الأحد، 10 يونيو 2018

80.إنكار المعتزلة للميزان والرد عليهم

80. إنكار المعتزلة للميزان والرد عليهم
فَصْلٌ ( إِنْكَارُ الْمُعْتَزِلَةِ لِلْمِيزَانِ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ )

وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمِيزَانَ لَهُ كِفَّتَانِ عَظِيمَتَانِ ، لَوْ وُضِعَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَوَسِعَتْهَا ، فَأَمَّا كِفَّةُ الْحَسَنَاتِ فَنُورٌ ، وَأَمَّا الْأُخْرَى فَظُلْمَةٌ ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ ، وَعَنْ يَمِينِهِ الْجَنَّةُ ، وَكِفَّةُ النُّورِ مِنْ نَاحِيَتِهَا ، وَعَنْ يَسَارِهِ جَهَنَّمُ ، وَكِفَّةُ الظُّلْمَةِ مِنْ نَاحِيَتِهَا .

قَالَ : وَقَدْ أَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْمِيزَانَ ، وَقَالُوا : الْأَعْمَالُ أَعْرَاضٌ لَا جِرْمَ لَهَا ، [ ص: 514 ] فَكَيْفَ تُوزَنُ قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْأَعْرَاضَ أَجْسَامًا ، فَتُوزَنُ . قَالَ : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُوزَنُ كُتُبُ الْأَعْمَالِ . قُلْتُ : قَدْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَعَلَى الثَّانِي ، وَعَلَى أَنَّ الْعَامِلَ نَفْسَهُ يُوزَنُ مَعَ عَمَلِهِ .

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَالْأَعْمَشِ ، أَنَّ الْمِيزَانَ هُنَا بِمَعْنَى الْعَدْلِ وَالْقَضَاءِ ، وَذِكْرُ الْوَزْنِ وَالْمِيزَانِ ضَرْبُ مَثَلٍ ، كَمَا يُقَالُ : هَذَا الْكَلَامُ فِي وَزْنِ هَذَا .

قُلْتُ : لَعَلَّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا فَسَّرُوا هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [ الرَّحْمَنِ : 7 - 9 ] . فَهَا هُنَا الْمُرَادُ بِالْمِيزَانِ أَنَّهُ تَعَالَى وَضَعَ الْعَدْلَ بَيْنَ عِبَادِهِ ، وَأَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَتَعَامَلُوا بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، فَأَمَّا الْمِيزَانُ الْمَوْضُوعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَدْ تَوَاتَرَتْ بِذِكْرِهِ الْأَحَادِيثُ كَمَا رَأَيْتَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ : فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [ الْأَعْرَافِ : 8 ] . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [ الْأَعْرَافِ : 9 ] . وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ لِشَيْءٍ مَحْسُوسٍ .

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : فَالْمِيزَانُ حَقٌّ ، وَلَيْسَ هُوَ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى . يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ [ الرَّحْمَنِ : 41 ] . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَيَقُولُ اللَّهُ : يَا مُحَمَّدُ ، أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَبْوَابِ " .

[ ص: 515 ] قُلْتُ : وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ فِي السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا تُوزَنَ أَعْمَالُهُمْ ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ تُوزَنُ أَعْمَالُ الشُّهَدَاءِ ، وَإِنْ كَانَتْ رَاجِحَةً; لِإِظْهَارِ شَرَفِهِمْ وَفَضْلِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ ، وَالتَّنْوِيهِ بِسَعَادَتِهِمْ وَنَجَاتِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَتُوزَنُ أَعْمَالُهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَسَنَاتٌ تَنْفَعُهُمْ يُقَابَلُ بِهَا كُفْرُهُمْ ، فَإِنَّ حَسَنَاتِهِمْ - وَلَوْ بَلَغَتْ مَا بَلَغَتْ - لَا تُقَابِلُ كُفْرَهُمْ وَلَا تُوَازِنُهُ ، وَهِيَ غَيْرُ نَافِعَةٍ لَهُمْ ، فَتُوزَنُ لِإِظْهَارِ شَقَائِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ وَفَضِيحَتِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا حَسَنَةً ، أَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعِمُهُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا ، حَتَّى يُوَافِيَ اللَّهَ وَلَيْسَ لَهُ حَسَنَةٌ يَجْزِيهِ بِهَا " .

وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي " التَّذْكِرَةِ " أَنَّ الْكَافِرَ قَدْ يُوَافِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَدَقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ وَعِتْقٍ ، فَيُخَفِّفُ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ مِنْ عَذَابِهِ ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَضِيَّةِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ جَعَلَهُ اللَّهُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ; إِذْ قَدْ يَكُونُ هَذَا خَاصًّا بِهِ; لِأَجْلِ حِيَاطَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُصْرَتِهِ لَهُ ، كَمَا سُقِيَ أَبُو لَهَبٍ فِي النُّقْرَةِ الَّتِي هِيَ فِي ظَهْرِ الْإِبْهَامِ بِسَبَبِ عَتَاقَتِهِ ثُوَيْبَةَ الَّتِي أَرْضَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَدَلَّ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا الْآيَةَ [ الْأَنْبِيَاءِ : 47 ] .

قُلْتُ : وَقُصَارَى هَذِهِ الْآيَةِ الْعُمُومُ ، فَيُخَصُّ مِنْ ذَلِكَ الْكَافِرُونَ ، وَقَدْ سُئِلَ [ ص: 516 ] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ ، : ذُكِرَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرِي الضَّيْفَ ، وَيُطْعِمُ الْجَائِعَ ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ ، وَيُعْتِقُ ، فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ قَالَ : " لَا; إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " . وَفِي رِوَايَةٍ : " لَمْ يَقُلْ يَوْمًا : رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ . وَقَالَ تَعَالَى : وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [ الْفُرْقَانِ : 23 ] . وَقَالَ عَنْ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ : وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [ النُّورِ : 39 ]

=--------------------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق