استعمل سعيد
ابن عامر بن حذيم الجمحى على بعض الشام، فكانت تصيبه غشية وهو بين ظهرى القوم، فذكر ذلك لعمر وقيل: إن الرجل مصاب، فسأله عمر في قدمة قدمها عليه فقال: يا سعيد ما هذا الذى يصيبك ؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما بى ما بأس، ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدى حين قتل، وسمعت دعوته، فوالله ما خطرت على قلبى وأنا في مجلس قط إلا غشى على ! فزادته عند عمر خيرا.
وقد قال الاموى: حدثنى أبى قال: قال ابن إسحاق: وبلغنا أن عمر قال: من سره أن ينظر إلى رجل نسيج وحده فلينظر إلى سعيد بن عامر.
قال ابن هشام: أقام خبيب في أيديهم حتى انسلخت الاشهر الحرم ثم قتلوه.
وقد روى البيهقى من طريق إبراهيم بن إسماعيل، حدثنى جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، عن جده عمرو بن أمية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعثه عينا وحده قال: جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون، فأطلقته فوقع إلى الارض
ثم اقتحمت فانتبذت قليلا، ثم التفت فلم أر شيئا، فكأنما بلعته الارض، فلم تذكر لخبيب رمة حتى الساعة.
ثم روى ابن إسحاق عن محمد بن أبى محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما قتل أصحاب الرجيع قال ناس من المنافقين: يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا، لاهم أقاموا في أهلهم ولاهم أدوا رسالة صاحبهم.
فأنزل الله فيهم: " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام (1) " وما بعدها.
وأنزل الله في أصحاب السرية " ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد (2) ".
* * *
قال ابن إسحاق وكان مما قيل من الشعر في هذه الغزوة قول خبيب حين أجمعوا على قتله.
قال ابن هشام: ومن الناس من ينكرها له: لقد جمع الاحزاب حولي وألبوا * قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وكلهم مبدى العداوة جاهد * على لانى في وثاق بمضبع (3) وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم * وقربت من جذع طويل ممنع إلى الله أشكو غربتى ثم كربتي * وما أرصد الاعداء (4) لى عند مصرعي فذا العرش صبرني على ما يراد بى * فقد بضعوا لحمى وقد ياس مطمعى وذلك في ذات الاله وإن يشأ * يبارك على أوصال شلو ممزع وقد خيرونى الكفر والموت دونه * وقد هملت عيناى من غير مجزع وما بى حذار الموت إنى لميت * ولكن حذارى جحم نار ملفع
__________
(1) سورة البقرة 204.
(2) سورة البقرة 207 (3) ابن هشام: بمصيع.
(4) ابن هشام: الاحزاب.
(*)
فوالله ما أرجو إذا مت مسلما * على أي جنب كان في الله مضجعي فلست بمبد للعدو تخشعا * ولا جزعا إنى إلى الله مرجعي وقد تقدم في صحيح البخاري بيتان من هذه القصيدة وهما قوله: فلست أبالى حين أقتل مسلما * على أي شق كان في الله مصرعي وذلك في ذات الاله وإن يشأ * يبارك على أوصال شلو ممزع * * * وقال حسان بن ثابت يرثى خبيبا فيما ذكره ابن إسحاق: ما بال عينك لا ترقا مدامعها * سحا على الصدر مثل اللؤلؤ القلق (1) على خبيب فتى الفتيان قد علموا * لا فشل حين تلقاه ولا نزق فاذهب خبيب جزاك الله طيبة * وجنة الخلد عند الحور في الرفق
ماذا تقولون إن قال النبي لكم * حين الملائكة الابرار في الافق فيم قتلتم شهيد الله في رجل * طاغ قد اوعث في البلدان والرفق (2) قال ابن هشام: تركنا بعضها لانه أقذع فيها.
وقال حسان يهجو الذين غدروا بأصحاب الرجيع من بنى لحيان، فيما ذكره ابن إسحاق والله أعلم ولله الحمد والمنة والتوفيق والعصمة: إن سرك الغدر صرفا لا مزاج له * فأت الرجيع فسل عن دار لحيان قوم تواصوا بأكل الجار بينهم * فالكلب والقرد والانسان مثلان لو ينطق التيس يوما قام يخطبهم * وكان ذا شرف فيهم وذا شان وقال حسان بن ثابت أيضا، يهجو هذيلا وبنى لحيان على غدرهم بأصحاب الرجيع رضى الله تعالى عنهم أجمعين: لعمري لقد شانت هذيل بن مدرك * أحاديث كانت في خبيب وعاصم
__________
(1) القلق: المتحرك المتساقط.
والاصل: الفلق.
ومن أثبته عن ابن هشام.
(2) الرفق: جمع رفقة.
(*)
أحاديث لحيان صلوا بقبيحها * ولحيان جرامون شر الجرائم أناس هم من قومهم في صميمهم * بمنزلة الزمعان دبر القوادم (1) هم غدروا يوم الرجيع وأسلمت * أمانتهم ذا عفة ومكارم رسول رسول الله غدرا ولم تكن * هذيل توقى منكرات المحارم فسوف يرون النصر يوما عليهم * بقتل الذى تحميه دون الحرائم أبابيل دبر شمس دون لحمه * حمت لحم شهاد عظيم الملاحم (2) لعل هذيلا أن يروا بمصابه * مصارع قتلى أو مقاما لمأتم ونوقع فيها وقعة ذات صولة * يوافي بها الركبان أهل المواسم
بأمر رسول الله إن رسوله * رأى رأى ذى حزم بلحيان عالم قبيلة ليس الوفاء يهمهم * وإن ظلموا لم يدفعوا كف ظالم إذا الناس حلوا بالفضاء رأيتهم * بمجرى مسيل الماء بين المخارم (3) محلهم دار البوار ورأيهم * إذا نابهم أمر كرأى البهائم * * * وقال حسان رضى الله عنه أيضا يمدح أصحاب الرجيع ويسميهم بشعره، كما ذكره ابن إسحاق رحمه الله تعالى: صلى الاله على الذين تتابعوا * يوم الرجيع فأكرموا وأثيبوا رأس السرية مرثد وأميرهم * وابن البكير إمامهم وخبيب وابن لطارق وابن دثنة منهم * وافاه ثم حمامه المكتوب والعاصم المقتول عند رجيعهم * كسب المعالى إنه لكسوب منع المقادة أن ينالوا ظهره * حتى يجالد إنه لنجيب قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان.
__________
(1) الزمعة: هنة زائدة وراء الظلف أو شبه أظفار الغنم في الرسغ وأراد بالقوادم: الايدى.
(2) الابابيل: الجماعات.
والدبر: ذكور النخل.
والشمس: الحامية.
والملاحم: الحروب.
وفى ابن هشام: عظام الملاحم.
(3) المخارم: مسايل الماء.
(*)
سرية عمرو بن أمية الضمرى على أثر مقتل خبيب قال الواقدي: حدثنى إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، و عبدالله بن أبى عبيدة، عن جعفر بن [ الفضل بن الحسن بن (1) ] عمرو بن أمية الضمرى، و عبدالله بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبى عوف، وزاد بعضهم على بعض قالوا: كان أبو سفيان بن حرب قد
قال لنفر من قريش بمكة: ما أحد يغتال محمدا فإنه يمشى في الاسواق فندرك ثأرنا ؟ فأتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله وقال له: إن أنت وفيتنى خرجت إليه حتى أغتاله، فإنى هاد بالطريق خريت، معى خنجر مثل خافية النسر.
قال: أنت صاحبنا.
وأعطاه بعيرا ونفقة وقال: اطو أمرك فإنى لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد.
قال: قال العربي: لا يعلمه أحد.
فخرج ليلا على راحلته فسار خمسا وصبح ظهر الحى يوم سادسة، ثم أقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المصلى فقال له قائل: قد توجه إلى بنى عبد الاشهل.
فخرج الاعرابي يقود راحلته حتى انتهى إلى بنى عبد الاشهل فعقل راحلته ثم أقبل يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده في جماعة من أصحابه يحدث في مسجده.
فلما دخل ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه: إن هذا الرجل يريد غدرا والله حائل بينه وبين ما يريده.
فوقف وقال: أيكم ابن عبدالمطلب ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ابن عبدالمطلب.
فذهب ينحنى على رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) هذه الزيادة وما بعدها من أمثالها منقولة عن الطبري 3: 32.
(*)
وسلم كأنه يساره فجبذه أسيد بن حضير وقال: تنح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجذب بداخل إزاره، فإذا الخنجر، فقال: يا رسول الله هذا غادر.
فأسقط في يد الاعرابي وقال: دمى دمى يا محمد.
وأخده أسيد بن حضير يلببه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اصدقني ما أنت وما أقدمك، فإن صدقتني نفعك الصدق، وإن كذبتني فقد اطلعت على ما هممت به.
قال العربي: فأنا آمن ؟ قال: وأنت آمن.
فأخبره بخبر أبى سفيان وما جعل له.
فأمر به فحبس عند أسيد بن حضير، ثم دعا به
من الغد فقال: قد أمنتك فاذهب حيث شئت، أو خير لك من ذلك ؟ قال: وما هو ؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك أنت رسول الله، والله يا محمد ما كنت أفرق من الرجال، فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت ثم اطلعت على ما هممت به، فما سبقت به الركبان ولم يطلع عليه أحد، فعرفت أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبى سفيان حزب الشيطان.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم.
وأقام أياما ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فخرج من عنده ولم يسمع له بذكر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن أمية الضمرى ولسلمة بن أسلم بن حريس (2): اخرجا حتى تأتيا أبا سفيان بن حرب، فإن أصبتما منه غرة فاقتلاه.
قال عمرو: فخرجت أنا وصاحبى حتى أتينا بطن يأجج، فقيدنا بعيرنا وقال لى صاحبي: يا عمرو هل لك في أن نأتى مكة فنطوف بالبيت سبعا ونصلي ركعتين فقلت: [ أنا أعلم بأهل مكة منك إنهم إذا أظلموا رشوا أفنيتهم ثم جلسوا بها و (1) ] إنى أعرف
__________
(1) من تاريخ الطبري: 3 / 32.
(2) الاصل: حريش.
وهو تحريف وما أثبته عن شرح المواهب 2 / 178.
(*)
بمكة من الفرس الابلق.
فأبى على فانطلقنا فأتينا مكة فطفنا أسبوعا (1) وصلينا ركعتين، فلما خرجت لقيني معاوية بن أبى سفيان فعرفني وقال: عمرو بن أمية، واحزناه.
فنذر بنا أهل مكة، فقالوا: ما جاء عمرو في خير.
وكان عمرو فاتكا في الجاهلية.
فحشد أهل مكة وتجمعوا، وهرب عمرو وسلمة وخرجوا في طلبهما واشتدوا في الجبل.
قال عمرو: فدخلت في غار فتغيبت عنهم حتى أصبحت، وباتوا يطلبوننا في الجبل وعمى الله عليهم طريق المدينة أن يهتدوا له، فلما كان ضحوة الغد أقبل عثمان بن مالك بن عبيدالله
التيمى يختلى لفرسه حشيشا فقلت لسلمة بن أسلم: إذا أبصرنا أشعر بنا أهل مكة وقد انفضوا عنا.
فلم يزل يدنو من باب الغار حتى أشرف علينا، فقال: فخرجت إليه فطعنته طعنة تحت الثدى بخنجري، فسقط وصاح فاجتمع أهل مكة فأقبلوا بعد تفرقهم [ ورجعت إلى مكاني فدخلت فيه ] وقلت لصاحبي: لا تتحرك.
فأقبلوا حتى أتوه وقالوا: من قتلك ؟ قال: عمرو بن أمية الضمرى.
فقال أبو سفيان: قد علمنا أنه لم يأت لخير.
ولم يستطع أن يخبرهم بمكاننا، فإنه كان بآخر رمق فمات، وشغلوا عن طلبنا بصاحبهم فحملوه، فمكثنا ليلتين في مكاننا حتى [ سكن عنا الطلب ثم ] خرجنا [ إلى التنعيم ] فقال صاحبي: يا عمرو بن أمية، هل لك في خبيب بن عدى تنزله ؟ فقلت له: أين هو ؟ قال: هو ذاك مصلوب حوله الحرس.
فقلت: أمهلنى وتنح عنى فإن خشيت شيئا فانح إلى بعيرك فاقعد عليه فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر ودعني فإنى عالم بالمدينة.
ثم استدرت عليه حتى وجدته فحملته على ظهرى فما مشيت به إلا عشرين ذراعا حتى استيقظوا فخرجوا في أثرى فطرحت الخشبة فما أنسى وجيبها، يعنى صوتها، ثم أهلت عليه التراب برجلي، فأخذت طريق الصفراء فأعيوا ورجعوا، وكنت لا أدرى مع بقاء نفسي، فانطلق صاحبي إلى البعير فركبه، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره،
__________
(1) أسبوعا: سبعا.
(*)
وأقبلت حتى أشرفت على الغليل غليل ضجنان، فدخلت في غار معى قوسى وأسهمي وخنجري، فبينما أنا فيه إذ أقبل رجل من بنى الديل بن بكر أعور طويل يسوق غنما ومعزى، فدخل الغار وقال: من الرجل ؟ فقلت: رجل من بنى بكر.
فقال: وأنا من بنى بكر.
ثم اتكأ ورفع عقيرته يتغنى ويقول: فلست بمسلم ما دمت حيا * ولست أدين دين المسلمينا فقلت في نفسي: والله إنى لارجو أن أقتلك.
فلما نام قمت إليه فقتلته شر قتلة
قتلها أحد قط.
ثم خرجت حتى هبطت، فلما أسهلت في الطريق إذا رجلان بعثهما قريش يتجسسان الاخبار، فقلت: استأسرا فأبى أحدهما فرميته فقتلته، فلما رأى ذلك الآخر استأسر فشددته وثاقا، ثم أقبلت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما قدمت المدينة أتى صبيان الانصار وهم يلعبون، وسمعوا أشياخهم يقولون: هذا عمرو.
فاشتد الصبيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، وأتيته بالرجل قد ربطت إبهامه بوتر قوسى، فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ! ثم دعا لى بخير.
وكان قدوم سلمة قبل قدوم عمرو بثلاثة أيام.
رواه البيهقى.
وقد تقدم أن عمرا لما أهبط خبيبا لم ير له رمة ولا جسدا، فلعله دفن مكان سقوطه، والله أعلم.
وهذه السرية إنما استدركها ابن هشام على ابن إسحاق، وساقها بنحو من سياق الواقدي لها، لكن عنده أن رفيق عمرو بن أمية في هذه السرية جبار بن صخر، فالله أعلم ولله الحمد.
سرية بئر معونة وقد كانت في صفر منها.
وأغرب مكحول رحمه الله حيث قال: إنها كانت بعد الخندق.
قال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز، عن أنس بن مالك، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا لحاجة يقال لهم القراء.
فعرض لهم حيان من بنى سليم: رعل وذكوان، عند بئر يقال لها بئر معونة،
فقال القوم: والله ما إياكم أردنا وإنما نحن مجتازون في حاجة للنبى صلى الله عليه وسلم.
فقتلوهم.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم شهرا في صلاة الغداة، وذاك بدء القنوت وما كنا نقنت.
ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بنحوه.
ثم قال البخاري: حدثنا عبدالاعلى بن حماد، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، أن رعلا وذكوان وعصية وبنى لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو فأمدهم بسبعين من الانصار، كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من العرب: على رعل وذكوان وعصية وبنى لحيان، قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رفع " بلغوا عنا قومنا أنا لقد لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا ".
ثم قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا همام، عن إسحاق بن عبدالله ابن أبى طلحة، حدثنى أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث حراما،
أخا لام سليم، في سبعين راكبا، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ثلاث خصال فقال: يكون لك أهل السهل ولى أهل المدر، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بأهل غطفان بألف وألف.
فطعن عامر في بيت أم فلان (1) فقال: غدة كغدة البكر في بيت امرأة من آل فلان، ائتونى بفرسي، فمات على ظهر فرسه.
فانطلق حرام أخو أم سليم، وهو رجل أعرج، ورجل من بنى فلان فقال: كونا قريبا حتى آتيهم، فإن آمنونى كنتم قريبا وإن قتلوني أتيتم أصحابكم.
فقال: أتؤمنوني
حتى أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجعل يحدثهم وأومأوا إلى رجل فأتاه من خلفه فطعنه.
قال همام: أحسبه حتى أنفذه بالرمح.
فقال: الله أكبر ! فزت ورب الكعبة ! فلحق الرجل فقتلوا كلهم غير الاعرج، وكان في رأس جبل، فأنزل الله علينا ثم كان من المنسوخ: " إنا لقد لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا ".
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين صباحا على رعل وذكوان وبنى لحيان وعصية الذين عصوا الله ورسوله.
وقال البخاري: حدثنا حبان، حدثنا عبدالله، أخبرني معمر، حدثنى ثمامة ابن عبدالله بن أنس، أنه سمع أنس بن مالك يقول: لما طعن حرام بن ملحان - وكان خاله - يوم بئر معونة قال بالدم هكذا، فنضحه على وجهه ورأسه، وقال: فزت ورب الكعبة.
وروى البخاري عن عبيد بن إسماعيل، عن أبى أسامة، عن هشام بن عروة، أخبرني أبى، قال: لما قتل الذين ببئر معونة وأسر عمرو بن أمية الضمرى قال له عامر بن الطفيل: من هذا ؟ وأشار إلى قتيل، فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهيرة قال:
__________
(1) طعن: أصابه الطاعون.
وأم فلان: هي سلول بنت شيبان، امرأة أخيه.
(*)
لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء حتى أنى لانظر إلى السماء بينه وبين الارض ثم وضع.
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم فنعاهم فقال: إن أصحابكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا.
فأخبرهم عنهم وأصيب يومئذ فيهم عروة بن أسماء بن الصلت فسمى عروة به، ومنذر بن عمرو وسمى به منذر.
هكذا وقع في رواية البخاري مرسلا عن عروة.
وقد رواه البيهقى من حديث يحيى بن سعيد بن أبى أسامة عن هشام، عن أبيه عن عائشة، فساق من حديث الهجرة، وأدرج في آخره ما ذكره البخاري هاهنا، فالله أعلم.
وروى الواقدي عن مصعب بن ثابت، عن أبى الاسود وعن عروة، فذكر القصة وشأن عامر بن فهيرة وإخبار عامر بن الطفيل أنه رفع إلى السماء، وذكر أن الذى قتله جبار بن سلمى الكلابي.
قال: ولما طعنه بالرمح قال: فزت ورب الكعبة.
ثم سأل جبار بعد ذلك: ما معنى قوله: فزت ؟ قالوا: يعنى بالجنة.
فقال: صدق والله.
ثم أسلم جبار بعد ذلك لذلك ! وفى مغازى موسى بن عقبة، عن عروة، أنه قال: لم يوجد جسد عامر بن فهيرة، يرون أن الملائكة وارته.
* * * وقال يونس: عن ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى بعد أحد، بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد.
فحدثني أبى إسحاق بن يسار، عن المغيرة بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام،
و عبدالرحمن بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيرهما من أهل العلم قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الاسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فعرض عليه الاسلام ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد وقال: يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك.
فقال صلى الله عليه وسلم: إنى أخشى عليهم أهل نجد.
فقال أبو براء: أنا لهم جار.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بنى ساعدة، المعنق ليموت، في أربعين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين، فيهم الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان أخو بنى عدى بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمى، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعى، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر، في رجال من خيار المسلمين.
فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهى بين أرض بنى عامر وحرة بنى سليم، فلما نزلوا بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في الكتاب حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بنى عامر فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم، وقالوا: لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا.
فاستصرخ عليهم قبائل من بنى سليم، عصية ورعلا وذكوان والقارة، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا أسيافهم ثم قاتلوا القوم حتى قتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد أخا بنى دينار بن النجار، فإنهم تركوه به رمق، فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق.
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمرى ورجل من الانصار من بنى عمرو بن عوف فلم ينبئهما بمصاب القوم إلا الطير تحوم حول العسكر فقالا: والله إن لهذه الطير
لشأنا، فأقبلا لينظرا، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التى أصابتهم واقفة، فقال الانصاري لعمرو بن أمية: ماذا ترى ؟ فقال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر.
فقال الانصاري: لكنى لم أكن لارغب بنفسى عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لاخبر عنه الرجال.
فقاتل القوم حتى قتل، وأخذ عمرو أسيرا، فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة كانت على أمه فيما زعم !
قال: وخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بنى عامر حتى نزلا في ظل هو فيه، وكان مع العامريين عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار لم يعلمه عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممن أنتما ؟ قالا: من بنى عامر.
فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما وقتلهما وهو يرى أن قد أصاب بهما ثأرا من بنى عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بالخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد قتلت قتيلين لادينهما " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا عمل أبى براء، قد كنت لهذا كارها متخوفا ".
فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره.
فقال حسان بن ثابت في إخفار عمار أبا براء ويحرض بنى أبى براء على عامر: بنى أم البنين ألم يرعكم * وأنتم من ذوائب أهل نجد تهكم عامر بأبى براء * ليخفره وما خطأ كعمد ألا أبلغ ربيعة ذا المساعى فم * ا أحدثت في الحدثان بعدى أبوك أبو الحروب أبو براء * وخالك ماجد حكم بن سعد
قال ابن هشام: أم البنين أم أبى براء، وهى بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
قال: فحمل ربيعة بن عامر بن مالك على عامر بن الطفيل فطعنه في فخذه فأشواه (1) ووقع عن فرسه، وقال: هذا عمل أبى براء، إن أمت فدمي لعمى فلا يتبعن به، وإن أعش فسأرى رأيى.
وذكر موسى بن عقبة عن الزهري نحو سياق محمد بن إسحاق، قال موسى: وكان
أمير القوم المنذر بن عمرو وقيل: مرثد بن أبى مرثد.
وقال حسان بن ثابت يبكى قتلى بئر معونة، فيما ذكره ابن إسحاق رحمه الله، والله أعلم.
على قتلى معونة فاستهلى * بدمع العين سحا غير نزر على خيل الرسول غداة لاقوا * ولاقتهم مناياهم بقدر أصابهم الفناء بعقد قوم * تخون عقد حبلهم بغدر فيالهفى لمنذر إذ تولى * وأعنق في منيته بصبر وكائن قد أصيب غداة ذاكم * من ابيض ماجد من سر عمرو
__________
(1) أشواه: لم يصب مقاتله.
(*)
غزوة بنى النضير وهى التى أنزل الله تعالى فيها سورة الحشر في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه كان يسميها سورة بنى النضير.
وحكى البخاري عن الزهري، عن عروة أنه قال: كانت بنو النضير بعد بدر بستة أشهر قبل أحد.
وقد أسنده ابن أبى حاتم في تفسيره عن أبيه، عن عبدالله بن صالح، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري به.
وهكذا روى حنبل بن إسحاق، عن هلال بن العلاء، عن عبدالله بن جعفر الرقى، عن مطرف بن مازن اليماني، عن معمر، عن الزهري، فذكر غزوة بدر في سابع عشر رمضان سنة ثنتين.
قال: ثم غزا بنى النضير، ثم غزا أحدا في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق في شوال سنة أربع.
وقال البيهقى: وقد كان الزهري يقول: هي قبل أحد.
قال: وذهب آخرون إلى أنها بعدها، وبعد بئر معونة أيضا.
قلت: هكذا ذكر ابن إسحاق كما تقدم، فإنه بعد ذكره بئر معونة ورجوع عمرو ابن أمية وقتله ذينك الرجلين من بنى عامر، ولم يشعر بعهدهما الذى معهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد قتلت رجلين لادينهما ".
قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بنى النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بنى عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية، للعهد الذى كان صلى الله (10 السيرة 3)
عليه وسلم أعطاهما، وكان بين بنى النضير وبين بنى عامر عهد وحلف، فلما أتاهم صلى الله عليه وسلم قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت.
ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد.
فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقى عليه صخرة ويريحنا منه.
فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك.
فصعد ليلقى عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلى، فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعا إلى المدينة.
فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة، فسألوه عنه فقال: رأيته داخلا المدينة.
فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به.
قال الواقدي: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق يثبتونهم ويحرضونهم على المقام ويعدونهم
النصر، فقويت عند ذلك نفوسهم، وحمى حيى بن أخطب، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم لا يخرجون، ونابذوه بنقض العهود.
فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم.
قال الواقدي: فحاصروهم خمس عشرة ليلة.
وقال ابن إسحاق: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وذلك في شهر ربيع الاول.
قال ابن إسحاق: فسار حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال، ونزل تحريم الخمر
حينئذ، وتحصنوا في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيب من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها.
قال: وقد كان رهط من بنى عوف بن الخزرج منهم عبدالله بن أبى ووديعة ومالك وسويد وداعس قد بعثوا إلى بنى النضير: أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم.
فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الابل من أموالهم إلا الحلقة.
وقال العوفى: عن ابن عباس، أعطى كل ثلاثة بعيرا يعتقبونه [ و ] وسقا (1).
رواه البيهقى.
وروى من طريق يعقوب بن محمد، عن الزهري، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن مسلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بنى النضير وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال.
وروى البيهقى وغيره أنه كانت لهم ديون مؤجلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوا وتعجلوا.
وفى صحته نظر.
والله أعلم.
قال ابن إسحاق: فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الابل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف (2) بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، فكان من أشراف من ذهب منهم إلى خيبر: سلام بن أبى الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وحيى بن أخطب، فلما نزلوها دان لهم أهلها.
__________
(1) الوسق: حمل البعير.
(2) النجاف: أسكفة الباب.
(*)
فحدثني عبدالله بن أبى بكر أنه حدث أنهم استقبلوا بالنساء والابناء والاموال، معهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم بزهاء وفخر، ما رؤى مثله لحى من الناس في زمانهم.
قال: وخلوا الاموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعنى النخيل والمزارع، فكانت له خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين الاولين دون الانصار، إلا أن سهل ابن حنيف وأبا دجانة ذكرا فقرا فأعطاهما، وأضاف بعضهم إليهما الحارث بن الصمة.
حكاه السهيلي.
قال ابن إسحاق: ولم يسلم من بنى النضير إلا رجلان وهما يامين بن عمير بن كعب ابن عم عمرو بن جحاش وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما.
قال ابن إسحاق: وقد حدثنى بعض آل يامين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني ؟ فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش، فقتله لعنه الله.
* * *
قال ابن إسحاق: فأنزل الله فيهم سورة الحشر بكمالها، يذكر فيها ما أصابهم به من نقمته وما سلط عليهم به رسوله وما عمل به فيهم.
ثم شرع ابن إسحاق يفسرها.
وقد تكلمنا عليها بطولها مبسوطة في كتابنا التفسير ولله الحمد.
قال الله تعالى: " سبح لله ما في السموات وما في الارض وهو العزيز الحكيم، هو الذى أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر، ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فأعتبروا يا أولى الابصار، ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار.
ذلك
بأنهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب.
ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين ".
سبح سبحانه وتعالى نفسه الكريمة، وأخبر أنه يسبح له جميع مخلوقاته العلوية والسفلية وأنه العزيز، وهو منيع الجناب فلا ترام عظمته وكبرياؤه، وأنه الحكيم في جميع ما خلق وجميع ما قدر وشرع، فمن ذلك تقديره وتدبيره وتيسيره لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين في ظفرهم بأعدائهم اليهود الذين شاقوا الله ورسوله وجانبوا رسوله وشرعه، وما كان من السبب المفضى لقتالهم كما تقدم، حتى حاصرهم المؤيد بالرعب والرهب مسيرة شهر، ومع هذا فأسرهم بالمحاصرة بجنوده ونفسه الشريفة ست ليال، فذهب بهم الرعب كل مذهب حتى صانعوا وصالحوا على حقن دمائهم وأن يأخذوا من أموالهم ما استقلت به ركابهم، على أنهم لا يصحبون شيئا من السلاح إهانة لهم واحتقارا، فجعلوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولى الابصار.
ثم ذكر تعالى أنه لو لم يصبهم الجلاء وهو التسيير والنفى من جوار الرسول من المدينة لاصابهم ما هو أشد منه من العذاب الدنيوي وهو القتل، مع ما ادخر لهم في الآخرة من العذاب الاليم المقدر لهم.
ثم ذكر تعالى حكمة ما وقع من تحريق نخلهم وترك ما بقى لهم، وأن ذلك كله سائغ فقال: " ما قطعتم من لينة " وهو جيد التمر " أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله " إن الجميع قد أذن فيه شرعا وقدرا، فلا حرج عليكم فيه ولنعم ما رأيتم من ذلك، وليس هو بفساد كما قاله شرار العباد، إنما هو إظهار للقوة وإخزاء للكفرة الفجرة.
وقد روى البخاري ومسلم جميعا عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بنى النضير وقطع، وهى البويرة، فأنزل
الله: " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين ".
وعند البخاري من طريق جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بنى النضير وقطع، وهى البويرة، ولها يقول حسان بن ثابت: وهان على سراة بنى لؤى * حريق بالبويرة مستطير فأجابه أبو سفيان بن الحارث يقول: أدام الله ذلك من صنيع * وحرق في نواحيها السعير ستعلم أينا منها بستر * وتعلم أي أرضينا نضير * * * قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يذكر إجلاء بنى النضير وقتل كعب بن الاشرف فالله أعلم: لقد خزيت بغدرتها الحبور (1) * كذاك الدهر ذو صرف يدور
وذلك أنهم كفروا برب * عظيم أمره أمر كبير وقد أوتوا معا فهما وعلما * وجاءهم من الله النذير نذير صادق أدى كتابا * وآيات مبينة تنير فقالوا ما أتيت بأمر صدق * وأنت بمنكر منا جدير فقال بلى لقد أديت حقا * يصدقني به الفهم الخبير فمن يتبعه يهد لكل رشد * ومن يكفر به يخز الكفور فلما أشربوا غدرا وكفرا * وجد بهم عن الحق النفور أرى الله النبي برأى صدق * وكان الله يحكم لا يجور فأيده وسلطه عليهم * وكان نصيره نعم النصير
__________
(1) الحبور: جمع حبر، وهم علماء اليهود.
(*)
فغودر منهم كعب صريعا * فذلت بعد مصرعه النضير على الكفين ثم وقد علته * بأيدينا مشهرة ذكور بأمر محمد إذ دس ليلا * إلى كعب أخا كعب يسير فما كره فأنزله بمكر * ومحمود أخو ثقة جسور فتلك بنو النضير بدار سوء * أبارهم بما اجترموا المبير (1) غداة أتاهم في الزحف رهوا (2) * رسول الله وهو بهم بصير وغسان الحماة مؤازروه * على الاعداء وهو لهم وزير فقال السلم ويحكم فصدوا * وخالف أمرهم كذب وزور فذاقوا غب أمرهم وبالا * لكل ثلاثة منهم بعير وأجلوا عامدين لقينقاع * وغودر منهم نخل ودور وقد ذكر ابن إسحاق جوابها لسمال اليهودي، فتركناها قصدا.
* * * قال ابن إسحاق: وكان مما قيل في بنى النضير قول ابن لقيم العبسى، ويقال: قالها قيس بن بحر بن طريف الاشجعي: أهلى فداء لامرئ غير هالك * أحل اليهود بالحسى المزنم (3) يقيلون في جمر العضاه وبدلوا * أهيضب عودا بالودى المكمم (4) فإن يك ظنى صادقا بمحمد * تروا خيله بين الصلا ويرمرم (5) يؤم بها عمرو بن بهثة إنهم * عدو وما حى صديق كمجرم عليهن أبطال مساعير في الوغى * يهزون أطراف الوشيج المقوم (6)
__________
(1) أبارهم: أهلكهم.
(2) رهوا: سيرا سهلا.
(3) الحسى: ما يحسى من الطعام والمزنم الرجل يكون في القوم ليس منهم.
يريد: أحلهم بأرض غربة في غير عشائرهم.
وانظر الروض الانف ؟ ؟ 2 / 177.
(4) جمر: الاصل خمر.
وما أثبته من ابن هشام.
والعضاه: شجر.
وأهيضب مكان مرتفع.
والودى: صغار النخل.
والمكمم: الذى خرج كمامه.
(5) الصلا: موضع.
ويرمرم جبل.
(6) الوشيج: شجر الرماح.
(*)
وكل رقيق الشفرتين مهند * توورثن من أزمان عاد وجرهم فمن مبلغ عنى قريشا رسالة * فهل بعدهم في المجد من متكرم بأن أخاهم فاعلمن محمدا * تليد الندى بين الحجون وزمزم فدينوا له بالحق تجسم أموركم * وتسمو من الدنيا إلى كل معظم نبى تلافته من الله رحمة * ولا تسألوه أمر غيب مرجم فقد كان في بدر لعمري عبرة * لكم يا قريش والقليب الملمم غداة أتى في الخزرجية عامدا * إليكم مطيعا للعظيم المكرم معانا بروح القدس ينكى عدوه * رسولا من الرحمن حقا بمعلم
رسولا من الرحمن يتلو كتابه * فلما أنار الحق لم يتلعثم أرى أمره يزداد في كل موطن * علوا لامر حمه الله محكم * * * قال ابن إسحاق: وقال على بن أبى طالب، وقال ابن هشام: قالها رجل م المسلمين، ولم أر أحدا يعرفها لعلى: عرفت ومن يعتدل يعرف * وأيقنت حقا ولم أصدف عن الكلم المحكم اللاء من * لدى الله ذى الرأفة الارأف رسائل تدرس في المؤمنين * بهن اصطفى أحمد المصطفى فأصبح أحمد فينا عزيزا * عزيز المقامة والموقف فيا أيها الموعدوه سفاها * ولم يأت جورا ولم يعنف ألستم تخافون أدنى العذاب * وما آمن الله كالاخوف وأن تصرعوا تحت أسيافه * كمصرع كعب أبى الاشرف غداة رأى الله طغيانه * وأعرض كالجمل الاجنف فأنزل جبريل في قتله * بوحى إلى عبده ملطف
فدس الرسول رسولا له * بأبيض ذى هبة مرهف فباتت عيون له معولات * متى ينع كعب لها تذرف وقلن لاحمد ذرنا قليلا * فإنا من النوح لم نشتف فخلاهم ثم قال اظعنوا * دحورا على رغم الآنف وأجلى النضير إلى غربة * وكانوا بدار ذوى زخرف إلى أذرعات ردافا وهم * على كل ذى دبر أعجف وتركنا جوابها أيضا من سمال اليهودي قصدا.
* * * ثم ذكر تعالى حكم الفئ، وأنه حكم بأموال بنى النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وملكها له، فوضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراه الله تعالى.
كما ثبت في الصحيحين، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال: كانت أموال بنى النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان يعزل نفقة أهله سنة ثم يجعل ما بقى في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله عزوجل.
ثم بين تعالى حكم الفئ وأنه للمهاجرين والانصار والتابعين لهم بإحسان على منوا لهم وطريقتهم: " ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كى لا يكون دولة بين الاغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد العقاب ".
قال الامام أحمد: حدثنا عارم وعفان، قالا: حدثنا معتمر، سمعت أبى يقول: حدثنا أنس بن مالك، عن نبى الله صلى الله عليه وسلم أن لرجل كان يجعل له من ماله النخلات أو كما شاء الله، حتى فتحت عليه قريظة والنضير، قال: فجعل يرد بعد ذلك.
قال: وإن أهلى أمروني أن آتى نبى الله صلى الله عليه وسلم فأسأله الذى كان أهله أعطوه أو بعضه، وكان نبى الله صلى الله عليه وسلم أعطاه أم أيمن أو كما شاء الله.
قال: فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيهن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي وجعلت تقول: كلا والله الذى لا إله إلا هو لا أعطيكهن وقد أعطانيهن أو كما قالت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لك كذا وكذا.
وتقول: كلا والله.
قال: ويقول لك كذا وكذا.
وتقول: كلا والله.
قال: ويقول لك كذا وكذا حتى أعطاها حسبت أنه قال عشرة أمثاله أو قال قريبا من عشرة أمثاله أو كما قال.
أخرجاه بنحوه من طرق عن معتمر به.
ثم قال تعالى: ذاما للمنافقين الذين مالوا إلى بنى النضير في الباطن كما تقدم، ووعدوهم النصر فلم يكن من ذلك شئ، بل خذلوهم أحوج ما كانوا إليهم، وغروهم من أنفسهم فقال: " ألم تر إلى الذين نافقو يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا، وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون، لئن أخرجوا لا يخرجون معهم، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم، ولئن نصروهم ليولن الادبار ثم لا ينصرون ".
ثم ذمهم تعالى على جبنهم وقلة علمهم وخفة عقلهم النافع، ثم ضرب لهم مثلا قبيحا شنيعا بالشيطان حين " قال للانسان: اكفر فلما كفر قال: إنى برئ منك إنى أخاف الله رب العالمين، فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين ".
قصة عمرو بن سعدى القرظى حين مر على ديار بنى النضير وقد صارت يبابا ليس بها داع ولا مجيب، وقد كانت بنو النضير أشرف منى بنى قريظة، حتى حداه ذلك على الاسلام وأظهر صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوراة.
قال الواقدي حدثنا ابراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: لما خرجت بنو النضير من المدينة أقبل عمرو بن سعدى فأطاف بمنازلهم، فرأى خرابها وفكر، ثم رجع إلى بنى قريظة فوجدهم في الكنيسة، فنفخ في بوقهم فاجتمعوا فقال الزبير بن باطا: يا أبا سعيد أين كنت منذ اليوم لم تزل.
وكان لا يفارق الكنيسة وكان يتأله في اليهودية.
قال: رأيت اليوم عبرا قد عبرنا بها، رأيت منازل إخواننا خالية بعد ذلك العز والجلد والشرف الفاضل والعقل البارع، قد تركوا أموالهم وملكها غيرهم وخرجوا خروج ذل، ولا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط لله بهم حاجة، وقد أوقع قبل ذلك بابن الاشرف
ذى عزهم ثم بيته في بيته آمنا، وأوقع بابن سنينة سيدهم، وأوقع ببنى قينقاع فأجلاهم وهم أهل جد يهود، وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة، فحصرهم فلم يخرج إنسان منهم رأسه حتى سباهم وكلم فيهم فتركهم على أن أجلاهم من يثرب، يا قوم قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني وتعالوا نتبع محمدا، والله إنكم لتعلمون أنه نبى قد بشرنا به وبأمره ابن الهيبان أبو عمير وابن حراش، وهما أعلم يه ؟ د جاءانا يتوكفان قدومه وأمرانا باتباعه، جاءانا من بيت المقدس وأمرانا أن نقرئه منهما السلام، ثم ماتا على دينهما ودفناهما بحرتنا هذه.
فأسكت القوم فلم يتكلم منهم متكلم.
ثم أعاد هذا الكلام ونحوه، وخوفهم بالحرب والسباء والجلاء.
فقال الزبير بن باطا: قد والتوراة قرأت صفته في كتاب باطا، التوراة التى نزلت على موسى، ليس في المثانى الذى أحدثنا.
قال: فقال له كعب بن أسد: ما يمنعك يا أبا عبدالرحمن من اتباعه ؟ قال أنت يا كعب.
قال كعب: فلم ؟ والتوراة ما حلت بينك وبينه قط.
قال الزبير: بل أنت صاحب عهدنا وعقدنا فإن اتبعته اتبعناه وإن أبيت أبينا.
فأقبل عمرو بن سعدى على كعب، فذكر ما تقاولا في ذلك، إلى أن قال عمرو: ما عندي في أمره إلا ما قلت: ما تطيب نفسي أن أصير تابعا ! رواه البيهقى.
غزوة بنى لحيان التى صلى فيها صلاة الخوف بعسفان ذكرها البيهقى في الدلائل، وإنما ذكرها ابن إسحاق فيما رأيته من طريق هشام عن زياد عنه في جمادى الاولى من سنة ثنتين من الهجرة بعد الخندق وبنى قريظة وهو أشبه مما ذكره البيهقى والله أعلم.
وقال الحافظ البيهقى: أخبرنا أبو عبدالله الحافظ، حدثنا أبو العباس الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار وغيره، قالوا: لما أصيب خبيب وأصحابه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم طالبا بدمائهم ليصيب من بنى لحيان غرة، فسلك طريق الشام ليرى أنه لا يريد بنى لحيان حتى نزل بأرضهم فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أنا هبطنا عسفان لرأت قريش أنا قد جئنا مكة ".
فخرج في مائتي راكب حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين حتى جاءا كراع الغميم (1) ثم انصرفا.
فذكر أبو عياش الزرقى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بعسفان صلاة الخوف.
__________
(1) الغميم: ود أمام عسفان بثمالية أميال.
بضاف إلى كراع، جبل أسود بطرف الحرة ممتد إليه.
(*)
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عياش، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم.
ثم قالوا: تأتى الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم.
قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر: " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ".
قال: فحضرت، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح، فصففنا خلفه صفين، ثم ركع فركعنا جميعا، ثم رفع فرفعنا جميعا، ثم سجد بالصف الذى يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء.
قال: ثم ركع
فركعوا جميعا ثم رفع فرفعوا جميعا، ثم سجد الصف الذى يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم.
ثم انصرف.
قال: فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، مرة بأرض عسفان، ومرة بأرض بنى سليم.
ثم رواه أحمد عن غندر، عن شعبة، عن منصور به، نحوه.
وقد رواه أبو داود عن سعيد بن منصور، عن جرير بن عبدالحميد، والنسائي عن الفلاس، عن عبد العزيز بن عبد الصمد، عن محمد بن المثنى، وأبندار، عن غندر، عن شعبة ثلاثتهم عن منصور به.
وهذا إسناد على شرط الصحيحين، ولم يخرجه واحد منهما.
لكن روى مسلم من طريق أبى خيثمة زهير بن معاوية، عن أبى الزبير، عن جابر
قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما من جهينة، فقاتلوا قتالا شديدا، فلما أن صلى الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم.
فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " وقالوا: إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الاولاد " فذكر الحديث كنحو ما تقدم.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا هشام، عن أبى الزبير، عن جابر بن عبدالله قال: " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه الظهر بنخل، فهم به المشركون ثم قالوا: دعوهم فإن لهم صلاة بعد هذه الصلاة هي أحب إليهم من أبنائهم.
قال: فنزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فصلى بأصحابه صلاة العصر، فصفهم صفين بين أيديهم رسول الله والعدو بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبر وكبروا جميعا وركعوا جميعا، ثم سجد الذين يلونهم والآخرون
قيام، فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون، ثم تقدم هؤلاء وتأخر هؤلاء، فكبروا جميعا وركعوا جميعا، ثم سجد الذين يلونه والآخرون قيام، فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون.
وقد استشهد البخاري في صحيحه برواية هشام هذه عن أبى الزبير، عن جابر.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا سعيد بن عبيد الهنائى (1)، حدثنا عبدالله بن شقيق، حدثنا أبو هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأبكارهم وهى العصر، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة.
وإن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يقيم أصحابه شطرين فيصلى
__________
(1) الهنائى: نسبة إلى هناءة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس، بطن من الازد.
اللباب 3 / 294.
(*)
ببعضهم ويقدم الطائفة الاخرى وراءهم، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ثم تأتى الاخرى فيصلون معه، ويأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم، ليكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولرسول الله ركعتان.
ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الصمد به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
قلت: إن كان أبو هريرة شهد هذا فهو بعد خيبر، وإلا فهو من مرسلات الصحابي، ولا يضر ذلك عند الجمهور.
والله أعلم.
ولم يذكر في سياق حديث جابر عند مسلم ولا عند أبى داود الطيالسي أمر عسفان ولا خالد بن الوليد، لكن الظاهر أنها واحدة.
* * * بقى الشأن في أن غزوة عسفان قبل الخندق أو بعدها ؟ فإن من العلماء، منهم الشافعي، من يزعم أن صلاة الخوف إنما شرعت بعد يوم الخندق، فإنهم أخروا الصلاة
يومئذ عن ميقاتها لعذر القتال، ولو كانت صلاة الخوف مشروعة إذ ذاك لفعلوها ولم يؤخروها، ولهذا قال بعض أهل المغازى: إن غزوة بنى لحيان التى صلى فيها صلاة الخوف بعسفان كانت بعد بنى قريظة.
وقد ذكر الواقدي بإسناده عن خالد بن الوليد قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية لقيته بعسفان فوقفت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا، فهممنا أن نغير عليه ثم لم يعزم لنا، فأطلعه الله على ما في أنفسنا من الهم به، فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف.
قلت: وعمرة الحديبية كانت في ذى القعدة سنة ست بعد الخندق وبنى قريظة كما سيأتي.
وفى سياق حديث أبى عياش الزرقى ما يقتضى أن آية صلاة الخوف نزلت في هذه
الغزوة يوم عسفان، فاقتضى ذلك أنها أول صلاة خوف صلاها.
والله أعلم.
وسنذكر إن شاء الله تعالى كيفية صلاة الخوف واختلاف الروايات فيها في كتاب " الاحكام الكبير " إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
غزوة ذات الرقاع قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزوة بنى النضير شهرى ربيع وبعض جمادى، ثم غزا نجدا يريد بنى محارب وبنى ثعلبة من غطفان واستعمل على المدينة أبا ذر.
قال ابن هشام: ويقال: عثمان بن عفان.
قال ابن إسحاق: فسار حتى نزل نخلا وهى غزوة ذات الرقاع.
قال ابن هشام: لانهم رقعوا فيها راياتهم، ويقال لشجرة هناك اسمها ذات الرقاع.
وقال الواقدي: بجبل فيه بقع حمر وسود وبيض.
وفى حديث أبى موسى: إنما سميت بذلك لما كانوا يربطون على أرجلهم من الخرق من شدة الحر.
قال ابن إسحاق: فلقى بها جمعا من غطفان، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف.
وقد أسند ابن هشام حديث صلاة الخوف هاهنا عن عبد الوارث بن سعيد التنورى، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن جابر بن عبدالله، وعن عبد الوارث، عن أيوب، عن أبى الزبير، عن جابر، وعن عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع،
عن ابن عمر، ولكن لم يذكر في هذه الطرق غزوة نجد ولا ذات الرقاع، ولم يتعرض لزمان ولا مكان.
وفى كون غزوة ذات الرقاع التى كانت بنجد لقتال بنى محارب وبنى ثعلبة بن غطفان قبل الخندق نظر.
وقد ذهب البخاري إلى أن ذلك كان بعد خيبر، واستدل على ذلك بأن أبا موسى الاشعري شهدها، كما سيأتي، وقدومه إنما كان ليالى خيبر صحبة جعفر وأصحابه، وكذلك أبو هريرة، وقد قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة نجد صلاة الخوف.
ومما يدل على أنها بعد الخندق أن ابن عمر إنما أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال أول ما أجازه يوم الخندق.
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فذكر صلاة الخوف.
وقول الواقدي: إنه عليه السلام خرج إلى ذات الرقاع في أربعمائة ويقال سبعمائة من
أصحابه ليلة السبت لعشر خلون من المحرم سنة خمس.
فيه نظر.
ثم لا يحصل به نجاة من أن صلاة الخوف إنما شرعت بعد الخندق، لان الخندق كان في شوال سنة خمس على المشهور، وقيل في شوال سنة أربع، فتحصل على هذا القول مخلص من حديث ابن عمر، فأما حديث أبى موسى وأبى هريرة فلا.
قصة غورث بن الحارث قال ابن إسحاق في هذه الغزوة: حدثنى عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن جابر ابن عبدالله، أن رجلا من بنى محارب يقال له غورث قال لقومه من غطفان ومحارب: (11 - السيرة - 3)
ألا أقتل لكم محمدا ؟ قالوا: بلى، وكيف تقتله ؟ قال: أفتك به.
قال: فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره.
فقال: يا محمد، أنظر إلى سيفك هذا ؟ قال: نعم.
فأخذه ثم جعل يهزه ويهم، فكبته الله.
ثم قال: يا محمد، أما تخافني ؟ قال: لا، ما أخاف منك ؟ قال: أما تخافني وفى يدى السيف ؟ قال: لا، يمنعنى الله منك.
ثم عمد إلى سيف النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه.
فأنزل الله عزوجل: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (1) ".
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، أنها إنما أنزلت في عمرو بن جحاش أخى بنى النضير وما هم به.
* * * هكذا ذكر ابن إسحاق قصة غورث هذا عن عمرو بن عبيد القدري رأس الفرقة
الضالة، وهو وإن كان لايتهم بتعمد الكذب في الحديث إلا أنه ممن لا ينبغى أن يروى عنه لبدعته ودعائه إليها.
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه ولله الحمد.
فقد أورد الحافظ البيهقى هاهنا طرقا لهذا الحديث من عدة أماكن، وهى ثابتة في الصحيحين من حديث الزهري عن سنان بن، أبى سنان وأبى سلمة عن جابر، أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته القائلة في واد كثير العضاه (2)، فتفرق الناس يستظلون بالشجر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت ظل شجرة فعلق بها سيفه.
__________
(1) سورة المائدة.
(2) العضاه: شجر عظيم له شوك.
(*)
قال جابر: فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فأجبناه، وإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا اخترط سيفى وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا (1) فقال: من يمنعك منى ؟ قلت: الله.
فشام السيف وجلس.
ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فعل ذلك.
وقد رواه مسلم أيضا، عن أبى بكر بن أبى شيبة، عن عفان، عن أبان، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن جابر قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع، وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل من المشركين، وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بشجرة، فأخذ سيف رسول الله فاخترطه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تخافني ؟ قال: لا.
قال: فمن يمنعك منى ؟ قال: الله يمنعنى منك.
قال: فهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأغمد السيف وعلقه.
قال: ونودى بالصلاة، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الاخرى
ركعتين.
قال: فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان.
وقد علقه البخاري بصيغة الجزم عن أبان به.
قال البخاري: وقال: مسدد عن أبى عوانة عن أبى بشر، إن اسم الرجل غورث بين الحارث.
وأسند البيهقى من طريق أبى عوانة، عن أبى بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب وغطفان بنخل، فرأوا من المسلمين غرة، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وقال: من يمنعك منى ؟ قال: الله.
فسقط السيف من يده.
فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف وقال: من يمنعك منى ؟ فقال: كن خير
__________
(1) صلتا: مجردا من غمده، بمعنى مصلت.
(*)
آخذ.
قال: تشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال: لا، ولكن أعاهدك على ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك.
فخلى سبيله، فأتى أصحابه وقال: جئتكم من عند خير الناس.
ثم ذكر صلاة الخوف، وأنه صلى أربع ركعات، بكل طائفة ركعتين.
وقد أورد البيهقى هنا طرق صلاة الخوف بذات الرقاع، عن صالح بن خوات بن جبير، عن سهل بن أبى حثمة، وحديث الزهري، عن سالم عن أبيه، في صلاة الخوف بنجد.
وموضع ذلك كتاب الاحكام.
والله أعلم.
قصة الذى أصيبت امرأته في هذه الغزوة قال محمد بن إسحاق: حدثنى عمى صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن جابر بن عبدالله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع من نخل فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا، أتى زوجها وكان غائبا، فلما أخبر الخبر حلف لا ينتهى حتى يهريق في أصحاب
محمد دما.
فخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا ؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الانصار.
فقالا: نحن يا رسول الله، قال: فكونا بفم الشعب من الوادي.
وهما عمار بن ياسر وعباد بن بشر، فلما خرجا إلى فم الشعب قال الانصاري للمهاجري: أي الليل تحب أن أكفيكه أوله أم آخره ؟ قال: بل اكفني أوله.
فاضطجع المهاجرى فنام وقام الانصاري يصلى.
قال: وأتى الرجل فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم، فرمى بسهم
فوضعه فيه، فانتزعه ووضعه وثبت قائما.
قال: ثم رمى بسهم آخر فوضعه فيه فنزعه فوضعه وثبت قائما.
قال: ثم عاد له بالثالث فوضعه فيه فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه فقال: اجلس فقد أثبت.
قال: فوثب الرجل فلما رآهما عرف أنه قد نذرا به، فهرب.
قال: ولما رأى المهاجرى ما بالانصارى من الدماء قال: سبحان الله أفلا أهببتنى أول ما رماك ؟ ! قال: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها، فلما تابع على الرمى ركعت فأذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغرا أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها ! هكذا ذكره ابن إسحاق في المغازى.
وقد رواه أبو داود عن أبى توبة، عن عبدالله ابن المبارك، عن ابن إسحاق به.
وقد ذكر الواقدي عن عبدالله العمرى، عن أخيه عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه، حديث صلاة الخوف بطوله.
قال: وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد أصاب في محالهم نسوة، وكان في السبى جارية وضيئة، وكان زوجها يحبها، فحلف ليطلبن محمدا ولا يرجع حتى يصيب دما أو يخلص صاحبته، ثم ذكر من السياق نحو ما أورده محمد بن إسحاق.
قال الواقدي: وكان جابر بن عبدالله يقول: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من أصحابه بفرخ طائر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فأقبل إليه أبواه أو أحدهما حتى طرح نفسه في يدى الذى أخذ فرخه، فرأيت أن الناس عجبوا من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا الطائر أخذتم فرخه فطرح نفسه رحمة لفرخه ؟ فوالله لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه ! !
قصة جمل جابر في هذه الغزوة قال محمد بن إسحاق: حدثنى وهب بن كيسان، عن جابر بن عبدالله، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لى ضعيف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت الرفاق تمضى وجعلت أتخلف، حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا جابر ؟ قلت: يا رسول الله أبطأ بى جملى هذا.
قال: أنخه.
قال: فأنخته وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أعطني هذه العصا من يدك أو اقطع عصا من شجرة.
ففعلت فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخسه بها نخسات ثم قال: اركب.
فركبت، فخرج والذى بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة (1).
قال: وتحدثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتبيعني جملك هذا يا جابر ؟ قال: قلت: بل أهبه لك.
قال: لا ولكن بعنيه، قال: قلت: فسمنيه، قال: قد أخذته بدرهم، قال: قلت: لا إذا تغبننى يا رسول الله ! قال: فبدرهمين، قال: قلت: لا.
قال: فلم يزل يرفع لى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الاوقية، قال: فقلت: أفقد
رضيت ؟ قال: نعم، قلت: فهو لك، قال: قد أخذته.
ثم قال: يا جابر هل تزوجت بعد ؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله، قال: أثيبا أم بكرا ؟ قال: قلت: بل ثيبا.
قال: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك ! قال: قلت يا رسول الله إن أبى أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن فتقوم عليهن.
قال: أصبت إن شاء الله، أما إنا لو جئنا صرارا (2) أمرنا بجزور فنحرت فأقمنا عليها يومنا ذلك وسمعت بنا فنفضت نمارقها.
قال: فقلت: والله يا رسول الله مالنا نمارق.
قال: إنها ستكون فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا.
__________
(1) المواهقة.
المباراة.
(2) صرار: موضع على ثلاثة أميال من المدينة.
(*)
قال: فلما جئنا صرارا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزور فنحرت وأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل ودخلنا.
قال: فحدثت المرأة الحديث وما قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فدونك فسمع وطاعة.
فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلست في المسجد قريبا منه، قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى الجمل فقال: ما هذا ؟ قالوا: يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر، قال: فأين جابر، فدعيت له، قال: فقال: يا ابن أخى خذ برأس جملك فهو لك.
قال: ودعا بلالا فقال: اذهب بجابر فأعطه أوقية.
قال: فذهبت معه فأعطاني أوقية وزادني شيئا يسيرا.
قال: فوالله ما زال ينمى عندي ويرى مكانه من بيننا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا.
يعنى يوم الحرة.
وقد أخرجه صاحب الصحيح من حديث عبيد الله بن عمر العمرى، عن وهب بن
كيسان، عن جابر بنحوه.
قال السهيلي: في هذا الحديث إشارة إلى ما كان أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم جابر بن عبدالله أن الله أحيا والده وكلمه فقال له: تمن على.
وذلك أنه شهيد وقد قال الله تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم " وزادهم على ذلك في قوله: " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " ثم جمع لهم بين العوض والمعوض فرد عليهم أرواحهم التى اشتراها منهم فقال: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " والروح للانسان بمنزلة المطية كما قال ذلك عمر بن عبد العزيز قال:
فلذلك اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جابر جمله، وهو مطيته، فأعطاه ثمنه ثم رده عليه وزاده مع ذلك.
قال: ففيه تحقيق لما كان أخبره به عن أبيه.
وهذا الذى سلكه السهيلي هاهنا إشارة غريبة وتخيل بديع.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد ترجم الحافظ البيهقى في كتابه " دلائل النبوة " على هذا الحديث في هذه الغزوة فقال: باب ما كان ظهر في غزاته هذه من بركاته وآياته في جمل جابر بن عبدالله رضى الله عنه.
وهذا الحديث له طرق عن جابر وألفاظ كثيرة، وفيه اختلاف كثير في كمية ثمن الجمل وكيفية ما اشترط في البيع.
وتحرير ذلك واستقصاؤه لائق بكتاب البيع من الاحكام والله أعلم.
وقد جاء تقييده بهذه الغزوة، وجاء تقييده بغيرها، كما سيأتي.
ومستبعد تعداد ذلك والله أعلم.
غزوة بدر الآخرة
وهى بدر الموعد التى تواعدوا إليها من أحد كما تقدم.
قال ابن إسحاق: ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من غزوة ذات الرقاع أقام بها بقية جمادى الاولى وجمادى الآخرة ورجبا، ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبى سفيان.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عبدالله بن عبدا لله بن أبى بن سلول.
قال ابن إسحاق: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأقام عليه ثمانيا ينتظر أبا سفيان.
وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية الظهران.
وبعض الناس يقول: قد بلغ عسفان ثم بدا له في الرجوع فقال: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، فإن عامكم هذا عام جدب وإنى راجع فارجعوا.
فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق.
قال: وأتى مخشى بن عمرو الضمرى وقد كان وادع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ودان على بنى ضمرة فقال: يا محمد أجئت للقاء قريش على هذا الماء ؟ قال: نعم يا أخا بنى ضمرة، وإن شئت رددنا إليك ما كان بيننا وبينك وجالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك.
قال: لا والله يا محمد مالنا بذلك من حاجة.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا.
قال ابن إسحاق: وقد قال عبدالله بن رواحة يعنى في انتظارهم أبا سفيان ورجوعه بقريش عامه ذلك.
قال ابن هشام: وقد أنشدنيها أبو زيد لكعب بن مالك:
وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد * لميعاده صدقا وما كان وافيا فأقسم لو لاقيتنا فلقيتنا * لابت ذميما وافتقدت المواليا
تركنا به أوصال عتبة وابنه * وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا عصيتم رسول الله أف لدينكم * وأمركم السئ الذى كان غاويا فإنى وإن عنفتموني لقائل * فدى لرسول الله أهلى وماليا أطعناه لم نعد له فينا بغيره * شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت في ذلك: دعوا فلجات الشام قد حال دونها * جلاد كأفواه المخاض الاوارك (1) بأيدى رجال هاجروا نحو ربهم * وأنصاره حقا وأيدي الملائك إذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا لها ليس الطريق هنالك أقمنا على الرس النزوع ثمانيا * بأرعن جرار عريض المبارك (2) بكل كميت جوزه نصف خلقه * وقب طوال مشرفات الحوارك (3) ترى العرفج العامي تذرى أصوله * مناسم أخفاف المطى الرواتك (4) فإن تلق في تطوافنا والتماسنا * فرات بن حيان يكن رهن هالك وإن تلق قيس بن امرئ القيس بعده * يزد في سواد لونه لون حالك فأبلغ أبا سفيان عنى رسالة * فإنك من غر الرجال الصعالك قال: فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، وقد أسلم فيما بعد ذلك: أحسان إنا يا ابن آكلة الفغا * وجدك نغتال الخروق كذلك (5)
__________
(1) الفلجات: جمع فلج، وهو النهر الصغير.
والاوارك: الابل التى رعت الاراك.
(2) الرس: البئر.
والنزوع: القريبة القعر.
والارعن: الجيش ذو الفضول.
(3) الكميت: الفرس.
والجوز: الوسط.
والقب: جمع أقب، وهو الفرس الضامر البطن والحوارك: جمع حارك وهو أعلى الكاهل.
(4) العرفج: شجر سهلى.
والعامي: الذى أتى عليه العام.
والرواتك: المسرعة.
(5) الفغا: شئ كالتبن.
والخروق: القفار.
ونفتال: نقطع.
(*)
خرجنا وما تنجو اليعافير بيننا * ولو وألت منا بشد مدارك (1) إذا ما انبعثنا من مناخ حسبته * مدمن أهل الموسم المتعارك (2) أقمت على الرس النزوع تريدنا * وتتركنا في النخل عند المدارك على الزرع تمشى خيلنا وركابنا * فما وطئت ألصقنه بالدكادك (3) أقمنا ثلاثا بين سلع وفارع * بجرد الجياد والمطى الرواتك (4) حسبتم جلاد القوم عند فنائكم (5) * كمأخذكم بالعين أرطال آنك (6) فلا تبعث الخيل الجياد وقل لها * على نحو قول المعصم المتماسك سعدتم بها وغيركم كان أهلها * فوارس من أبناء فهر بن مالك فإنك لا في هجرة إن ذكرتها * ولا حرمات دينها أنت ناسك (7) قال ابن هشام: تركنا منها أبياتا لاختلاف قوافيها.
وقد ذكر موسى بن عقبة عن الزهري وابن لهيعة، عن أبى الاسود، عن عروة بن الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر الناس لموعد أبى سفيان، وانبعث المنافقون في الناس يثبطونهم، فسلم الله أولياءه، وخرج المسلمون صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وأخذوا معهم بضائع وقالوا: إن وجدنا أبا سفيان وإلا اشترينا من بضائع موسم بدر.
__________
(1) اليعافير: جمع يعفور وهو ولد الظبية.
ووألت: احتمت.
والشد: الجرى.
(2) المدمن: الموضع به آثار الناس والدواب.
(3) الدكادك: جمع دكدك، ما تكبس واستوى من الرمل، أو أرض فيها غلظ.
(4) الرواتك: التى تقارب في خطوها.
(5) ابن هشام: عند قبابهم.
ورواها ابن سلام في طبقات الشعراء: حول بيوتكم.
(6) العين: المال، والذهب، والدينار.
والآنك: الرصاص الابيض.
وقد ذكر السهيلي عن ابن
سلام أن أبا سفيان بن حرب قال لابي سفيان بن الحارث: يابن أخى لم جعلتها آنك، إن كانت الفضة بيضاء جيدة ! (7) وتروى: ولا حرمات الدين أنت بناسك.
(*)
ثم ذكر نحو سياق ابن إسحاق في خروج أبى سفيان إلى مجنة، ورجوعه، وفى مقاولة الضمرى، وعرض النبي صلى الله عليه وسلم والمنابذة فأبى ذلك.
قال الواقدي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها في ألف وخمسمائة من أصحابه، واستخلف على المدينة عبدالله بن رواحة.
وكان خروجه إليها في مستهل ذى القعدة، يعنى سنة أربع.
والصحيح قول ابن إسحاق، أن ذلك في شعبان من هذه السنة الرابعة، ووافق قول موسى بن عقبة أنها في شعبان، لكن قال: في سنة ثلاث وهذا وهم، فإن هذه توعدوا إليها من أحد وكانت أحد في شوال سنة ثلاث كما تقدم.
والله أعلم.
قال الواقدي: فأقاموا ببدر مدة الموسم الذى كان يعقد فيها ثمانية أيام، فرجعوا وقد ربحوا من الدرهم درهمين.
وقال غيره: فانقلبوا كما قال الله عزوجل: " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم (1) ".
فصل في جملة من الحوادث الواقعة سنة أربع من الهجرة قال ابن جرير: وفى جمادى الاولى من هذه السنة مات عبدالله بن عثمان بن عفان رضى الله عنه، يعنى من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ست سنين، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل في حفرته والده عثمان بن عفان رضى الله عنه.
قلت: وفيه توفى أبو سلمة عبدالله بن عبد الاسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن
مخزوم القرشى المخزومى، وأمه برة بنت عبدالمطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتضعا من ثويبة مولاة أبى لهب.
__________
(1) سورة آل عمران 174.
(*)
وكان إسلام أبى سلمة وأبى عبيدة وعثمان بن عفان والارقم بن أبى الارقم قديما في يوم واحد.
وقد هاجر هو وزوجته أم سلمة إلى أرض الحبشة، ثم عاد إلى مكة وقد ولد لهما بالحبشة أولاد، ثم هاجر من مكة إلى المدينة، وتبعته أم سلمة إلى المدينة كما تقدم.
وشهد بدرا وأحدا، ومات من آثار جرح جرحه بأحد.
رضى الله عنه وأرضاه.
له حديث واحد في الاسترجاع عند المصيبة، سيأتي في سياق تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة قريبا.
* * * قال ابن جرير: وفى ليال خلون من شعبان منها ولد الحسين بن على من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنهم.
قال: وفى شهر رمضان من هذه السنة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبدالله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة، الهلالية.
وقد حكى أبو عمر بن عبد البر، عن على بن عبد العزيز الجرجاني أنه قال: كانت أخت ميمونة بنت الحارث.
ثم استغربه وقال: لم أره لغيره.
وهى التى يقال لها أم المساكين لكثرة صدقاتها عليهم وبرها لهم وإحسانها إليهم.
وأصدقها ثنتى عشرة أوقية ونشا (1) ودخل بها في رمضان، وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث فطلقها.
قال أبو عمر بن عبد البر، عن على بن عبد العزيز الجرجاني: ثم خلف عليها أخوه
عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف.
قال ابن الاثير في الغابة: وقيل كانت تحت عبدالله بن جحش فقتل عنها يوم أحد.
__________
(1) النش: نصف أوقية، وهو عشرون درهما.
(*)
قال أبو عمر: ولا خلاف أنها ماتت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لم تلبث عنده إلا شهرين أو ثلاثة حتى توفيت رضى الله عنها.
وقال الواقدي: في شوال من هذه السنة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بنت أبى أمية.
* * * قلت: وكانت قبله عند زوجها أبى أولادها أبى سلمة بن عبد الاسد، وقد كان شهد أحدا كما تقدم، وجرح يوم أحد فداوى جرحه شهرا حتى برئ، ثم خرج في سرية فغنم منها نعما ومغنما جيدا، ثم أقام بعد ذلك سبعة عشر يوما ثم انتقض عليه جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الاولى من هذه السنة.
فلما حلت في شوال خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نفسها بنفسه الكريمة وبعث إليها عمر بن الخطاب في ذلك مرارا، فتذكر أنها امرأة غيرى، أي شديدة الغيرة وأنها مصبية، أي لها صبيان يشغلونها عنه ويحتاجون إلى مؤنة تحتاج معها أن تعمل لهم في قوتهم، فقال: أما الصبية فإلى الله وإلى رسوله.
أي نفقتهم ليس إليك، وأما الغيرة فأدعو الله فيذهبها.
فأذنت في ذلك وقالت لعمر آخر ما قالت له: قم فزوج النبي صلى الله عليه وسلم.
تعنى قد رضيت وأذنت.
فتوهم بعض العلماء أنها تقول لابنها عمر بن أبى سلمة، وقد كان إذ ذاك صغيرا لا يلى مثله العقد، وقد جمعت في ذلك جزءا مفردا بينت فيه الصواب في ذلك.
ولله الحمد والمنة.
وأن الذى ولى عقدها عليه ابنها سلمة بن أبى سلمة، وهو أكبر ولدها.
وساغ هذا لان أباه ابن عمها، فللا بن ولاية أمه إذا كان سببا لها من غير جهة البنوة بالاجماع، وكذا إذا كان معتقا أو حاكما.
فأما محض البنوة فلا يلى بها عقد النكاح عند الشافعي وحده، وخالفه الثلاثة: أبو حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله.
ولبسط هذا موضع آخر يذكر فيه، وهو كتاب النكاح من الاحكام الكبير.
إن شاء الله.
* * * قال الامام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا ليث، يعنى ابن سعد، عن يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهاد، عن عمرو بن أبى عمرو، عن المطلب، عن أم سلمة قالت: أتانى أبو سلمة يوما من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به، قال: " لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم آجرنى في مصيبتي واخلف لى خيرا منها إلا فعل به ".
قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه.
فلما توفى أبو سلمة استرجعت وقلت: اللهم آجرنى في مصيبتي واخلف لى خيرا منها ثم رجعت إلى نفسي فقلت: من أين لى خير من أبى سلمة ؟ فلما انقضت عدتي استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ إهابا لى، فغسلت يدى من القرظ وأذنت له، فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف، فقعد عليها فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته قلت: يا رسول الله ما بى أن لا تكون بك الرغبة، ولكني امرأة بى غيرة شديدة، فأخاف أن ترى منى شيئا يعذبنى الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن وأنا ذات عيال.
فقال: أما ما ذكرت من الغيرة فسيذهبها الله عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد
أصابني مثل الذى أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي.
فقالت: فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت أم سلمة: فقد أبدلني الله بأبى سلمة خيرا منه، رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عمر بن أبى سلمة، عن أمه أم سلمة عن أبى سلمة به.
وقال الترمذي حسن غريب.
وفى رواية للنسائي عن ثابت عن ابن عمر بن أبى سلمة عن أبيه.
ورواه ابن ماجه عن أبى بكر بن أبى شيبة عن يزيد بن هارون، عن عبدالملك بن قدامة الجمحى عن أبيه، عن عمر بن أبى سلمة به.
* * * وقال ابن إسحاق: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعنى من بدر الموعد - راجعا إلى المدينة فأقام بها حتى مضى ذو الحجة وولى تلك الحجة المشركون وهى سنة أربع.
وقال الواقدي: وفى هذه السنة يعنى سنة أربع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود.
قلت: فثبت عنه في الصحيح أنه قال: تعلمته في خمسة عشر يوما.
والله أعلم.
سنة خمس من الهجرة النبوية غزوة دومة الجندل في ربيع الاول منها قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم دومة الجندل (1).
قال ابن هشام: في ربيع الاول - يعنى من سنة خمس - واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري.
قال ابن إسحاق: ثم رجع إلى المدينة قبل أن يصل إليها ولم يلق كيدا، فأقام
بالمدينة بقية سنته.
هكذا قال ابن إسحاق.
وقد قال محمد بن عمر الواقدي بإسناده عن شيوخه عن جماعة من السلف قالوا: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدنو إلى أداني الشام، وقيل له: إن ذلك مما يفزع قيصر، وذكر له أن بدومة الجندل جمعا كبيرا وأنهم يظلمون من مر بهم، وكان لها سوق عظيم، وهم يريدون أن يدنوا من المدينة.
فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فخرج في ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل له من بنى عذرة يقال له مذكور، هاد خريت (2).
فلما دنا من دومة الجندل أخبره دليله بسوائم بنى تميم، فسار حتى هجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دومة الجندل فتفرقوا،
__________
(1) دومة: بضم الدال عند أهل اللغة، وأصحاب الحديث يفتحونها.
كذا في الصحاح.
قال البكري: سميت بدومى بن إسماعيل، وكان نزلها.
(شرح المواهب 2 / 95).
(2) الخريت: الماهر بالهداية.
(12 - السيرة 3) (*)
فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم فلم يجد فيها أحدا، فأقام بها أياما، وبث السرايا، ثم رجعوا وأخذ محمد بن سلمة رجلا منهم فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن أصحابه فقال: هربوا أمس.
فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الاسلام فأسلم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
قال الواقدي: وكان خروجه عليه السلام إلى دومة الجندل في ربيع الآخر (1) سنة خمس.
قال: وفيه توفيت أم سعد بن عبادة، وابنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة.
وقد قال أبو عيسى الترمذي في جامعه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، أن أم سعد ماتت والنبى صلى الله عليه وسلم غائب، فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر.
وهذا مرسل جيد، وهو يقتضى أنه عليه السلام غاب في هذه الغزوة شهرا فما فوقه على ما ذكره الواقدي رحمه الله.
غزوة الخندق وهى غزوة الاحزاب وقد أنزل الله تعالى فيها صدر سورة الاحزاب.
فقال تعالى: " يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا، وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا
__________
(1) عند ابن جرير عن الواقدي: في ربيع الاول.
وكذلك في شرح المواهب: " وكان في شهر ربيع الاول على رأس تسعة وأربعين شهرا من الهجرة " وكان رجوعه إلى المدينة في العشرين من ربيع الآخر.
(*)
شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة.
وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا * ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لاتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا * ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسئولا * قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا * قل من ذا الذى يعصمكم من الله إن أراد
بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا * قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لاخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا * أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذى يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير، أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا * يحسبون الاحزاب لم يذهبوا وإن يأت الاحزاب يودوا لو أنهم بادون في الاعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا * لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا * ولما رأى المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما * من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا * ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما * ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا * وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب، فريقا تقتلون وتأسرون فريقا، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطأوها وكان الله على كل شئ قديرا ".
وقد تكلمنا على كل من هذه الآيات الكريمات في التفسير ولله الحمد والمنة.
ولنذكر هاهنا ما يتعلق بالقصة إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
* * * وقد كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة نص على ذلك ابن إسحاق وعروة بن الزبير وقتادة والبيهقي وغير واحد من العلماء سلفا وخلفا.
وقد روى موسى بن عقبة عن الزهري أنه قال: ثم كانت وقعة الاحزاب في شوال سنة أربع.
وكذلك قال الامام مالك بن أنس، فيما رواه أحمد بن حنبل عن موسى بن داود عنه.
قال البيهقى: ولا اختلاف بينهم في الحقيقة، لان مرادهم أن ذلك بعد مضى أربع سنين وقبل استكمال خمس.
ولا شك أن المشركين لما انصرفوا عن أحد واعدوا المسلمين إلى بدر العام القابل، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما تقدم في شعبان سنة أربع ورجع أبو سفيان بقريش لجدب ذلك العام، فلم يكونوا ليأتوا إلى المدينة بعد شهرين، فتعين أن الخندق في شوال من سنة خمس.
والله أعلم.
وقد صرح الزهري بأن الخندق كانت بعد أحد بسنتين.
ولا خلاف أن أحدا في شوال سنة ثلاث، إلا على قول من ذهب إلى أن أول التاريخ من محرم السنة الثانية لسنة الهجرة، ولم يعدوا الشهور الباقية من سنة الهجرة من ربيع الاول إلى آخرها، كما حكاه البيهقى.
وبه قال يعقوب بن سفيان الفسوى، وقد صرح بأن بدرا في الاولى، وأحدا في سنة ثنتين، وبدر الموعد في شعبان سنة ثلاث، والخندق في شوال سنة أربع.
وهذا مخالف لقول الجمهور، فإن المشهور أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جعل أول
التاريخ من محرم سنة الهجرة، وعن مالك من ربيع الاول سنة الهجرة، فصارت الاقوال ثلاثة والله أعلم.
والصحيح قول الجمهور: أن أحدا في شوال سنة ثلاث، وأن الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة والله أعلم.
فأما الحديث المتفق عليه في الصحيحين من طريق عبيدالله عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازنى.
فقد أجاب عنها
جماعة من العلماء منهم البيهقى بأنه عرض يوم أحد في أول الرابعة عشرة، ويوم الاحزاب في أواخر الخامسة عشرة.
قلت: ويحتمل أنه أراد أنه لما عرض عليه في يوم الاحزاب كان قد استكمل خمس عشرة سنة التى يجاز لمثلها الغلمان، فلا يبقى على هذا زيادة عليها.
ولهذا لما بلغ نافع عمر بن عبد العزيز هذا الحديث قال: إن هذا الفرق بين الصغير والكبير.
ثم كتب به إلى الآفاق واعتمد على ذلك جمهور العلماء.
والله أعلم.
* * * وهذا سياق القصة مما ذكره ابن إسحاق وغيره.
قال ابن إسحاق: ثم كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس.
فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة ومن لا أتهم، عن عبيد (1) الله بن كعب بن مالك ومحمد بن كعب القرظى والزهرى، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبى بكر وغيرهم من علمائنا.
وبعضهم يحدث ما لا يحدث بعض.
قالوا: إنه كان من حديث الخندق: أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبى الحقيق النضرى، وحيى بن أخطب النضرى، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وهوذة بن قيس
__________
(1) ابن هشام: عبدالله بن كعب.
(*)
الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بنى النضير ونفر من بنى وائل، وهم الذين حزبوا الاحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله.
فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الاول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه ؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه.
فهم الذين أنزل الله فيهم: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا.
أولئك الذين لعنهم الله، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (1) " الآيات.
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له.
ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروهم أنهم يكونون (2) معهم عليه، وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك واجتمعوا معهم فيه.
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بنى فزارة والحارث بن عوف بن أبى حارثة المرى في بنى مرة، ومسعر ابن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبدالله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمعوا له من الامر ضرب الخندق على المدينة.
__________
(1) سورة النساء.
(2) ابن هشام: سيكونون.
(*)
قال ابن هشام: يقال إن الذى أشار به سلمان.
قال الطبري والسهيلى: أول من حفر الخنادق: منوشهر بن أيرج بن أفريدون.
وكان في زمن موسى عليه السلام.
قال ابن إسحاق: فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيبا للمسلمين في الاجر، وعمل معه المسلمون، وتخلف طائفة من المنافقين يعتذرون بالضعف (1)، ومنهم من ينسل خفية بغير إذنه ولا علمه عليه الصلاة والسلام.
وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم * لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيهم عذاب أليم، ألا إن لله ما في السموات والارض قد يعلم ما أنتم عليه، ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شئ عليم (2) ".
قال ابن إسحاق: فعمل المسلمون فيه حتى أحكموه، وارتجزوا فيه برجل من المسلمين يقال له جعيل سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرا، فقالوا فيما يقولون: سماه من بعد جعيل عمرا * وكان للبائس يوما ظهرا (3) وكانوا إذا قالوا: عمرا.
قال معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرا.
وإذا قالوا: ظهرا قال لهم: ظهرا.
* * *
__________
(1) ابن هشام: وجعلوا يورون بالضعيف من العمل.
(2) سورة النور.
(3) ظهر: قوة ومعونة.
(*)
وقد قال البخاري: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن حميد، سمعت أنسا قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والانصار يحفرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: " اللهم إن العيش عيش الآخره، فاغفر للانصار والمهاجره " فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدا * على الجهاد ما بقينا أبدا
وفى الصحيحين من حديث شعبة، عن معاوية بن قرة عن أنس.
نحوه.
وقد رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت وحميد عن أنس، بنحوه.
وقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس قال: جعل المهاجرون والانصار يحفرون الخندق حول المدينة وينقلون التراب على متونهم ويقولون: نحن الذين بايعوا محمدا * على الاسلام ما بقينا أبدا قال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم مجيبا لهم: " اللهم إنه لا خير إلا خير الآخره، فبارك في الانصار والمهاجره ".
قال: يؤتون بملء كفى من الشعير فيصنع لهم بإهالة سنخة (1) توضع بين يدى القوم والقوم جياع، وهى بشعة في الحلق ولها ريح منتن ! وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز بن (2) أبى حازم، عن سهل بن سعد، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) الاهالة: الودكة.
والسنخة: المتغيرة الريح الفاسدة الطعم.
(2) البخاري: عن أبى حازم.
وهو أبو عبد العزيز.
(3) الاكتاد: جمع كتد، وهو ما بين الكاهل إلى الظهر.
(*)
" اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والانصار ".
ورواه مسلم عن القعنبى، عن عبد العزيز به.
وقال البخاري: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن أبى إسحاق، عن البراء ابن عازب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه، أو اغبر بطنه يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا * وثبت الاقدام إن لاقينا إن الالى قد بغوا علينا * إذا أرادوا فتنة أبينا ورفع بها صوته: أبينا، أبينا.
ورواه مسلم من حديث شعبة به.
ثم قال البخاري: حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا شريح بن مسلمة، حدثنى إبراهيم ابن يوسف، حدثنى أبى، عن أبى إسحاق، عن البراء يحدث قال: لما كان يوم الاحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عنى التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات عبدالله بن رواحة وهو ينقل من التراب يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا * وثبت الاقدام إن لاقينا إن الالى قد بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا ثم يمد صوته بآخرها.
وقال البيهقى في الدلائل: أخبرنا على بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا إسماعيل بن الفضل البجلى، حدثنا إبراهيم بن يوسف البلخى، حدثنا
المسيب بن شريك، عن زياد بن أبى زياد، عن أبى عثمان، عن سلمان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب في الخندق وقال: باسم الله وبه هدينا * ولو عبدنا غيره شقينا يا حبذا ربا وحب دينا وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقال الامام أحمد: حدثنا سليمان، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهم يحفرون الخندق: " اللهم لا خير إلا خير الآخره، فأصلح الانصار والمهاجره ".
وأخرجاه في الصحيحين من حديث غندر، عن شعبة.
* * * قال ابن إسحاق: وقد كان في حفر الخندق أحاديث بلغتني، من الله فيها عبرة في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحقيق نبوته، عاين ذلك المسلمون.
فمن ذلك: أن جابر بن عبد الله كان يحدث أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كدية (1)، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح الماء على تلك الكدية، فيقول من حضرها: فوالذي بعثه بالحق لانهالت حتى عادت كالكثيب ما ترد فأسا ولا مسحاة.
هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعا عن جابر بن عبدالله رضى الله عنه.
وقد قال البخاري رحمه الله: حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، قال: أتيت جابرا فقال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل.
__________
(1) الكدية: القطعة الصلبة من الارض لا يعمل فيها المعول.
(*)
ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا (1)، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم (2).
فقلت: يا رسول الله ائذن لى إلى البيت.
فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئا ما كان في ذلك صبر، فعندك شئ ؟ قالت: عندي شعير وعناق (3)، فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة (4)، ثم جئت النبي صلى الله
عليه وسلم والعجين قد انكسر والبرمة بين الاثافي (5) قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيم لى (6) فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان.
قال: كم هو ؟ فذكرت له، فقال: كثير طيب، قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتى.
فقال: قوموا.
فقام المهاجرون والانصار.
فلما دخل على امرأته قال: ويحك ! جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والانصار ومن معهم.
قالت: هل سألك ؟ قلت: نعم.
فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمر (7) البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع.
فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقى بقية.
قال: كلى هذا وأهدى، فإن الناس أصابتهم مجاعة.
تفرد به البخاري.
* * * وقد رواه الامام أحمد، عن وكيع، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه
__________
(1) ذواقا: شيئا من مأكول أو مشروب.
(2) الاهيل أو الاهيم: السائل.
(3) العناق: الانثى من ولد الماعز.
(4) البرمة: القدر.
(5) الاثافي: حجارة ثلاثة توضع عليها القدر.
(6) طعيم: تصغير طعام: لتقليله.
(7) يخمر: يغطى.
(*)
أيمن الحبشى مولى بنى مخزوم، عن جابر بقصة الكدية وربط الحجر على بطنه الكريم.
ورواه البيهقى في الدلائل، عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر، بقصة الكدية والطعام.
وطوله أتم من رواية البخاري قال فيه: لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار
الطعام قال للمسلمين جميعا: قوموا إلى جابر.
فقاموا، قال: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، وقلت: جاءنا بخلق على صاع من شعير وعناق.
دخلت على امرأتي أقول: افتضحت، جاءك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق أجمعين، فقالت: هل كان سألك كم طعامك ؟ قلت: نعم.
فقالت: الله ورسوله أعلم.
قال: فكشفت عنى غما شديدا، قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خدمي ودعيني من اللحم.
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يثرد ويغرف اللحم ويخمر هذا ويخمر هذا، فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين ويعود التنور والقدر أملا ما كانا ! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلى وأهدى.
فلم تزل تأكل وتهدى يومها.
وقد رواه كذلك أبو بكر بن أبى شيبة، عن عبدالرحمن بن محمد المحاربي، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر به وأبسط أيضا، وقال في آخره: وأخبرني أنهم كانوا ثمانمائة أو قال: ثلاثمائة.
وقال يونس بن بكير، عن هشام بن سعد، عن أبى الزبير، عن جابر.
فذكر القصة بطولها في الطعام فقط وقال: وكانوا ثلاثمائة.
* * * ثم قال البخاري: حدثنا عمرو بن على، حدثنا أبو عاصم، حدثنا حنظلة بن أبى
سفيان، عن أبى الزبير، حدثنا ابن ميناء، سمعت جابر بن عبدالله قال: لما حفر الخندق رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم خمصا (1)، فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شئ، فإنى رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا ؟ فأخرجت لى جرابا فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن (2)، فذبحتها، فطحنت، ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تفضحني
برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه، فجئته فساررته فقلت: يا رسول الله ذبحت بهيمة لنا، وطحنت صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك.
فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع سؤرا (3) فحيهلا بكم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجئ.
فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت: بك وبك.
فقلت: قد فعلت الذى قلت.
فأخرجت لنا عجينا فبسق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبسق وبارك، ثم قال: ادع خبازة فلتخبز معك، واقدحى (4) من برمتك ولا تنزلوها.
وهم ألف، فأقسم بالله لاكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط (5) كما هي وإن عجيننا كما هو.
ورواه مسلم عن حجاج بن الشاعر، عن أبى عاصم به نحوه.
* * *
__________
(1) الخمص: ضمور البطن من الجوع.
(2) البهيمة: بضم الباء تصغير بهمة وهى الصغير ومن أولاد الغنم.
والداجن: ما يربى في البيوت من الغنم ولا تخرج إلى المرعى.
(3) سؤرا: يروى بالهمزة، وفى اليونينية بتركها: وهو الطعام الذى يدعى إليه، وهى لفظة فارسية، وهذا دليل على تكلم الرسول بالفارسية.
والسؤر بالهمز: البقية.
(4) اقدحى: اغرفي.
(5) تغط: تفور بحيث يسمع لها غطيط.
(*)
وقد روى محمد بن إسحاق هذا الحديث وفى سياقه غرابة من بعض الوجوه فقال: حدثنى سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبدالله، قال: عملنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، وكانت عندي شويهة غير جد سمينة، قال: فقلت: والله لو صنعناها
لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وأمرت امرأتي فطحنت لنا شيئا من شعير فصنعت لنا منه خبزا وذبحت تلك الشاة فشويناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف عن الخندق، قال: وكنا نعمل فيه نهارا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا، فقلت: يا رسول الله إنى قد صنعت لك شويهة كانت عندنا وصنعنا معها شيئا من خبز هذا الشعير، فأنا أحب أن تنصرف معى إلى منزلي.
قال: وإنما أريد أن ينصرف معى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده.
قال: فلما أن قلت ذلك قال: نعم.
ثم أمر صارخا فصرخ: أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبدالله.
قال: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون !.
قال: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه، قال: فبرك وسمى الله تعالى، ثم أكل، وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها.
والعجب أن الامام أحمد إنما رواه من طريق سعيد بن ميناء، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق عنه، عن جابر مثله سواء.
قال محمد بن إسحاق: وحدثني سعيد بن ميناء، أنه قد حدث أن ابنة لبشير بن سعد أخت النعمان بن بشير قالت: دعتني أمي عمرة بنت رواحة، فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبدالله بن رواحة بغدائهما.
قالت: فأخذتها وانطلقت بها.
فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبى وخالى، فقال: تعالى يا بنية ما هذا معك ؟ قالت: قلت: يا رسول الله هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبى بشير بن سعد وخالى عبدالله بن رواحة يتغديانه.
فقال: هاتيه.
قالت: فصببته في كفى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فما ملاتهما.
ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب، ثم قال لانسان عنده: اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء.
فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
هكذا رواه ابن إسحاق وفيه انقطاع، وهكذا رواه الحافظ البيهقى من طريقه ولم يزد.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثت عن سلمان الفارسى أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق فغلظت على صخرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب منى، فلما رأني أضرب ورأى شدة المكان على نزل فأخذ المعول من يدى فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، قال: ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، قال: قلت: بأبى أنت وأمى يا رسول الله ! ما هذا الذى رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب ؟ قال: أوقد رأيت ذلك يا سلمان ؟ قال: قلت: نعم.
قال: أما الاولى فإن الله فتح على باب اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح على باب الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح على بها المشرق.
قال البيهقى: وهذا الذى ذكره ابن إسحاق قد ذكره موسى بن عقبة في مغازيه، وذكره أبو الأسود عن عروة.
ثم روى البيهقى من طريق محمد بن يونس الكديمى وفى حديثه نظر.
لكن رواه ابن جرير في تاريخه عن محمد بن بشار وبندار، كلاهما عن محمد بن خالد بن عثمة، عن كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده، فذكر حديثا فيه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم خط الخندق بين كل عشرة أربعين ذراعا قال: واحتق المهاجرون والانصار في سلمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلمان منا أهل البيت.
قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن وستة من الانصار في أربعين ذراعا، فحفرنا حتى إذا بلغنا الندى ظهرت لنا صخرة بيضاء مروة، فكسرت حديدنا وشقت علينا، فذهب سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة تركية، فأخبره عنها، فجاء فأخذ المعول من سلمان فضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها - يعنى المدينة - حتى كأنها مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون، ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك.
وذكر ذلك سلمان والمسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه عن ذلك النور، فقال: لقد أضاء لى من الاولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتى ظاهرة عليها، ومن الثانية أضاءت القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتى ظاهرة عليها.
ومن الثالثة أضاءت قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتى ظاهرة عليها فأبشروا، واستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعود صادق.
قال: ولما طلعت الاحزاب قال المؤمنون: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما.
وقال المنافقون: يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم، وأنتم تحفرون الخندق لا نستطيعون أن تبرزوا !

 
روابط عرض كتاب السيرة النبوية لابن كثير
ترجمة ابن كثير الحافظ
1.السيرة النبوية لابن كثير ج1 /1.
2.السيرة النبوية لابن كثير ج1 /2.
3.ج1/ 3 السيرة النبوية لابن كثير الحافظ.
4.السيرة النبوية لابن كثير ج1//4
5.السيرة النبوية لاب كثير ج2//1..
6.السيرة النبوية لاب كثير ج2//2..
7.السيرة النبوية لابن كثير ج2//3.
8.السيرة النبوية لابن كثير ج2//4.
9.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /1 .
10.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /2 .
11.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /3 .
12.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /4 .
13..السيرة النبوية لابن كثير ج4 ا ج4//1.
14.السيرة النبوية لابن كثير ج4 ا ج4//2.
15.السيرة النبوية لابن كثير 4//3.ذكر خروجه عليه ال...
ص16.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص17.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص18.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص19.السيرة النبوية لابن كثير الجزء السادس -ج6//1
ص20. ج6//2 السيرة النبوية لابن كثير
ص21.ج6//3 السيرة النبوية لابن كثير
ص22.ج6//4 السيرة النبوية لابن هشام الحافظ
الروابط الي الجزء 6
ص23.السيرة النبوية لابن كثير الجزء 7 بتصنيف الشاملة...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق