الجمعة، 15 يونيو 2018

5. السيرة النبوية لاب كثير ج2//1..



ص5
ج2 السيرة النبوية لابن كثير/1.
وقال ورقة أيضا: يا للرجال وصرف الدهر والقدر * وما لشئ قضاه الله من غير حتى خديجة تدعوني لاخبرها * أمرا أراه سيأتي الناس من أخر وخبرتني بأمر قد سمعت به * فيما مضى من قديم الدهر والعصر بأن أحمد يأتيه فيخبره * جبريل أنك مبعوث إلى البشر فقلت عل الذى ترجين ينجزه * لك الاله فرجى الخير وانتظري وأرسليه إلينا كى نسائله * عن أمره ما يرى في النوم والسهر فقال حين أتانا منطقا عجبا * يقف منه أعالي الجلد والشعر إنى رأيت أمين الله واجهنى * في صورة أكملت من أعظم الصور ثم استمر فكاد الخوف يذعرنى * مما يسلم من حولي من الشجر فقلت ظنى وما أدرى أيصدقني * أن سوف يبعث يتلو منزل السور وسوف يبليك إن أعلنت دعوتهم * من الجهاد بلا من ولا كدر هكذا أورد ذلك الحافظ البيهقى في الدلائل وعندي في صحتها عن ورقة نظر والله أعلم.
وقال ابن إسحاق: حدثنى عبد الملك بن عبد الله بن أبى سفيان بن العلاء بن جارية الثقفى - وكان واعية (1) - عن بعض أهل العلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته (2) أبعد حتى يحسر البيوت (3)
__________
(1) المطبوعة داعية.
وهو تحريف.
(2) المطبوعة: لحاجة.
وهو تحريف.
(3) خ ط: الثوب.
وهو تحريف شنيع.
(*)
عنه ويفضى إلى شعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
قال: فيلتفت حوله عن يمينه وعن شماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة، فمكث كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاء من كرامة الله وهو بحراء في رمضان.
قال ابن إسحاق: وحدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير، قال سمعت عبد الله ابن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثى: حدثنا يا عبيد: كيف كان بدء ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين جاءه جبريل.
قال: فقال عبيد وأنا حاضر، يحدث عبد الله ابن الزبير ومن عنده من الناس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء في كل سنة شهرا يتحنث.
قال: وكان ذلك مما تحنث (1) به قريش في الجاهلية، والتحنث: التبرر.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته.
حتى إذا كان الشهر الذى أراد الله به فيه ما أراد من كرامته من السنة التى بعثه فيها، وذلك الشهر رمضان، خرج إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التى أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد به جاءه جبريل بأمر الله تعالى.
__________
(1) خ ط: يحبب.
وهو تحريف.
(*)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ.
قلت: ما أقرأ ؟ قال: فغتنى حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ.
قلت: ما أقرأ ؟ قال: فغتنى حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ.
قلت: ما أقرأ ؟ قال: فغتنى حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ.
قلت: ماذا أقرأ ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء (1) منه أن يعود لى بمثل ما صنع بى.
فقال: " اقرأ باسم ربك الذى خلق.
خلق الانسان من علق.
اقرأ وربك الاكرم.
الذى علم بالقلم.
علم الانسان ما لم يعلم ".
قال: فقرأتها ثم انتهى وانصرف عنى، وهببت من نومى فكأنما كتب في قلبى كتابا.
قال: فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل.
قال: فرفعت رأسي إلى السماء، فأنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل.
فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهى عنه في آفاق السماء فما أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك.
فما زلت واقفا ما أتقدم أمامى وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبى، فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عنى.
وانصرفت راجعا إلى أهلى حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها، فقالت: يا أبا القاسم أين كنت ؟ فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلى.
__________
(1) ط: اقتدا وهو تحريف.
(*)
ثم حدثتها بالذى رأيت فقالت: أبشر يا ابن العم واثبت، فو الذى نفس خديجة بيده إنى لارجو أن تكون نبى هذه الامة.
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ورقة: قدوس قدوس، والذى نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الاكبر الذى كان يأتي موسى، وإنه لنبى هذه الامة، وقولى له فليثبت.
فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة.
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال: يا ابن أخى، أخبرني بما رأيت وسمعت.
فأخبره، فقال له ورقة: والذى نفسي بيده إنك لنبى هذه الامة، ولقد جاءك الناموس الاكبر الذى جاء موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه (1)، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لانصرن الله نصرا يعلمه.
ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله.
وهذا الذى ذكره عبيد بن عمير كما ذكرناه كالتوطئة لما جاء بعده من اليقظة، كما تقدم من قول عائشة رضى الله عنها: فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
ويحتمل أن هذا المنام كان بعد ما رآه في اليقظة صبيحة ليلتئذ.
ويحتمل أنه كان بعده بمدة.
والله أعلم.
__________
(1) الهاء هنا للسكت.
(*)
وقال موسى بن عقبة: عن الزهري عن سعيد بن المسيب، قال: وكان بلغنا أول ما رأى، يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى أراه رؤيا في المنام، فشق ذلك عليه، فذكرها لامرأته خديجة، فعصمها الله عن التكذيب وشرح صدرها للتصديق فقالت: أبشر فإن الله لم يصنع بك إلا خيرا.
ثم إنه خرج من عندها ثم رجع إليها، فأخبرها أنه رأى بطنه شق ثم غسل وطهر ثم أعيد كما كان.
قالت: هذا والله خير فأبشر.
ثم استعلن له جبريل وهو بأعلى مكة فأجلسه على مجلس كريم معجب، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك (؟) فيه الياقوت واللؤلؤ، فبشره برسالة الله عزوجل، حتى اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له جبريل اقرأ.
فقال: كيف أقرأ ؟ فقال: " اقرأ باسم ربك الذى خلق، خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم، الذى علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم ".
قال: ويزعم ناس أن " يا أيها المدثر " أول سورة نزلت عليه والله أعلم.
قال: فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربه واتبع ما جاءه به جبريل من عند الله.
فلما انصرف منقلبا إلى بيته جعل لا يمر على شجر ولا حجر إلا سلم عليه، فرجع إلى أهله مسرورا موقنا أنه قد رأى أمرا عظيما، فلما دخل على خديجة قال: أرأيتك التى كنت حدثتك أنى رأيته في المنام ؟ فإنه جبريل استعلن إلى، أرسله إلى ربى عزوجل.
وأخبرها بالذى جاءه من الله وما سمع منه، فقالت: أبشر فو الله لا يفعل
__________
(1) الدرنوك: نوع من البسط له خمل.
(*)
الله بك إلا خيرا، وأقبل الذى جاءك من أمر الله فإنه حق، وأبشر فإنك
رسول الله حقا.
ثم انطلقت من مكانها، فأتت غلاما لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس، نصرانيا من أهل نينوى يقال له عداس فقالت له: يا عداس أذكرك بالله إلا ما أخبرتني: هل عندك علم من جبريل ؟ فقال: قدوس قدوس، ما شأن جبريل يذكر بهذه الارض التى أهلها أهل الاوثان.
فقالت: أخبرني بعلمك فيه.
قال: فإنه أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما السلام.
فرجعت خديجة من عنده فجاءت ورقة بن نوفل، فذكرت له ما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما ألقاه إليه جبريل، فقال لها ورقة: يا بنية أخى، ما أدرى لعل صاحبك النبي الذى ينتظر أهل الكتاب الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل، وأقسم بالله لئن كان إياه ثم أظهر دعواه وأنا حى لا بلين الله في طاعة رسوله وحسن مؤازرته للصبر والنصر.
فمات ورقة رحمه الله.
قال الزهري: فكانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ البيهقى بعد إيراده ما ذكرناه: والذى ذكر فيه من شق بطنه يحتمل أن يكون حكاية منه لما صنع به في صباه، يعنى شق بطنه عنه حليمة، ويحتمل أن يكون شق مرة أخرى، ثم ثالثة حين عرج به إلى السماء.
والله أعلم.
وقد (1) ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة ورقة بإسناده إلى سليمان بن طرخان التيمى قال:
__________
(1) من هنا إلى وقال البيهقى حدثنا أبو عبد الله الحافظ ساقط من النسخة ا.
(*)
بلغنا أن الله تعالى بعث محمدا رسولا على رأس خمسين سنة من بناء الكعبة.
وكان أول شئ اختصه به من النبوة والكرامة رؤيا كان يراها، فقص ذلك على زوجته خديجة بنت خويلد فقالت له: أبشر فو الله لا يفعل الله بك إلا خيرا.
فبينما هو ذات يوم في حراء، وكان يفر إليه من قومه، إذ نزل عليه جبريل، فدنا منه، فخافه رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة شديدة، فوضع جبريل يده على صدره ومن خلفه بين كتفيه، فقال: اللهم احطط وزره، واشرح صدره، وطهر قلبه، يا محمد أبشر ! فإنك نبى هذه الامة، اقرأ.
فقال له نبى الله: وهو خائف يرعد: ما قرأت كتابا قط ولا أحسنه، وما أكتب وما أقرأ.
فأخذه جبريل فغته غتا شديدا ثم تركه، ثم قال له: اقرأ.
فأعاد عليه مثله.
فأجلسه على بساط كهيئة الدرنوك فرأى فيه من صفائه وحسنه كهيئة اللؤلؤ والياقوت وقال له: " اقرأ باسم ربك الذى خلق " الآيات، ثم قال له: لا تخف يا محمد، إنك رسول الله.
ثم انصرف، وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم همه، فقال: كيف أصنع وكيف أقول لقومي ؟ ! ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خائف، فأتاه جبريل من أمامه وهو في صعرته (1)، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا عظيما ملا صدره، فقال له جبريل: لا تخف يا محمد، جبريل رسول الله، جبريل رسول الله إلى أنبيائه ورسله، فأيقن بكرامة الله فإنك رسول الله.
فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمر على شجر ولا حجر إلا هو ساجد
__________
(1) أي عظمته.
(*)
يقول: السلام عليك يا رسول الله.
فاطمأنت نفسه وعرف كرامة الله إياه.
فلما انتهى
إلى زوجته خديجة أبصرت ما بوجهه من تغير لونه، فأفزعها ذلك، فقامت إليه، فلما دنت منه جعلت تمسح عن وجهه وتقول: لعلك لبعض ما كنت ترى وتسمع قبل اليوم.
فقال: يا خديجة أرأيت الذى كنت أرى في المنام والصوت الذى كنت أسمع في اليقظة وأهال منه ؟ فإنه جبريل قد استعلن لى وكلمني وأقرأني كلاما فزعت منه، ثم عاد إلى فأخبرني أنى نبى هذه الامة، فأقبلت راجعا فأقبلت على شجر وحجارة فقلن: السلام عليك يا رسول الله.
فقالت خديجة: أبشر فو الله لقد كنت أعلم أن الله لن يفعل بك إلا خيرا، وأشهد أنك نبى هذه الامة الذى تنتظره اليهود، قد أخبرني به ناصح غلامي وبحيري الراهب، وأمرني أن أتزوجك منذ أكثر من عشرين سنة.
فلم تزل برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طعم وشرب وضحك.
ثم خرجت إلى الراهب وكان قريبا من مكة فلما دنت منه وعرفها، قال: مالك يا سيدة نساء قريش ؟ فقالت: أقبلت إليك لتخبرنى عن جبريل.
فقال: سبحان الله ربنا القدوس ! ما بال جبريل يذكر في هذه البلاد التى يعبد أهلها الاوثان ؟ ! جبريل أمين الله ورسوله إلى أنبيائه ورسله وهو صاحب موسى وعيسى.
فعرفت كرامة الله لمحمد.
ثم أتت عبدا لعتبة بن ربيعة يقال له عداس، فسألته فأخبرها بمثل ما أخبرها به الراهب وأزيد، قال: جبريل كان مع موسى حين أغرق الله فرعون
وقومه، وكان معه حين كلمه الله على الطور، وهو صاحب عيسى بن مريم الذى أيده الله به.
ثم قامت من عنده فأتت ورقة بن نوفل فسألته عن جبريل، فقال لها مثل ذلك.
ثم سألها: ما الخبر ؟ فأحلفته أن يكتم ما تقول له، فحلف لها فقالت له: إن ابن عبد الله ذكر لى، وهو صادق أحلف بالله ما كذب ولا كذب، أنه نزل عليه جبريل بحراء، وأنه أخبره أنه نبى هذه الامة وأقرأه آيات أرسل بها.
قال: فذعر ورقة لذلك وقال: لئن كان جبريل قد استقرت قدماه على الارض لقد نزل على خير أهل الارض، وما نزل إلا على نبى، وهو صاحب الانبياء والرسل يرسله الله إليهم، وقد صدقتك عنه، فأرسلي إلى ابن عبد الله أسأله وأسمع من قوله وأحدثه، فإنى أخاف أن يكون غير جبريل، فإن بعض الشياطين يتشبه به ليضل به بعض بنى آدم ويفسدهم، حتى يصير الرجل بعد العقل الرضى مدلها مجنونا.
فقامت من عنده وهى واثقة بالله أن لا يفعل بصاحبها إلا خيرا، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قال ورقة، فأنزل الله تعالى: " ن.
والقلم وما يسطرون.
ما أنت بنعمة ربك بمجنون " الآيات.
فقال لها: كلا والله إنه لجبريل.
فقالت له: أحب أن تأتيه فتخبره لعل الله أن يهديه.
فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ورقة: هذا الذى جاءك في نور أو ظلمة ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفة جبريل وما رآه من عظمته وما أوحاه إليه.
فقال ورقة: أشهد أن هذا جبريل، وأن هذا كلام الله، فقد أمرك بشئ تبلغه قومك، وإنه لامر نبوة، فإن أدرك زمانك أتبعك.
ثم قال: أبشر ابن عبد المطلب بما بشرك الله به.
قال: وذاع قول ورقة وتصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق ذلك على الملا من قومه.
قال: وفتر الوحى، فقالوا: لو كان من عند الله لتتابع ولكن الله قلاه.
فأنزل الله " والضحى " و " ألم نشرح " بكمالهما.
وقال البيهقى: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس، عن ابن إسحاق، حدثنى إسماعيل بن أبى حكيم مولى آل الزبير، أنه حدثه عن خديجة بنت خويلد أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينه مما أكرمه الله به من نبوته: يا ابن عم تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذى يأتيك إذا جاءك ؟ فقال: نعم.
فقالت: إذا جاءك فأخبرني.
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها إذ جاء جبريل، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا خديجة، هذا جبريل.
فقالت: أتراه الآن ؟ قال: نعم.
قالت: فاجلس إلى شقى الايمن.
فتحول فجلس.
فقالت: أتراه الآن ؟ قال: نعم.
قالت: فتحول فاجلس في حجري.
فتحول فجلس في حجرها، فقالت: هل تراه الآن ؟ قال: نعم.
فتحسرت رأسها فشالت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها فقالت: هل تراه الآن ؟ قال: لا.
قالت: ما هذا بشيطان إن هذا لملك يا ابن عم، فاثبت وأبشر.
ثم آمنت به وشهدت أن ما جاء به هو الحق.
قال ابن إسحاق: فحدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث فقال: قد سمعت أمي فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أنى سمعتها تقول: أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها فذهب عند ذلك جبريل عليه السلام.
قال: البيهقى وهذا شئ كان من خديجة تصنعه تستثبت به الامر احتياطا لدينها وتصديقا.
فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان وثق بما قال له جبريل وأراه من الآيات
التى ذكرناها مرة بعد أخرى، وما كان من تسليم الشجر والحجر عليه صلى الله عليه وسلم تسليما.
وقد قال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا إبراهيم بن طهمان، حدثنى سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة، رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنى لاعرف حجرا بمكة كان يسلم على قبل أن أبعث إنى لاعرفه الآن ".
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا سليمان بن معاذ، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن بمكة لحجرا كان يسلم على ليالى بعثت إنى لاعرفه إذا مررت عليه ".
وروى البيهقى من حديث إسماعيل بن عبد الرحمن السدى الكبير، عن عباد بن عبد الله، عن على بن أبى طالب رضى الله عنه.
قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرج في بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
وفى رواية: لقد رأيتنى أدخل معه الوادي فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليكم يا رسول الله وأنا أسمعه.
فصل قال البخاري في روايته المتقدمة: ثم فتر الوحى حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كى يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكى يلقى نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا.
فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع.
فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل
فقال له مثل ذلك.
وفى الصحيحين من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال: سمعت أبا سلمة عبد الرحمن يحدث عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحى قال: فبينما أنا أمشى سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصرى قبل السماء فإذا الملك الذى جاءني بحراء قاعد على كرسى بين السماء، فجثيت منه، فرقا حتى هويت إلى الارض، فجئت أهلى فقلت زملوني زملوني.
فأنزل الله: " يا أيها المدثر قم فأنذر.
وربك فكبر.
وثيابك فطهر.
والرجز فاهجر ".
قال: ثم حمى الوحى وتتابع.
فهذا كان أول ما نزل من القرآن بعد فترة الوحى لا مطلقا، ذاك قوله (1) " اقرأ باسم ربك الذى خلق ".
وقد ثبت عن جابر أن أول ما نزل " يا أيها المدثر " واللائق حمل كلامه ما أمكن على ما قلناه، فإن في سياق كلامه ما يدل على تقدم مجئ الملك الذى عرفه ثانيا بما عرفه
__________
(1) أي أن أول ما نزل مطلقا هو " اقرأ ".
(*)
به أولا إليه.
ثم قوله: " يحدث عن فترة الوحى " دليل على تقدم الوحى على هذا الايحاء.
والله أعلم.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث على بن المبارك وعند مسلم والاوزاعي كلاهما عن يحيى بن أبى كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن: أي القرآن أنزل قبل ؟ فقال: " يا أيها المدثر ".
فقلت: و " اقرأ باسم ربك " ؟ فقال: سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل قبل ؟ فقال: " يا أيها المدثر "
فقلت: " واقرأ باسم ربك " ؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنى جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنوديت، فنظرت بين يدى وخلفي وعن يمينى وعن شمالى فلم أر شيئا، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو على العرش في الهواء، فأخذتني رعدة - أو قال وحشة - فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله: " يا أيها المدثر " حتى بلغ " وثيابك فطهر ".
وقال في رواية: " فإذا الملك الذى جاءني بحراء جالس على كرسى بين السماء والارض فجثيت منه ".
وهذا صريح في تقدم إتيانه إليه وإنزاله الوحى من الله عليه كما ذكرناه.
والله أعلم.
ومنهم من زعم أن أول ما نزل بعد فترة الوحى سورة " والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى " إلى آخرها.
قاله محمد بن إسحاق.
وقال بعض القراء: ولهذا كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أولها فرحا.
وهو قول بعيد يرده ما تقدم من رواية صاحبي الصحيح، من أن أول القرآن نزولا
بعد فترة الوحى: " يا أيها المدثر قم فأنذر " ولكن نزلت سورة " والضحى " بعد فترة أخرى كانت ليالى يسيرة.
كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث الاسود بن قيس، عن جندب بن عبد الله البجلى.
قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين أو ثلاثا، فقالت امرأة: ما أرى شيطانك إلا تركك.
فأنزل الله " والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ".
وبهذا الامر حصل الارسال إلى الناس وبالاول حصلت النبوة.
وقد قال بعضهم: كانت مدة الفترة قريبا من سنتين، أو سنتين ونصفا.
والظاهر، والله أعلم، أنها المدة التى اقترن معه ميكائيل.
كما قال الشعبى وغيره.
ولا ينفى هذا تقدم إيحاء جبريل إليه أولا " اقرأ باسم ربك الذى خلق ".
ثم اقترن به جبريل بعد نزول " يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ".
ثم حمى الوحى بعد هذا وتتابع، أي تدارك شيئا بعد شئ.
وقام حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرسالة أتم القيام، وشمر عن ساق العزم، ودعا إلى الله القريب والبعيد، والاحرار والعبيد، فآمن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد، واستمر على مخالفته وعصيانه كل جبار عنيد.
فكان أول من بادر إلى التصديق من الرجال الاحرار أبو بكر الصديق.
ومن الغلمان على بن أبى طالب.
ومن النساء خديجة بنت خويلد زوجته عليه السلام.
ومن الموالى مولاه زيد بن حارثة الكلبى رضى الله عنهم وأرضاهم.
وتقدم الكلام على إيمان ورقة بن نوفل بما وجد من الوحى ومات في الفترة رضى الله عنه.
فصل في منع الجان ومردة الشياطين من استراق السمع حين أنزل القرآن لئلا يختطف أحدهم منه ولو حرفا واحدا فيلقيه على لسان وليه فيلتبس الامر ويختلط الحق فكان من رحمة الله وفضله ولطفه بخلقه أن حجبهم عن السماء، كما قال الله تعالى إخبارا عنهم في قوله: " وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وسهبا.
وأنا
كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا، وأنا لا ندرى أشر أريد بمن في الارض أم أراد بهم ربهم رشدا " (1).
وقال تعالى: " وما تنزلت به الشياطين وما ينبغى لهم وما يستطيعون.
إنهم عن السمع لمعزولون " (2).
قال الحافظ أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، وهو الطبراني، حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبى مريم، حدثنا محمد بن يوسف الفريابى، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحى، فإذا حفظوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فتكون باطلا.
__________
(1) سورة الجن.
(2) سورة مريم.
(*)
فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لابليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: هذا لامر قد حدث في الارض.
فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلى بين جبلين، فأتوه فأخبروه فقال: هذا الامر الذى حدث في الارض.
وقال أبو عوانة: عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: مالكم: قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب.
فقالو: ما ذاك إلا من شئ حدث، فاضربوا مشارق الارض ومغاربها.
فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة، وهو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ، وهو
يصلى بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا الذى حال بيننا وبين خبر السماء.
فرجعوا إلى قومهم فقالوا: " يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدى إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدا " فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: " قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن فقالو إنا سمعنا قرآنا عجبا " أخرجاه في الصحيحين.
وقال أبو بكر بن أبى شيبة: حدثنا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال: إنه لم تكن قبيلة من الجن إلا ولهم مقاعد للسمع، فإذا نزل الوحى سمعت الملائكة صوتا كصوت الحديدة ألقيتها على الصفا.
قال: فإذا سمعت الملائكة خروا سجدا فلم يرفعوا رؤوسهم حتى ينزل، فإذا نزل قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم ؟ فإن كان مما يكون في السماء قالوا: الحق وهو العلى الكبير.
وإن كان مما يكون في الارض من أمر الغيب أو موت أو شئ مما يكون في الارض تكلموا به فقالوا: يكون كذا وكذا.
فتسمعه الشياطين فينزلونه على أوليائهم.
فلما بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم دحروا بالنجوم، فكان أول من علم بها ثقيف.
فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه فيذبح كل يوم شاة، وذو الابل فينحر كل يوم بعيرا، فأسرع الناس في أموالهم.
فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا، فإن كانت النجوم التى يهتدون بها، وإلا فإنه لامر حدث.
فنظروا فإذا النجوم التى يهتدى بها كما هي لم يزل منها شئ، فكفوا.
وصرف الله الجن فسمعوا القرآن، فلما حضروه قالوا أنصتوا.
وانطلقت الشياطين إلى إبليس فأخبروه.
فقال: هذا حدث حدث في الارض،
فأتوني من كل أرض بتربة فأتوه بتربة.
تهامة فقال: هاهنا الحدث ورواه البيهقى والحاكم من طريق حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب.
وقال الواقدي: حدثنى أسامة بن زيد بن أسلم، عن عمر بن عبدان العبسى، عن كعب قال: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بها، فرأت قريش أمرا لم تكن تراه فجعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقون أرقاءهم يظنون أنه الفناء، فبلغ ذلك من فعلهم أهل الطائف، ففعلت ثقيف مثل ذلك.
فبلغ عبد ياليل بن عمرو ما صنعت ثقيف.
قال: ولم فعلتم ما أرى ؟ قالوا: رمى بالنجوم فرأيناها تهافت من السماء.
فقال: إن إفادة المال بعد ذهابه شديد فلا تعجلوا
وانظروا، فإن تكن نجوما تعرف فهو عندنا من الناس (1)، وإن كانت نجوما لا تعرف فهو لامر قد حدث.
فنظروا فإذا هي لا تعرف، فأخبروه، فقال: الامر فيه مهلة بعد، هذا عند ظهور نبى.
فما مكثوا إلا يسيرا حتى قدم عليهم أبو سفيان بن حرب إلى أمواله، فجاء عبد ياليل فذاكره أمر النجوم، فقال أبو سفيان: ظهر محمد بن عبد الله يدعى أنه نبى مرسل.
فقال عبد ياليل: فعند ذلك رمى بها.
وقال سعيد بن منصور، عن خالد بن حصين، عن عامر الشعبى قال: كانت النجوم لا يرمى بها حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسيبوا أنعامهم وأعتقوا رقيقهم.
فقال عبد ياليل: انظروا، فإن كانت النجوم التى تعرف فهو عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهو لامر قد حدث، فنظروا فإذا هي لا تعرف.
قال: فأمسكوا، فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاءهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى البيهقى والحاكم من طريق العوفى عن ابن عباس قال: لم تكن سماء الدنيا تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه.
فلعل مراد من نفى ذلك أنها لم تكن تحرس حراسة شديدة، ويجب حمل ذلك على هذا، لما ثبت في الحديث من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن على ابن الحسين، عن ابن عباس رضى الله عنهما: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رمى بنجم فاستنار فقال: " ما كنتم تقولون إذا رمى بهذا ؟ " قالوا: كنا نقول مات
__________
(1) الوفا: فهو عند فناء الناس.
(*)
عظيم، ولد عظيم.
فقال: " لا ولكن..".
فذكر الحديث كما ذكرنا عند خلق السماء وما فيها من الكواكب في أول بدء الخلق (1) ولله الحمد.
وقد ذكر ابن إسحاق في السيرة قصة رمى النجوم، وذكر عن كبير ثقيف أنه قال لهم في النظر في النجوم: إن كانت أعلام السماء أو غيرها.
ولكن سماه عمرو بن أمية.
فالله أعلم.
وقال السدى: لم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الارض نبى أو دين لله ظاهر، وكانت الشياطين قبل محمد صلى الله عليه وسلم قد اتخذت المقاعد في سماء الدنيا يستمعون ما يحدث في السماء من أمر.
فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم نبيا رجموا ليلة من الليالى، ففزع لذلك أهل الطائف فقالوا: هلك أهل السماء ! لما رأوا من شدة النار في السماء واختلاف الشهب، فجعلوا يعتقون أرقاءهم، ويسيبون مواشيهم.
فقال لهم عبد ياليل بن عمرو بن عمير: ويحكم يا معشر أهل الطائف ! أمسكوا عن أموالكم وانظروا إلى معالم النجوم، فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء، وإنما هو من ابن أبى كبشة، وإن أنتم لم تروها فقد أهلك أهل السماء.
فنظروا فرأوها، فكفوا عن أموالهم.
وفزعت الشياطين في تلك الليلة فأتوا إبليس فقال: ائتونى من كل أرض بقبضة
من تراب.
فأتوه فشم، فقال: صاحبكم بمكة.
فبعث سبعة نفر من جن نصيبين فقدموا مكة فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في الجزء الاول من البداية والنهاية.
(*)
في المسجد الحرام يقرأ القرآن، فدنوا منه حرصا على القرآن حتى كادت كلاكلهم تصيبه ثم أسلموا، فأنزل الله أمرهم على نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال الواقدي: حدثنى محمد بن صالح عن ابن أبى حكيم - يعنى إسحاق - عن عطاء ابن يسار، عن أبى هريرة قال: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح كل صنم منكسا، فأتت الشياطين فقالوا له: ما على الارض من صنم إلا وقد أصبح منكسا.
قال: هذا نبى قد بعث فالتمسوه في قرى الارياف.
فالتمسوه فقالوا: لم نجده.
فقال: أنا صاحبه.
فخرج يلتمسه فنودى: عليك بجنبة الباب (1) - يعنى مكة - فالتمسه بها فوجد بها عند قرن الثعالب، فخرج إلى الشياطين فقال: إنى قد وجدته معه جبريل، فما عندكم.
قالوا: نزين الشهوات في عين أصحابه ونحببها إليهم.
قال: فلا آسى إذا.
وقال الواقدي: حدثنى طلحة بن عمرو، عن ابن أبى مليكة، عن عبد الله بن عمرو قال: لما كان اليوم الذى تنبأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين من السماء ورموا بالشهب، فجاءوا إلى إبليس فذكروا ذلك له فقال: أمر قد حدث، هذا نبى قد خرج عليكم بالارض المقدسة مخرج بنى إسرائيل.
قال: فذهبوا إلى الشام ثم رجعوا إليه فقالوا: ليس بها أحد.
فقال إبليس: أنا صاحبه.
فخرج في طلبه بمكة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء منحدرا معه جبريل، فرجع إلى أصحابه فقال: قد بعث أحمد ومعه جبريل، فما عندكم ؟ قالوا: الدنيا نحببها إلى الناس.
قال: فذاك إذا.
قال الواقدي: وحدثني طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كانت
__________
(1) دلائل النبوة والوفا: عليك بحبة القلب مكة.
(*)
الشياطين يستمعون الوحى، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا، فشكوا ذلك إلى إبليس فقال: لقد حدث أمر.
فرقى فوق أبى قبيس، وهو أول جبل وضع على وجه الارض، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى خلف المقام.
فقال: أذهب فأكسر عنقه.
فجاء يخطر وجبريل عنده، فركضه جبريل ركضة طرحه في كذا وكذا، فولى الشيطان هاربا.
ثم رواه الواقدي وأبو أحمد الزبيري كلاهما عن رباح بن أبى معروف، عن قيس بن سعد، عن مجاهد.
فذكر مثل هذا، وقال: فركضه برجله فرماه بعدن.
فصل في كيفية إتيان الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تقدم كيفية ما جاءه جبريل في أول مرة، وثاني مرة أيضا.
وقال مالك: عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها: أن الحارث بن هشام سأل.
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحى ؟ فقال: " أحيانا يأتيني مثل صلصة الجرس، وهو أشده على، فيفصم عنى وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا يكلمني فأعى ما يقول ".
قالت عائشة رضى الله عنها: ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به.
ورواه الامام أحمد عن عامر بن صالح، عن هشام بن عروة به نحوه.
وكذا رواه عبدة بن سليمان وأنس بن عياض عن هشام بن عروة.
وقد رواه أيوب السختيانى عن هشام عن أبيه، عن الحارث بن هشام أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت كيف يأتيك الوحى ؟ فذكره، ولم يذكر عائشة.
وفى حديث الافك قالت عائشة: فو الله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه كان يتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات، من ثقل الوحى الذى نزل عليه.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرني يونس بن سليم، قال أملى على يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة بن عبد الرحمن بن عبد القارى، سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحى يسمع عند وجهه كدوى النحل، وذكر تمام الحديث في نزول (قد أفلح المؤمنون).
وكذا رواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الرزاق.
ثم قال النسائي: منكر لا نعرف أحدا رواه غير يونس بن سليم، ولا نعرفه.
وفى صحيح مسلم وغيره من حديث الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشى، عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى كربه ذلك وتربد وجهه.
وفى رواية وغمض عينيه.
وكنا نعرف ذلك منه.
وفى الصحيحين حديث زيد بن ثابت حين نزلت " لا يستوى القاعدون من المؤمنين " فلما شكى ابن أم مكتوم ضرارته نزلت " غير أولى الضرر ".
قال: وكانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي وأنا أكتب، فلما نزل
الوحى كادت فخذه ترض فخذي.
وفى صحيح مسلم من حديث همام بن يحيى، عن عطاء، عن يعلى بن أمية.
قال قال لى عمر: أيسرك أن تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه ؟ فرفع طرف الثوب عن وجهه وهو يوحى إليه بالجعرانة، فإذا هو محمر الوجه.
وهو يغط كما يغط البكر (1).
وثبت في الصحيحين من حديث عائشة لما نزل الحجاب، وأن سودة خرجت بعد ذلك إلى المناصع ليلا، فقال عمر: قد عرفناك يا سودة.
فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته وهو جالس يتعشى والعرق في يده، فأوحى الله إليه والعرق في يده، ثم رفع رأسه فقال: " إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن ".
فدل هذا على أنه لم يكن الوحى يغيب عنه إحساسه بالكلية، بدليل أنه جالس ولم يسقط العرق أيضا من يده صلوات الله وسلامه دائما عليه.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا عباد بن منصور، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحى تربد لذلك جسده ووجهه وأمسك عن أصحابه ولم يكلمه أحد منهم.
وفى مسند أحمد وغيره من حديث ابن لهيعة حدثنى يزيد بن أبى حبيب، عن عمرو بن الوليد، عن عبد الله بن عمرو قلت: يا رسول الله هل تحس بالوحى ؟ قال: " نعم أسمع صلاصل ثم أثبت عند ذلك، وما من مرة يوحى إلى إلا ظننت أن نفسي تفيظ (2) منه ".
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا إبراهيم بن الحجاج، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا
__________
(1) البكر: ولد الناقة، أو الفتى منها.
(2) تفيظ: تقبض.
(*)
عاصم بن كليب، حدثنا أبى، عن خاله العليان بن عاصم قال: كنا عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه، وكان إذا أنزل عليه دام بصره وعيناه مفتوحة وفرغ سمعه وقلبه لما يأتيه من الله عزوجل.
وروى أبو نعيم من حديث قتيبة، حدثنا على بن غراب، عن الاحوص بن حكيم، عن أبى عوانة، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى صدع وغلف رأسه بالحناء.
هذا حديث غريب جدا وقال الامام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية سنان، عن ليث، عن عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت: إنى لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة.
وقد رواه أبو نعيم من حديث الثوري عن ليث بن أبى سليم به.
وقال الامام أحمد أيضا: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنى جبر بن عبد الله، عن أبى عبد الرحمن الحبلى، عن عبد الله بن عمرو قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها.
وروى ابن مردويه من حديث صباح بن سهل، عن عاصم الاحول، حدثتني أم عمرو، عن عمها أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق عنق الراحلة من ثقلها.
وهذا غريب من هذا الوجه.
ثم قد ثبت في الصحيحين نزول سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم
مرجعه من الحديبية، وهو على راحلته.
فكان يكون تارة وتارة بحسب الحال
والله أعلم.
وقد ذكرنا أنواع الوحى إليه صلى الله عليه وسلم في أول شرح البخاري وما ذكره الحليمى وغيره من الائمة رضى الله عنهم.
فصل قال الله تعالى: " لا تحرك به لسانك لتعجل به، إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه (1) ".
وقال تعالى: " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه، وقل رب زدنى علما (2) ".
وكان هذا في الابتداء، كان عليه السلام من شدة حرصه على أخذه من الملك ما يوحى إليه عن الله عزوجل ليساوقه في التلاوة، فأمره الله تعالى أن ينصت لذلك حتى يفرغ من الوحى، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسر عليه تلاوته وتبليغه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه، ويوقفه على المراد منه.
ولهذا قال " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدنى علما ".
وقال: " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه " أي في صدرك " وقرآنه " أي وأن تقرأه " فإذا قرأناه " أي تلاه عليك الملك " فاتبع قرآنه " أي فاستمع له وتدبره " ثم إن علينا بيانه " وهو نظير قوله: " وقل رب زدنى علما ".
وفى الصحيحن من حديث موسى بن أبى عائشة، عن سعيد بن جببر، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك
__________
(1) سورة القيامة 16 - 19 (2) سورة طه 114 (*)
شفتيه، فأنزل الله " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه " قال: جمعه
في صدرك ثم تقرأه " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " فاستمع له وأنصت " ثم إن علينا بيانه " قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عزوجل.
فصل قال ابن إسحاق: ثم تتابع الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصدق بما جاءه منه، وقد قبله بقبوله وتحمل منه ما حمله، على رضا العباد وسخطهم.
وللنبوة أثقال ومؤنة لا يحملها ولا يستضلع بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل، بعون الله وتوفيقه لما يلقون من الناس، وما يرد عليهم مما جاءوا به عن الله عزوجل.
فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أمر الله، على ما يلقى من قومه من الخلاف والاذى.
قال ابن إسحاق: وآمنت خديجة بنت خويلد وصدقت بما جاءه من الله ووازرته على أمره.
وكانت أول من آمن بالله ورسوله، وصدقت بما جاء منه.
فخفف الله بذلك عن رسوله، لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه،، وتكذيب له فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها، إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، رضى الله عنها وأرضاها.
قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب ".
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث هشام.
قال ابن هشام: القصب هاهنا اللؤلؤ المجوف.
قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر جميع ما أنعم الله به عليه وعلى العباد من النبوة سرا إلى من يطمئن إليه من أهله.
وقال موسى بن عقبة عن الزهري: كانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله، قبل أن تفرض الصلاة.
قلت: يعنى الصلوات الخمس ليلة الاسراء، فأما أصل الصلاة فقد وجب في حياة خديجة رضى الله عنها كما سنبينه.
وقال ابن إسحاق: وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء به.
ثم إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افترضت عليه الصلاة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت له عين من ماء زمزم، فتوضأ جبريل ومحمد عليهما السلام، ثم صلى ركعتين وسجد أربع سجدات، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم وقد أقر الله عينه، وطابت نفسه، وجاءه ما يحب من الله، فأخذ يد خديجة حتى أتى بها إلى العين، فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات، ثم كان هو وخديجة يصليان سرا.
قلت: صلاة جبريل هذه غير الصلاة التى صلاها به عند البيت مرتين فبين له أوقات الصلوات الخمس، أولها وآخرها، فإن ذلك كان بعد فرضيتها ليلة الاسراء.
وسيأتى بيان ذلك إن شاء الله وبه الثقة، وعليه التكلان.
فصل في ذكر أول من أسلم، ثم ذكر متقدمي الاسلام من الصحابة وغيرهم قال ابن إسحاق: ثم إن على بن أبى طالب رضى الله عنه جاء بعد ذلك بيوم وهما
يصليان، فقال على: يا محمد ما هذا ؟ قال: دين الله اصطفى لنفسه، وبعث به رسله فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته، وأن تكفر باللات والعزى.
فقال على: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب.
فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشى عليه سره قبل أن يستعلن أمره.
فقال له: يا على إذ لم تسلم (1) فاكتم.
فمكث على تلك الليلة، ثم إن الله أوقع في قلب على الاسلام، فأصبح غاديا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فقال: ماذا عرضت على يا محمد ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الانداد " ففعل على وأسلم، ومكث يأتيه على خوف من أبى طالب، وكتم على إسلامه ولم يظهره.
وأسلم ابن حارثة، يعنى زيدا، فمكثا قريبا من شهر، يختلف على إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مما أنعم الله به على على أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الاسلام.
__________
(1) في ا: إذ لم تسمع فاكتم.
(*)
قال ابن اسحاق: حدثنى ابن أبى نجيح، عن مجاهد قال: وكان مما أنعم الله به على على أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس، وكان من أيسر بنى هاشم: " يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الازمة، فانطلق حتى نخفف عنه من عياله " فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فضمه إليه، فلم يزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيا، فاتبعه على وآمن به وصدقه.
وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثنى يحيى بن أبى الاشعث الكندى من أهل الكوفة، حدثنى إسماعيل بن أبى إياس بن عفيف، عن أبيه، عن جده عفيف، وكان عفيف أخا الاشعث بن قيس لامه، أنه قال: كنت أمرءا تاجرا فقدمت منى أيام الحج، وكان العباس بن عبد المطلب امرءا تاجرا، فأتيته أبتاع منه وأبيعه.
قال: فبينا نحن إذ خرج رجل من خباء فقام يصلى تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت تصلى، وخرج غلام فقام يصلى معه.
فقلت: يا عباس ما هذا الدين ؟ إن هذا الدين ما ندرى ما هو ! فقال: هذا محمد بن عبد الله، يزعم أن الله أرسله، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه على بن أبى طالب آمن به.
قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذ فكنت أكون ثانيا ! وتابعه إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق، وقال في الحديث: إذ خرج رجل
من خباء قريب منه، فنظر إلى السماء فلما رآها قد مالت قام يصلى.
ثم ذكر قيام خديجة وراءه.
وقال ابن جرير: حدثنى محمد بن عبيد المحاربي، حدثنا سعيد بن خثيم، عن أسد ابن عبدة البجلى، عن يحيى بن عفيف قال: جئت زمن الجاهلية إلى مكة، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فلما طلعت الشمس وحلقت في السماء وأنا أنظر إلى الكعبة أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء، ثم استقبل الكعبة فقام مستقبلها، فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه، فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، فرفع الشاب فرفع الغلام والمرأة، فخر الشاب ساجدا
فسجدا معه.
فقلت: يا عباس أمر عظيم ! فقال: أمر عظيم.
فقال: أتدرى من هذا ؟ فقلت: لا.
فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخى.
أتدرى من الغلام ؟ قلت: لا.
قال: هذا على بن أبى طالب - رضى الله عنه - أتدرى من هذه المرأة التى خلفهما ؟ قلت: لا.
قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخى.
وهذا حدثنى أن ربك رب السماء والارض أمره بهذا الذى تراهم عليه، وايم الله ما أعلم على ظهر الارض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.
وقال ابن جرير: حدثنى ابن حميد، حدثنا عيسى بن سوادة بن أبى الجعد، حدثنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبى عبد الرحمن وأبو حازم والكلبي.
قالوا: على أول من أسلم.
قال الكلبى: أسلم وهو ابن تسع سنين.
وحدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة عن ابن اسحاق.
قال: أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم معه وصدقه على بن أبى طالب، وهو ابن عشر سنين وكان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الاسلام.
قال الواقدي: أخبرنا إبراهيم، عن نافع، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد قال: أسلم على وهو ابن عشر سنين.
قال الواقدي: وأجمع أصحابنا على أن عليا أسلم بعد ما تنبأ رسول الله بسنة.
وقال محمد بن كعب: أول من أسلم من هذه الامة خديجة، وأول رجلين أسلما أبو بكر وعلى، وأسلم على قبل أبى بكر، وكان على يكتم إيمانه خوفا من أبيه، حتى لقيه أبوه قال: أسلمت ؟ قال: نعم.
قال: وازر ابن عمك وانصره.
قال وكان أبو بكر الصديق أول من أظهر الاسلام.
وروى ابن جرير في تاريخه من حديث شعبة عن أبى بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس.
قال: أول من صلى على.
وحدثنا عبد الحميد بن يحيى، حدثنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر.
قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وصلى على يوم الثلاثاء.
وروى من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبى حمزة - رجل من الانصار - سمعت زيد بن أرقم يقول: أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب.
قال: فذكرته للنخعى فأنكره.
وقال: أبو بكر أول من أسلم.
ثم قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا العلاء، عن المنهال بن عمرو، عن عباد ابن عبد الله، سمعت عليا يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الاكبر،
لا يقولها بعدى إلا كاذب مفتر، صليت قبل الناس بسبع سنين.
وهكذا رواه ابن ماجة عن محمد بن إسماعيل الرازي، عن عبيد الله بن موسى الفهمى - وهو شيعي من رجال الصحيح - عن العلاء بن صالح الازدي الكوفى - وثقوه - ولكن قال أبو حاتم: كان من عتق الشيعة - وقال على بن المدينى: روى أحاديث مناكير، والمنهال بن عمرو ثقة، وأما شيخه بن عبد الله - وهو الاسدي الكوفى - فقد قال فيه على بن المدينى: هو ضعيف الحديث، وقال البخاري: فيه نظر.
وذكره ابن حبان في الثقات.
وهذا الحديث منكر بكل حال، ولا يقوله على رضى الله عنه، وكيف يمكن أن يصلى قبل الناس بسبع سنين ؟ ! هذا لا يتصور أصلا.
والله أعلم.
وقال آخرون: أول من أسلم من هذه الامة أبو بكر الصديق.
والجمع بين الاقوال كلها: أن خديجة أول من أسلم من النساء، وظاهر السياقات - وقبل الرجال أيضا - وأول من أسلم من الموالى زيد بن حارثة.
وأول من أسلم من الغلمان على بن أبى طالب، فإنه كان صغيرا دون البلوغ على المشهور، وهؤلاء كانوا إذا ذاك أهل البيت.
وأول من أسلم من الرجال الاحرار أبو بكر الصديق، وإسلامه كان أنفع من إسلام من تقدم ذكرهم إذ كان صدرا معظما، ورئيسا في قريش مكرما، وصاحب مال، وداعية إلى الاسلام، وكان محببا متألفا يبذل المال في طاعة الله ورسوله.
كما سيأتي تفصيله.
قال يونس عن ابن اسحاق: ثم إن أبا بكر الصديق لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: أحق ما تقول قريش يا محمد ؟ من تركك آلهتنا، وتسفيهك عفولنا، وتكفيرك آباءنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بلى، إنى رسول الله ونبيه، بعثنى لابلغ رسالته وأدعوك إلى الله بالحق، فو الله إنه للحق، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره والموالاة على طاعته ".
وقرأ عليه القرآن، فلم يقر ولم ينكر.
فأسلم وكفر بالاصنام، وخلع الانداد وأقر بحق الاسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق.
قال ابن إسحاق: حدثنى محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما دعوت أحدا إلى الاسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر، ما عكم عنه حين ذكرته، ولا تردد فيه ".
عكم: أي تلبث.
وهذا الذى ذكره ابن اسحاق في قوله: " فلم يقر ولم ينكر " منكر، فإن ابن إسحاق وغيره ذكروا أنه كان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكان يعلم من صدقه وأمانته وحسن سجيته وكرم أخلاقه ما يمنعه من الكذب على الخلق فكيف يكذب على الله ؟ ولهذا بمجرد ما ذكر له أن الله أرسله بادر إلى تصديقه ولم يتلعثم، ولا عكم.
وقد ذكرنا كيفية إسلامه في كتابنا الذى أفردناه في سيرته، وأوردنا فضائله وشمائله وأتبعنا ذلك بسيرة الفاروق أيضا، وأوردنا ما رواه كل منهما عن النبي صلى الله عليه وسلم
من الاحاديث، وما روى عنه من الآثار والاحكام والتفاوى، فبلغ ذلك ثلاث مجلدات ولله الحمد والمنة.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبى الدرداء في حديث ما كان بين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما من الخصومة، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله بعثنى إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر: صدق.
وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لى صاحبي " مرتين.
فما أوذى بعدها.
وهذا كالنص على أنه أول من أسلم رضى الله عنه.
وقد روى الترمذي وابن حبان من حديث شعبة عن سعيد الجريرى، عن أبى نضرة عن أبى سعيد.
قال: قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: ألست أحق الناس بها، ألست أول من أسلم، ألست صاحب كذا ؟ وروى ابن عساكر من طريق بهلول بن عبيد، حدثنا أبو إسحاق السبيعى عن الحارث، سمعت عليا يقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر الصديق، وأول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال على بن أبى طالب.
وقال شعبة: عن عمرو بن مرة، عن أبى حمزة، عن زيد بن أرقم قال: أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق.
رواه أحمد والترمذي والنسائي من حديث شعبة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد تقدم رواية ابن جرير لهذا الحديث من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبى حمزة، عن زيد بن أرقم قال: أول من أسلم على بن أبى طالب.
قال عمرو بن مرة: فذكرته لابراهيم النخعي فأنكره، وقال: أول من أسلم أبو بكر الصديق رضى الله عنه
وروى الواقدي بأسانيده عن أبى أروى الدوسى وأبى مسلم بن عبد الرحمن في جماعة من السلف: أول من أسلم أبو بكر الصديق.
وقال يعقوب بن سفيان حدثنا أبو بكر الحميدى، حدثنا سفيان بن عيينة، عن مالك ابن مغول عن رجل قال: سئل ابن عباس: من أول من آمن ؟ فقال: أبو بكر الصديق، أما سمعت قول حسان: إذا تذكرت شجوا من أخى ثقة * فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أوفاها وأعدلها * بعد النبي وأولاها بما حملا والتالى الثاني المحمود مشهده * وأول الناس منهم صدق الرسلا عاش حميدا لامر لله متبعا * بأمر صاحبه الماضي وما انتقلا وقد رواه أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا شيخ لنا عن مجالد، عن عامر قال: سألت ابن عباس - أو سئل ابن عباس - أي الناس أول إسلاما ؟ قال: أما سمعت قول حسان ابن ثابت فذكره.
وهكذا رواه الهيثم بن عدى، عن مجالد عن عامر الشعبى، سألت ابن عباس فذكره.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنى سريج بن يونس، حدثنا يوسف بن الماجشون قال: أدركت مشيختنا منهم محمد بن المنكدر، وربيعة بن أبى عبد الرحمن، وصالح بن كيسان، وعثمان بن محمد، لا يشكون أن أول القوم إسلاما أبو بكر الصديق رضى الله عنه.
قلت: وهكذا قال إبراهيم النخعي، ومحمد بن كعب، ومحمد بن سيرين، وسعد بن إبراهيم، وهو المشهور عن جمهور أهل السنة.
وروى ابن عساكر عن سعد بن أبى وقاص ومحمد بن الحنفية أنهما قالا: لم يكن أولهم إسلاما، ولكن كان أفضلهم إسلاما.
قال سعد: وقد آمن قبله خمسة.
وثبت في صحيح البخاري من حديث همام بن الحارث، عن عمار بن ياسر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد، وامرأتان، وأبو بكر.
وروى الامام أحمد وابن ماجه من حديث عاصم بن أبى النجود، عن زر، عن ابن مسعود قال: أول من أظهر الاسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد.
وهكذا رواه الثوري عن منصور عن مجاهد مرسلا.
فأما ما رواه ابن جرير قائلا: أخبرنا ابن حميد، حدثنا كنانة بن جبلة عن
إبراهيم بن طهمان، عن حجاج، عن قتادة، عن سالم بن أبى الجعد، عن محمد بن سعد بن أبى وقاص قال: قلت لابي: أكان أبو بكر أولكم إسلاما ؟ قال: لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين، ولكن كان أفضلنا إسلاما.
فإنه حديث منكر إسنادا ومتنا.
قال ابن جرير: وقال آخرون: كان أول من أسلم زيد بن حارثة، ثم روى من
طريق الواقدي عن ابن أبى ذئب، سألت الزهري: من أول من أسلم من النساء ؟ قال: خديجة.
قلت: فمن الرجال ؟ قال: زيد بن حارثة.
وكذا قال عروة وسليمان بن يسار وغير واحد: أول من أسلم من الرجال زيد ابن حارثة.
وقد أجاب أبو حنيفة رضى الله عنه بالجمع بين هذه الاقوال بأن أول من أسلم من الرجال الاحرار أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الموالى زيد بن حارثة، ومن الغلمان على بن أبى طالب.
رضى الله عنهم أجمعين.
قال محمد بن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر وأظهر إسلامه دعا إلى الله عزوجل.
وكان أبو بكر رجلا مألفا لقومه محبا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر.
وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف.
وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الامر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته.
فجعل يدعو إلى الاسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه.
فأسلم على يديه فيما بلغني: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهم.
فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم أبو بكر، فعرض عليهم الاسلام
وقرأ عليهم القرآن، وأنبأهم بحق الاسلام فآمنوا.
وكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا في الاسلام، [ فصلوا و (1) ] صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا بما جاء من عند الله.
__________
(1) من ابن هشام.
ويلاحظ أن لفظ ابن هشام مختلف عما هنا كثيرا.
(*)
وقال محمد بن عمر الواقدي: حدثنى الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان الوالبى عن إبراهيم بن محمد بن أبى طلحة قال: قال طلحة بن عبيد الله: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل الموسم: أفيهم رجل من أهل الحرم ؟ قال طلحة: قلت: نعم أنا.
فقال: هل ظهر أحمد بعد ؟ قلت: ومن أحمد ؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذى يخرج فيه، وهو آخر الانبياء، مخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخل وحرة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه.
قال طلحة: فوقع في قلبى ما قال، فخرجت سريعا حتى قدمت مكة، فقلت: هل كان من حديث ؟ قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الامين قد تنبأ، وقد اتبعه أبو بكر ابن أبى قحافة.
قال: فخرجت حتى قدمت على أبى بكر، فقلت: اتبعت هذا الرجل ؟ قال: نعم، فانطلق إليه فادخل عليه فاتبعه، فإنه يدعو إلى الحق.
فأخبره طلحة بما قال الراهب.
فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم طلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال الراهب، فسر بذلك.
فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية، وكان يدعى أسد قريش، فشدهما في حبل واحد، ولم يمنعهما بنو تيم، فلذلك سمى أبو بكر وطلحة القرينين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم اكفنا شر ابن العدوية ".
رواه البيهقى.
وقال الحافظ أبو الحسن خيثمة بن سليمان الاطرابلسى: حدثنا عبيد الله بن محمد
ابن عبد العزيز العمرى قاضى المصيصة، حدثنا أبو بكر عبد الله بن عبيد الله بن إسحاق بن محمد بن عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثنى أبى عبيد الله، حدثنى عبد الله
[ بن محمد ] بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة، قال حدثنى أبى محمد بن عمران، عن القاسم بن محمد بن أبى بكر، عن عائشة رضى الله عنها قالت: خرج أبو بكر يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له صديقا في الجاهلية، فلقيه فقال: يا أبا القاسم فقدت من مجالس قومك، واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنى رسول الله أدعوك إلى الله " فلما فرغ كلامه أسلم أبو بكر، فانطلق عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بين الاخشبين أحد أكثر سرورا منه بإسلام أبى بكر.
ومضى أبو بكر فراح لعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد ابن أبى وقاص فأسلموا.
ثم جاء الغد بعثمان بن مظعون، وأبى عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبى سلمة بن عبد الاسد، والارقم بن أبى الارقم، فأسلموا رضى الله عنهم.
قال عبد الله بن محمد: فحدثني أبى محمد بن عمران، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألح أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال: " يا أبا بكر إنا قليل ".
فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحى المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وثار المشركون على أبى بكر وعلى المسلمين فضربوا في نواحى المسجد ضربا شديدا، ووطئ أبو بكر وضرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين
مخصوفتين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبى بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه.
وجاء بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبى بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة.
فرجعوا إلى أبى بكر، فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لامه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه ؟.
فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت: والله مالى علم بصاحبك.
فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه.
فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله ؟ فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك.
قالت: نعم.
فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت والله إن قوما نالوا هذا منك لاهل فسق وكفر، وإنى لارجو أن ينتقم الله لك منهم.
قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: هذه أمك تسمع.
قال: فلا شئ عليك منها.
قالت: سالم صالح.
قال: اين هو ؟ قالت: في دار ابن الارقم.
قال: فإن لله على أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله
وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة.
فقال أبو بكر: بأبى وأمى يا رسول الله، ليس بى بأس إلا ما نال الفاسق من وجهى، وهذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار.
قال: فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الله فأسلمت.
وأقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون رجلا.
وقد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب - أو لابي جهل بن هشام - فأصبح عمر وكانت الدعوة يوم الاربعاء، فأسلم عمر يوم الخميس، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل البيت تكبيرة سمعت بأعلى مكة.
وخرج أبو الأرقم، وهو أعمى كافر، وهو يقول: اللهم اغفر لبنى عبيد الارقم فإنه كفر.
فقام عمر فقال: يا رسول الله علام نخفى ديننا ونحن على الحق، ويظهر دينهم وهم على الباطل ؟ قال: " يا عمر إنا قليل قد رأيت ما لقينا ".
فقال عمر: فو الذى بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الايمان.
ثم خرج فطاف بالبيت، ثم مر بقريش وهى تنتظره، فقال أبو جهل بن هشام: يزعم فلان أنك صبأت ؟ فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله.
فوثب المشركون إليه، ووثب على عتبة فبرك عليه وجعل يضربه، وأدخل إصبعه في عينه، فجعل عتبة يصيح، فتنحى الناس، فقام عمر فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ بشريف ممن دنا منه، حتى أعجز الناس.
واتبع المجالس التى كان يجالس فيها فيظهر الايمان.
ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر عليهم، قال: ما عليك، بأبى وأمى.
والله ما بقى مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الايمان غير هائب ولا خائف.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج عمر أمامه وحمزة بن عبد المطلب، حتى طاف بالبيت وصلى الظهر مؤمنا، ثم انصرف إلى دار الارقم ومعه عمر، ثم انصرف عمر وحده، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم.
والصحيح أن عمر إنما أسلم بعد خروج المهاجرين إلى أرض الحبشة، وذلك في السنة السادسة من البعثة.
كما سيأتي في موضعه إن شاء الله.
وقد استقصينا كيفية إسلام أبى بكر وعمر رضى الله عنهما في كتاب سيرتهما على انفرادها، وبسطنا القول هنالك ولله الحمد.
وثبت في صحيح مسلم (1) من حديث أبى أمامة عن عمرو بن عبسة السلمى رضى الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما بعث وهو بمكة، وهو حينئذ مستخف فقلت: ما أنت ؟ قال: أنا نبى.
فقلت: وما النبي ؟ قال: رسول الله.
قلت: الله أرسلك ؟ قال: نعم.
قلت: بم أرسلك ؟ قال: بأن تعبد الله وحده لا شريك له وتكسر الاصنام، وتوصل الارحام.
قال: قلت: نعم ما أرسلك به، فمن تبعك على هذا ؟ قال: حر وعبد.
يعنى أبا بكر وبلالا.
__________
(1) إسلام عمرو بن ؟ بسة في صحيح مسلم 1 / 569 حديث رقم 832 ولفظه مطول مختلف.
(*)
قال فكان عمرو يقول: لقد رأيتنى وأنا ربع الاسلام.
قال: فأسلمت.
قلت: فأتبعك يا رسول الله ؟ قال: لا ولكن الحق بقومك، فإذا أخبرت أنى قد خرجت فاتبعني.
ويقال إن معنى قوله عليه السلام " حر وعبد " اسم جنس، وتفسير ذلك بأبى بكر وبلال فقط فيه نظر، فإنه قد كان جماعة قد أسلموا قبل عمرو بن عبسة، وقد كان زيد بن حارثة أسلم قبل بلال أيضا، فلعله أخبر أنه ربع الاسلام بحسب علمه، فإن المؤمنين كانوا إذ ذاك يستسرون بإسلامهم لا يطلع على أمرهم كثيرا أحد من قراباتهم، دع الاجانب، دع أهل البادية من الاعراب.
والله أعلم.
وفى صحيح البخاري من طريق أبى أسامة عن هاشم بن هاشم، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت [ أبا إسحاق (1) ] سعد بن أبى وقاص يقول: وما أسلم أحد في اليوم الذى أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإنى لثلث الاسلام.
أما قوله: " ما أسلم أحد في اليوم الذى أسلمت فيه " فسهل، ويروى: " إلا في اليوم الذى أسلمت فيه " وهو مشكل، إذا يقتضى أنه لم يسبقه أحد بالاسلام.
وقد علم أن الصديق وعليا وخديجة وزيد بن حارثة أسلموا قبله، كما قد حكى الاجماع على تقدم إسلام هؤلاء غير واحد، منهم ابن الاثير.
ونص أبو حنيفة رضى الله عنه على أن كلا من هؤلاء أسلم قبل أبناء جنسه.
والله أعلم.
وأما قوله: " ولقد مكثت سبعة أيام وإنى لثلث الاسلام " فمشكل وما أدرى على ماذا يوضع عليه، إلا أن يكون أخبر بحسب ما علمه.
والله أعلم.
__________
(1) من صحيح البخاري 2 / 183.
والرواية فيه: " إلا في اليوم الذى أسلمت فيه ".
(*)
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، وهو ابن مسعود، قال: كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبى معيط بمكة.
فأتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وقد فرا من المشركين، فقال - أو فقالا -: عندك يا غلام لبن تسقينا، قلت: إنى مؤتمن، ولست بساقيكما.
فقال: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد ؟ قلت: نعم.
فأتيتهما بها فاعتقلها أبو بكر وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع ودعا، فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر بصخرة متقعرة فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر ثم سقيانى ثم قال للضرع: اقلص.
فقلص.
فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: علمني من هذا القول الطيب، يعنى القرآن، فقال: " إنك غلام معلم " فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد.
وهكذا رواه الامام أحمد، عن عفان، عن حماد بن سلمة به.
ورواه الحسن بن عرفة، عن أبى بكر بن عياش، عن عاصم بن أبى النجود به.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله بن بطة الاصبهاني، حدثنا الحسن بن الجهم، حدثنا الحسين بن الفرج، حدثنا محمد بن عمر، حدثنى جعفر ابن محمد بن خالد بن الزبير، عن أبيه - أو عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان - قال: كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص قديما وكان أول إخوته أسلم.
وكان بدء إسلامه أنه رأى في المنام أنه وقف به على شفير النار، فذكر من سعتها ما الله أعلم به.
ويرى في النوم كأن آت أتاه يدفعه فيها، ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بحقويه (1) لا يقع، ففزع من نومه فقال: أحلف بالله إن هذه لرؤيا حق.
__________
(1) الحقو: الكشح، وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف.
(*)
فلقى أبا بكر بن أبى قحافة فذكر ذلك له، فقال أريد بك خير، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، فإنك ستتبعه وتدخل معه في الاسلام، والاسلام يحجزك أن تدخل فيها، وأبوك واقع فيها.
فلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأجياد، فقال: يا رسول الله يا محمد إلام تدعو ؟ قال: " أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع، ولا يضر، ولا يبصر: ولا ينفع، ولا يدرى من عبده ممن لا يعبده ".
قال خالد: فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه.
وتغيب خالد وعلم أبوه بإسلامه، فأرسل في طلبه فأتى به، فأنبه وضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه.
وقال: والله لامنعنك القوت.
فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقنى ما أعيش به.
وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكرمه ويكون معه.
ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم قال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق: حدثنى رجل من أسلم (1) - وكان واعية - أن أبا جهل اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه ما يكره من العيب لدينه، فذكر ذلك لحمزة بن عبد المطلب، فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رسه رفع القوس فضربه بها ضربة شجه منها شجة منكرة.
__________
(1) المطبوعة: ممن أسلم.
وهو تحريف.
وأسلم: قبيلة.
(*)
وقامت رجال من قريش من بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه.
وقالوا ما
نراك يا حمزة إلا قد صبأت قال حمزة: ومن يمنعنى وقد استبان لى منه ما أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الذى يقول حق، فو الله لا أنزع، فامنعوني إن كنتم صادقين.
فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإنى والله لقد سببت ابن اخيه سبا قبيحا.
فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، فكفوا عما كانوا يتناولون منه.
وقال حمزة في ذلك شعرا.
قال ابن إسحاق: ثم رجع حمزة إلى بيته فأتاه الشيطان فقال: أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ وتركت دين آبائك للموت خير لك مما صنعت.
فأقبل حمزة على نفسه وقال: ما صنعت اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبى، وإلا فاجعل لى مما وقعت فيه مخرجا.
فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان.
حتى أصبح فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: يا ابن أخى إنى قد وقعت في أمر ولا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلى على ما لا أدرى ما هو أرشد أم هو غى شديد فحدثني حديثا، فقد اشتهيت يا ابن أخى أن تحدثني.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ووعظه، وخوفه وبشره.
فألقى الله في قلبه الايمان بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: أشهد أنك الصادق شهادة الصدق، فأظهر يا ابن أخى دينك، فو الله ما أحب أن لى ما أظلته السماء وأنى على دينى الاول.
فكان حمزة ممن أعز الله به الدين.
وهكذا رواه البيهقى عن الحاكم عن الاصم عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس ابن بكير به.
ذكر إسلام أبى ذر رضى الله عنه قال الحافظ البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، حدثنا الحسين بن محمد بن زياد، حدثنا عبد الله بن الرومي، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبى زميل سماك بن الوليد، عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبى ذر، قال: كنت ربع الاسلام، أسلم قبلى ثلاثة نفر وأنا الرابع، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا سياق مختصر.
وقال البخاري: إسلام أبى ذر: حدثنا (1) عمرو بن عباس، حدثنا عبد الرحمن بن مهدى، عن المثنى عن أبى جمرة (2)، عن ابن عباس.
قال لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لى علم هذا الرجل الذى يزعم أنه نبى يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتنى.
فانطلق الآخر (3) حتى قدمه وسمع من كلامه، ثم رجع إلى أبى ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الاخلاق وكلاما ما هو بالشعر.
فقال: ما شفيتني مما أردت.
فتزود وحمل شنة [ له ] فيها ماء، حتى قدم مكة، فأتى المسجد فالتمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل [ اضطجع ] (4) فرآه على فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شئ حتى
__________
(؟) البخاري: حدثنى.
(2) خ ط: حمزة.
وهو تحريف وما أثبته من صحيح البخاري 2 / 183.
(3) البخاري: الاخ.
(4) ليست في البخاري.
(*)
أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صلى الله عليه
وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه.
فمر به على فقال: أما آن (1) للرجل [ أن (2) ] يعلم منزله فأقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاجبه عن شئ.
حتى إذا كان يوم الثالث فعاد [ على (2) ] على مثل ذلك، فأقام معه فقال: ألا تحدثني بالذى أقدمك ؟ قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدنني فعلت.
ففعل فأخبره.
قال: فإنه حق، وإنه (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني، فإنى إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأنى أريق الماء، وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلى.
ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمرى ".
فقال: والذى بعثك بالحق (4) لاصرخن بها بين ظهرانيهم.
فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم قام [ القوم (2) ] فضربوه حتى أضجعوه.
فأتى العباس فأكب عليه فقال: ويلكم ! ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام ؟ ! فأنقذه منهم.
ثم عاد من الغد بمثلها (5) فضربوه وثاروا إليه فأكب العباس عليه.
هذا لفظ البخاري.
وقد جاء إسلامه مبسوطا في صحيح مسلم وغيره.
فقال الامام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام، أنا وأخى أنيس وأمنا.
__________
(1) البخاري: أما نال.
(2) من البخاري.
(3) البخاري: وهو رسول الله.
(4) البخاري: والذى نفسي بيده.
(5) البخاري: لمثلها.
(*)
فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذى مال وذى هيئة، فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خلفك إليهم أنيس.
فجاء خالنا فنثى ما قيل له (1) فقلت له: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لنا فيما بعد.
قال: فقربنا صرمتنا (2) فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا بثوبه وجعل يبكى.
قال: فانطلقنا حتى نزلنا حضرة مكة، قال فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن فخير أنيسا.
فأتانا بصرمتنا ومثلها.
وقد صليت يا بن أخى، قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين.
قال: قلت لمن ؟ قال: لله.
قلت: فأين توجه ؟ قال: حيث وجهنى الله.
قال: وأصلى عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألفيت كأنى خفاء (3) حتى تعلونى الشمس.
قال: فقال أنيس: إن لى حاجة بمكة فألقنى حتى آتيك.
قال: فانطلق فراث (4) على، ثم أتانى فقلت: ما حبسك قال: لقيت رجلا يزعم أن الله أرسله على دينك، قال: فقلت: ما يقول الناس له ؟ قال: يقولون إنه شاعر وساحر.
وكان أنيس شاعرا.
قال: فقال: لقد سمعت الكهان فما يقول بقولهم، وقد وضعت قوله على إقراء الشعر فو الله ما يلتئم لسان أحد أنه شعر، ووالله إنه لصادق وإنهم لكاذبون.
قال: فقلت له: هل أنت كافى حتى أنطلق ؟ قال: نعم ! وكن من أهل مكة على حذر، فإنهم قد شنعوا له وتجهموا له.
__________
(1) نثى ما قيل له: أظهره وحدث به.
(2) الصرمة: القطعة من الابل ما بين العشرين إلى الثلاثين (3) الخفاء: الكساء.
(4) راث: أبطأ.
(*)
قال: فانطلقت حتى قدمت مكة فتضعفت رجلا منهم فقلت: أين هذا الرجل الذى
يدعونه الصابئ ؟ قال: فأشار إلى.
فمال أهل الوادي على بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا على، ثم ارتفعت حين ارتفعت كأنى نصب أحمر، فأتيت زمزم فشربت من مائها وغسلت عنى الدم ودخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت به يا بن أخى ثلاثين من يوم وليلة مالى طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع.
قال فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان (1) وضرب الله على أشحمة (2) أهل مكة، فما يطوف بالبيت غير امرأتين، فأتتا على وهما يدعوان إساف ونائلة.
فقلت: أنكحوا أحدهما الآخر.
فما ثناهما ذلك.
فقلت: وهن مثل الخشبة غير أنى لم أركن.
قال: فانطلقتا يولولان ويقولان: لو كان ههنا أحد من أنفارنا.
قال: فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطان من الجبل فقالا: مالكما ؟ فقالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها.
قالا: ما قال لكما ؟ قالتا: قال لنا كلمة تملا الفم.
قال: وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه حتى استلم الحجر وطاف بالبيت، ثم صلى.
قال: فأتيته فكنت أول من حياه بتحية أهل الاسلام.
فقال: " عليك السلام ورحمة الله.
من أنت ؟ " قال: قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده فوضعها على جبهته، قال: فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار.
قال: فأردت أن آخذ بيده فقذفني صاحبه، وكان أعلم به منى.
قال: متى كنت ههنا ؟ قال: قلت: كنت ههنا منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم.
__________
(1) إضحيان: مضيئة.
(2) الاشحمة: الآذان.
(*)
قال: فمن كان يطعمك ؟ قلت: ما كان إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت
عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها مباركة، إنها طعام طعم ".
قال: فقال أبو بكر: ائذن لى يا رسول الله في طعامه الليلة.
قال: ففعل.
قال: فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم وانطلقت معهما، حتى فتح أبو بكر بابا فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، قال: فكان ذلك أول طعام أكلته بها.
فلبثت ما لبثت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنى قد وجهت إلى أرض ذات نخل ولا أحسبها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عنى قومك، لعل الله ينفعهم بك ويأجرك فيهم " ؟ قال: فانطلقت حتى أتيت أخى أنيسا، قال: فقال لى: ما صنعت ؟ قال: قلت صنعت أنى أسلمت وصدقت.
قال: فما بى رغبة عن دينك فإنى قد أسلمت وصدقت.
ثم أتينا أمنا فقالت: ما بى رغبة عن دينكما، فإنى قد أسلمت وصدقت، فتحملنا حتى أتينا قومنا غفار، قال فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان يؤمهم خفاف بن أيماء بن رخصة الغفاري وكان سيدهم يومئذ.
وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا.
قال: فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم بقيتهم.
قال: وجاءت أسلم فقالوا: يا رسول الله إخواننا نسلم على الذى أسلموا عليه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله ".
ورواه مسلم عن هدبة بن خالد عن سليمان بن المغيرة به نحوه.
وقد روى قصة إسلامه على وجه آخر وفيه زيادات غريبة فالله أعلم.
وتقدم ذكر إسلام سلمان الفارسى في كتاب البشارات بمبعثه عليه الصلاة والسلام.
ذكر إسلام ضماد روى مسلم والبيهقي من حديث داود بن أبى هند، عن عمرو بن سعيد، عن سعيد
ابن جبير، عن ابن عباس.
قال: قدم ضماد مكة، وهو رجل من أزد شنوءة، وكان يرقى من هذه الرياح، فسمع سفهاء من سفه مكة يقولون: إن محمدا مجنون.
فقال: أين هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدى ؟ فلقيت محمدا فقلت: إنى أرقي من هذه الرياح، وإن الله يشفى على يدى من شاء، فهلم.
فقال محمد: " إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
ثلاث مرات ".
فقال: والله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات، فهلم يدك أبايعك على الاسلام.
فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: وعلى قومك ؟ فقال: وعلى قومي.
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشا فمروا بقوم ضماد.
فقال صاحب الجيش للسرية: هل أصبتم من هؤلاء القوم شيئا ؟ فقال رجل منهم: أصبت منهم مظهرة (1).
فقال ردها عليهم فإنهم قوم ضماد.
وفى رواية فقال له ضماد: أعد على كلماتك هؤلاء فلقد بلغن قاموس (2) البحر.
__________
(1) المظهر: البعير التى أتت عليه الظهيرة وهو يرعى.
(2) قاموس البحر: أبعد موضع فيه غورا.
هذا والرواية في الوفا: أعد على كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات.
فقال: لقد سمعت قول الكهنة والسحرة والشعراء فما سمعت مثل كلماتك هولاء ولقد بلغت قاموس البحر.
(*)
وقد ذكر أبو نعيم في دلائل النبوة إسلام من أسلم من الاعيان فصلا طويلا، واستقصى ذلك استقصاء حسنا رحمه الله وأثابه.
وقد سرد ابن اسحاق أسماء من أسلم قديما من الصحابة رضى الله عنهم.
قال: ثم أسلم أبو عبيدة، وأبو سلمة، والارقم بن أبى الارقم، وعثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وسعيد بن زيد، وامرأته فاطمة بنت الخطاب.
وأسماء بنت أبى بكر، وعائشة بنت أبى بكر، وهى صغيرة.
وقدامة بن مظعون، وعبد الله بن مظعون.
وخباب بن الارت، وعمير بن أبى وقاص، وعبد الله بن مسعود، ومسعود بن القارى (1)، وسليط بن عمرو وعياش بن أبى ربيعة، وامرأته أسماء بنت سلمة (2) بن مخربة (3) التميمية، وخنيس بن حذاقة، وعامر بن ربيعة.
وعبد الله بن جحش، وأبو أحمد بن جحش، وجعفر بن أبى طالب، وامرأته أسماء بنت عميس.
وحاطب بن الحارث [ وامرأته فاطمة بنت المجلل.
وحطاب بن الحارث (4) ] وامرأته فكيها ابنة يسار.
ومعمر بن الحارث بن معمر الجمحى، والسائب بن عثمان بن مظعون.
والمطلب بن أزهر بن عبد مناف (5)، وامرأته رملة بنت أبى عوف بن صبيرة بن سعيد بن سهم.
والنحام، واسمه نعيم بن عبد الله بن أسيد، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر،
__________
(1) هو مسعود بن ربيعة بن عمرو بن سعد بن عبد العزى بن حمالة بن غالب بن محلم بن عائذة بن سبيع ابن الهون بن خزيمة من القارة.
والقارة لقب لهم.
وهى قبيلة.
ولهم يقال: قد أنصف القارة من راماها (2) ابن هشام: سلامة.
(3) الاصل والمطبوعة: مخرمة التيمى، وهو تحريف وما أثبته عن ابن هشام.
(4) سقطت من الاصل وأثبتها من ابن هشام.
(5) ابن هشام: عبد عوف.
(*)
وخالد بن سعيد، وأمينة ابنة خلف بن أسعد (1) بن عامر بن بياضة من (2) خزاعة، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وواقد بن عبد الله بن
عرين بن ثعلبة التميمي حليف بنى عدى.
وخالد بن البكير، وعامر بن البكير، وعاقل بن البكير، وإياس بن البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة من بنى سعد بن ليث.
وكان اسم عاقل غافلا فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقلا، وهم حلفاء بنى عدى بن كعب.
وعمار بن ياسر، وصهيب بن سنان.
ثم دخل الناس [ في الاسلام (3) ] أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا أمر الاسلام بمكة وتحدث به.
قال ابن إسحاق: ثم أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث سنين من البعثة بأن يصدع بما أمر، وأن يصبر على أذى المشركين.
قال: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم.
فبينا سعد بن أبى وقاص في نفر يصلون بشعاب مكة إذ ظهر عليهم بعض المشركين فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم.
فضرب سعد رجلا من المشركين بلحى جمل فشجه، فكان أول دم هريق في الاسلام وروى الاموى في مغازيه من طريق الوقاصى عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه.
فذكر القصة بطولها، وفيه أن المشجوج هو عبد الله بن خطل لعنه الله.
__________
(1) ط، خ: سعد وهو تحريف، وما أثبته عن ابن هشام.
(2) الاصل: ابن، وهو تحريف (3) من ابن هشام.
(*)
باب أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسالة إلى الخاص والعام، وأمره له بالصبر والاحتمال، والاعراض عن الجاهلين المعاندين
المكذبين بعد قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسول الاعظم إليهم، وذكر ما لقى من الاذية منهم هو وأصحابه رضى الله عنهم.
قال الله تعالى: " وأنذر عشيرتك الاقربين، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين، فإن عصوك فقل إنى برئ مما تعملون، وتوكل على العزيز الرحيم، الذى يراك حين تقوم، وتقلبك في الساجدين، إنه هو السميع العليم (1) ".
وقال تعالى: " وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون (2) ".
وقال تعالى: " إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد (3) " أي إن الذى فرض عليك وأوجب عليك بتبليغ القرآن لرادك إلى دار الآخرة وهى المعاد، فيسألك عن ذلك.
كما قال تعالى: " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ".
والآيات والاحاديث في هذا كثيرة جدا، وقد تقصينا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير، وبسطنا من القول في ذلك عند قوله تعالى في سورة الشعراء " وأنذر عشيرتك الاقربين ".
وأوردنا أحاديث جمة في ذلك.
فمن ذلك: قال الامام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الاعمش، عن عمرو بن
__________
(1) الشعراء: 214 - 220 (2) الزخرف: 44 (3) القصص: 85.
(*)
مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أنزل الله " وأنذر عشيرتك الاقربين " أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى: " يا صباحاه ".
فاجتمع الناس إليه بين رجل يجئ إليه وبين رجل يبعث رسوله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بنى عبد المطلب، يا بنى فهر، يا بنى كعب، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني ؟ " قالوا: نعم ! قال: " فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد ".
فقال أبو لهب، لعنه الله: تبا لك سائر اليوم ! أما دعوتنا إلا لهذا.
وأنزل الله عزوجل " تبت يدا أبى لهب وتب ".
وأخرجاه من حديث الاعمش به نحوه.
وقال أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، حدثنا عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبى هريرة.
قال: لما نزلت هذه الآية " وأنذر عشيرتك الاقربين " دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فعم وخص.
فقال: " يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بنى كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بنى عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإنى والله لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها (1) ".
ورواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير، وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبى سلمة عن أبى هريرة، وله طرق أخر عن أبى هريرة في مسند أحمد وغيره.
وقال أحمد أيضا: حدثنا وكيع بن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها.
قالت:
__________
(1) البلال: جمع بلل، وفى الاصل: ببلائها.
وفى البخاري 3 / 127: قال أبو عبد الله: ببلاها كذا ومع وببلالها أجود وأصح، وببلاها لا أعرف له وجها.
(*)
لما نزل " وأنذر عشيرتك الاقربين " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بنى عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئا، سلونى من مالى ما شئتم ".
ورواه مسلم أيضا.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقى في الدلائل: أخبرنا محمد بن عبد الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن
محمد بن إسحاق، قال: فحدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل، واستكتمني اسمه، عن ابن عباس، عن على بن أبى طالب.
قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأنذر عشيرتك الاقربين، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عرفت أنى إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره، فصمت.
فجاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك بالنار ".
قال: فدعاني فقال " يا على إن الله قد أمرنى أن أنذر عشيرتي الاقربين، فاصنع لنا يا على شاة على صاع من طعام، وأعد لنا عس (1) لبن، ثم اجمع لى بنى عبد المطلب ".
ففعلت، فاجتمعوا له يومئذ، وهم أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب الكافر الخبيث.
فقدمت إليهم تلك الجفنة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حذية (2) فشقها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها وقال: " كلوا بسم الله " فأكل القوم حتى نهلوا عنه، ما نرى إلا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل ليأكل مثلها.
ثم قال رسول الله صلى الله
__________
(1) العس: القدح الضخم.
(2) الحذية: القضعة ؟.
(*)
عليه وسلم: " اسقهم يا على " فجئت بذلك القعب فشربوا مته حتى نهلوا جميعا، وايم الله إن كان الرجل ليشرب مثله.
فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب لعنه الله فقال: لهد ما سحركم صاحبكم.
فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عد لنا مثل الذى كنت صنعت لنا بالامس من الطعام والشراب، فإن هذا الرجل قد بدر إلى ما سمعت قبل أن
أكلم القوم ".
ففعلت، ثم جمعتهم له وصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالامس، فأكلوا حتى نهلوا عنه وايم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسقهم يا على، فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعا وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله.
فلما أراد رسول الله أن يكلمهم، بدره أبو لهب لعنه الله إلى الكلام فقال: لهد ما سحركم صاحبكم ؟ فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا على عد لنا بمثل الذى كنت صنعت بالامس من الطعام والشراب، فإن هذا الرجل قد بدرنى إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم ".
ففعلت، ثم جمعتهم له.
فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالامس، فأكلوا حتى نهلوا عنه، ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا، وايم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها وليشرب مثلها.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بنى عبد المطلب إنى والله ما أعلم شابا من
العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إنى قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة ".
هكذا رواه البيهقى من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق عن شيخ أبهم اسمه عن عبد الله بن الحارث به.
وقد رواه أبو جعفر بن جرير، عن محمد بن حميد الرازي، عن سلمة بن الفضل الابرش، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار أبو مريم بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس عن على فذكر مثله.
وزاد بعد قوله: " وإنى قد جئتكم ؟ خير الدنيا والآخرة، وقد أمرنى الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا
الامر على أن يكون أخى " وكذا وكذا.
قال: فأحجم القوم عنها جميعا، وقلت ولانى لاحدثهم سنا وأرمصهم عينا، وأعظمهم بطنا، وأخمشهم ساقا: أنا يا نبى الله أكون وزيرك عليه.
فأخذ برقبتى فقال: " إن هذا أخى وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا ".
قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لابي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ! تفرد به عبد الغفار ابن القاسم أبو مريم، وهو كذاب شيعي اتهمه على بن المدينى وغيره بوضع الحديث، وضعفه الباقون.
ولكن روى ابن أبى حاتم في تفسيره عن أبيه: عن الحسين بن عيسى بن ميسرة الحارثى عن عبد الله بن عبد القدوس، عن الاعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله ابن الحارث.
قال: قال على: لما نزلت هذه الآية " وأنذر عشيرتك الاقربين ".
قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنع لى رجل شاة بصاع من طعام، وإناء لبنا، وادع لى بنى هاشم.
فدعوتهم وإنهم يومئذ لاربعون غير رجل، أو أربعون ورجل.
فذكر القصة نحو ما تقدم إلى أن قال: وبدرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام.
فقال: " أيكم يقضى عنى دينى ويكون خليفتي في أهلى ؟ ".
قال: فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله، قال وسكت أنا لسن العباس.
ثم قالها مرة أخرى، فسكت العباس، فلما رأيت ذلك قلت: أنا يا رسول الله.
قال: أنت ؟ ! قال: وإنى يومئذ لاسوأهم هيئة، وإنى لاعمش العينين، ضخم البطن، خمش الساقين.
وهذه الطريق فيها شاهد لما تقدم إلا أنه لم يذكر ابن عباس فيها فالله أعلم.
وقد روى الامام أحمد في مسنده من حديث عباد بن عبد الله الاسدي وربيعة بن ناجذ عن على نحو ما تقدم - أو كالشاهد له - والله أعلم.
ومعنى قوله في هذا الحديث: " من يقضى عنى دينى ويكون خليفتي في أهلى "، يعنى إذا مت، وكأنه صلى الله عليه وسلم خشى إذا قام بإبلاغ الرسالة إلى مشركي العرب (1) أن يقتلوه، فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله، ويقضى عنه، وقد أمنه الله من ذلك في قوله تعالى " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " (2) الآية.
والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر يدعو إلى الله تعالى ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده ح عن ذلك راد، ولا يصده عن ذلك صاد، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم، وفى المواسم، ومواقف الحج.
__________
(1) ا: بإبلاغ مشر ؟ كى العرب رسالة الله.
(2) سورة المائدة.
(*)
يدعو من لقيه حر وعبد، وضعيف وقوى، وغنى وفقير، جميع الخلق في ذلك عنده شرع سواء.
وتسلط عليه وعلى من اتبعه من آحاد الناس من ضعفائهم الاشداء الاقوياء من مشركي قريش بالاذية القولية والفعلية.
وكان من أشد الناس عليه عمه أبو لهب، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب، وامرأته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية، أخت أبى سفيان.
وخالفه في ذلك عمه أبو طالب بن عبد المطلب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب خلق الله إليه طبعا، وكان يحنو عليه ويحسن إليه، ويدافع عنه ويحامى، ويخالف قومه في ذلك مع أنه على دينهم وعلى خلتهم، إلا أن الله تعالى قد امتحن قلبه بحبه حبا طبعيا لا شرعيا.
وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى، ومما صنعه لرسوله من الحماية، إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه.
ولاجترءوا عليه، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه، وربك يخلق ما يشاء ويختار (1).
وقد قسم خلقه أنواعا وأجناسا.
فهذان العمان كافران أبو طالب وأبو لهب، ولكن هذا يكون في القيامة في ضحضاح من نار، وذلك في الدرك الاسفل من النار، وأنزل الله فيه سورة في كتابه تتلى على المنابر، وتقرأ في المواعظ والخطب، تتضمن أنه سيصلى نارا ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب.
__________
(1) بل لو كان أبو طالب أسلم لكان ذلك داعيا إلى إسلام غيره من مشيخة قريش، ويفهم من كلام المؤلف أن الله سبحانه قضى على أبى طالب بالكفر حماية لرسوله ! ! وهو تعليل غير سائغ.
(*)
قال الامام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبى العباس، حدثنا عبد الرحمن بن أبى الزناد عن أبيه، قال أخبر رجل يقال له ربيعة بن عباد من بنى الديل، وكان جاهليا فأسلم، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذى المجاز وهو يقول: " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضئ الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب.
يتبعه حيث ذهب.
فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب.
ثم رواه هو والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن أبى الزناد بنحوه.
وقال البيهقى أيضا: حدثنا أبو طاهر الفقيه، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن القطان، حدثنا أبو الأزهر، حدثنا محمد بن عبد الله الانصاري، حدثنا محمد بن عمر، عن محمد بن المنكدر عن ربيعة الديلى.
قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذى المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: أيها
الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم.
قلت: من هذا ؟ قيل: هذا أبو لهب.
ثم رواه من طريق شعبة عن الاشعث بن سليم، عن رجل من كنانة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذى المجاز وهو يقول: " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " وإذا رجل خلفه يسفى عليه التراب، وإذا هو أبو جهل، وإذا هو يقول: يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى.
كذا قال: " أبو جهل "، والظاهر أنه أبو لهب، وسنذكر بقية ترجمته عند ذكر وفاته وذلك بعد وقعة بدر، إن شاء الله تعالى.
وأما أبو طالب فكان في غاية الشفقة والحنو الطبيعي كما سيظهر من صنائعه
وسجاياه، واعتماده فيما يحامى به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم.
قال يونس بن بكير: عن طلحة بن يحيى، عن عبد الله بن موسى بن طلحة، أخبرني عقيل بن أبى طالب قال: جاءت قريش إلى أبى طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا.
فقال: يا عقيل انطلق فأتني بمحمد.
فانطلقت فاستخرجته من كنس، أو قال خنس، يقول: بيت صغير، فجاء به في الظهيرة في شدة الحر.
فلما أتاهم قال: إن بنى عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم.
فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء.
فقال: " ترون هذه الشمس ؟ " قالوا نعم ! قال: " فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشتعلوا منه بشعلة ".
فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخى قط فارجعوا.
رواه البخاري في التاريخ، عن محمد بن العلاء، عن يونس بن بكير.
ورواه البيهقى، عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عنه به - وهذا لفظه - ثم روى البيهقى من طريق يونس، عن ابن إسحاق: حدثنى يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الاخنس، أنه حدث أن قريشا حين قالت لابي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له: يا ابن أخى إن قومك قد جاءوني وقالوا كذا وكذا، فأبق على وعلى نفسك ولا تحملني من الامر مالا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قومك.
فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بدا لعمه فيه، وأنه خاذله ومسلمه، وضعف عن القيام معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عم لو وضعت الشمس
في يمينى والقمر في يسارى ما تركت هذا الامر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه " ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى.
فلما ولى قال له حين رأى ما بلغ الامر برسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخى.
فأقبل عليه، فقال امض على أمرك وافعل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشئ أبدا.
قال ابن إسحاق: ثم قال أبو طالب في ذلك: والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد في التراب دفينا فامضى لامرك ما عليك غضاضة * أبشر وقر بذاك منك عيونا ودعوتني وعلمت أنك ناصحى * فلقد صدقت وكنت قدم أمينا وعرضت دينا قد عرفت بأنه * من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذارى سبة * لوجدتني سمحا بذاك مبينا ثم قال البيهقى: وذكر ابن إسحاق لابي طالب في ذلك أشعارا.
وفى ذلك دلالة على أن الله تعالى عصمه بعمه مع خلافه إياه في دينه، وقد كان يعصمه حيث لا يكون عمه بما شاء، لا معقب لحكمه..وقال يونس بن بكير: حدثنى محمد بن إسحاق، حدثنى رجل من أهل مصر قديما منذ بضع (1) وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس في قصة طويلة جرت بين مشركي مكة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام رسول الله قال أبو جهل ابن هشام: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وسب آلهتنا، وإنى أعاهد الله لاجلس له غدا بحجر، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم.
__________
(1) الاصل: بضعا.
(*)
فلما أصبح أبو جهل، لعنه الله، أخذ حجرا ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره.
وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، وكان قبلته الشام.
فكان إذا صلى صلى بين الركنين الاسود واليماني، وجعل الكعبة بينه وبين الشام.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منبهتا ممتقعا لونه مرعوبا، قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده.
وقامت إليه رجال من قريش.
فقالوا له: ما بك يا أبا الحكم ؟ ! فقال: قمت إليه لافعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لى دونه فحل من الابل، والله ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته (1) ولا أنيابه لفحل قط، فهم أن يأكلني.
قال ابن إسحاق: فذكر لى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ذلك جبريل،
ولو دنا منه لاخذه ".
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو النضر الفقيه، حدثنا عثمان الدارمي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث بن سعد، عن إسحاق بن عبد الله بن أبى فروة، عن أبان بن صالح، عن على بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن عباس بن عبد المطلب.
قال: كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل - لعنه الله - فقال: إن لله على إن رأيت محمدا ساجدا أن أطأ على رقبته.
__________
(1) القصرة: أصل العنق.
(*)
فخرجت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت عليه فأخبرته بقول أبى جهل، فخرج غضبان حتى جاء المسجد، فعجل أن يدخل من الباب فاقتحم الحائط.
فقلت هذا يوم شر، فاتزرت ثم اتبعته، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ " اقرأ باسم ربك الذى خلق، خلق الانسان من علق " فلما بلغ شأن أبى جهل " كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى " فقال إنسان لابي جهل: يا أبا الحكم هذا محمد.
فقال أبو جهل: ألا ترون ما أرى ! والله لقد سد أفق السماء على.
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر السورة سجد.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلى عند الكعبة لاطأن على عنقه.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لو فعل لاخذته الملائكة عيانا ".
ورواه البخاري عن يحيى عن عبد الرزاق به.
قال داود بن أبى هند: عن عكرمة، عن ابن عباس قال مر أبو جهل بالنبي.
صلى الله عليه وسلم وهو يصلى، فقال: ألم أنهك أن تصلى يا محمد ؟ لقد علمت ما بها أحد أكثر ناديا منى.
فانتهره النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال جبريل: " فليدع ناديه، سندع الزبانية " والله لو دعا ناديه لاخذته زبانية العذاب.
رواه أحمد والترمذي، وصححه النسائي من طريق داود به.
وقال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل بن يزيد أبو زيد، حدثنا فرات، عن عبد الكريم عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا عند الكعبة يصلى لآتينه حتى أطأ عنقه.
قال: فقال: " لو فعل لاخذته الزبانية عيانا ".
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا يونس ابن أبى إسحاق، عن الوليد بن العيزار، عن ابن عباس قال: قال: أبو جهل لئن عاد محمد يصلى عند المقام لاقتلنه.
فأنزل الله تعالى: " اقرأ باسم ربك الذى خلق " حتى بلغ من الآية " لنسفعا بالناصية.
ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية ".
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يصلى فقيل ما يمنعك ؟ قال: قد اسود ما بينى وبينه من الكتائب.
قال ابن عباس: والله لو تحرك لاخذته الملائكة والناس ينظرون إليه.
وقال ابن جرير حدثنا ابن عبد الاعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن نعيم بن أبى هند، عن أبى حازم، عن أبى هريرة.
قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قالوا: نعم.
قال: فقال: واللات والعزى لئن رأيته يصلى كذلك لاطأن على رقبته، ولاعفرن وجهه بالتراب.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقى بيديه.
قال: فقيل له: مالك ؟ قال: إن بينى وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ".
قال: وأنزل الله تعالى - لا أدرى في حديث أبى هريرة أم لا - " كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى " إلى آخر السورة.
وقد رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن أبى حاتم والبيهقي من حديث معتمر بن سليمان ابن طرخان التيمى، به.
وقال الامام أحمد: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شعبة، عن أبى إسحاق، عن عمرو ابن ميمون، عن عبد الله قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلى ورهط من قريش جلوس، وسلا جزور قريب منه.
فقالوا: من يأخذا هذا السلا فيلقيه على ظهره ؟ فقال عقبة بن أبى معيط: أنا.
فأخذه فألقاه على ظهره.
فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم عليك بهذا الملا من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللم عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم عليك بأبى جهل بن هشام، اللهم عليك بعقبة ابن أبى معيط، اللهم عليك بأبى بن خلف - أو أمية بن خلف - " شعبة الشاك.
قال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا، ثم سحبوا إلى القليب غير أبى، أو أمية بن خلف، فإنه كان رجلا ضخما فتقطع.
وقد رواه البخاري في مواضع متعددة من صحيحه، ومسلم من طرق عن ابن إسحاق به.
والصواب: أمية بن خلف، فإنه الذى قتل يوم بدر، وأخوه أبى إنما قتل يوم أحد كما سيأتي بيانه.
والسلا: هو الذى يخرج مع ولد الناقة كالمشيمة لولد المرأة.
وفى بعض ألفاظ الصحيح أنهم لما فعلوا ذلك استضحكوا حتى جعل بعضم يميل على بعض، أي يميل هذا على هذا من شدة الضحك.
لعنهم الله.
وفيه: أن فاطمة لما ألقته عنه أقبلت عليهم فسبتهم، وأنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من صلاته رفع يديه يدعو عليهم، فلما رأوا ذلك سكن عنهم الضحك، وخافوا دعوته، وأنه صلى الله عليه وسلم دعا على الملا منهم جملة، وعين في دعائه سبعة، وقع في أكثر الروايات تسمية ستة منهم: وهم عتبة، وأخوه شيبة، ابنا ربيعة
والوليد بن عتبة، وأبو جهل بن هشام، وعقبة بن أبى معيط، وأمية بن خلف.
قال ابن إسحاق: ونسيت السابع.
قلت: وهو عمارة بن الوليد، وقع تسميته في صحيح البخاري.
قصة الاراشى قال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق، حدثنا عبد الملك بن أبى سفيان الثقفى قال: قدم رجل من إراش بإبل له إلى مكة، فابتاعها منه أبو جهل بن هشام، فمطله بأثمانها، فأقبل الاراشى حتى وقف على نادى قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد، فقال: يا معشر قريش من رجل يعديني على أبى الحكم بن هشام، فإنى غريب وابن سبيل، وقد غلبنى على حقى.
فقال أهل المجلس: ترى ذلك - إلى رسول الله - يهزأون به (1) صلى الله عليه وسلم، لما يعلمون ما بينه وبين أبى جهل من العداوة - اذهب إليه فهو يؤديك (2) عليه.
فأقبل الاراشى حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال معه، فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه فانظر ما يصنع.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه.
فقال: من هذا ؟ قال: محمد فاخرج، فخرج إليه وما في وجهه قطرة دم، وقد انتقع لونه.
فقال: أعط هذا
الرجل حقه.
قال: لا تبرح حتى أعطيه الذى له.
قال: فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للاراشى: الحق لشأنك.
فأقبل الاراشى: حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيرا، فقد أخذت الذى لى.
__________
(1) الاصل: يهزون.
ولا معنى لها.
(2) كذا، ولعلها يعديك.
(*)
وجاء الرجل الذى بعثوا معه فقالوا: ويحك ماذا رأيت ؟ قال: عجبا من العجب ! والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج وما معه روحه، فقال: أعط هذا الرجل حقه.
فقال: نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقه.
فدخل فأخرج إليه حقه فأعطاه.
ثم لم يلبث أن جاء أبو جهل فقالوا له: ويلك مالك ! فو الله ما رأينا مثل ما صنعت.
فقال: ويحكم: والله ما هو إلا أن ضرب على بابى وسمعت صوته فملئت رعبا، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلا من الابل ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فو الله لو أبيت لاكلنى.
فصل وقال البخاري: حدثنا عياش بن الوليد، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنى الاوزاعي، عن يحيى بن أبى كثير، عن محمد بن إبراهيم التيمى، حدثنى عروة بن الزبير، سألت ابن [ عمرو بن ] (1) العاص فقلت: أخبرني بأشد شئ صنعه المشركون برسول الله.
قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلى في حجر الكعبة، إذ أقبل عليه عقبة بن أبى معيط فوضع ثوبه على عنقه (2) فخنقه خنقا شديدا.
فأقبل أبو بكر رضى الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " الآية.
تابعه ابن إسحاق قال: أخبرني يحيى بن عروة، عن أبيه، قال: قلت
لعبد الله بن عمرو.
وقال عبدة: عن هشام، عن أبيه قال: قيل لعمرو بن العاص.
وقال محمد بن عمرو: عن أبى سلمة، حدثنى عمرو بن العاص.
__________
(1) من البخاري 2 / 182 (2) البخاري: في عنقه.
(*)
قال البيهقى وكذلك رواه سليمان بن بلال عن هشام بن عروة كما رواه عبدة.
انفرد به البخاري.
وقد رواه في أماكن من صحيحه، وصرح في بعضها بعبد الله بن عمرو بن العاص، وهو أشبه لرواية عروة عنه، وكونه عن عمرو أشبه لتقدم هذه القصة.
وقد روى البيهقى عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن محمد بن إسحاق، حدثنى يحيى بن عروة، عن أبيه عروة قال: قلت لعبد الله بن عمرو ابن العاص: ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهره من عداوته ؟ فقال: لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعاتنا، وسب آلهتنا، وصرنا منه على أمر عظيم.
أو كما قالوا.
قال: فبينما هم في ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشى حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفتها في وجهه.
فمضى، فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها.
فقال: " أتسمعون يا معشر قريش ؟ أما والذى نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ".
فأخذت القوم، حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع، حتى
إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفأه (1) حتى إنه ليقول: انصرف أبا القاسم راشدا فما كنت بجهول.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) يرفأه: يترضاه.
(*)
حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه.
حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه ! فبينما هم على ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون: أنت الذى تقول كذا وكذا ؟ ! لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم.
فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم أنا الذى أقول ذلك ".
ولقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ردائه، وقام أبو بكر يبكى دونه ويقول: ويلكم (أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله) ثم انصرفوا عنه.
فإن ذلك لاكبر ما رأيت قريشا بلغت منه قط.
فصل في تأليب الملا من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه واجتماعهم بعمه أبى طالب القائم في منعه ونصرته، وحرصهم عليه أن يسلمه إليهم فأبى عليهم ذلك بحول الله وقوته قال الامام أحمد: حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت على ثلاثون من بين يوم وليلة وما لى ولبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يوارى إبط بلال ! ".
وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث حماد بن سلمة به، وقال الترمذي:
حسن صحيح.
وقال محمد بن إسحاق: وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مظهرا لدينه لا يرده عنه شئ.
فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شئ أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبو طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبى طالب: عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس ابن عبد مناف بن قصى، وأبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، وأبو البخترى، واسمه العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصى، والاسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وأبو جهل، واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم، والوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى، ونبيه ومنبه، ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤى، والعاص بن وائل بن سعيد بن سهم.
قال ابن إسحاق: أو من مشى منهم.
فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه.
فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين الله ويدعو إليه.
ثم شرى (1) الامر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا.
وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، فتذامروا فيه وحض بعضهم بعضا عليه.
ثم إنهم مشوا إلى أبى طالب مرة أخرى، فقالوا: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.
أو كما قالوا.
ثم انصرفوا عنه.
فعظم على أبى طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خذلانه.
قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الاخنس، أنه حدث أن قريشا حين قالوا لابي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخى إن قومك قد جاءوني فقالوا كذا وكذا، للذى قالوا له، فأبق على وعلى نفسك ولا تحملني من الامر ما لا أطيق.
قال: فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بدو (1) وأنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه.
قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عم والله لو وضعوا الشمس في يمينى، والقمر في يسارى على أن أترك هذا الامر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته ".
قال: ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى ثم قام !
__________
(1) شرى: اشتد.
(2) ابن هشام والمراجع: بداء.
(*)
فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا بن أخى.
فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يا بن أخى فقل ما أحببت فو الله لا أسلمتك لشئ أبدا.
قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم (1)، مشوا إليه بعمارة ابن الوليد بن المغيرة، فقالوا له، فيما بلغني: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذى قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامنا فنقتله، فإنما هو رجل برجل ! قال: والله لبئس ما تسوموننى ! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني فتقتلونه ! هذا والله ما لا يكون أبدا.
قال: فقال المطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف بن قصى: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا.
فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم على، فاصنع ما بدا لك.
أو كما قال.
فحقب الامر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، ونادى بعضهم بعضا.
فقال أبو طالب عند ذلك يعرض بالمطعم بن عدى ويعم من خذله من بنى عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه وما تباعد من أمرهم:
__________
(1) الاصل: وعداوته.
وهو تحريف وما أثبته عن ابن هشام.
(*)
ألا قل لعمرو والوليد ومطعم * ألا ليت حظى من حياطتكم بكر (1) من الخور حبحاب (2) كثير رغاؤه * يرش على الساقين من بوله قطر
تخلف خلف الورد ليس بلاحق * إذ ما علا الفيفاء (3) قيل له وبر أرى أخوينا من أبينا وأمنا * إذا سئلا قالا إلى غيرنا الامر بلى لهما أمر ولكن تجرجما * كما جرجمت من رأس ذى علق الصخر (4) أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا * هما نبذانا مثل ما نبذ الجمر هما أغمزا للقوم في أخويهما * فقد أصبحا منهم أكفهما صفر هما أشركا في المجد من لا أبا له * من الناس إلا أن يرس (5) له ذكر وتيم ومخزوم وزهرة منهم * وكانوا لنا مولى إذا بغى النصر فو الله لا تنفك منا عداوة * ولا منكم ما دام من نسلنا شفر (6) فصل في مبالغتهم في الاذية لآحاد المسلمين المستضعفين قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه.
فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم.
ومنع الله منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمه أبى طالب.
__________
(1) أي أن بكرا من الابل أنفع لى منكم، فليته لى بدلا من حياطتكم.
(2) الخور: الضعاف، والحبحاب: الصغير.
(3) الفيفاء: الصحراء.
والوبر: دويبة كالسنور.
(4) الاصل: تحرجما: محرفة، وما أثبته من ابن هشام.
وتجرجم: سقط وانحدر.
وذو علق: جبل في ديار بنى أسد.
(5) يرس: يعرف.
(6) شفر بفتح الشين وضمها: أحد.
(*)
وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بنى هاشم وبنى عبد المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبى
لهب عدو الله.
فقال في ذلك يمدحهم ويحرضهم على ما وافقوه عليه من الحدب والنصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر * فعبد مناف سرها وصميمها وإن حصلت أشراف عبد منافها * ففى هاشم أشرافها وقديمها وإن فخرت يوما فإن محمدا * هو المصطفى من سرها وكريمها تداعت قريش غثها وسمينها * علينا فلم تظفر وطاشت حلومها وكنا قديما لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الرقاب نقيمها ونحمى حماها كل يوم كريهة * ونضرب عن أحجارها من يرومها بنا انتعش العود الذواء وإنما * بأكنافنا تندى وتنمى أرومها فصل فيما اعترض به المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تعنتوا له في أسئلتهم إياه أنواعا من الآيات وخرق العادات على وجه العناد، لا على وجه طلب الهدى والرشاد فلهذا لم يجابوا إلى كثير مما طلبوا ولا ما إليه رغبوا، لعلم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما أرادوا لاستمروا في طغيانهم يعمهون، ولظلوا في غيهم وضلالهم يتردون.
قال الله تعالى " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها، قل إنما الآيات عند الله، وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون، ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن
أكثرهم يجهلون (1) ".
وقال تعالى: " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الاليم (2) ".
وقال تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الاولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (3) ".
وقال تعالى " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتى بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه.
قل: سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا (4) ".
وقد تكلمنا على هذه الآيات وما يشابهما في أماكنها في التفسير ولله الحمد.
وقد روى يونس وزياد (5) عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، وهو شيخ من أهل مصر يقال له محمد بن أبى محمد، عن سعيد بن جبير وعكرمة، عن ابن عباس قال: اجتمع علية من أشراف قريش، وعدد أسماءهم، بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه، وخاصموه حتى تعذروا فيه.
__________
(1) سورة الانعام 109 - 111.
(2) سورة يونس 96 - 97.
(3) سورة الاسراء 59.
(4) سورة الاسراء 90 - 93.
(5) يونس بن بكير، وزياد البكائى، وهما راويا السيرة عن ابن إسحاق (*)
فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك.
فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أنه قد بدالهم في أمره بدو، وكان حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم.
فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب
أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الاحلام، وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة، وما بقى من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك.
فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك، وكانوا يسمون التابع من الجن الرئى - فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بى ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثنى إليكم رسولا، وأنزل على كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم، فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لامر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم ".
أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا، ولا أقل مالا، ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذى بعثك
بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التى قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيما يبعث لنا منهم قصى بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل ؟ فإن فعلت ما سألناك وصدقوك، صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك
رسولا كما تقول.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بهذا بعثت، إنما جئتكم من عند الله بما بعثنى به، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لامر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم ".
قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث لنا ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لنا جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة، ويغنيك عما نراك تبتغى، فإنك تقوم في الاسواق وتلتمس المعاش (1) كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.
فقال لهم: " ما أنا بفاعل، ما أنا بالذى يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثنى بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لامر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم ".
قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل.
فقال: " ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك ".
فقالوا: يا محمد ما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب
__________
(1) الاصل: المعايش محرفة.
وما أثبته عن ابن هشام.
(*)
منك ما نطلب، فيتقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به.
فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا.
وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهى بنات الله وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا.
فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقام معه عبد الله بن أبى أمية ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله، ثم سألوك لانفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب، فو الله لا أو من لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى منه وأنا أنظر حتى تأتيها، وتأتى معك بنسخة منشورة، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول.
وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أنى لا أصدقك.
ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما (1) طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه.
وهذا المجلس الذى اجتمع عليه هؤلاء الملا مجلس ظلم وعدوان وعناد، ولهذا
__________
(1) الاصل: بما.
محرفة، والعبارة في ابن هشام: مما كان يطمع به من قومه.
(*)
اقتضت الحكمة الالهية والرحمة الربانية ألا يجابوا إلى ما سألوا، لان الله علم أنهم لا يؤمنون بذلك فيعاجلهم بالعذاب.
كما قال الامام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير، عن الاعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحى عنهم الجبال فيزدرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأنى بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذى سألوا فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم الامم.
قال: " لا بل أستأني بهم ".
فأنزل الله تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الاولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (1) ".
وهكذا رواه النسائي من حديث جرير.
وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن عمران ابن حكيم، عن ابن عباس، قال: قالت قريش للنبى صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك.
قال: وتفعلوا ؟ قالوا: نعم.
قال: فدعا، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبا، فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة.
قال: " بل التوبة والرحمة ".
__________
(1) سورة الاسراء 59.
(*)
وهذان إسنادان جيدان، وقد جاء مرسلا عن جماعة من التابعين منهم سعيد بن جبير وقتادة وابن جريج، وغير واحد.
وروى الامام أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن المبارك، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن على بن يزيد، عن القاسم، عن (1) أبى أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " عرض على ربى عزوجل أن يجعل لى بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يا رب، أشبع يوما وأجوع يوما، أو نحو ذلك، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك ".
لفظ أحمد.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وعلى بن يزيد يضعف في الحديث.
وقال محمد بن إسحاق: حدثنى شيخ من أهل مصر، قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة ابن أبى معيط، إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهما: سلوهم عن محمد وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الاول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الانبياء.
فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا.
__________
(1) الاصل بن أبى أمامة.
وهو تحريف.
وهو القاسم بن عبد الرحمن، لم يرو إلا عن أبى أمامة من الصحابة.
(*)
قال: فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن، فهو نبى مرسل، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فروا فيه رأيكم.
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الاول ما كان من أمرهم ؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب.
وسلوه عن رجل طواف طاف مشارق الارض ومغاربها ما كان [ نبؤه ] (1) ؟ وسلوه عن الروح ما هي ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبى فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور.
فأخبراهم بها.
فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا.
فسألوه عما أمروهم به.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخبركم غدا بما سألتم عنه ".
ولم يستثن.
فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث له في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشئ مما سألناه عنه.
وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحى عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة.
ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عزوجل بسورة الكهف، فيها معاتبته إياه على
__________
(1) من ابن هشام.
(*)
حزنه عليهم [ وخبر ] (1) ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقال الله تعالى: " ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربى، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ".
وقد تكلمنا على ذلك كله في التفسير مطولا، فمن أراده فعليه بكشفه من هناك.
ونزل قوله: " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ".
ثم شرع في تفصيل أمرهم، واعترض في الوسط بتعليمه الاستثناء تحقيقا لا تعليقا في قوله " ولا تقولن لشئ إنى فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله، واذكر ربك إذا نسيت ".
ثم ذكر قصة موسى لتعلقها بقصة الخضر، ثم ذى القرنين، ثم قال: " ويسألونك عن ذى القرنين، قل سأتلو عليكم منه ذكرا " ثم شرح أمره وحكى خبره.
وقال في سورة سبحان: " ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربى ".
أي خلق عجيب من خلقه، وأمر من أمره، قال لها كونى فكانت، وليس لكم الاطلاع على كل ما خلقه، وتصوير حقيقته في نفس الامر يصعب عليكم بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وحكمته، ولهذا قال: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ".
وقد ثبت في الصحيحين أن اليهود سألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فتلا عليهم هذه الآية.
__________
(1) من ابن هشام.
(*)
فإما أنها نزلت مرة ثانية أو ذكرها جوابا، وإن كان نزولها متقدما.
ومن قال إنها إنما نزلت بالمدينة واستثناها من سورة سبحان ففى قوله نظر.
والله أعلم.
قال ابن إسحاق: ولما خشى أبو طالب دهم (1) العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التى تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في شعره أنه غير مسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تاركه لشئ أبدا حتى يهلك دونه.
فقال: ولما رأيت القوم لا ود فيهم * وقد قطعوا كل العرى والوسائل وقد صارحونا بالعدواة والاذى * وقد طاوعوا أمر العدو المزايل وقد حالفوا قوما علينا أظنة * يعضون غيظا خلفنا بالانامل صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة * وأبيض عضب من تراث المقاول (2) وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتى * وأمسكت من أثوابه بالوصائل قياما معا مستقبلين رتاجه * لدى حيث يقضى حلفه كل نافل (3) وحيث ينيخ الاشعرون ركابهم * بمفضى السيول من إساف ونائل موسمة الاعضاد أو قصراتها * مخيسة بين السديس وبازل (4)
ترى الودع فيها والرخام وزينة * بأعناقها معقودة كالعثاكل (5)
__________
(1) ابن هشام: دهماء.
(2) العضب: القاطع.
والمقاول: الملوك.
(3) النافل: المتبرئ.
(4) الموسمة: المعلمة.
والقصرات: جمع قصرة، وهى أصل العنق.
والمخيسة: المذللة.
والسديس من الابل: الذى دخل في السنة الثامنة.
والبازل: الذى خرج نابه، وذلك في السنة التاسعة.
(5) العثاكل: الاغصان التى ينبت عليها التمر.
واحدها عثكول، وجمعها عثاكيل، وحذفت الياء للضرورة.
(*)
أعوذ برب الناس من كل طاعن * علينا بسوء أو ملح بباطل ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة * ومن ملحق في الدين ما لم نحاول وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه * وراق ليرقى في حراء ونازل وبالبيت حق البيت من بطن مكة * وبالله، إن الله ليس بغافل وبالحجر المسود إذ يمسحونه * إذا اكتنفوه بالضحى والاصائل وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة * على قدميه حافيا غير ناعل وأشواط بين المروتين إلى الصفا * وما فيهما من صورة وتماثل ومن حج بيت الله من كل راكب * ومن كل ذى نذر ومن كل راجل وبالمشعر الاقصى إذا عمدوا له * إلال إلى مفضى الشراج القوابل (1) وتوقافهم فوق الجبال عشية * يقيمون بالايدي صدور الرواحل وليلة جمع والمنازل من منى * وهل فوقها من حرمة ومنازل وجمع إذا ما المقربات أجزنه * سراعا كما يخرجن من وقع وابل وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها * يؤمون قذفا رأسها بالجنادل وكندة إذ هم بالحصاب عشية * تجيز بهم حجاج بكر بن وائل
حليفان شدا عقد ما احتلفا له * وردا عليه عاطفات الوسائل وحطمهم سمر الرماح وسرحه * وشبرقه وخد النعام الجوافل (2)
__________
(1) إلال: جبل عرفة.
قال النابغة: * يزرن إلالا مسيرهن التدافع * وسمى إلالا لان الحجيج إذا رأوه ألوا في، أي اجتهدوا فيه ليدركوا الموقف.
والشراج: جمع شرج وهو الماء.
والقوابل: المتقابلة.
(2) الشبرق: نبات يقال ليابسه الحلى والرطبة الشبرق.
والوخد: السير السريع.
والجوافل.
المسرعة والرواية في الروض: سمر الصفاح، وعليها يكون هناك معنى لعطف " وسرحه " على سمر.
والسمر: من شجر الطلع.
والصفاح: جمع صفح وهو عرض الجبل.
والسرح: شجر عظام.
(*)
فهل بعد هذا من معاذ لعائذ * وهل من معيذ يتقى الله عادل يطاع بنا أمر العدا ود أننا * يسد بنا أبواب ترك وكابل (1) كذبتم وبيت الله نترك مكة * ونظعن إلا أمركم في بلابل كذبتم وبيت الله نبزى محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل (2) ونسلمه حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل وينهض قوم بالحديد إليكم * نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل (3) وحتى نرى ذا الضغن يركب ردعه * من الطعن فعل الانكب المتحامل (4) وإنا لعمر الله إن جد ما أرى * لتلتبسن أسيافنا بالاماثل بكفى فتى مثل الشهاب سميدع * أخى ثقة حامى الحقيقة باسل (5) شهورا وأياما وحولا محرما * علينا وتأتى حجة بعد قابل وما ترك قوم، لا أبا لك، سيدا * يحوط الذمار غير ذرب مواكل (6) وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للارامل (7)
يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في رحمة وفواضل لعمري لقد أجرى أسيد وبكره * إلى بغضنا وجزانا لآكل (8)
__________
(1) الاكتفا: * يطاع بنا العدى وودوا لو اننا * وهى رواية بعض نسخ ابن هشام.
(2) نبزى: نسلب.
وفى الروض نبذى.
محرفة.
(3) الروايا: الابل تحمل الماء، واحدتها روايا.
والصلاصل: المزادات لها صلصلة بالماء.
(4) الضغن: العداوة.
ويركب درعه: يخر صريعا لوجهه.
والانكب: المائل إلى جهة.
(5) السميدع: السيد.
(6) الذرب بالتسكين مخففة من الذرب بكسر الراء، وهو: اللسان الفاحش النطق، والمواكل: العاجز الذى يعتمد على غيره.
(7) ثمال اليتامى: الذى يثملهم ويقوم بهم (8) أسيد وبكره: عتاب بن أسيد بن أبى العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
(*)
وعثمان لم يربع علينا وقنفذ * ولكن أطاعا أمر تلك القبائل (1) أطاعا أبيا وابن يغوثهم * ولم يرقبا فينا مقالة قائل (2) كما قد لقينا من سبيع ونوفل * وكل تولى معرضا لم يجامل (3) فإن يلفيا أو يمكن الله منهما * نكل لهما صاعا بصاع المكايل وذاك أبو عمرو أبى غير بغضنا * ليظعننا في أهل شاء وجامل (4) يناجى بنا في كل ممسى ومصبح * فناج أبا عمرو بنا ثم خاتل (5) ويؤلى لنا بالله ما إن يغشنا * بلى قد نراه جهرة غير خائل (6) أضاق عليه بغضنا كل تلعة * من الارض بين أخشب فمجادل (7) وسائل أبا الوليد ماذا حبوتنا * بسعيك فينا معرضا كالمخاتل وكنت امرءا ممن يعاش برأيه * ورحمته فينا ولست بجاهل فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح * حسود كذوب مبغض ذى دغاول (8)
ومر أبو سفيان عنى معرضا * كما مر قيل من عظام المقاول يفر إلى نجد وبرد مياهه * ويزعم أنى لست عنكم بغافل ويخبرنا فعل المناصح أنه * شفيق ويخفى عارمات الدواخل أمطعم لم أخذلك في يوم نجدة * ولا معظم عند الامور الجلائل ولا يوم خصم إذ أتوك ألدة * أولى جدل من الخصوم المساجل (9)
__________
(1) عثمان بن عبيد الله أخو طلحة، وقنفذ: ابن عمير بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم ابن مرة.
(2) أبى: الاخنس بن شريق.
(3) سبيع: ابن خالد، أخو بلحارث بن فهر.
ونوفل: ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى.
(4) أبو عمرو: قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف.
ويظعننا: يخرجنا.
والشاء: اسم جمع، وكذلك الجامل.
(5) خاتل: خادع.
(6) يؤلى: يقسم.
وفى ابن هشام: غير حائل.
(7) التلعة: المشرف من الارض.
(8) الدغاول: الغوائل.
(9) المساجل: جمع مسجل بكسر الميم، وهو الخصم المدافع.
أو جمع مساجل بضم الميم، على تقدير حذف الالف الزائدة من مفاعل، وتروى بالجاء جمع مسحل وهو اللسان.
(*)
أمطعم إن القوم ساموك خطة * وإنى متى أوكل فلست بوائل جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * عقوبة شر عاجلا غير آجل بميزان قسط لا يخيس شعيرة * له شاهد من نفسه غير عائل (1) لقد سفهت أحرم قوم تبدلوا * بنى خلف قيضا بنا والغياطل (2) ونحن الصميم من ؟ ؤابة هاشم * وآل قصى في الخطوب الاوائل وسهم ومخزوم تمالوا وألبوا * علينا العدا من كل طمل وخامل (3) فعبد مناف أنتم خير قومكم * فلا تشركوا في أمركم كل واغل (4) لعمري لقد وهنتم وعجزتم * وجئتم بأمر مخطئ للمفاصل وكنتم حديثا حطب قدر وأنتم * ألان حطاب أقدر ومراجل (5)
ليهن بنى عبد مناف عقوقنا * وخذلاننا وتركنا في المعاقل فإن نك قوما نتئر ما صنعتم * وتحتلبوها لقحة غير باهل (6) فأبلغ قصيا أن سينشر أمرنا * وبشر قصيا بعدنا بالتخاذل ولو طرقت ليلا قصيا عظيمة * إذا ما لجأنا دونهم في المداخل ولو صدقوا ضربا خلال بيوتهم * لكنا أسى عند النساء المطافل فكل صديق وابن أخت نعده * لعمري وجدنا غبه غير طائل (7) سوى أن رهطا من كلاب بن مرة * براء إلينا من معقة خاذل
__________
(1) يخيس.
من خاس بالعهد إذا نقضه.
وتروى لا يخس، أي لا ينقص.
والعائل: الظالم (2) الغياطل: بنو سهم لان أمهم الغيطلة.
(3) الطمل: اللص وهو الفاحش أيضا.
(4) الواغل: المتطفل.
(5) الحطب: اسم للجمع مثل ركب وليس بجمع.
وقوله: حطاب أقدر هو جمع حاطب.
والمعنى: كنتم متفقين لا تحطبون إلا لقدر واحدة فانتم الآن بخلاف ذلك.
(6) نتئر: نثأر.
واللقحة: الناقة ذات اللبن.
والباهل: الناقة التى لا صرار على أخلافها فهى مباحة الحلب، يقال: ناقة مصرورة إذا كان على خلفها صرار يمنع الفصيل من أن يرضع.
(7) غبه: عاقبته.
(*)
ونعم ابن أخت القوم غير مكذب * زهير حساما مفردا من حمائل أشم من الشم البهاليل ينتمى * إلى حسب في حومة المجد فاضل لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد * وإخوته دأب المحب المواصل فمن مثله في الناس أي مؤمل * إذا قاسه الحكام عند التفاضل حليم رشيد عادل غير طائش * يوالى إلاها ليس عنه بغافل كريم المساعى ماجد وابن ماجد * له إرث مجد ثابت غير ناصل (1) وأيده رب العباد بنصره * وأظهر دينا حقه غير زائل
فو الله لولا أن أجئ بسبة * تجر على أشياخنا في المحافل لكنا تبعناه على كل حالة * من الدهر جدا غير قول التهازل لقد علموا أن ابننا لا مكذب * لدينا ولا يعنى بقول الا باطل فأصبح فينا أحمد في أرومة * تقصر عنها (2) سورة المتطاول حدبت بنفسى دونه وحميته * ودافعت عنه بالذرى والكلاكل قال ابن هشام: هذا ما صح لى من هذه القصيدة، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها.
قلت: هذه قصيدة عظيمة بليغة جدا لا يستطيع يقولها إلا من نسبت إليه، وهى أفحل من المعلقات السبع ! وأبلغ في تأدية المعنى منها جميعها (3).
وقد أوردها الاموى في مغازيه مطولة بزيادات أخر والله أعلم.
__________
(1) هذا البيت وما بعده ليسا في ابن هشام.
وناصل: زائل.
(2) ابن هشام: تقصر عنه.
(3) أصدر ابن كثير رحمه الله هذا الحكم، وفضل هذه القصيدة المفككة الاوصال على المعلقات السبع رغم ما فيها من ألفاظ متكلفة ومعانى ركيكة، وعذره أنه لم يكن ناقدا أو خبيرا في الشعر.
والقصيدة تخلو من طابع ذلك العصر في الالفاظ والمعاني والاساليب.
(*)
فصل قال ابن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه.
فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوه منهم، يفتنونهم عن دينهم.
فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذى يصيبهم، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه
الله منهم.
فكان بلال مولى أبى بكر، لبعض بنى جمح مولدا من مولديهم، وهو بلال بن رباح واسم أمه حمامة، وكان صادق الاسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى.
فيقول، وهو في ذلك: أحد أحد.
قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال: كان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب لذلك وهو يقول: أحد أحد.
فيقول: أحد أحد والله يا بلال ! ثم يقبل على أمية بن خلف ومن يصنع ذلك به من بنى جمح فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لاتخذنه حنانا (1).
قلت: قد استشكل بعضهم هذا من جهة أن ورقة توفى بعد البعثة في فترة الوحى،
__________
(1) أي لاتخذن قبره منسكا ومسترحما.
(*)
وإسلام من أسلم إنما كان بعد نزول " يا أيها المدثر " فكيف يمر ورقة ببلال، وهو يعذب ؟ وفيه نظر.
ثم ذكر ابن إسحاق مرور أبى بكر ببلال وهو يعذب، فاشتراه من أمية بعبد له أسود فأعتقه وأراحه من العذاب وذكر مشتراه لجماعة ممن أسلم من العبيد والاماء، منهم بلال، وعامر بن فهيرة، وأم عميس (1) [ وزنيرة (2) ] التى أصيب بصرها ثم رده الله تعالى لها.
والنهدية وابنتها، اشتراهما من بنى عبد الدار، بعثتهما سيدتهما تطحنان لها فسمعها وهى تقول لهما: والله لا أعتقكما أبدا.
فقال أبو بكر: حل (3) يا أم فلان.
فقالت: حل، أنت أفسدتهما فأعتقهما.
قال: فبكم هما ؟ قالت: بكذا وكذا.
قال: قد أخذتهما
وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها.
قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها.
قال: [ أو ] ذلك إن شئتما.
واشترى جارية بنى مؤمل، حى من بنى عدى، كان عمر يضربها على الاسلام.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن عبد الله بن أبى عتيق، عن عامر بن عبد الله ابن الزبير، عن بعض أهله.
قال: قال أبو قحافة لابنه أبى بكر: يا بنى إنى أراك تعتق ضعافا، فلو أنك إذا فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلداء يمنعونك ويقومون دونك.
قال: فقال أبو بكر: يا أبت إنى إنما أريد ما أريد.
__________
(1) كذا بالاصل وابن هشام والروض الانف.
ولكن الزرقاني ضبطها بعين مهملة مضمومة فنون.
وقيل بموحدة فتحتية.
شرح المواهب 1 / 269.
(2) سقطت من الاصل وأثبتها من ابن هشام والمراجع.
(3) حل: تحللى من يمينك، وفى الاكتفاء: حل.
بالنصب وهو أفصح.
(*)
قال: فيحدث أنه ما أنزل هؤلاء الايات إلا فيه وفيما قال أبوه: " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى " إلى آخر السورة.
وقد تقدم ما رواه الامام أحمد وابن ماجة من حديث عاصم بن بهدلة عن زر، عن ابن مسعود قال: أول من أظهر الاسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى، وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو
يقول: أحد أحد.
ورواه الثوري عن منصور عن مجاهد مرسلا.
قال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه، وكانوا أهل بيت إسلام، إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة.
فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول - فيما بلغني -: " صبرا آل ياسر موعدكم الجنة ".
وقد روى البيهقى عن الحاكم، عن إبراهيم بن عصمة العدل، حدثنا السرى بن خزيمة، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام بن أبى عبيد الله، عن أبى الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعمار وأهله وهم يعذبون فقال: " أبشروا آل عمار وآل ياسر، فإن موعدكم الجنة " فأما أمه فيقتلوها فتأبى إلا الاسلام.
وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال.
أول شهيد كان في أول الاسلام استشهد: أم عمار سمية، طعنها أبو جهل بحربة في قلبها.
وهذا مرسل.
قال محمد بن إسحاق: وكان أبو جهل الفاسق الذى يغرى بهم في رجال من قريش، إن سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وخزاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنفيلن (1) رأيك، ولنضعن شرفك.
وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك.
وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به.
لعنه الله وقبحه.
قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله ابن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم ؟
قال: نعم والله ! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوى جالسا من شدة الضر الذى به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهآن من دون الله ؟ فيقول: نعم ! افتداء منهم بما يبلغون من جهدهم.
قلت: وفى مثل هذا أنزل الله تعالى " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم " (2).
فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الاهانة والعذاب البليغ، أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته.
__________
(1) لنفيلن: نخطئن، وفى ط: لنقيلن وهو تحريف.
(2) سورة النحل 106.
(*)
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الاعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن خباب بن الارت.
قال: كنت رجلا قينا، وكان لى على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد.
فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث.
قال فإنى إذا مت ثم بعثت جئتني ولى ثم مال وولد فأعطيك ! فأنزل الله تعالى " أفرأيت الذى كفر بآياتنا وقال لاوتين مالا وولدا " إلى قوله " ويأتينا فردا " (1).
أخرجاه في الصحيحين وغيرهما من طرق عن الاعمش به.
وفى لفظ البخاري: " كنت قينا بمكة، فعملت للعاص بن وائل سيفا فجئت أتقاضاه " فذكر الحديث.
وقال البخاري حدثنا الحميدى، حدثنا سفيان، حدثنا بيان (2) وإسماعيل، قالا: سمعنا قيسا يقول: سمعت خبابا يقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردة (3) وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله ؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: " قد (4) كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، وما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق
رأسه فيشق باثنين (5) ما يصرفه ذلك عن يدنه، وليتمن الله هذا الامر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله عزوجل " زاد بيان (6) " والذئب على غنمه ".
وفى رواية " ولكنكم تستعجلون ".
انفرد به البخاري دون مسلم.
__________
(1) سورة مريم 77 - 80 (2) في ط، خ: بنان وهو تحريف، وما أثبته من البخاري 2 / 182 (3) البخاري: بردة.
(4) البخاري: لقد.
(5) البخاري: اثنتين.
(6) خ، ط: بنان وهو تحريف.
(*)
وقد روى من وجه آخر عن خباب وهو مختصر ؟ ن هذا والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان وابن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبى إسحاق، عن سعيد بن وهب، عن خباب، قال: شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شدة الرمضاء فما أشكانا.
يعنى في الصلاة.
وقال ابن جعفر: فلم يشكنا.
وقال أيضا: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا شعبة، عن أبى إسحاق قال: سمعت سعيد بن وهب يقول: سمعت خبابا يقول: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرمضاء فلم يشكنا.
قال شعبة: يعنى في الظهيرة.
ورواه مسلم والنسائي والبيهقي من حديث أبى إسحاق السبيعى، عن سعيد بن وهب، عن خباب قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء.
- زاد البيهقى: في وجوهنا وأكفنا - فلم يشكنا.
وفى رواية شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الرمضاء فلم يشكنا.
ورواه ابن ماجه، عن على بن محمد الطنافسى، عن وكيع، عن الاعمش، عن أبى إسحاق، عن حارثة بن مضرب العبدى، عن خباب قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا.
والذى يقع لى، والله أعلم، أن هذا الحديث مختصر من الاول، وهو أنهم شكوا إليه صلى الله عليه وسلم ما يلقون من المشركين من التعذيب بحر الرمضاء، وأنهم يسحبونهم على وجوههم فيتقون بأكفهم، وغير ذلك من أنواع العذاب كما تقدم عن ابن إسحاق وغيره، وسألوا منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم على المشركين، أو
يستنصر عليهم، فوعدهم ذلك ولم ينجزه لهم في الحالة الراهنة، وأخبرهم عمن كان قبلهم أنهم كانوا يلقون من العذاب ما هو أشد مما أصابهم ولا يصرفهم ذلك عن دينهم، ويبشرهم أن الله سيتم هذا الامر ويظهره ويعلنه، وينشره وينصره في الاقاليم والآفاق، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عزوجل والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون.
ولهذا قال: " شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في وجوهنا وأكفنا فلم يشكنا " أي لم يدع لنا في الساعة الراهنة.
فمن استدل بهذا الحديث على عدم الابراد، أو على وجوب مباشرة المصلى بالكف، كما هو أحد قولى الشافعي، ففيه نظر.
والله أعلم.

 
روابط عرض كتاب السيرة النبوية لابن كثير
ترجمة ابن كثير الحافظ
1.السيرة النبوية لابن كثير ج1 /1.
2.السيرة النبوية لابن كثير ج1 /2.
3.ج1/ 3 السيرة النبوية لابن كثير الحافظ.
4.السيرة النبوية لابن كثير ج1//4
5.السيرة النبوية لاب كثير ج2//1..
6.السيرة النبوية لاب كثير ج2//2..
7.السيرة النبوية لابن كثير ج2//3.
8.السيرة النبوية لابن كثير ج2//4.
9.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /1 .
10.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /2 .
11.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /3 .
12.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /4 .
13..السيرة النبوية لابن كثير ج4 ا ج4//1.
14.السيرة النبوية لابن كثير ج4 ا ج4//2.
15.السيرة النبوية لابن كثير 4//3.ذكر خروجه عليه ال...
ص16.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص17.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص18.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص19.السيرة النبوية لابن كثير الجزء السادس -ج6//1
ص20. ج6//2 السيرة النبوية لابن كثير
ص21.ج6//3 السيرة النبوية لابن كثير
ص22.ج6//4 السيرة النبوية لابن هشام الحافظ
الروابط الي الجزء 6
ص23.السيرة النبوية لابن كثير الجزء 7 بتصنيف الشاملة...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق