الأحد، 17 يونيو 2018

كتاب روضة الأنوار في سيرة النبي المختار لصفي الرحمن المباركوري

ملحوظة - r -تعني صلي الله عليه وسلم وإنما تحولت إلي ال r لكونها صورة من برنامج اوفيس وتحولت في صفحة المدونات الي - r -

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل رسله ، وخاتم أنبيائه : محمد الصادق الأمين ، المبعوث إلى الأحمر والأسود أجمعين ، وعلى آله وصحبه حملة لواء الدين ، وعلى من تبعهم بإحسان من الأئمة والهداة والدعاة والأتقياء والصالحين ، وعلى كل من سلك سبيلهم إلى يوم الدين .
أما بعــد :
فإن السيرة النبوية من أشرف العلوم وأعزها وأسناها هدفاً ومطلباً ، بها يعرف الرجل المسلم أحوال دينه ونبيه ، وما شرفه الله – تعالى – به من أرومة الأصل وكرم المحتد ، ثم ما أكرمه به من اختياره للوحي والرسالة ، وحمل عبء الدعوة إلية وإلى دينه ، ثم ما قام به - r - من بذل الجهود المتواصلة ، وما عاناه من البلاء والمحن في هذا السبيل ، وما حظي به – بجنب ذلك – من نصرة الله وتأييده بجنود غيبه المكنون ، وملائكته البررة الكرام ، وإنزال البركات ، وخوارق العادات ، وغير ذلك .
وقد كثر الاهتمام بهذا الموضوع في قديم الزمان وحديثه دراسة وكتابة وتأليفاً ، لأنه عمل ينبثق من صميم الإيمان وغريزة الحب والتفاني ، إلا أن عامة القائمين بذلك لم يوفوا حقه من التحقيق ، بل أدخلوا فيه ما وافق أفكارهم وميولهم وعواطفهم ، ولو لم يكن له حظ من الصحة والثبوت ، بل جاءوا ببعض ماهو مصطدم بأصول الدين وخارج عن حيز نطاق المعقول .
ونظراً إلى ذلك اقترح على بعض الإخوان بتأليف كتاب جديد في حجم متوسط أجمع فيه ما هو ثابت ومعترف به عند أئمة هذا الفن ، مع مراعاة مستوى الناشئين وعامة الدارسين ، متجنباً الإجحاف والانحراف ، فطلبت من الله التوفيق والسداد ، وبدأت بالعمل المطلوب ، مستمداً في ذلك من القرآن الكريم تفاسيره المعتمدة ، ثم من كتب السنة والسيرة ، ومستفيداً بما يوجد فيها من القرائن والشهادات الداخلية ، وما يحيط بها من الشهادات الخارجية ، وآثرت أن تكون العبارة مأخوذة من الروايات وكلام الأوائل بقدر الإمكان . مع الاختصار والاختيار ، وأرجوا أني قد أديت المطلوب إلى حد قريب ، وأدعو الله – سبحانه – أن ينفع به المسلمين ، ويجعله خالصاً لوجهة الكريم . وصلى الله على خير خلقه محمد وبارك وسلم .
صفي الرحمن المباركفوري
1/1/1414هـ
محمد ـ r - أصله ، ونشأته ، وأحواله قبل النبوة
النسب الشريف :
هو أكرم خلق الله ، وأفضل رسله ، وخاتم أنبيائه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
وعدنان من ذرية إسماعيل بن إبراهيمعليهما السلام – بالاتفاق ، ولكن لم يعرف بالضبط عدد ولا أسماء من بينه وبين إسماعيل عليه السلام .
أما أمه - r - فهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب . وكلاب هو الجد الخامس للنبي - r - من جهة أبيه ، فأبوه وأمه من أصل واحد ، يجتمعان في كلاب ، واسمه حكيم . وقيل : عروة لكنه كان كثير الصيد بالكلاب فعرف بها .
قبيلته - r - :
وقبيلته - r - هي قبيلة قريش المشهود لها بالشرف ، ورفعة الشأن ، والمجد الأصيل ، وقداسة المكان بين سائر العرب ، وهو لقب فهر بن مالك أو النضر بن كنانة .
وكل من رجالات هذه القبيلة كانوا سادات وأشرافاً في زمانهم ، وقد امتاز منهم قصي – واسمه زيد – بعدة ميزات ، فهو أول من تولى الكعبة من قريش ، فكانت إليه حجابتها وسدانتها ، أي كان بيده مفتاح الكعبة يفتحها لمن شاء ومتى شاء ، وهو الذي أنزل قريشاً ببطن مكة ، وأسكنهم في داخلها ، وكانوا قبل ذلك في ضواحيها وأطرافها ، متفرقين بين قبائل أخرى ، وهو الذي أنشأ السقاية والرفادة . والسقاية . ماء عذب من نبيذ التمر أو العسل أو الزبيب ونحوه ، كان يعده في حياض من الأديم يشربه الحجاج . والرفادة : طعام كان يصنع لهم في الموسم . وقد بنى قصي بيتاً بشمالي الكعبة ، عرف بدار الندوة . وهي دار شورى قريش ، ومركز تحركاتهم الاجتماعية ، فكان لا يعقد نكاح ، ولا يتم أمر إلا في هذه الدار ، وكان بيده اللواء والقيادة ، فلا تعقد راية حرب إلا بيده ، وكان كريماً وافر العقل ، صاحب كلمة نافذة في قومه .
أسرته - r - :
أما أسرته - r - فتعرف بالأسرة الهاشمية ، نسبة إلى جدة الثاني هاشم ، وقد ورث هاشم من مناصب قصي : السقاية والرفادة ، ثم ورثهما أخوه المطلب ، ثم أولاد هاشم إلى أن جاء الإسلام وهم على ذلك ، وكان هاشم أعظم أهل زمانه ، كان يهشم الخبز ، أي يفتته في اللحم ، فيجعله ثريداً ، ثم يتركه يأكل الناس ، فلقب بهاشم ، واسمه عمرو . وهو الذي سن الرحلتين : رحلة الشتاء إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام ، وكان يعرف بسيد البطحاء .
ومن حديثه : أنه مر بيثرب ، وهو في طريق تجارته إلى الشام ، فتزوج سلمى بنت عمرو من بني عدي بن النجار ، وأقام عندها فترة ، ثم مضى إلى الشام وهي حامل ، فمات بغزة من أرض فلسطين ، وولدت سلمى ابناً بالمدينة سمته : شيبة ، لشيب في رأسه ، ونشأ هذا الطفل بين أخواله في المدينة ، ولم يعلم به أعمامه بمكة حتى يبلغ نحو سبع سنين أو ثماني سنين ، ثم علم به عمه المطلب ، فذهب به إلى مكة ، فلما رآه الناس ظنوه عبده فقالوا : عبد المطلب ، فاشتهر بذلك .
وكان عبد المطلب أوسم الناس ، وأجملهم ، وأعظمهم قدراً . وقد شرف في زمانه شرفاً لم يبلغه أحد ، كان سيد قريش وصاحب عير مكة ، شريفاً مطاعاً جواداً يسمى بالفياض لسخائه ، كان يرفع من مائدته للمساكين والوحوش والطيور ، فكان يلقب بمطعم الناس في السهل ، والوحوش والطيور في رؤوس الجبال . قد تشرف بحفر بئر زمزم بعد أن كان قد درسها جرهم عند جلائهم عن مكة ، وكان قد أمر بحفرها في المنام ، ووصف له موضعها فيه .
وفي عهده وقعت حادثة الفيل ، جاء أبرهة الأشرم من اليمن بستين ألف جندي من الأحباش ، ومعه بعض الفيلة ، ليهدم الكعبة ، فلما وصل إلى وادي محسر بين المزدلفة ومنى ، وتهيأ للهجوم على مكة أرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل ، فجعلهم كعصف مأكول ، وكان ذلك قبل مولد النبي - r - بأقل من شهرين فقط .
أما والده - r - عبدالله فكان أحسن أولاد عبد المطلب ، وأعفهم ، وأحبهم إليه ، وهو الذبيح ، وذلك أن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم ، وبدت آثارها نازعته قريش ، فنذر لئن آتاه الله عشرة أبناء ، وبلغوا أن يمنعوه ، ليذبحن أحدهم . فلما تم له ذلك أقرع بين أولاده ، فوقعت القرعة على عبدالله ، فذهب إلى الكعبة ليذبحه ، فمنعته قريش ، ولا سيما إخوانه وأخواله ، ففداه بمائة من الإبل ، فالنبي -r- ابن الذبيحين : إسماعيل – عليه السلام –وعبد الله ، وابن المفديين ، فدي إسماعيل – عليه السلام – بكبش ، وفدي عبد الله بمائة من الإبل .
واختار عبد المطلب لابنه عبد الله آمنه بنت وهب ، وكانت أفضل نساء قريش شرفاً وموضعاً ، وكان أبوها وهب سيد بني زهرة نسباً وشرفاً ، فتمت الخطبة والزواج ، وبنى بها عبد الله بمكة فحملت برسول الله -r- .
وبعد فترة أرسله عبد لمطلب إلى المدينة – أو الشام في تجارة – فتوفي بالمدينةراجعاً من الشام – ودفن في الدار النابغة الذبياني ، وذلك قبل ولادته -r- على الأصح .
المولد :
ولد رسول الله - r - بشعب بني هاشم في مكة ، صبيحة يوم الاثنين ، التاسع – ويقال : الثاني عشر – من شهر ربيع الأول عام الفيل – والتاريخ الأول أصح والثاني أشهر – وهو يوافق اليوم الثاني والعشرون من شهر أبريل سنة 571م .
وكانت قابلته أي دايته : الشفاء بنت عمرو أم عبد الرحمن بن عوف - t - ولما ولدته أمه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام . وأرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بولادته - r- فجاء عبد المطلب مستبشراً مسروراً ، وحمله ، فأدخله الكعبة ، وشكر الله ، ودعاه ، وسماه محمداً ، رجاء أن يحمد ، وعق عنه ، وختنه يوم سابعه ، وأطعم الناس كما كان العرب يفعلون .
وكانت حاضنته أم أيمن : بركة الحبشية ، مولاة والده عبد الله ، وقد بقيت حتى أسلمت ، وهاجرت ، وتوفيت بعد النبي - r - بخمسة أشهر ، أو بستة أشهر .
الرضــاع :
وأول من أرضعته - r - بعد أمه ثويبة : مولاة أبي لهب بلبن ابن لها ، يقال له مسروح ، وكانت قد أرضعت قبله - r - حمزة بن عبد المطلب وبعده - r - أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، فهم إخوته - r - من الرضاعة .
وقد أعتق أبو لهب أمته هذه فرحاً بولادة رسول الله - r - ولكنه صار من ألد أعدائه حينما قام بالدعوة إلى الإسلام .
في بني سعد :
كان من عادة العرب أن يلتمسوا المراضع لمواليدهم في البوادي ، إبعاداً لهم عن أمراض الحواضر حتى تشتد أعصابهم ، وليتقنوا اللسان العربي في مهدهم .
وقدر الله أن جاءت نسوة من بني سعد بن بكر بن هوزان يطلبن الرضعاء فعرض النبي - r - عليهن كلهن ، فأبين أن يرضعنه لأجل يتمه . ولم تجد إحدى النسوة – وهي حليمة بنت أبي ذويب – رضيعاً فأخذته - r - وحظيت به حظوة اغتبط لها الآخرون .
واسم أبي ذويب والد حليمة : عبد الله بن الحارث ، واسم زوجها : الحارث ابن عبد العزى ، وكلاهما ن سعد بن بكر بن هوازن . وأولاد الحارث بن عبد العزى ، إخوته - r - من الرضاعة هم : عبد الله وأنيسة وجدامة ، وهي الشيماء ، لقب غلب على اسمها ، وكانت تحضن رسول الله - r -
بركات في بيت الرضاعة :
وقد درت البركات على أهل هذا البيت مدة وجوده - r - بينهم .
ومما روي من هذه البركات : أن حليمة لما جاءت إلى مكة كانت الأيام أيام جدب وقحط ، وكانت معها أتان كانت أبطأ دابة في الركب مشياً لأجل الضعف والهزال ، وكانت معها ناقة لا تدر بقطرة من لبن ، وكان لها ولد صغير يبكي ويصرخ طول الليل لأجل الجوع ، ولا ينام ، ولا يترك أبويه ينامان .
فلما جاءت حليمة بالنبي - r - إلى رحلها ، ووضعته في حجرها أقبل عليه ثدياها بما شاء من لبن ، فشرب حتى روي ، وشرب معه ابنها الصغير حتى روى ، ثم ناما .
وقام زوجها إلى الناقة فوجدها حافلاً باللبن ، فحلب منها ما انتهيا بشربه رياً وشبعاً ، ثم باتا بخير ليلة .
ولما خرجا راجعين إلى بادية بني سعد ركبت حليمة تلك الأتان ، وحملت معها النبي - r - فأسرعت الأتان حتى قطعت بالركب ، ولم يستطع لحوقها شئ من الحمر .
ولما قدما في ديارهما : ديار بني سعد – وكان أجدب أرض الله – كانت غنمهما تروح عليهما شباعاً ممتلئة الخواصر بالعلف ، ممتلئة الضروع باللبن . فكانا يحلبان ويشربان ، وما يحلب إنسان قطرة لبن .
فلم يزالا يعرفان من الله الزيادة والخير حتى اكتملت مدة الرضاعة ومضت سنتان ففطمته حليمة ، وقد اشتد وقوي في هذه الفترة .
بقاء النبي – r - في بني سعد بعد الرضاعة :
وكانت حليمة تأتي بالنبي - r - إلى آمه وأسرته كل ستة أشهر ، ثم ترجع به إلى باديتها في بني سعد ، فلما اكتملت مدة الرضاعة وفطمته ، وجاءت به إلى أمه حرصت على بقائه - r - عندها ، لما رأت من البركة والخير . فطلبت من أم النبي - r - أن تتركه عندها حتى يغلظ ، فإنها تخاف عليه وباء مكة ، فرضيت أمه - r - بذلك ، ورجعت به حليمة إلى بيتا مستبشرة مسرورة ، وبقي النبي - r - عندها بعد ذلك نحو سنتين ، ثم وقعت حادثة غريبة أحدثت خوفاً في حليمة وزوجها حتى ردا النبي - r - إلى أمه . وتلك الحادثة هي شق صدره - r - وإليكم بيان ذلك .
شق الصدر :
قال أنس بن مالك - t - : إن رسول الله - r - أتاه جبريل وهو يلعب مع لغلمان فأخذه فصرعه ، فشق عن قلبه . فاستخرج القلب ، فاستخرج منه علقة ، فقال : هذا حظ الشيطان منك . ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لأمه – أي ضمه وجمعه – ثم أعاده في مكانه .
وجاء الغلمان يسعون إلى أمه – يعني ظئره ( وهي المرضعة ) – فقالوا إن محمداً قد قتل . فاستقبلوه وهو منتقع اللون . أي متغير اللون .
قال أنس : وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره .
إلى أمه الحنون :
ورجع النبي - r - بعد هذا الحادث إلى مكة ، فبقي عند أمه وفي أسرته نحو سنتين ، ثم سافرت معه أمه إلى المدينة ، حيث قبر والده وأخوال جده بنو عدي بن النجار ، وكان معها قيمها عبد المطلب ، وخادمتها أم أيمن ، فمكثت شهراً ثم رجعت ، وبينما هي في الطريق لحقها المرض ، واشتد حتى توفيت بالأبواء بين مكة والمدينة ، ودفنت هناك .
إلى جده العطوف :
وعاد به - r - جده عبد المطلب إلى مكة ، وهو يشعر بأعماق قلبه شدة ألم المصاب الجديد . فرق عليه رقة لم يرقها لى أحد من أولاده ، فكان يعظم قدره ، ويقدمه على أولاده ، ويكرمه غاية الإكرام ، ويجلسه على فراشه الخاص الذي لم يكن يجلس عليه غيره . ويمسح ظهره ، ويسر بما يراه يصنع . ويعتقد أن له شأناً عظيماً في المستقبل ، ولكنه توفي بعد سنتين حين كان عمره - r - ثماني سنوات وشهرين وعشرة أيام .
إلى عمه الشفيق :
وقام بكفالته - r- عمه أبو طالب شقيق أبيه ، واختصه بفضل الرحمة والمودة ، وكان مقلا من المال . فبارك الله في قليله ، حتى كان طعام الواحد يشبع جميع أسرته ، وكان الرسول - r - مثال القناعة والصبر ، يكتفي بما قدر الله له .
سفره إلى الشام وبحيرا الراهب :
وأراد أبو طالب أن يخرج بتجارة إلى الشام في عير قريش ، وكان عمره - r - اثنتي عشرة سنة – وقيل : وشهرين وعشرة أيام – فاستعظم رسل الله - r - فراقه ، فرق عليه وأخذه معه ، فلما نزل الركب قريباً من مدينة بصرى على مشارف الشام خرج إليهم أحد كبار رهبان النصارى – وهو بحيرا الراهب – فتخلل في الركب حتى وصل إلى النبي - r - فأخذ بيده ، وقال
" هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين ، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين " .
قالوا : وما علمك بذلك ؟
قال : "إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجداً ، ولا يسجدان إلا لنبي ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ، وإنا نجده في كتبنا " .
ثم أكرمهم بالضيافة ، وسأل أبا طالب ، أن يرده ولا يقدم به إلى الشام خوفاً من اليهود والرومان ، فرده أبو طالب إلى مكة .
حرب الفجار :
وحين كان عمره - r - عشرين سنة – وقعت في السوق عكاظ حرب بين قبائل قريش وكنانة من جهة ، وبين قبائل قيس عيلان من جهة أخرى . اشتد فيها البأس ، وقتل عدد من الفريقين ، ثم اصطلحوا على أن يحصوا قتلى الفريقين ، فمن وجد قتلاه أكثر أخذ دية الزائد ، ووضعوا الحرب ، وهدموا ما وقع بينهم من العداوة والشر .
وقد حضر هذه الحرب رسول لله - r - وكان ينبل على أعمامه ، أي يجهز لهم النبل للرمي .
وسميت هذه الحرب بحرب الفجار لأنهم انتهكوا فيها حرمة حرم مكة والشهر الحرام ، والفجار أربعة : كل في سنة ، وهذه آخرها ، وانتهت الثلاثة الأولى بعد خصام وأشتجار طفيف ، ولم يقع القتال إلا في الرابع فقط .
حلف الفضول :
وفي شهر ذي القعدة على إثر هذه الحرب تم حلف الفضول بين خمسة بطون من قبيلة قريش وهم : بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وبنو أسد ، وبنو زهرة ، وبنو تيم .
وسببه أن رجلاً من زبيد جاء بسلعة إلى مكة ، فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي ، وحبس عنه حقه ، فاستعدي عليه ببني عبد الدار ، وبني مخزوم ، وبني جمح ، وبني سهم ، وبني عدي ، فلم يكترثوا له ، فعلا جبل أبي قبيس ، وذكر ظلامته في أبيات ، ونادى من يعينه على حقه ، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب حتى اجتمع الذين مضى ذكرهم في دار عبد الله بن جدعان رئيس بني تيم ، وتحالفوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته ، ثم قاموا إلى العاص بن وائل السهمي ، فانتزعوا منه حق الزبيدي ، ودفعوه إليه .
وقد حضر رسول الله - r - هذا الحلف مع أعمامه ، وقال بعد أن شرفه الله بالرسالة: " لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت " .
حياة العمل :
معلوم أن النبي - r - ولد يتيماً ونشأ في كفالة جده ثم عمه ، ولم يرث عن أبيه شيئاً يغنيه ، فلما بلغ سنا يمكن العمل فيه عادة رعى الغنم مع إخوته من الرضاعة في بني سعد ، ولما رجع ؟إلى مكة رعاها لأهلها على قراريط ، والقيراط جزء يسير من الدينار : نصف العشر أو ثلث الثمن منه . قيمته في هذا الزمان عشرة ريالات تقريباً .
ورعى الغنم من سنن الأنبياء في أوائل حياتهم . فقد قال - r - مرة بعد أن أكرمه الله بالنبوة : " ما من نبي إلا ورعاها " .
ولما شب النبي - r - وبلغ الفتوة فكأنه كان يتجر ، فقد ورد أنه كان يتجر مع السائب بن أبي السائب ، فكان خير شريك له ، لا يجاري ولا يماري .
وعرف - r - في معاملاته بغاية الأمانة والصدق والعفاف . وكان هذا هديه - r - في جميع مجالات الحياة حتى لقب بالأمين .
سفره إلى الشام وتجارته في مال خديجة :
وكانت خديجة بنت خويلد - t - من أفضل نساء قريش شرفاً ومالاً ، وكانت تعطي مالها للتجار يتجرون فيه على أجرة ، فلما سمعت عن النبي - r - عرضت عليها مالها ليخرج فيه إلى الشام تاجراً ، وتعطيه أفضل ما أعطته غيره .
وخرج رسول الله - r - مع غلامها ميسرة إلى الشام ، فباع وابتاع وربح ربحاً عظيماً ، وحصل في مالها من البركة ما لم يحصل من قبل ، ثم رجع إلى مكة ، وأدى الأمانة
زواجه بخديجة :
ورأت خديجة من الأمانة والبركة ما يبهر القلوب ، وقص عليها ميسرة ما رأى في النبي - r - من كرم الشمائل وعذوبة الخلال – يقال : وبعض الخوارق ، مثل تظليل الملكين له في الحر – فشعرت خديجة بنيل بغيتها فيه . فأرسلت إليه إحدى صديقاتها تبدى رغبتها في الزواج به ، ورضي النبي - r - بذلك ، وكلم أعمامه ، فخطبوها له إلى عمها عمرو بن أسد ، فزوجها عمها بالنبي -r - في محضر من بني هاشم ورؤساء قريش على صداق قدره عشرون بكرة ، وقيل ست بكرات ، وكان الذي ألقى خطبة النكاح هو عمه أبو طالب : فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم ذكر شرف النسب وفضل النبي - r - ، ثم ذكر كلمة العقد وبين الصداق .
تم هذا الزواج بعد رجوعه - r - من الشام بشهرين وأيام ، وكان عمره إذ ذاك خمساً وعشرين سنة ، أما خديجة فالأشهر أن سنها كانت أربعين سنة . وقيل : ثمان وعشرين سنة ، وقيل غير ذلك ، وكانت أولاً متزوجة بعتيق بن عائذ المخزومي ، فمات عنها ، فتزوجها أبو هالة التيمي ، فمات عنها أيضاً بعد أن ترك له منها ولداً ، ثم حرص على زواجها كبار رؤساء قريش فأبت حتى رغبت في رسول الله r وتزوجت به . فسعدت به سعادة يغبط عليها الأولون والآخرون .
وهي أول أزواجه - r - لم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت ، وكل أولاده -r- منها إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية .
أولاده - r - من خديجة :
هم : القاسم ، ثم زينب ، ثم رقية ، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، ثم عبدالله ، وقيل غير ذلك في عددهم وترتيبهم ، وقد مات البنون كلهم صغاراً . أما البنات فقد أدركن كلهن زمن النبوة ، فأسلمن وهاجرن ، ثم توفاهن الموت قبل النبي - r - إلا فاطمة رضي الله عنها ، فإنها عاشت بعده - r - ستة أشهر .
بناء البيت وقصة التحكيم :
ولما بلغت سنة - r - خمساً وثلاثين سنة جاء سيل جارف صدع جدران الكعبة . وكانت قد وهنت من قبل لأجل حريق ، فاضطرت قريش إلى بنائها من جديد ، وقرروا أن لا يدخلوا في نفقتها إلا طيباً ، فلا يدخلوا فيها مهر بغى ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد ، وهابوا عقاب الله على هدمها ، فقال الوليد بن المغيرة : إن الله لا يهلك المصلحين ، ثم بدأ يهدم ، فتبعوه في هدمها حتى وصلوا بها إلى قواعد إبراهيم .
ثم أخذوا في بناء وخصصوا لكل قبيلة جزءاً منها ، وكان الأشراف يحملون الحجارة على أعناقهم ، وكان رسوا الله - r - وعمه العباس فيمن يحمل . وتولى البناء بناء رومي اسمه : باقوم . وضاقت بهم النفقة الطبية عن إتمامها على قواعد إبراهيم ، فأخرجوا منها نحو ستة أذرع من جهة الشمال ، وبنوا عليها جداراً قصيراً علامة أنه من الكعبة . وهذا الجزء و المعروف بالحجر والحطيم
ولما وصل البنيان إلى موضع الحجر الأسود أراد كل رئيس أن يتشرف بوضعه في مكانه ، فوقع بينهم التنازع والخصام ، واستمر أربعة أيام أو خمسة ، وكاد يتحول إلى حرب . دامية في الحرم ، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي تداركها بحكمة – وكان أسن رجل في قريش – فاقترح عليهم أن يحكموا أول رجل يدخل عليهم من باب مسجد ، فقبلوا ذلك ، واتفقوا عليه .
وكان من قدر الله أن أول من دخل بعد هذا القرار هو رسول الله - r - فلما رأوه هتفوا ، وقالوا : هذا الأمين رضيناه ، هذا محمد . فلما انتهى إليهم ، وأخبروه الخبر ، أخذ رداءً ، ووضع فيه الحجر الأسود ، وأمرهم أن يمسك كل واحد منهم بطرف من الرداء ويرفعه ، فلما وصل الحجر الأسود إلى موضعه أخذه النبي - r - بيده ووضعه في مكانه . وكان حلاً حصيفاً رضي به الجميع
والحجر الأسود يرتفع عن أرض المطاف متراً ونصف متر . أما الباب فقد رفعوه نحو مترين حتى لا يدخل إلا من أرادوا وأما الجدران فرفعوها ثمانية عشر ذراعاً ، وكانت على نصف من ذلك ، ونصبوا في داخل الكعبة ستة أعمدة في صفين ثم سقفوها على ارتفاع خمسة عشر ذراعاً وكانت من قبل بدون سقف ولا عمود .
سيرته - r - قبل البعثة :
نشأ - r - منذ صباه سليم العقل ، وافر القوى ، نزيه الجانب ، فترعرع ، وشب ، ونضج ، وهو جامع للصفات الحميدة والشيم النبيلة ، فكان طرازاً رفيعاً من الفكر الصائب والنظر السديد ، ومثالاً نهائياً في مكارم الأخلاق ومحاسن الخصال ، امتاز بالصدق والأمانة ، والمروءة ، والشجاعة ، والعدل ، والحكمة ، والعفة ، والزهد ، والقناعة ، والحلم ، والصبر والشكر ، والحياء والوفاء ، والتواضع والتناصح .
وكان على أعلى قمة من البر والإحسان كما قال عمه أبو طالب :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وكان وصولاً للرحم ، حمولاً لما يثقل كواهل الناس ، يساعد من أعدم العيش حتى يصيب الكسب ، وكان يقري الضيف ، وبغض إليه ما كان في قومه من خرافة وسوء ، فلم يشهد أعياد الأوثان واحتفالات الشرك ، ولم يأكل مما ذبح على النصب أو أهل به لغير الله .وكان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى فضلاً عن مس الأصنام أو التقرب إليها .
وكان أبعد لناس من شرب الخمر وشهود الملاهي حتى لم يحضر مجالس اللهو والسمر ونواديها التي كانت منتزه الشباب وملتقى الأحبة في مكة .
النـبـــوة والدعــــــوة
مقدمات النبوة وتباشير السعادة :
وبما تقدم ذكره اتسعت الشقة الفكرية والعلمية بين النبي - r -وبين قومه ، وطفق يقلق مما يراهم عليه من الشقاوة والفساد ، ويرغب في الاعتزال عنهم والخلوة بنفسه مع تفكيره في سبيل ينجيهم من التعاسة والبوار .
واشتد هذا القلق ، وقويت هذه الرغبة مع تقدم السن حتى كأن حادياً يحدوه إلى الخلوة والانقطاع . فأخذ يخلو بغار حراء (1)، يتعبد الله فيه على بقايا دين إبراهيم – عليه السلام – وذلك من كل سنة شهراً . وهو شهر رمضان ، فإذا قضى جواره بتمام هذا الشهر انصرف إلى مكة صباحاً ، فيطوف بالبيت ، ثم يعود إلى داره ، وقد تكرر ذلك منه - r - ثلاث سنوات .
فلما تكامل له أربعون سنة – وهي سن الكمال ، ولها بعثت الرسل غالباً – بدأت طلائع النبوة وتباشير السعادة في الظهور ، فكان يرى رؤيا صالحة تقع كما يرى ، وكان يرى الضوء ويسمع الصوت وقال :" إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث " .
بداية النبوة ونزول الوحي :
فلما كان في رمضان من السنة الحادية والأربعين وهو معتكف بغار حراء ، يذكر الله ويعبده ، فجئه جبريل – عليه السلام – بالنبوة والوحي ، ولنستمع إلى عائشةرضي الله عنه – تروي لنا هذه القصة بتفاصيلها ، قالت عائشة – رضي الله عنها -:
أول ما بُدئ به رسول الله - r - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث – أي يتعبد – فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة ، فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك ، فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ
قال : فأخذني ، فغطني حتى بلغ مني جهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . قلت : ما أنا بقارئ . فأخذني ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني . فغطني الثالثة . ثم أرسلني فقال : } اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ { .
فرجع بها رسول الله r - يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد – رضى الله عنهافقال : زملوني . فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة – وأخبرها الخبر -: لقد خشيت على نفسي . فقالت خديجة : كلا ، والله ما يخزيك الله أبداً . أنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق .
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي ، ابن عم خديجة ، وكان امرأًً تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً قد عمى .
فقالت له خديجة : يا ابن العم اسمع من ابن أخيك .
فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟
فأخبره رسول الله - r - خبر ما رأى .
فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل الله على موسى . يا ليتني فيها جزعاً – أي قوياً جلداً – ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك .
فقال رسول الله - r - : أو مخرجي هم ؟
قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً
ثم لم يلبث ورقة أن توفى ، وفتر الوحي .
تاريخ بدء النبوة ونزول الوحي :
تلك هي القصة بداية النبوة ونزول الوحي على النبي - r - لأول مرة ، وقد كان ذلك في رمضان في ليلة القدر ، قال الله – تعالى -:} شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ{ وقال : }إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ{ وقد أفادت الأحاديث الصحيحة أن ذلك كان ليلة يوم الاثنين قبل أن يطلع الفجر .
وحيث إن ليلة القدر تقع في وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان ، وقد ثبت علمياً أن يوم الاثنين في رمضان من تلك السنة إنما بدأت في الليلة الحادية والعشرين من رمضان سنة إحدى وأربعين من مولده - r - وهي توافق اليوم العاشر من شهر أغسطس سنة 610م وكان عمره - r - إذ ذاك أربعين سنة قمرية وستة أشهر واثنى عشر يوماً . وهو يساوي تسعاً وثلاثين سنة شمسية وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوماً ، فكانت بعثته على رأس أربعين سنة شمسية .
فترة الوحي ثم عودته :
وكان الوحي قد فتر وانقطع بعد أول نزوله في غار حراء – كما سبق – ودام هذا الانقطاع أياماً ، وقد أعقب ذلك في النبي - r - شدة الكآبة والحزن ، ولكن المصلحة كانت في هذا الانقطاع ، فقد ذهب عنه الروع ، وتثبت من أمره ، وتهيأ لاحتمال مثل ما سبق حين يعود ، وحصل له التشوف والانتظار ، وأخذ يرتقب مجئ الوحي مرة أخرى .
وكان -r- قد عاد من عند ورقة بن نوفل إلى حراء ليواصل جواره في غاره ، ويكمل ما تبقى من شهر رمضان ، فلما انتهى شهر رمضان وتم جواره نزل من حراء صبيحة غرة شوال ليعود إلى مكة حسب عادته .
قال - r - : فلما استبطنت الوادي- أي دخلت في بطنه – نوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ، ونظرت إلى شمالي فلم أر شيئاً ، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً ، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً ، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً ، فإذا الملك جاءني بحراْ جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجئثت منه رعباً حتى هويت إلى الأرض ، فأتيت خديجة ، فقلت : زملوني ، زملوني ، دثروني ، وصُبوا على ماء بارداً ، فدثروني وصبوا على ماء بارداً ، فنزلت } يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ{1} قُمْ فَأَنذِرْ{2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ{3} وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ{4} وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ{ .
وذلك قبل أن تفرض الصلاة ثم حمي الوحي وتتابع .
وهذه الآيات هي بدء رسالته - r - وهي متأخرة عن النبوة بمقدار فترة الوحي ، وتشتمل على نوعين من التكليف مع بيان ما يترتب عليه :
أما النوع الأول فهو تكليفه - r - بالبلاغ والتحذير ، وذلك في قوله تعالى : } قُمْ فَأَنذِرْ { . فإن معناه : حذر الناس من عذاب الله إن لم يرجعوا عما هما فيه من الغي والضلال ، وعبادة غير الله المتعال ، والإشراف به في الذات والصفات والحقوق والأفعال .
وأما النوع الثاني فتكليفه - r - بتطبيق أوامر الله – سبحانه وتعالى – والالتزام بها في نفسه ، ليحذر بذلك مرضاة الله ، ويصير أسوة لمن آمن بالله . وذلك في بقية الآيات ، فقوله : } وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {. معناه : خصه بالتعظيم ، ولا شرك به في ذلك أحداً غيره ، وقوله : } وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ { . المقصود الظاهر منه تطهير الثياب والجسد ، إذ ليس لمن يكبر الله ويقف بين يديه أن يكون نجساً مستقذراً ، وقوله :
} وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ {. معناه . ابتعد عن أسباب سخط الله وعذابه ، وذلك بطاعته وترك معصيته ، وقوله : } وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ { . أي لا تحسن إحساناً تريد أفضل منه في هذه الدنيا .
أما الآية الأخيرة فأشار فيها إلى ما يلحقه من أذى قومه ، حين يفارقهم في الدين ، ويقوم بدعوتهم إلى الله وحده ، فقال : } وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ { .
القيام بالدعوة :
وقام رسول الله - r - على أثر نزول هذه الآيات بالدعوة إلى الله – سبحانه وتعالى – وحيث إن قومه كانوا جفاة لا دين لهم إلا عبادة الأصنام والأوثان ، ولا حجة لهم إلا أنهم ألفوا إباءهم على ذلك ، ولا أخلاق لهم إلا الأخذ بالعزة والأنفة ، ولا سبيل لهم في حل المشاكل إلا سيف ، فقد اختار الله أن يقوم بالدعوة سراً ، ولا يواجه بها إلا من يعرفه بالخير وحب الحق ، ويثق به ويطمئن إليه ، وان يقدم أهله وعشيرته وأصدقاءه وندماءه على غيرهم .
الرعيل الأول :
فلما بدأ النبي - r - دعوته بادر إلى الإيمان به عدد ممن كتب الله له السبق إلى السعادة والخير .
وكانت أولهم على الإطلاق أم المؤمنين خديجة بنت خويلد – رضي الله تعالى عنها - ، وكانت قد علمت البشارات ، وسمعت عن الإرهاصات ، وأبصرت ملامح النبوة ، وشاهدت تباشير الرسالة ، وتوقعت أن يكون رسول الله - r - هو نبي هذه الأمة ، ثم تأكد لها من حديث ورقة ان الذي نزل في حراء هو جبريل – عليه السلاموأن الذي جاء به هو وحي النبوة ، ثم شاهدت بنفسها ما مر به النبي - r - عند نزول أول المدثر ، فكان من الطبيعي أن تكون هي أول المؤمنين .
وبادر النبي - r - إلى صديقه الحميم أبي بكر الصديق - t - ليخبره بما أكرمه الله به من النبوة والرسالة ، ويدعوه إلى الإيمان به ، فآمن أول من أمن به على الإطلاق أومن من الرجال ، وكان أصغر منه - r - بسنتين ، وصديقاً له منذ عهد قديم ، عارفاً بسره وعلانيته ، فكان إيمانه أعدل شاهد على صدقه - r - .
ومن أول من آمن به على بن أبي طالب - t - كان تحت كفالته - r - مقيماً عنده ، يطعمه ويسقيه ، ويقوم بأمره ، لأن قريشاً أصابتهم مجاعة ، وكان أبو طالب مقلاً كثير الأولاد ، فكفل العباس ابنه جعفراً ، وكفل النبي - r - عليا ، فكان كأحد أولاده إلى أن جاءت النبوة وقد ناهز البلوغ ، -يقال :كان عمره عشر سنين – وكان يتبعه في كل أعماله ، فلما دعاه إلى الإسلام أجاب إليه ، وهو أول من آمن به من الصبيان .
ومن أول من آمن به مولاه زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي ، كان قد أسر أيام الجاهلية وبيع ، فاشتراه حكيم بن حزام . ووهبه لعمته خديجة ، فوهبته خديجة لرسول - r - وعلم به أبوه وعمه فجاءا إلى رسول الله -r- وكلماه ليحسن إليهما في فدائه ، فدعا رسول الله -r- زيداً ، وخيره بين أن يذهب مع أبيه وعمه وبين أن يبقى عنده ، فاختاره عليهما ، وعندئذ ذهب رسول الله إلى الملأ من قريش ، وقال : اشهدوا أن هذا ابني وارثاً وموروثاً، وذلك قبل النبوة ، فكان يدعى زيد بن محمد حتى جاء الإسلام وأبطل التبني ، فدعي زيد بن الحارثة .
هؤلاء الأربعة كلهم أسلموا في يوم واحد ، يوم أمر رسول الله - r - بالإنذار ، وقام بالدعوة إلى الله ، وقد عن كل واحد منهم إنه أول من أسلم .
ثم نشط للدعوة إلى الله أبو بكر - t- وصار الساعد الأيمن للنبي -r- في مهمة رسالته ، وكان رجلاً عفيفاً ، مألفاً محبباً ، سهلاً كريماً ، جواداً ، معظماً ، أعلم الناس بأنساب العرب وأخبارها ، يقصده رجال قومه لخلقه ومعروفه ، وعلمه وفضله ، وتجارته وجوده ، وحسن معاملته ومجالسته . فدعا إلى الإسلام من توسم فيه الخير ووثق به من قومه ، فأجابه جمع من فضلاء الناس ، في مقدمتهم عثمان بن عفان الأموي ، والزبير بن العوام الأسدي ، وعبد الرحمن بن عوف الزهري ، وسعد بن أبي وقاص الزهري ، وطلحة بن عبيد الله التيمى ، بين لهم أبو بكر - t - الإسلام ، وأتى بهم إلى النبي - r - فأسلموا جميعاً .
ثم تلا هؤلاء أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح ، وأبو سلمة بن عبد الأسد ، وامرأته أم سلمة ، والأرقم بن أبي الأرقم ، وعثمان بن مظعون ، وأخواه قدامة وعبدالله ابنا مظعون ، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف ، وسعيد ابن زيد بن عمرو بن نفيل ، وامرأته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب ، وخباب بن الأرت ، وجعفر بن أبي طالب ، وامرأته بنت عميس ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وحاطب بن حارث ، وامرأته فاطمة بنت المجلل ، وأخوه حطاب بن حارث ، وامرأته فكيهة بنت أبي عوف ، ونعيم بن عبد الله بن أسيد النحام ، وهؤلاء كلهم قرشيون من بطون وأفخاذ شتى من قريش.
ومن السابقين الأولين إلى الإسلام من غير قريش : عبدالله بن مسعود الهذلي ، ومسعود بن ربيعة القاري ، وعبدالله بن جحش ، وأخوه أبو أحمد بن جحش ، وصهيب بن سنان الرومي ، وعمار بن ياسر العنسي ، وأبوه ياسر ، وأمه سمية ، وعامر ابن فهيرة .
وممن سبق إلى الإسلام من نساء من غير من تقدم ذكرهن : أم أيمن بركة الحبشية ، مولاة رسول الله - r - وحاضنته ، أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية ، زوج العباس بن عبد المطلب ، وأسماء بنت أبي بكر الصديق - t - .
وقد عرف هؤلاء الأقدمون ومن أسلم معهم بلقب السابقين الأولين ، ويظهر بعد التتبع والاستقراء أن عدد من قيل فيه : أنه قديم الإسلام ، أو قيل فيه : إنه من السابقين الأولين ، يصل إلى مائة وثلاثين صحابياً تقريباً . ولكن لا يعرف بالضبط أنهم أسلموا قبل الجهر بالدعوة. أو تأخر إسلام بعضهم إلى الجهر بها .
عبادة المؤمنين وتربيتهم :
أما الوحي فقد تتابع نزوله بعد أوائل المدثر . ويقال : إن أول ما نزل بعدها هي سورة الفاتحة ، وهي سورة تجمع بين الحمد والدعاء ، وتشتمل على جميع المقاصد المهمة من القرآن والإسلام ، كما أن أول ما أمر به النبي -r- من العبادات الصلاة : ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي ، نزل بذلك جبريل فعلمه الوضوء والصلاة .
فكانت الطهارة الكاملة هي سمة المؤمنين ، والوضوء شرط الصلاة ، والفاتحة أصل الصلاة ، والحمد والتسبيح من أوراد الصلاة ، وكانت الصلاة هي عبادة المؤمنين ، يقيمونها ، ويقومون بها في أماكن بعيدة عن الأنظار ، وربما كانوا يقصدون بها الأودية والشعاب .
ولا تعرف لهم عبادات وأوامر ونواه أخرى في أوائل أيام الإسلام ، وإنما كان الوحي يبين لهم جوانب شتى من التوحيد ، ويرغبهم في تزكية النفوس ، ويحثهم على مكارم الأخلاق ، ويصف لهم الجنة والنار ، ويعظهم مواعظ بليغة تشرح الصدور وتغذي الأرواح .
وكان النبي - r - يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويحدو بهم إلى منازل نقاء القلوب ، ونظافة الأخلاق ، وعفة النفوس ، وصدق المعاملات ، وبالجملة كان يخرجهم من الظلمات إلى النور . ويهديهم إلى صراط مستقيم ، ويربيهم على التمسك بدين الله والاعتصام بحبل الله ، والثبات في أمر الله ، والاستقامة عليه .
وهكذا مرت ثلاثة أعوام ، والدعوة لم تزل مقصورة على الأفراد ، لم يجهر بها النبي - r - في المجامع والنوادي ، إلا أنها صارت معروفة لدى قريش ، وقد تنكر لهم بعضهم أحياناً ، واعتدوا على بعض المؤمنين ، ولكنهم لم يبالوا بها بصفة عامة ، حيث لم يتعرض رسول الله - r - لدينهم ولم يتكلم في آلهتهم .
الجهــر بالدعـــوة
الدعوة في الأقربين :
وبعد أن قضى رسول الله - r - ثلاث سنوات في سبيل الدعوة الفردية ، ووجد لها آذاناً صاغية ، ورجالاً صالحين من صميم قريش وغيرها ، وتمهدت لها السبل ، وتهيأ لظهورها الجو أنزل الله تعالى على رسوله - r - } وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ{214} وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{215} فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ{ فجمع النبي - r - عشيرته الأقربين ، وهم بنو هاشم ، ومعهم نفر من بني المطلب ، فقال بعد الحمد وشهادة التوحيد :
" إن الرائد لا يكذب أهله ، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم ، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم ، والله الذي لا إلا هو أني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة ، والله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما تعملون ، ولتجزون بالإحسان إحساناً وبالسوء سوءاً . وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً " .
فتكلم القوم كلاماً ليناً غير عمه أبي لهب . فإنه قال : خذوا على يديه قبل أن تجتمع عليه العرب ، فإن سلمتموه إذن ذللتم . وإن منعتموه قتلتم . فقال أبو طالب : والله لنمنعنه ما بقينا ، وقال أيضاً : أمض لما أمرت به ، فو الله لا أزال أحوطك وأمنعك ، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب .
على جبل الصفا :
وفي غضون ذلك نزل أيضاً قوله تعالى : } فَا صْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ { فصعد رسول الله - r - ذات يوم على الصفا فعلا أعلاها حجراً ، ثم هتف :" يا صباحاه " .
وكانت كلمة إنذار تخبر عن هجوم جيش أو وقع أمر عظيم .
ثم جعل ينادي بطون قريش ، ويدعوهم قبائل قبائل : يا بني فهر ! يا بني عدي ! يا بني فلان ! يا بني فلان ، يا بني عبد مناف ! يا بني عبد المطلب !
فلما سمعوا قالوا : من هذا الذي يهتف ؟ قالوا : محمد . فأسرع الناس إليه ، حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج إليه أرسل رسولاً لينظر ماهو ؟
فلما اجتمعوا قال :" أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي بسفح هذا الجبل ، تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي " ؟
قالوا : نعم . ما جربنا عليك كذباً . ما جربنا عليك إلا صدقاً .
قال :" فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد . إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله – أي يتطلع وينظر لهم من مكان مرتفع لئلا يدهمهم العدو – فخشي أن يسبقوه ، فجعل ينادي : يا صباحاه " .
ثم دعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وبين لهم أن هذه الكلمة هي ملاك الدنيا ونجاة الآخرة . ثم حذرهم وأنذرهم عذاب الله إن بقوا على شركهم ، ولم يؤمنوا بما جاء به من عند الله ، وأنه مع كونه رسولاً لا ينقذهم من العذاب ولا يغنيهم من الله شيئاً .
وعم هذا الإنذار وخص فقال : " يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله ، أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ، ولا أغني عنكم من الله شيئاً .
يا بني كعب بن لؤي ! أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً .
يا بني مرة بن كعب ! أنقذوا أنفسكم من النار .
يا معشر بني قصي ! أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً .
يا بني عبد شمس ! أنقذوا أنفسكم من النار .
يا بني عبد مناف ! أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً .
يا بني هاشم ! أنقذوا أنفسكم من النار .
يا بني عبد المطلب ! أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ، ولا أغني عنكم من الله شيئاً ، سلوني من مالي ما شئتم ، ولا أملك لكم من الله شيئاً .
يا عباس بن عبد المطلب ! لا أغني عنك من الله شيئاً .
يا صفية بنت عبد المطلب : عمة رسول الله ! لا أغني عنك من الله شئياً .
يا فاطمة بنت محمد رسول الله ! سليني بما شئت ، أنقذي نفسك من النار ، لا أغني عنك من الله شيئاً .
غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها – أي سأصلها حسب حقها
لما أتم هذا الإنذار انفض الناس وتفرقوا ، ولا يذكر عنهم أنهم أبدوا أي
معارضة أو تأييد لما سمعوه ، سوى ما ورد عن أبي لهب أنه واجه النبي - r - بالسوء ، فقال تباً لك سائر اليوم . ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت }تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ { .
أما عامة قريش فكأنهم قد أصابتهم الدهشة والاستغراب حين فوجئوا بهذا الإنذار، ولم يستطيعوا أن يختاروا أي موقف تجاه ذلك ، ولكنهم لما رجعوا إلى بيوتهم ، واستقرت أنفسهم ، وأفاقوا من دهشتهم ، واطمأنوا ، استكبروا في أنفسهم ، وتناولوا هذه الدعوة والإنذار بالاستخفاف والاستهزاء ، فكان النبي - r - إذا مر على ملأ منهم سخروا منه وقالوا : أهذا الذي بعث الله رسولاً ؟ أهذا ابن أبي كبشة . يكلم من السماء . أمثال ذلك .
وأبو كبشة اسم لأحد أجداده - r - من جهة الأم ، كان قد خالف دين قريش ، واختار النصرانية ، فلما خالفهم النبي - r - في الدين نسبوه إليه ، وشبهوه به ، تعييراً واحتقاراً له وطعناً فيه .
واستمر النبي - r - في دعوته وبدأ يجهر في نواديهم ومجامعهم ، يتلو عليهم كتاب الله ، ويدعوهم إلى ما دعت إليه الرسل : } يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ { وبدأ يعبد الله أمام أعينهم ، فكان يصلي بفناء الكعبة نهاراًَ جهاراً وعلى رؤوس الأشهاد .
وقد نالت دعوته بعض القبول ، ودخل عدد من الناس في دين الله واحداً بعد واحد ، وحصل بين هؤلاء المسلمين وبين من لم يسلم من أهل بيتهم التباغض والتباعد .
مشاورة قريش لكف الحجاج عن الدعوة :
واشمأزت قريش من كل ذلك ، وساءهم ما رأوه ، وما هي إلا أيام حتى اقترب موعد الحج ، وأهمهم أمر الحجاج ، فاجتمع نفر منهم إلى الوليد بن المغيرة – وكان ذا سن وشرف فيهم – فقال لهم : يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا ، فيكذب بعضكم بعضاً
قالوا : أنت فقل ، وأقم لنا رأياً نقول به .
قال : لا بل أنتم فقولوا أسمع .
قالوا : نقول : كاهن .
قال : ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، فلما هو بزمزمة الكهان ولا بسجعهم .
قالوا : فنقول مجنون .
قال : ماهو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته .
قالوا : فنقول : شاعر .
قال : ماهو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله ، رجزه وهجزه وقريضه ومقبوضة ومبسوطة . فما هو بالشعر .
قالوا : فنقول : ساحر .
قال : ماهو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثه ولا بعقده .
قالوا : فماذا نقول ؟
قال : والله إن لقوله حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة . وما أنتم بقائلين من هذا أنتم شيئاً إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول أن تقولوا : هو ساحر ، وقوله سحر ، يفرق به بين المرء وأبيه . وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته .
فتفرقوا عنه بذلك ، وجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا للموسم ، لا يمر بهم أحد إلا حذروه وذكروا له أمره - r - فعرف الناس أمره قبل أن يروه أو يسمعوا منه .
وجاءت أيام الحج فخرج النبي - r - إلى مجامع الحجاج ورحالهم ومنازلهم ، ودعاهم إلى الإسلام ، وقال لهم :" يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " . وتبعه أبو لهب يكذبه ويؤذيه ، فصدرت العرب من ذلك الموسم وقد عرفوا أمر رسول الله - r - وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها .
سبل شتى لمواجهة الدعوة :
ولما انتهى الحج ، وعادت قريش إلى بيوتهم ، واطمأنوا كأنهم رأوا أن يعالجوا هذه
المشكلة التي نشأت لأجل قيام رسول الله - r - بالدعوة إلى الله وحده ، ففكروا واستشاروا ، ثم اختاروا سبلاً شتى لمواجهة هذه الدعوة والقضاء عليها ، نذكرها فيما يلي بإيجاز .
الأول : مواصلة السخرية والاستهزاء وإلا كثار منها :
والقصد من ذلك تخذيل رسول الله - r - والمسلمين ، وتوهين قواهم المعنوية ، فكانوا يتهمون رسول الله - r - بأنه رجل مسحور ، شاعر مجنون ، كاهن يأتيه الشيطان ، ساحر كذاب ، مفتر متقول ، وغير ذلك من التهم والشتائم ، وكانوا إذا رأوه يجئ ويذهب ينظرون إليه نظر الغضب والنقمة ، كما قال الله – تعالى - : } وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ { وكانوا إذا رأوه يتهكمون به ، ويقولون : } أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ { .
وإذا رأوا ضعفاء الصحابة قالوا : قد جاءكم ملوك الأرض } أهؤلاء من الله عليهم من بيننا { وكما قال الله تعالى -: } إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ{29} وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ{30} وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ{31} وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ { .
وقد أكثروا من السخرية والاستهزاء ، ومن الطعن والتضحيك حتى أثر ذلك في نفس النبي -r- كما قال الله تعالى - : } وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ { ثم ثبته الله – تعالى – وبين له ما يذهب بهذا الضيق ، فقال : } فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ{98} وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ { وقد بين له قبل ذلك ما فيه التسلية ، حيث قال : } إِنَّا كَفَيْنَاك الْمُسْتَهْزِئِينَ{95} الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {
( الحجر 95-99 ) وأخبره أن فعلهم هذا سوف ينقلب وبالاً عليهم ، فقال } وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ { ( الأنعام 10، الأنبياء 41 )
الثاني : الحيلولة بين الناس وبين الاستماع إلى النبي - r - :
فقد قرروا أن يثيروا لشغب ، ويرفعوا الضوضاء ، ويطردوا الناس كلما رأوا النبي - r - يستعد ليقوم بالدعوة إلى الله فيما بينهم . وأن لا يتركوا له فرصة ينتهزها لبيان ما يدعوا إليه ، وقد تواصوا بذلك فيما بينهم . قال الله تعالى : } وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ { وقد ظلوا قائمين بذلك بكل شدة وصلابة ، حتى إن أول قرآن تمكن النبي - r - من تلاوته في مجامعهم هو سورة النجم – وذلك في رمضان في السنة الخامسة من النبوة - .
وكانوا إذا سمعوا النبي - r - يتلو القرآن في صلاته – وأكثر ما كان يتلوه في صلاته بالليل – سبوا القرآن ، ومن أنزله ، ومن جاء به ، حتى أنزل الله – تعالى -: } وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً { .
وذهب النضر بن الحارث إلى الحيرة والشام ، فتعلم منهم قصصاً شعبية ، كانوا يحكونها عن ملوكهم وأمرائهم مثل : رستم وإسفندريار ، فلما رجع أخذ يعقد النوادي والمجالس ، يقص هذه القصص ويصرف بها الناس عن الاستماع إلى النبي - r - وإذا سمع بمجلس جلس فيه رسول الله - r - للتذكير بالله ، خلفه في ذلك المجلس ، ويقص عليهم من تلك القصص ، ثم يقول بماذا محمد أحسن حديثاً مني .
ثم تقدم خطوة أخرى ، فاشترى جارية مغنية ، فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى تلك المغنية ، ويقول : أطعميه واسقيه وغنيه . هذا خير مما يدعوك إليه محمد . وفي ذلك أنزل الله تعالى : } وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ { [ لقمان : 6 ]
3- الثالث : إثارة الشبهات تكثيف الدعايات الكاذبة :
فقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه ، فربما كانوا يقولون عن القرآن : إنه } أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ { أي أحلام كاذبة يراها محمد - r - بالليل ، فيتلوها بالنهار ، وأحياناً كانوا يقولون :" افتراه من عند نفسه " ، وأحياناً كانوا يقولون : } إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ { [ 16، 103 ] وربما قالوا : } إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ { [ 25-4 ] أي اشتراك هو وزملاؤه في اختلاقه } وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً { [ 25- 5 ]
وأحياناً قالوا : أن له جناً أو شيطاناً يتنزل عليه بالقرآن مثل ما ينزل الجن والشياطين على الكهان . قال – تعالى- ردا عليهم : } هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ{221} تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ { أي إنها تنزل على الكذاب الفاجر المتلطخ بالذنوب ، وما جربتم علي كذباً . ولا وجدتم في فسقاً ، فكيف تقولون إن القرآن من تنزيل الشيطان ؟
وأحياناً كانوا يقولون عن النبي - r - إنه قد أصابه نوع من الجنون ، فهو يتخيل المعاني ثم يصوغها في كلمات بديعة رائعة . كما يصوغ الشعراء ، فهو شاعر وكلامه شعر ، قال – تعالى – رداً عليهم : } وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ{224} أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ{225} وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ { فهذه ثلاث خصائص يتصف بها الشعراء ، ولا توجد واحدة منها في النبي - r - فالذين اتبعوه هداة ، متقون ، صالحون في دينهم ، وخلقهم ، وأفعالهم ، وتصرفاتهم ، ومعاملاتهم ، ولا توجد عليهم مسحة من الغواية في أي شأن من شئونهم . وهو لا يهيم في الأودية كلها كما يهيم الشعراء ، بل يدعو إلى رب واحد ، ودين واحد ، وصراط واحد . وهو لا يقول إلا ما يفعل ، ولا يفعل إلا ما يقول ، فأين هو من الشعر والشعراء ؟ وأين الشعر والشعراء منه ؟
4-الرابع : النقاش والجدال :
وكانت ثلاث قضايا استغربها المشركون جداً ، وكانت هي الأساس في الخلاف الذي حصل بينهم وبين المسلمين في أمر الدين ، وهي : التوحيد ، والرسالة . والبعث بعد الموت . فكانوا يناقشون في هذه القضايا ، ويجادلون حولها .
فأما البعث بعد الموت فلم يكن عندهم في ذلك إلا التعجب والاستغراب ، والاستبعاد العقلي فقط ، فكانوا يقولون : } أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ{16} أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ {
[ الصافات :17] وكانوا يقولون : } ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ { [ ق: 3] . وكانوا يقولون :
} هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ{7} أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ { [ سبأ : 7،8] وقال قائلهم
أموت ثم بعث ثم حشر حديث خرافة يا أم عمرو
وقد رد الله عليهم بأنواع من الردود ، حاصلها أنهم يشاهدون في الدنيا أن الظالم يموت دون أن يلقى جزاء ظلمه ، والمظلوم يموت دون أن يأخذ حقه من ظالمه ، والمحسن الصالح يموت قبل أن يلقى جزاء إحسانه وصلاحه ، والمسئ يموت قبل أن يعاقب على سيئاته ، فإن لم يكن بعد الموت يوم يبعث فيه الناس . فيؤخذ من الظالم للمظلوم ، ويجزي المحسن الصالح ، ويعاقب المسئ الفاجر ، لا ستوى الفريقان ، ولا يكون بينهما فرق ، بل يصير الظالم والمسئ أسعد من المظلوم والمحسن التقي . هذا غير معقول إطلاقاً ، وليس من العدل في شئ، ولا يتصور من الله – سبحانه – أن يبني نظام خلقه على مثل هذا الظلم والفساد . قال تعالى : } أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ{35} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ{ [ القلم : 35- 36 ] وقال : } أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ { [ الجاثية : 21] .
وأما الاستبعاد العقلي ، فقال رداً عليهم في ذلك : } أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء {
[ النازعات : 27 ]
وقال : } أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{ [ الأحقاف : 33 ] وقال } وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ { [ الواقعة : 62 ] وقال : } كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ {
[ الأنبياء : 104 ] . وذكرهم ماهو معتاد لديهم ، وهو أن الإعادة } أَهْوَنُ عَلَيْهِ { [ الروم : 27 ] وقال : } أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ { [ق:15]
وأما رسالة النبي - r - فكانت لهم حولها شبهات مع معرفتهم واعترافهم بصدق النبي - r- وأمانته وغاية صلاحه وتقواه ، وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن منصب النبوة والرسالة أعظم وأجل من أن يعطى لبشر . فالبشر لا يكون رسولاً ، والرسول لا يكون بشراً ، حسب عقيدتهم ، فلما أعلن رسول الله -r- عن نبوته ورسالته ، ودعا إلى الإيمان به تحير المشركون، وتعجبوا ، وقالوا :
} مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ { وقال تعالى -: } بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ {ق2 . وقالوا } مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ { .
وقد أبطل الله عقيدتهم هذه ، وقال رداً عليهم :} قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ { [ النعام : 91 ] . وقص عليهم قصص الأنبياء والرسل ، وما جرى بينهم وبين قومهم من الحوار ، وأن قومهم قالوا إنكاراً لرسالتهم : } إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا { و} قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ{
[ إبراهيم : 10‘11] . فالأنبياء والرسل كلهم كانوا بشراً . وأما أن يكون الرسول ملكاً فإن ذلك لا يفي بغرض الرسالة ومصلحتها ، إذ البشر لا يستطيع أن يتأسى بالملائكة ، ثم تبقى الشبهة كما هي ، قال تعالى : } وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ { . [ الأنعام : 9 ]
وحيث إن المشركين كانوا يعترفون أن إبراهيم وإسماعيل وموسى عليهم السلام كانوا رسلاً وكانوا بشراً ، فإنهم لم يجدوا مجالاً للإصرار على شبهتهم هذه ، ولكنهم أبدوا شبهة أخرى قالوا : ألم يجد الله لحمل رسالته إلا هذا اليتيم المسكين ؟ ما كان الله ليترك العظماء الكبار من أشراف قريش وثقيف ، ويرسل هذا ، }َوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ { أي من مكة والطائف ، قال – تعالى – رداً عليهم : } أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ { [ الزخرف : 31 ، 32 ]
يعني أن الوحي والقرآن والنبوة والرسالة رحمة من0 الله ، والله يعلم كيف يقسم رحمته ، وأين يضعها ، فمن يعطيها ، ومن يحرمها ، قال – تعالى - } اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ { . [ الأنعام : 124]
فانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى قالوا : إن من يكون رسولاً لملك من ملوك الدنيا يوفر له الملك أسباب الحشمة والجاه من الخدم ، والحشم ، والضيعة ، والمال ، والأبهة ، والجلال ، وغير ذلك ، وهو يمشي في موكب من الحرس والمرافقين أصحاب العز والشرف ، فما بال محمد يدفع في الأسواق للقمة عيش و يدعى إنه رسول الله ؟ } لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً{7} أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُوراً{8} { [ الفرقان : 7:8 ]
ومعلوم أن النبي - r - كان قد أرسل إلى جميع أنواع البشر : صغارهم وكبارهم ، وضعافهم وأقويائهم ، وأذنابهم وأشرافهم ، وعبيدهم وأحرارهم ، فلو حصل له ما تقدم من الأبهة ، والجلال ، ومواكبة الخدم ، والحشم ، والكبار ، لم يكن يستفيد به ضعفاء الناس وصغارهم ، وهم جمهور البشر ، وإذن لفاتت مصلحة الرسالة ، ولم تعد لها فائدة تذكر . ولذلك أجيب المشركون على طلبهم هذا بأن محمداً - r - رسول ، يعني يكفي لدحض شبهتكم هذه أنه رسول ، الذي طلبتموه له من الحشمة والجاه والموكب والمال ، ينافي تبليغ الرسالة في عامة الناس ، بينما هم مقصودون بالرسالة .
فلما ردً على شبهتهم هذه تقدموا خطوة أخرى ، وأخذوا يطالبون بالآيات عناداً وتعجيزاً ، فدار بينهم وبين النبي - r - نقاش وحوار ، وسنأتي على شئ منه إن شاء الله .
أما قضية التوحيد فكانت رأس القضايا وأصل الخلاف ، وكان المشركون يقرون بتوحيد الله – سبحانه وتعالى – في ذاته وصفاته وأفعاله ، فكانوا يعترفون بأن الله – تعالى – هو الخالق الذي خلق السموات والأرض وما بينهما ، وهو خالق كل شئ ، وهو المالك الذي بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما ، وملكوت كل شئ ، وهو الرازق الذي يرزق الناس والدواب والأنعام ، ويرزق كل حي ، وهو المدبر الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، ويدبر أمر كل صغير وكبير حتى الذرة والنملة ، وهو رب السماوات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم ، ورب كل شئ ، سخر الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والجن والإنس والملائكة ، كل له خاضعون ، يجبر من يشاء على من يشاء ولا يجار عليه أبداً ، يحيي ويميت ، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، ولا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه .
وهم بعد هذا الإقرار الصريح لتوحيد الله – سبحانه وتعالى – في ذاته وصفاته وأفعاله كانوا يقولون : إن الله تعالى أعطى بعض عبادة المقربين – كالأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين – شيئاً من التصرف في بعض أمور الكون ، فهم يتصرفون فيه بإذنه مثل : هبة الأولاد ، ودفع الكربات ، وقضاء الحوائج ، وشفاء المرضى ، وأمثال ذلك . وأن الله إنما أعطاهم ذلك لقربهم من الله ، ولجاههم عند الله . فهم لأجل أن الله منحهم هذا التصرف وهذا الخيار يقضون بعض حاجات العباد عن طريق الغيب ، فيكشفون عنهم بعض الكربات ، ويدفعون بعض البليات ، ويقربون إلى الله من يرضون به ، ويشفعون له عنده .
والمشركون على أساس زعمهم هذا جعلوا هؤلاء الأنبياء والأولياء والصالحين وسيلة فيما بينهم وبين الله ، واخترعوا أعمالاً يتقربون بها إليهم ، ويبتغون بها رضاهم ، فكانوا يأتون بتلك الأعمال ثم يتضرعون إليهم ، ويدعونهم لقضاء حوائجهم ، ويستغيثون بهم في شدائدهم ، ويستعيذون بهم في مخاوفهم .
أما ألأعمال التي اخترعوها للتقرب إليهم فهي أنهم خصصوا لهؤلاء الأنبياء أو الأولياء والصالحين أماكن ، وبنوا لهم فيها البيوت ، ووضعوا فيها تماثيلهم التي نحتوها طبق صورهم الحقيقية أو الخيالية ، وربما وجدوا قبور بعض الأولياء والصالحين حسب زعمهم ، فبنوا عليها البيوت دون أن ينحتوا لهم التماثيل ، ثم كانوا يقصدون هذه التماثيل وتلك القبور ، فكانوا يمسحونها ويتبركون بها ، ويطوفون حولها ، ويقومون لها بالإجلال والتعظيم ، ويقدمون إليها النذور والقرابين ، ليتقربوا بها إليهم ، ويبتغوا بها من فضلهم ، وكانوا ينذرون لهم مما كان يرزقهم الله من الحرث والزرع والطعام والشراب والدواب والأنعام والذهب والفضة والمتعة والأموال .
فأما الحرث والزرع والطعام والشراب والذهب والفضة والأمتعة والأموال فكانوا يقدمونها إلى أماكن وقبور هؤلاء الصالحين ، أو إلى تماثيلهم ، بواسطة سدنة وحجاب كانوا يجاورون تلك القبور والبيوت ، ولم يكن يقدم إليها شئ إلا بواسطتهم في معظم الأحوال .
وأما الدواب والأنعام فكان لهم فيها طرق . فربما كانوا يسيبونها باسم هؤلاء الأولياء والصالحين ، من أصحاب القبور أو التماثيل ، تقرباً إليهم وإرضاءً لهم ، فكانوا يقدسون هذه الدواب ، ولا يتعرضون لها بسوء أبداً ، ترتع ما شاءت ، وتتجول أين شاءت . وربما كانوا يذبحونها على أنصاب هؤلاء الأولياءأي على قبورهم وأماكنهم المخصصة لهم – وربما كانوا يذبحونها في أي مكان آخر ، ولكن كانوا يذكرون أسماءهم بدل اسم الله – سبحانه وتعالى – .
وكان من جملة أعمالهم أنهم كانوا يحتفلون بهؤلاء الأولياء والصالحين مرة أو مرتين في السنة ، فكانوا يقصدون قبورهم وأماكنهم من كل جانب ، فيجتمعون عندها في أيام خاصة ، ويقيمون لها أعياداً ، يفعلون فيها كل ما تقدم من التبرك والمسح والطواف وتقديم النذور والقرابين وغير ذلك ، وكان كالموسم يحضره الداني والقاصي ، والشريف والوضيع ، حتى يقدم كل أحد نذره ، وينال بغيته .
كان المشركون يفعلون كل ذلك بهؤلاء الأولياء والصالحين تقرباً إليهم وإرضاءً لهم ، ليجعلوهم وسطاء بينهم وبين الله ، وليتوسلوا بهم إلى الله ، معتقدين إنهم يقربونهم إلى الله زلفى ، ويشفعون لهم عند الله ، ثم كانوا يدعونهم لقضاء حوائجهم ودفع كرباتهم ، معتقدين أنهم يسمعون لما قالوا ، ويستجيبون لما دعوا وطلب منهم ، فيقضون حوائجهم ، ويكشفون كرباتهم ، إما بأنفسهم ، وإما بشفاعتهم لذلك عند الله .
فكان هذا هو شركهم بالله ، وعبادتهم لغير الله ، واتخاذهم آلهة من دون الله ، وجعلهم شركاء لله ، وكان هؤلاء الأولياء والصالحون وأمثالهم هم آلهة المشركين .
فلما قام النبي - r -بالدعوة إلى التوحيد الله ، وخلع كل ما اتخذوه إلهاً من دون الله ، شق ذلك على المشركين ، وأعظموه ، وأنكروه ، وقالوا : إنها مؤامرة أريد بها غير ما يقال ، وقالوا :
} أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ{5} وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ{6} مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ { .
ثم لما تقدمت الدعوة وقرر المشركون الدفاع عن شركهم ، والدخول في النقاش والجدال ومناظرة المسلمين ليكفوا بذلك الدعوة إلى الله ، ويبطلوا أثرها في المسلمين ، أقيمت عليهم الحجة من عدة جوانب ، فقيل لهم : من أين علمتم أن الله تعالى أعطى عباده المقربين التصرف في الكون ، وأنهم يقدرون على ما تزعمون من قضاء الحوائج وكشف الكربات ؟ هل اطلعتم على الغيب ؟
أو وجدتم ذلك في الكتاب ورثتموه من الأنبياء أو أهل العلم ؟
قال – تعالى – :} أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ { [ الطور: 41 القلم : 47 ]
وقال : } اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ { [ الأحقاف 4]
وقال :} قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ { [ الأنعام :148]
وكان من الطبيعي أن يعترف المشركون بأنهم لم يطلعوا على الغيب ، ولا وجدوا ذلك في كتاب من كتب الأنبياء ، ولا أخذوه من أهل العلم ، فقالوا : } بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا {
[ لقمان : 21] و} إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ { [ الزخرف :22 ]
وبهذا الجواب تبين عجزهم وجهلهم معا ، فقيل لهم : إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ، فاسمعوا منه – سبحانه وتعالى – ما يقوله ويخبر به عن حقيقة شركائكم هؤلاء يقول – تعالى - : } إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ { [ الأعراف : 194] أي إنهم لا يقدرون على شئ مما يختص بالله سبحانه وتعالى – كما أنكم لا تقدرون عليه ، فأنتم وهم سواء في العجز وعدم القدرة ، ولذلك تحداهم بقوله : } فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ { [ الأعراف : 194 ]
وقال – تعالى - : } وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ { أي بقدر ما يكون من القشرة الرقيقة فوق النواة } إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ { [ فاطر : 13،14] وقال- تعالى : } وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ{20} أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ {
[ النحل 20،21] وقالتعالى - } أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ{191} وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ { [ الأعراف 191،192] وقال : } وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً { [ الفرقان :3]
ثم رتب على عجز هؤلاء الآلهة ، وعدم قدرتهم على ما كانوا يزعمون ، وأن دعاءهم والرجاء منهم لغو وباطل لا فائدة فيه إطلاقاً ، وذكر لذلك بعض الأمثلة الرائعة ، وذلك مثلاً قال – تعالى - : } وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ { [ الرعد : 14]
ثم دعى المشركين إلى قليل من التفكير ، وحيث إنهم كانوا يعترفون بأن الله – تعالى – هو خالق كل شئ ، وأن آلهتهم لم يخلقوا شيئاً ، ولا يستطيعون أن يخلقوا شيئاً ، بل هم أنفسهم مخلوقون لله ، فقيل لهم : فكيف سويتم بين الله الخالق القادر وبين هؤلاء المخلوقين العجزة ؟ كيف سويتم بينهما في العبادة والدعاء ؟ فإنكم تعبدون الله وتعبدون هؤلاء ، وتدعون الله وتدعون هؤلاء } أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ { .
فلما وجه إليهم هذا السؤال بهتوا ، وذهبت عنهم حجتهم ، فسكتوا وندموا ، ثم تشبثوا بأمر باطل ، قالوا : إن آباءنا كانوا من أعقل البشر ، معروفين بذلك فيما بين الناس ، قد اعترف بفضل عقولهم الداني والقاصي ، وهم كلهم كانوا على هذا الدين ، فكيف يمكن أن يكون هذا الدين ضلالاً وباطلاً ؟ ولا سيما وآباء النبي - r - وآباء المسلمين أيضاً كانوا على هذا الدين .
فرد عليهم بأنهم كانوا مهتدين ، ولم يعرفوا سبيل الحق ، ولا سلكوه ويستلزم هذا أنهم كانوا ضالين ، لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ، وقد قيل لهم بذلك أحياناً بالإشارة والكناية ، وأحيانا بالصراحة الكاملة ، مثل قوله – تعالى - } إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ{69} فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ {
[ الصافات : 69، 70 ]
هذه من جهة ، ومن جهة أخرى أخذ المشركون يخوفون النبي - r - والمسلمين من آلهتهم ، يقولون : إنكم أسأتم الأدب إلى آلهتنا ببيان عجزهم ، فهم سوف يغضبون عليكم ، فتهلككم أبو تخبطكم لأجل ذلك ، وهذا كما كان الأولون يقولون لرسلهم :} إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ { .
ورد على ذلك بتذكير المشركين وإلزامهم بما كانوا يشاهدونه ليلاً ونهاراً ، وهي أن هذه الآلهة لا تستطيع أن تتحرك من أماكنها ، وتتقدم أو تتأخر شيئاً ، أو تدفع عن نفسها شراً ، فكيف تستطيع أن تضر المسلمين وتهلكهم ؟ } أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ { [ الأعراف : 195 ] .
وضرب لهم بمثل هذه المناسبة بعض الأمثال الصريحة ، مثل قولهتعالى - } يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ { [ الحج :73] ومثل قوله – تعالى - } مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ { [ العنكبوت : 41] وقد بين بعض المسلمين عجزهم هذا بقوله :
أرب يبول الثعبان يرأسه لقد ذل من بالت الثعالب
فلما وصلت النوبة إلى مثل هذه المصارحة هاج المشركون وما جوا ، وسبوا المسلمين حتى سبوا ربهم الله – سبحانه وتعالى – فأما المسلمون فقد نهاهم اللهسبحانه وتعالى – عن معاودة ما يسبب ذلك ، وقال : } وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ { .
وأما المشركون فقد قرروا إحباط الدعوة ، والصد عن سبيل الله بالضغط والقوة والعنف ، فقام كل كبير ورئيس بتعذيب من آمن من قبيلته ، وذهب جمع منهم إلى أبي طالب ليكف هو رسول الله - r - عن الدعوة إلى الله .
تعذيب المسلمين :
فأما تعذيبهم المسلمين فقد أتوا فيه بأنواع تقشعر لها الجلود ، وتتفطر منها القلوب .
كان بلال بن رباح - t- مملوكاً لأمية بن خلف الجمحي ، فكان أمية يجعل في عنقه حبلاً ، ويدفعه إلى الصبيان ، يلعبون به ، وهو يقول : أحد أحد . وكان يخرج به في وقت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في الرمضاء ، وهي الرمل أو الحجر الشديد الحرارة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول : لا يزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى ، فيقول أحد ، أحد .
ومر به أبو بكر - t - يوماً وهو يعذب فاشتراه وأعتقه لله .
وكان عامر بن فهيرة يعذب حتى يفقد وعيه ، ولا يدري ما يقول .
وعذب أبو فكيهة – واسمه أفلح ، قيل : كان من الأزر ، وكان مولى لبني عبد الدار ، فكانوا يخرجونه في نصف النهار في حر شديد ، وفي رجليه قيد من حديد ، فيجردونه من الثياب ، ويبطحونه في الرمضاء ، ثم يضعون على ظهره صخرة حتى لا يتحرك ، فكان يبقى كذلك حتى لا يعقل ، فلم يزل يعذب كذلك حتى هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية ، وكانوا مرة قد ربطوا رجليه بحبل ، ثم جروه ، وألقوه في الرمضاء ، وخنقوه حتى ظنوا أنه قد مات ، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه لله .
وكان خباب بن الأرت ممن سبي في الجاهلية ، فاشترته أم أنمار بنت سباع الخزاعية ، وكان حداداً ، فلما أسلم عذبته مولاته بالنار ، كانت تأتي بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهره ليكفر بمحمد - r - فلم يكن يزيده ذلك إلا إيماناً وتسليماً ، وكان المشركون أيضاً يعذبونه ، فيلوون عنقه ، ويجذبون شعره ، وقد ألقوه مراراً على فحم النار . ثم وضعوا على صدره حجراً ثقيلاً حتى لا يقوم .
وكانت زنيرة أمة رومية ، أسلمت ، فعذبت في الله ، وأصيب في بصرها حتى عميت ، فقيل لها : أصابتك اللات والعزى ، فقالت : لا والله ما أصابتني ، وهذا من الله ، وإن شاء كشفه ، فأصبحت من الغد ، وقد رد الله بصرها ، فقالت قريش : هذا بعض سحر محمد .
وأسلمت أم عبيس : جارية لبني زهرة ، فكان يعذبها مولاها الأسود بن عبد يغوث ، وكان من أشد أعداء رسول الله - r - ومن المستهزئين به .
وأسلمت جارية عمرو بنن مؤمل من بني عدي ، فكان عمر بن الخطاب يعذبها ، هو يومئذ على الشرك ، فكان يضربها حتى يفتر ، ثم يدعها ، ويقول : الله ما أدعك إلا سآمة ، فتقول : كذلك يفعل بك ربك .
وتذكر فيمن أسلمن وعذبن من الجواري : النهدية ، وابنتها وكانتا لا مرأة من بني عبد الدار .
واشترى أبوبكر - t - هؤلاء الجواري ، وأعتقهن كما أعتق بلالاً وعامر بن فهيرة ، وأبا فكيهة . وقد عاتبه أبوه أبو قحافة ، وقال : أراك تعتق رقاباً ضعافاً ، فلو أعتقت رجالاً جلداً لمنعوك . فقال :} فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى{14} لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى{15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى { وهو أمية بن خلف ، ومن كان على شاكلته }وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى{17} الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى{18} وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى{19} إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى{20} وَلَسَوْفَ يَرْضَى{21} { وهو أبوبكر الصديق – رضي الله تعالى عنه وعمن أعتقهم ، وعن الصحابة أجمعين - .
وعذب عمار بن ياسر وأمه وأبوه – رضي الله عنهم – وكانوا حلفاء بني مخزوم ، فكان بنو مخزوموعلى رأسهم أبو جهل – يخرجونهم إلى الأبطح ، إذا حميت الرمضاء ، فيعذبونهم بحرها ، ويمر بهم رسول الله - r - فيقول :" صبراً آل ياسر موعدكم الجنة ، اللهم اغفر لآل ياسر "
أما ياسر والد عمار – وهو ياسر بن عامر بن مالك العنسي المذحجي – فقد مات تحت العذاب . وأما أم عمار – وهي سمية بنت خياط مولاة أبي حذيفة المخزومي ، وكانت عجوزاً كبيرة ضعيفة ،- فطعنها أبو جهل في قبلها بحربة ، فماتت ، وهي أول شهيدة في الإسلام .
وأما عمار فثقل عليه لعذاب ، فإن المشركين تارة كانوا يلبسونه درعاً من حديد في يوم صائف ، وتارة كانوا يضعون على صدره صخراً أحمر ثقيلاً ، وتارة كانوا يغطونه في الماء ، حتى قال بلسانه بعض ما يوافقهم ، وقبله ملئ بالإيمان ، فأنزل الله } مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ { .
وعذب في الله مصعب بن عمير ، كان من أنعم الناس عيشاً ، فلما دخل في الإسلام منعته أمه الطعام والشراب ، وأخرجته من البيت ، فتخشف جلده تخشف الحية .
وعذب صهيب بن سنان الرومي ، حتى فقد وعيه ، ولا يدري ما يقول .
وعذب عثمان بن عفان ، كان عمه يلفه في حصير من ورق النخيل ، ثم يدخنه من تحته .
وأوذي أبو بكر الصديق ، وطلحة بن عبيد الله ، أخذهما نوفل بن خويلد العدوي وقيل : عثمان بن عبيد الله ، أخو طلحة بن عبيد الله ، فشدهما في حبل واحد ، ليمنعها عن الصلاة وعن الدين ، فلم يجيباه ، فلم يروعاه إلا وهما مطلقان يصليان ، وسميا بالقرينين لكونهما قد شدا في حبل واحد .
وكان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم وله شرف ومنعة ، أنبه ، وأخزاه ، وأوعده بإلحاق الخسارة الفادحة في المال والجاه ، وإذا كان الرجل ضعيفاً ضربه وأغرى به . والحاصل أنهم لم يعلموا بأحد دخل في الإسلام إلا وتصدوا له بالأذى والنكال .
كانت هذه الاعتداءات ضد الضعفاء المسلمين وعامتهم . أما من أسلم من الكبار والأشراف فإنهم كانوا يحسبون له حساباً ، ولم يكن يجترئ عليهم إلا أمثالهم من رؤساء القبائل وأشرافها ، وذلك مع قدر كبير من الحيطة والحذر .
وقف المشركين من رسول الله - r - :
أما رسول الله - r - فكان له من الشهامة والشرف والوقار ما وقاه الله به كثيراً من اعتداءات الناس . وقد كان يحوطه ويمنعه أبو طالب ، وكان سيداً مطاعاً معظماً في قريش ، ولا يستهان بذمته ولا تخفر ، كان من ذروة بني عبد مناف ، ولم تعرف لها قريش بل العرب إلا الإجلال والتكريم ، فاضطر المشركون بالنسبة للنبي - r - إلى اتخاذ خطوات سليمة ، واختاروا سبيل المفاوضات مع عمه أبي طالب ، ولكن مع نوع من أسلوب القسوة والتحدي .
بين قريش وأبي طالب :
فقد مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب ، وقالوا له :إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكه .
فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً ، وردهم رداً جميلاً ، فانصرفوا عنه ، ومضى رسول الله - r - على ما هو عليه ، يظهر دين الله ويدعو إليه .
إنذار قريش وتحديهم لأبي طالب :
ولم تصبر قريش طويلاً حين رأوا النبي - r - ماضياً في عمله ودعوته إلى الله ، فقد أكثروا ذكره وتذامروا فيه ، ثم مشوا إلى أبي طالب ، وقالوا : يا أبا طالب إن لك سنا ، وشرفاً ، ومنزلة فينا ، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك ، حتى يهلك أحد الفريقين ، ثم انصرفوا .
وعظم على أبي طالب هذا التحدي والإنذار ، فدعا رسول الله - r - وذكر له ما قالوه ، وقال له : أبق علي وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر مالا أطيق ، فلما رأى رسول الله - r - ضعفه قال : يا عم ! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ، حتى يظهره الله أو أهلك فيه ، ما تركته . ثم استعبر وبكى . وعادت إلى أبي طالب الرقة والثقة ، فقال : اذهب يا ابن أخي ! فقل ما أحببت ، فو الله لا أسلمك لشئ أبداً .
اقتراح غريب من قريش ، ورد طريف من أبي طالب :
ورأت قريش أن إنذارهم لم يجد نفعاً ، فالرسول - r - ماض في عمله ، وأبو طالب قائم بنصرته . وهذا يعني أنه مستعد لفراقهم وعداوتهم ومنازلتهم في نصرة ابن أخيه محمد - r فلبثوا ملياً يفكرون ويتشاورون ، حتى وصلوا إلى اقتراح غريب ، فقد جاءوا إلى أبي طالب ، ومعهم عمارة بن الوليد سيد شبابهم وأنهد فتى في قريش وأجمله ، فقالوا : يا أبا طالب خذ هذا الفتى ، فلك عقله ونصره ، واتخذه ولداً ، فهو لك ، وأسلم إلينا أبن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومك ، وسفه أحلامهم ، فنقتله ، فإنما هو رجل برجل .
قال أبو طالب : والله لبئس ما تسومونني ، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم ، وأعطيكم ابني تقتلونه ؟ هذا والله مالا يكون أبداً .
اعتداءات على رسول الله - r- :
ولما فشلت قريش ويئسوا ، ورأوا أن الإنذار والتحدي والمساومة لم تجد نفعاً ، بدأوا بالاعتداءات على ذات الرسول - r - وزادوا في تعذيب المسلمين والتنكيل بهم .
وحيث إن الرسول - r - كان معززاً محتشماً محترماً ، فقد تولى إيذاءه كبراء قريش ورؤساؤهم ، ولم يجترئ على ذلك أذنابهم وعامتهم .
وكان النفر الذين يؤذونه في بيته أبا لهب ، والحكم بن أبي العاص بن أمية ، وعقبة بن أبي معيط ، وعدي بن حمراء الثقفي ، وابن الأصداء الهذلي – وكانوا جيرانه - r - فكان أحدهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي ، وكان يطرحها في برمته إذا نصبت ، وكانوا إذا طرحوا عليه ذلك يخرج به على العود فيقف به على بابه ويقول : يا بني عبد مناف ! أي جوار هذا ؟! ثم يلقيه في الطريق .
وكان أمية بن خلف إذا رآه همزه ولمزه . والهمز : الطعن والشتم علانية ، أو كسر العينين والغمز بهما . واللمز : العيب والإغراء .
وكان أخوه أبي بن خلف يتوعد النبي - r - يقول : يا محمد إن عندي العود ، فرساً أعلفه كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليه . حتى قال له رسول الله - r - : بل أنا أقتلك إن شاء الله – وقد قتله يوم أحد – وجاء أبي بن خلف هذا يوماً بعظم بال رميم ، ونفخه في وجه رسول الله - r - .
وجلس عقبة بن أبي معيط إلى النبي - r - وسمع منه ، فبلغ أبيا – وكان صديقه – فعاتبه ، وطلب منه أن يتفل في وجه رسول الله - r - ففعل .
أما أبو لهب فقد عاداه وآذاه من أول يوم ظهرت فيه الدعوة إلى الله . وكانت في عقد ابنيه عتبة وعتبية ابنتا رسول الله - r - رقية وأم كلثوم ، فقال لهما : رأسي من رأسكما حرام إن لم تطلقا بنتي محمد ، وقالت زوجته أيضاً : طلقاهما فإنهما قد صبأتا ، فطلقاهما .
وكانت زوجته هذه – وهي أم جميل أروى بنت حرب – أيضاً عدوة لدودة لرسول الله - r - ودعوته ، فكانت تأتي بالأغصان وفيها الشوك ، فتطرحها في سبيل رسول الله - r - بالليل ، حتى يعقر هو وأصحابه .
وسمعت بنزول } تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ { - فجاءت وفي يدها فهر – أي مل الكف من الحجارة – وهي تبحث عن رسول الله - r - وهو جالس مع أبي بكر عند الكعبة فأخذ الله ببصرها ، فلم تكن ترى إلا أبا بكر ، فقالت : أين صاحبك ؟ قد بلغني أنه يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ، أما الله أني لشاعرة ثم قالت :
مذمماً عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا
ثم انصرفت ، فقال أبو بكر : يا رسول الله أما تراها رأتك ، فقال : ما رأتني لقد أخذ الله ببصرها .
وكان مما تؤذي به قريش أنهم كانوا يسمون رسول الله - r - مذمما بدل محمد ، يشتمون بذلك ويسبون ، ولكن صرف الله ذلك عنه ، حيث إنهم كانوا يشتمون مذمما وهو محمد
وكان الأخنس بن شريق الثقفي أيضاً ينال من رسول الله - r -
وأما أبو جهل فكأنه كان قد تحمل عبء الصد عن سبيل الله . وقد كان يؤذي النبي - r - بقوله ، وينهاه عن الصلاة ، ويفخر ويختال بما فعل ، حتى شدد على رسول الله - r - وتوعده في يوم رآه يصلي ، فانتهره رسول الله - r - وأخذه بخناقه ، وهزه قال :} أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى { فقال : أتوعدني يا محمد ! والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئاً . وإني لأعز من مشى بين جبليها .
وقال لرفقته يوماً : يعفر محمد وجه بين أيديكم ، قالوا : نعم . فقال : واللات والعزى لئن رأيته لأطأن على رقبته ، ولأعفرن وجهه . فأتى رسول الله - r - وهو يصلي زعم ليطأ رقبته فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ، ويتقى بيديه ، فقالوا : مالك يا أبا الحكم ؟ قال : إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة ، فقال رسول الله - r - : لو دنا مني لا ختطفته الملائكة عضواًَ عضوا .
وحاز مثل هذه الشقاوة عقبة بن أبي معيط ، فقد كان رسول الله - r - يصلي يوماً عند البيت ، وأبو جهل وأصحاب له جلوس ، إذ قال بعضهم لبعض : أيكم يجئ بسلا جزور بني فلان . فيضعه على ظهر محمد إذا سجد . فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط ، فجاء به وانتظر ، فلما سجد وضعه بين كتفيه ، فجعلوا يضحكون ، ويحيل ( أي يميل ) بعضهم على بعض ، وهو ساجد لا يرفع رأسه ، حتى جاءته فاطمة وطرحته عن ظهره ، فرفع رأسه ، ثم قال :" اللهم عليك بقريش ". فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم ، وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة ، ثم سماهم رجلاً رجلاً :" اللهم عليك بفلان وفلان ". وقد قتلوا كلهم يوم بدر .
وكان عظماء المستهزئين برسول الله - r - خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، وأبو زمعة الأسود بن عبد المطلب الأسدي ، والحارث بن قيس الخزاعي ، والعاص بن وائل السهمي ، وقد أخبر الله رسوله - r - أنه سيكفي شرهم فقال :} إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ { ثم أنزل على كل منهم ما فيه عبرة وعظة .
فأما الوليد فكان قد أصابه قبل سنين خدش من سهم ، ولم يكن شيئاً ، فأشار جبريل إلى أثر ذلك الخدش فانتفض ، فلم يزل يؤلمه ويؤذيه حتى مات بعد سنين .
وأما الأسود بن عبد يغوث فأشار جبريل إلى رأسه ، فخرج فيه قروح ، فمات منها ، وقيل : أصابه سموم ، قيل : أشار جبريل إلى بطنه ، فاستسقى بطنه ، وانتفخ ، حتى مات .
وأما الأسود بن عبد المطلب فلما تضايق رسول الله - r - من أذاه دعا عليه ، وقال :" اللهم أعم بصره ، وأثكله ولده " فرماه جبريل بشوك في وجهه حتى ذهب بصره . رومي ولده زمعة حتى مات .
وأما العاص بن وائل ، فجلس على شبرقة ، فدخلت شوكة لها من أخمص قدمه ، وجرى سمها إلى رأسه حتى مات .
هذه صورة مصغرة لما كان يعانيه رسول الله - r - والمسلمون من قريش بعد إعلان الدعوة والجهر بها . وقد اتخذ رسول الله خطوتين إزاء هذا الموقف المتأزم .
دار الأرقم :
الأولى : أنه جعل دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي مركز الدعوة والعبادة ومقر التربية ، لأنها كانت في أصل الصفا ، بعيدة عن أعين الطغاة ، فكان يجتمع فيها مع صاحبته سراً ، فيتلو عليهم آيات الله ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة : وبهذا التدبير وقى أصحابة كثيراً من الإحداث التي كان يخشى وقوعها لو اجتمع بهم جهراً وعلانية ، أما هو - r - فكان يدعو الله ويدعو إليه جهراً بين ظهراني المشركين ، لا يصرفه عن ذلك ظلم ، ولا عدوان ، ولا سخرية ، ولا استهزاء ، وكان ذلك من حكمة الله حتى تبلغ ، ولئلا يقول قائل يوم القيامة : ما جاءنا من بشير ولا نذير .
الهجرة إلى الحبشة :
الخطوة الثانية : أنه - r - أشار على المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة ، بعد أن تأكد أن النجاشي ملك عادل لا يظلم عنده أحد .
وفي رجب سنة 5 من النبوة هاجر أول دفعة من المسلمين ، وكانوا اثني عشر رجلاً وأربع نسوة ، رئيسهم عثمان بن عفان الأموي - t - ومعه زوجه رقية بنت رسول الله - r - وهما أول بيت هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام .
خرج هؤلاء الصحابة سراً في ظلام الليل قاصدين ميناء شعيبة جنوب جدة ، وكان من قدر الله أنهم وجدوا سفينتين تجاريتين فركبوهما حتى وصلوا إلى الحبشة .
أما قريش فلما علموا بخروجهم هاجوا وغضبوا ، وأسرعوا في آثارهم حتى يلقوا عليهم القبض ، ويردوهم إلى مكة ، ليواصلوا التنكيل والتعذيب ، ويصرفوهم عن دين الله ، ولكن المسلمين فاتوهم إلى البحر ، فرجعوا خائبين بعدما وصلوا إلى الساحل .
موافقة المشركين للمسلمين وسجودهم في سورة النجم :
وفي رمضان سنة خمس من النبوة أي بعد الهجرة المسلمين بحوالي شهرين خرج رسول الله - r - إلى المسجد الحرام ، وحول الكعبة جمع كبير من قريش ، فيهم ساداتهم وكبراؤهم ، وكانت قد نزلت عليه سورة النجم ، فقام فيهم ، وأخذ يتلوها فجاءة ، وكان أروع كلام سمعوه قط ، فاندهشوا لروعة هذا الكلام ، وأخذ منهم كل مأخذ ، فبقوا يستمعون إليه مبهوتين ساكتين ، حتى إذا تلا في خواتم السورة زواجر وقوارع طارت لها القلوب ، وتلا في الأخير } فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا { . وخر ساجداً سجد الجميع ، ولم يملكوا أنفسهم .
روى البخاري عن ابن مسعود - t - أن النبي - r - قرأ سورة النجم ، فسجد بها ، فما بقي أحد من القوم إلا سجد ، فأخذ رجل من القوم كفا من حصى أو تراب ، فرفعه إلى وجهه ، قال : يكفيني هذا . فلقد رأيته بعد قتل كافراً – وهو أمية بن خلف قتل يوم بدر - .
عودة المهاجرين إلى مكة :
وصل هذا الخبر إلى الحبشة ، ولكن في صورة تختلف عن الواقع ، فقد بلغهم أن قريشاً أسلموا ، فرجعوا فرحين مستبشرين إلى مكة ، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار عرفوا جلية الأمر ، فمنهم من رجع إلى الحبشة ، ومنهم من دخل مكة سراً أو في جوار أحد من قريش .
الهجرة الثانية إلى الحبشة :
واشتد البلاء والعذاب على المسلمين من قريش ندماً على ما فرط منهم من السجود مع المسلمين ، وانتقاماً لما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره للمهاجرين ، ونظراً إلى هذه الظروف القاسية أشار رسول الله - r - على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى . فهاجر اثنان أو ثلاثة وثمانون رجلاً وثمان عشرة امرأة ، وكانت هذه الهجرة الثانية أشق من الأولى ، لأن قريشاً كانوا متيقظين يتابعون حركات المسلمين ، إلا أن المسلمين كانوا أكثر منهم تيقظاً ، وأحسن منهم حكمة ، وأحكم منهم خطوة ، فقد فاتوهم إلى الحبشة رغم كل الجهود .
مكيدة قريش بمهاجري الحبشة :
شق على المشركون أن أفلت منهم المسلمون ، ووصلوا إلى مأمن يأمنون فيه على أنفسهم وإيمانهم ، فأرسلوا رجلين من دهاتهم ليسترداهم إلى مكة ، وهما : عمرو بن العاص ، وعبد الله بن ربيعة ، وكانا إذ ذاك على الشرك .
ونزل الرجلان بالحبشة تحت خطة مدبرة ، فاتصلا أولاً بالبطارقة ، وساقا إليهم الهدايا ، وذكرا لهم الهدف ، ولقناهم الحجة ، حتى وافقوهما ، ثم حضرا إلى النجاشي ، فقدما إليه الهدايا ، ثم كلماه ، فقالا :
أيها الملك :إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء فارقوا دينهم ، ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين ابتدعوه ، لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم ، فهم أعلى بهم عيناً ، وأعلم بما عابوا عليهم ، وعاتبوهم فيه
وأيدهما البطارقة فيما قالاه حسب الخطة .
ولكن النجاشي احتاط في الأمر . ورأى أن يسمع القضية من الطرفين حتى يتضح له الحق . فدعا المسلمين ، وسألهم : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل ؟
فتكلم جعفر بن أبي طالب عن المسلمين ، وقال : أيها الملك : كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسئ الجوار ، ويأكل منا قوي الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه . فدعانا إلى الله لنوحده ، ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان : وأمرنا بصدق لحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده ، لا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيامفعدد عليه أمور الإسلام – فصدقناه وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به دين الله ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به شيئاً ، وحرمنا ما حرم الله علينا ، وأحللنا ما أحل لنا . فعدا علينا قومنا ، فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان عن عبادة الله تعالى ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا ، وظلمونا ، وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك ، أيها الملك !
فلما سمع النجاشي هذا ، الطلب من جعفر قراءة شئ من القرآن ، فقرأ عليه صدراً من كهعيص – سورة مريم – فبكى النجاشي حتى اخضلت – أي ابتلت – لحيته ، وبكى الأساقفة حتى أخضلوا – أي بلوا – مصاحفهم ، ثم قال النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة .
ثم خاطب مندوبي قريش وقال : انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ، ولا يُكادون ، فخرجا .
وفي اليوم الثاني احتال عمرو بن العاص حلية أخرى ، فقال للنجاشي : إنهم – أي المسلمين – يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً .
فدعاهم النجاشي وسألهم عن ذلك ، فقال جعفر : نقول فيه الذي جاءنا به النبي - r - : هو عبدالله ورسوله ، وروحه ، وكلمته ، ألقاها إلى مريم العذراء البتول .
فأخذ النجاشي عوداً من الأرض ، ثم قال : والله ماعدا – أي ما جاوز – عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود . اذهبوا فأنتم شيوم – أي آمنون – بأرضي ، من سبكم غرم ، من سبكم غرم ، من سبكم غرم . ما أحب أن لي دبراً – أي جبلاً – من ذهب ، وأني آذيت رجلاً منكم .
ثم أمر برد الهدايا على مندوبي قريش فخرجا مقبوحين ، وأقام المسلمون بخير دار مع خير جار .
حيرة المشركين :
لما منى المشركون بالخيبة والفشل في استرداد المسلمين من الحبشة استشاطوا غضباً ، وكادوا يتميزون غيظاً ، وينقضون على بقية المسلمين بطشاً ، ولا سيما وقد كانوا يرون أن النبي - r- ماض في دعوته ، ولكنهم رأوا أن أبا طالب قائم بنصرته رغم التهديد والوعيد الشديد ، فاحتاروا في أمرهم ، ولم يدروا ماذا يفعلون ؟ فربما غلبت عليهم الضراوة ، فعادوا إلى التعذيب والتنكيل بالنبي - r - وبمن بقي معه من المسلمين ، وربما فتحوا باب النقاش والجدال ، وربما عرضوا الرغائب والمغريات ، وربما حاولوا المساومة واللقاء في منتصف الطريق ، وربما فكروا في قتل النبي - r - والقضاء على دعوة الإسلام . إلا أن شيئاً من ذلك لم يجد لهم نفعاً ، ولم يوصلهم إلى المراد ، بل كانت نتيجة جهودهم الخيبة والخسران ، وفيما يلي نقدم صورة مصغرة لكل من ذلك .
التعذيب ومحاولة القتل :
كان من الطبيعي أن يعود المشركون إلى ضراوتهم بعد الفشل ، وفعلاً عادوا إلى الشدة والبطش بالبقية الباقية من المسلمين ، بل مدوا أيديهم إلى رسول الله - r -
فمن ذلك أن عتيبة بن أبي لهب أتى النبي - r - وقال : هو يكفر بالذي } ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى{8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى { ثم تسلط عليه بالأذى ، وشق قميصه ، وتفل في وجهه - r - إلا أن البزاق رجع على عتيبة فقال رسول الله - r - : اللهم أرسل كلباً من كلابك ، فخرج عتيبة في ركب إلى الشام ، فلما نزلوا في الطريق طاف بهم الأسد ، فقال : هو آكلي الله ، كم دعى محمد علي ، قتلني وهو بمكة وأنا بالشام ، فلما ناموا جعلوه في وسطهم ، ولكن جاء الأسد وأخذه برأسه من بين الإبل والناس ، وقتله .
ومن ذلك أن عقبة بن أبي معيط وطئ برجله على رقبة النبي - r - وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان .
ويؤخذ في سياق الحوادث أن المشركين بعد فشلهم في شتى محاولاتهم لكف الدعوة أخذوا يفكرون بجد في قتل النبي - r - ولو أدى ذلك إلى سفك الدماء .
ومما يدل على ذلك أن أبا جهل قال يوما لقريش : أن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وشتم آلهتنا ، وإني أعاهد الله لأجلسن له بحجر ما أطيق حمله ، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه ، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني ، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم ، قالوا : والله لا نسلمك لشي أبداً ، فامض لما تريد .
فلما أصبح أبو جهل أخذ حجراً كما وصف ، وجاء رسول الله - r - فقام يصلي ، وغدت قريش في أنديتهم ينتظرون ما يفعله أبو جهل ، وأقبل أبو جهل حتى دنا ، ثم رجع منهزماً ، منتقعاً لونه ، مرعوباً ، قد يبست يداه على حجره ، حتى قذفه من يده . فقالت له قريش : مالك يا أبا الحكم ؟ قال : قمت لأفعل ما قلت البارحة ، فعرض لي فحل من الإبل ما رأيت مثل هامته وقصرته وأنيابه لفحل قط ، فهم بي أن يأكلني .
قال رسول الله - r - :" ذاك جبريل لو دنا لأخذه " .
ثم حدث ما هو أشد من ذلك وأنكى ، وذلك أن قريشاً اجتمعوا يوماً في الحطيم ، وتكلموا في رسول الله - r - فبينا هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله - r - وبدأ يطوف بالبيت ، فلما مر بهم غمزوه ، فعرف ذلك وجهه ، ثم مر بهم الثانية ، فغمزوه بمثلها ، فعرف ذلك في وجهه ، ثم مر بهم الثالثة ، فغمزوه بمثلها ، فوقف ، ثم قال : أتسمعون يا معشر قريش : أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ، فأخذت القوم كلمته ، كأن على رؤوسهم طائراً وقع ، حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد .
فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره ، إذ طلع عليهم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، فأخذوا بمجامع ردائه ، وقالوا : أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباءنا ؟ قال : أنا ذاك ، فانقضوا عليه ، هذا يحثه ، وهذا يبلبله ، وأقبل عقبة بن أبي معيط فلوي ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقاً شديداً ، وأتى الصريخ إلى أبي بكر : أدرك صاحبك ، فجاء وأخذ بمكنبي عقبة ودفعة عن النبي - r - وأخذ يضرب هذا ، ويجاهد هذا ، وهو يقول : ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ، فانصرفوا عن رسول الله - r - إلى أبي بكر ، وضربوه ضرباً لا يعرف وجهه من أنفه ، وكانت له أربع غدائر فما يمسون منها شيئاً إلا رجع ، فحملته بنو تيم في ثوب وأدخلوه منزله ، ولا يشكون في موته ، فتكلم آخر النهار ، فسأل عن رسول الله - r - فلاموه ، وخرجوا من عنده ، وعرض عليه الطعام والشراب فأبى أن يأكل أو يشرب حتى يرى رسول الله - r - فلما هدأ الليل وسكن الناس أوصلوه إلى رسول الله - r- وهو في دار الأرقم ، فلما وجده بخير ساغ له الطعام والشراب .
وقد خرج أبوبكر - t - يريد الهجرة إلى الحبشة بعدما اشتد عليه الأذى تضايقت عليه سبل الحياة ، ولما بلغ برك الغماد لكيه مالك بن الدغنة سيد القارة والأحابيش[1][1] فسأله عن قصده ، فأخبره ، فقال : مثلك يا أبا بكر لا يخرج ، إنك تكسب المعدوم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فأنا لك جار ، فارجع واعبد ربك ببلدك ، ثم رجعا إلى مكة ، وأعلن ابن الدغنة في قريش عن جواره لأبي بكر ، فلم ينكروا عليه ، ولكن قالوا له : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ولا يستعلن ، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا وضعفتنا ، فلبث أبو بكر بذلك فترة ، ثم بنى مسجداً بفناء داره ، واستعلن بصلاته وقراءته ، فذكره ابن الدغنة بجواره . فرد عليه أبو بكر جواره ، وقال : أرضى بجوار الله .
وكان رجلاً بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن ، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم ، وهم يعجبون منه ، وينظرون إليه ، فكان المشركون يؤذونه لأجل ذلك .
وأثناء هذه الظروف القاسية التي كان يمر بها رسول الله - r - والمسلمون حدث ما أفضى إلى إسلام بطلين جليلين من أبطال قريش طالما استراح المسلمون تحت ظل قوتهما ، وهما : حمزة بن عبد المطلب عم الرسول الله - r - وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما
إسلام حمزة رضي الله عنه :
أما إسلام حمزة فسببه أن أبا جهل مر يوماً برسول الله - r - وهو عند الصفا ، فنال منه وآذاه ، ويقال إنه ضرب بحجر في رأسه - r - فشجه ، ونزف منه الدم ، ثم انصرف إلى نادي قريش عند الكعبة ، وجلس معهم ، وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان تنظر ما حدث من مسكن لها على الصفا ، وبعد قليل أقبل حمزة من الصيد متوحشاً قوسه ، فأخبرته الخبر ، فخرج حمزة يسعى حتى قام على أبي جهل ، وقال : يا مصفر استه ! تشتم ابن أخي ، وأنا على دينه ، ثم ضربه بالقوس ، فشجه شجه منكرة ، وثار لحيان : بنو مخزوم وبنو هاشم ، فقال أبو جهل : دعو أبا عمارة – أي حمزة – فإني سببت ابن أخيه سباً قبيحاً .
وكان إسلام حمزة أنفة ، كأن اللسان قد سبق إليه دون قصد ، ثم شرح الله صدره للإسلام ، وكان أعز فتى في قريش ، وأقواهم شكيمة ، حتى سمي أسد الله ، أسلم في ذي الحجة سنة ست من النبوة .
إسلام عمر رضي الله عنه :
بعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة أسلم عمر بن لخطاب - t - وكان من أشد الناس قسوة على المسلمين قبل إسلامه ، وفي ليلة سمع سراً بعض آيات القرآن ، ورسول الله - r - يصلي عند الكعبة ، فوقع في قلبه أنه حق ، ولكنه بقي على عناده ، حتى خرج يوماً متوشحاً سيفه يريد أن يقتل النبي - r - فلقيه رجل ، فقال : أين تعمد يا عمر ! قال : أريد أن أقتل محمداً . قال : كيف تأمن من بني هاشم ومن بني زهرة ، وقد قتلت محمداً ؟ قال عمر : ما أراك إلا قد صبوت ؟ قال : أفلا أدلك على العجب يا عمر ؟ إن أختك وختنك قد صبوا ، فمشى مغضباً حتى أتاهما ، وعندهما خباب بن الأرت يقرئهما صحيفة فيها طه ، فلما سمع حس عمر توارى في البيت ، وسترت أخت عمر الصحيفة ، فلما دخل ، قال : ما هذه صبوتما ؟ فقال له ختنه : يا عمر ! أرأيت إن كان الحق في غير دينك ؟ فوثب عمر على ختنه ، فوطئه وطأ شديداً ، فجاءت أخته فرفعته عن زوجها ، فنفحها نفحة بيده فدمى وجهها ، فقالت وهي غضبى : يا عمر إن كان الحق في غير دينك . أشهد أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله .
ويئس عمر وندم واستحي ، قال : أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه . فقالت أخته : إنك رجس ، ولا يمسه إلا المطهرون ، فقم فاغتسل ، فقام فاغتسل ، فقام فاغتسل ثم أخذ الكتاب فقرأه : } بسم الله الرحمن الرحيم { فقال : أسماء طيبة طاهرة ، ثم قرأ طه حتى انتهى إلى قوله تعالى : } إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي { فقال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه ؟ دلوني على محمد .
وخرج خباب فقال : أبشر يا عمر ! فإني أرجوا أن تكون دعوة الرسول الله - r - لك يوم الخميس – وكان قد دعا النبي - r- تلك الليلة : اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك ، بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام – ثم ذكر له خباب أن رسول الله - r - في دار الأرقم التي في أصل الصفا .
فخرج عمر حتى أتى الدار وضرب الباب ، فأطل رجل من صرير الباب فرآه متوحشاً السيف ، فأخبر رسول الله - r - واستجمع القوم ، فقال حمزة : مالكم ؟ قالوا : عمر . فقال : وعمر ، افتحوا له الباب ، فإن يريد الخير بذلناه له ، وإن كان جاء يريد شراً قتلناه سيفه . ورسول الله - r - داخل يوحى إليه ، ثم خرج فأخذ بمجامع ثوب عمر وحمائل سيفه – وهو في الحجرةفجبذه بشدة ، وقال : أما تنتهي يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما نزل بالوليد بن المغيرة ؟ ثم قال : اللهم هذا عمر بن الخطاب ، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب . فقال عمر : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد
ردة فعل المشركين على إسلام عمر :
كان عمر - t - ذا شكيمة لا يرام ، فلما أسلم ذهب إلى أشد قريش عداوة لرسول الله - r - وإيذاء للمسلمين ، وهو أبو جهل ، فدق بابه ، فخرج ، وقال : أهلاً وسهلاً ما جاء بك ؟ قال : جئتك لأخبرك أني آمنت بالله ورسوله محمد ، فأغلق الباب في وجهه ، وقال : قبحك الله ، وقبح ما جئت به . وذهب عمر إلى خاله العاصي بن هشام فأعلمه فدخل البيت .
وذهب إلى جميل بن معمر الجمحي وكان أنقل قريش لحديث –فأخبره أنه أسلم ، فنادى جميل بأعلى صوته أن ابن الخطاب قد صبأ ، فقال عمر : كذب ، ولكني قد أسلمت ، فثاروا إليه ، فلما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم .
ولما رجع إلى بيته اجتمعوا وزحفوا إليه ، يريدون قتله ، حتى سال بهم الوادي كثرة ، وجاء العاص بن وائل السهمي – من بني سهم ، وكانوا حلفاء بني عدي قوم عمر – وعليه حلة حبرة ، وقميص مكفوف بحرير ، فقال : مالك ؟ قال : زعم قومك أنهم سيقتلونني أن أسلمت ، قال : لا سبيل إليك ، ثم خرج فوجد الناس قد سال بهم الوادي ، فقال : أين تريدون ؟ قالوا هذا ابن الخطاب قد صبأ ، قال : لا سبيل إليه فرجعوا .
عزة الإسلام والمسلمين بإسلام عمر :
أما المسلمون فقد وجدوا عزة وقوة كبيرة بإسلام عمر، فقد كانوا قبل ذلك يصلون سراً ، فلما أسلم عمر قال : يا رسول الله ألسنا على الحق وإن متنا وإن حيينا ؟ قال : بلى . قال : فيم الاختفاء ؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن ، فخرجوا به في صفين ، حمزة في أحدهما وعمر في الآخر ، لهم كديد ككديد الطحين ، حتى دخلوا المسجد الحرام ، فلما نظرت إليهما قريش أصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها ، ولذلك سمى الفاروق .
قال بن مسعود : ما ذلنا أعزة منذ أسلم عمر ، وقال ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر .
وقال صهيب : لما أسلم عمر ظهر الإسلام ، ودعي إليه علانية ، وجلسنا حول البيت حلقاً ، وطفنا بالبيت ، وانتصفنا ممن غلط علينا ، ورددنا عليه بعض ما يأتي به .
عرض الرغائب والمغريات :
ولما رأى المشركون قوة المسلمين وشوكتهم بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما اجتمعوا لشورى بينهم . وليفكروا في أنسب خطوة يقومون بها في أمر رسول الله - r - والمسلمين . فقال لهم عتبة بن ربيعة العبشمي – من بني عبد شمس بن عبد مناف ، وكان سيداً مطاعاً في قومه – يا معشر قريش ! ألا أقوم لمحمد فأكلمه ، وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكف عنا ؟ فقالوا : بلى يا أبا الوليد ! فقم إليه فكلمه . فذهب إلى رسول الله - r - وهو جالس في المسجد وحده . فقال : يا ابن أخي ! إنك من حيث قد علمت ، من خيارنا حسباً ونسباً ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت أحلامهم ، وعبت آلهتهم ودينهم ، وكفرت من مضى من أبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها .
فقال عليه الصلاة والسلام : " قل يا أبا الوليد أسمع " .
فقال : يا ابن أخي ! إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك . وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً . وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً من الجن لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا ، حتى نبرئك منه . فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه .
فقال عليه الصلاة السلام : " أو قد فرغت يا أبا الوليد " !
قال : نعم .
قال : " فاسمع مني " .
قال : أفعل .
فقرأ رسول الله - r - :} بسم الله الرحمن الرحيم حم{1} تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ{2} كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ{3} بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ{4} وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ{5} { .
ومضى رسول الله - r - يقرؤها عليه ، وهو يستمع منه ، وقد ألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما ، فلما بلغ رسول الله - r - إلى قوله تعالى : } فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ { . وضع عتبة يده على فم رسول الله - r - وناشد الله والرحم مخافة أن يقع في ذلك ، وقال : حسبك .
ولما انتهى رسول الله - r - إلى السجدة سجد ، ثم قال :" سمعت يا أبا الوليد " ؟
قال : سمعت .
قال : " فأنت وذاك " .
فقام عتبة إلى أصحابة ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟
قال : ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط . والله ماهو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة . يا معشر قريش ! أطيعوني واجعلوا لي . وخلوا بين هذا الرجل وبين ماهو فيه ، فاعتزلوه . فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به .
قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد .
قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم .
مساومات وتنازلات :
ولما فشل المشركون في هذا الإغراء والترغيب ، فكروا في المساومة في الدين ، فقالوا له : - r - نعرض عليك خصلة واحدة لك فيها صلاح .
قال : " وما هي " ؟
قالوا : تعبد آلهتنا سنة . ونعبد إلهك سنة ، فإن كنا على الحق أخذت حظاً ، وإن كنت على الحق أخذنا منه حظاً ، فأنزل الله – تعالى - } قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ{1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ { إلى آخر السورة ، وأنزل :} قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ { [ 39-64] وأنزل أيضاً :
} قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ { .
وكان المشركون حريصين على حسم الخلاف ، آملين ما رجاه عتبة بن ربيعة ، فأبدوا مزيداً من التنازل ، ومالوا إلى قبول ما يعرضه رسول الله - r - ولكن اشترطوا بعض التعديل والتبديل فيما أوحي إليه ، فقالوا : } ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ { فأمره الله تعالى :} قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {
[ 10-15] ونبهه الله على عظم هذا ، فقال وهو يذكر بعض ما دار في الخلد النبي - r - من الخواطر حول ذلك : } وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً{73} وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً{74} إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً { [17:73:75]
وبهذه المواقف الصارمة تبين للمشركين أن النبي -r - قائم بالدعوة إلى الدين ، وليس بتاجر حتى يقبل المساومة أو التنازل في الثمن ، فأرادوا التأكد من ذلك عن طريق أخرى . فأرسلوا إلى يهود يسألونهم عن أمر النبي -r- فقالت لهم أحبار اليهود : سلوه عن ثلاث ، فإن أخبر فهو نبي مرسل ، وإلا فهو متقول . سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان أمرهم ؟ فإن لهم حدثياً عجبا ، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ؟ وسلوه عن الروح ما هي ؟
فسألت عظماء قريش رسول الله -r - عن ذلك . فنزلت سورة الكهف فيها قصة أولئك الفتية ، وهم أصحاب الكهف . وقصة ذلك الرجل الطواف ، وهو ذو القرنين .
ونزل في سورة الإسراء الرد على سؤالهم عن الروح ، وهو قوله تعالى :} وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً { [17:85]
وكان هذا الاختبار يكتفي لاقتناع قريش بأن محمداً -r- رسول حقاً ، لو أرادوا الحق ، ولكن أبي الظالمون إلا كفوراً .
وكأنهم لما اتضحت لهم الحقائق ، وتبين لهم الحق ، أبدوا بعض المرونة ، فقد أبدوا استعدادهم لاستماع ما يقوله النبي - r - علهم يستجيبون ويقبلون ، ولكن اشترطوا أن يخصص لهم مجلس لا يحضره ضعفاء المسلمين . وهم العبيد والمساكين الذين سبقوا إلى الإسلام ، وذلك لأن هؤلاء الكفار الذين طالبوا بذلك كانوا سادات مكة وأشرافها ، فأبوا واستنكفوا أن يجلسوا مع هؤلاء المساكين الذين كانوا أصحاب الإيمان والتقوى .
وكأن النبي - r - رغب في استجابة مطلبهم هذا بعض الرغبة رجاء أن يؤمنوا به ، فنهاه الله عن ذلك ، وأنزل قوله } وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ { [ 6:52]
الاستعجال بالعذاب :
ربما كان النبي -r- أوعد المشركين بعذاب الله إن استمروا على مخالفته ، - كما سبق – فلما أبطأ العذاب طفقوا يستعجلون به على سبيل السخرية والعناد ، وتظاهروا بأن هذا الوعيد لم يؤثر فيهم ، ولن يتحقق أبداً ، فأنزل الله في ذلك آيات ، منها قوله تعالى :
} وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ {
[ 22:47] ومنها قوله تعالى } يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ { [ 29: 54] ومنها قوله تعالى :} أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ{45} أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ{46} أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ { . [ 16: 45: 47] وغير ذلك من الآيات .
وكان من جملة مجادلة المشركين أنهم كانوا يطالبون بالآيات من المعجزات خوارق العادات عناداً وتعجيزاً ، فأنزل الله في ذلك ما بين به سنته ، وقطع به حجتهم . وسنمر على شئ من ذلك في الفصول القادمة إن شاء الله .
تلكم هي المحاولات التي واجه بها المشركون رسالة محمد -r- ودعوته ، وقد مارسوها كلها جنباً إلى جنب متنقلين من طور إلى طور ، ومن دور إلى دور . فمن شدة إلى لين ، ومن لين إلى شدة ، ومن جدال إلى مساومة ، ومن مساومة إلى جدال ، ومن هجوم إلى ترغيب ، ومن ترغيب إلى هجوم ، كانوا يثيرون ثم يخورون ، يجادلون ثم يجاملون ، ينازلون ثم يتنازلون ، يوعدون ثم يرغبون ، كأنهم يتقدمون ويتأخرون ، لا يقر لهم قرار ، ولا يعجبهم الفرار . وكان عرضهم من كل ذلك كف دعوة الإسلام ولم شعث الكفر ، لكنهم بعد ذلك بذل مل الجهود عادوا خائبين خاسرين ، ولم يبق أمامهم إلا خيار واحد ، وهو السيف ، والسيف لا يزيد الفرقة إلا شدة ، ولا يفضي إلا إلى تناحر لعله يستأصل شأفتهم ، فاحتاروا ماذا يفعلون .
أما أبو طالب فانه لما واجه مطالبتهم بتسليم النبي -r- إليهم ليقتلوه ، ثم رأي في تحركاتهم وتصرفاتهم ما يؤكد أنهم يريدون قتله – مثل ما فعله أبو جهل ، وعقبة بن أبي معيط ، وعمر بن الخطابجمع بني هاشم وبني المطلب ودعاهم إلى القيام بحفظ النبي - r - فأجابوه إلى ذلك كلهم مسلمهم وكافرهم ، وتعاقدوا وتعاهدوا عليه عند الكعبة . إلا أبو لهب ، فإنه فراقهم ، وكان مع قريش
المقاطعة العامة وفرض الحصار :
زادت حيرة المشركين إذ نفدت بهم الحيل ، ووجدوا بني هاشم وبني المطلب مصممين على حفظ النبي - r - والقيام دونه كائناً ما كان ، فاجتمعوا في خيف بني كنانة ليدرسوا الموقف الراهن ، ويقضوا فيه ، فاستشاروا ثم استشاروا حتى وصلوا إلى حل غاشم تحالفوا عليه . وهو أنهم لا يناكحون بني هاشم وبني المطلب ، ولا يبايعونهم ، ولا يجالسونهم ، ولا يخالطونهم ، ولا يدخلون في بيوتهم ، ولا يكلمونهم ، ولا يقبلون منهم صلحاً أبداً ، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا إليهم رسول الله -r- للقتل .
تحالفوا على هذا القرار ، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في جوف الكعبة وكان الذي كتبها بغيض بن عامر بن هاشم ، فدعا عليه رسول الله - r- فشلت يده أو بعض أصابعه .
وانحاز بعد ذلك بنو هاشم وبنو المطلب في شعب أبي طالب ، سواء في ذلك مسلمهم وكافرهمإلا أبا لهب – وقطعت عنهم الميرة والمادة . ومنع التجار من مبايعتهم ، فجهد القوم حتى أكلوا أوراق الشجر ، والجلود ، وواصلوا الضر والفاقة ، حتى سمعت أصوات النساء والصبيان يتضاغون جوعاً . ولم يكن يصل إليهم شئ إلا سراً ، فكان حكيم بن حازم ربما يحمل قمحاً إلى عمته خديجة – رضي الله عنها – أما هم فكانوا لا يخرجون من الشعب إلا في الأشهر الحرم ، فكانوا يشترون من العير التي تأتي من الخارج ، إلا أن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في الثمن حتى لا يستطيعوا الشراء
وكان رسول الله - r - على رغم كل ذلك مستمراً في دعوته إلى الله ولا سيما في أيام الحج حينما كانت القبائل العربية تفد إلى مكة من كل صوب .
نقض الصحيفة وفك الحصار :
وبعد نحو ثلاث سنوات قدر الله أن ينتهي هذا العدوان ، فألقى في قلوب خمسة من أشراف قريش أن يقوموا بنقض الصحيفة وفك الحصار ، وأرسل الأرضة ، فأكلت كل ما في الصحيفة من القطيعة والجوار ، ولم تترك إلا ذكر الله – سبحانه وتعالى – .
فأما أشراف قريش الخمسة فأولهم : هشام بن عمرو بن الحارث من بني عامر بن لؤي ، ذهب هذا الرجل إلى زهير أبن أبي أمية المخزومي – وهو ابن عاتكة عمة النبي - r - ثم إلى المطعم بن عدي . ثم إلى أبي البختري بن هشام ثم إلى زمعة بن الأسود . فذكر كل واحد منهم بالقرابة والرحم ، ولا مهم على قبول الجور ، وحضهم على نقد الصحيفة . فاجتمعوا عند خطم الحجون ، واتفقوا على خطة يقومون بها لنقض الصحيفة .
وصباحاً حين قامت أندية قريش في المسجد الحرام جاء زهير وعليه حلة ، فطاف بالبيت ، ثم أقبل على الناس فقال : يا أهل مكة ! نحن نأكل الطعام ، ونلبس الثياب ، وبنو هاشم وبنو المطلب هلكي ، لا يبيعون ولا يبتاعون ، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة .
فقال أبو جهل : كذبت ، والله لا تشق .
فقال زمعة : أنت والله أكذب ، ما رضينا كتابتها حين كتبت .
فقال أبو البختري : صدق زمعة ، لا نرضى ما كتب فيها ، ولا نقربه .
وقال المطعم بن عدي : صدقتما ، وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها . وصدقه أيضاً هشام بن عمرو .
فقال أبو جهل : ذا أمر قضي بليل . وتشوور فيه بغير هذا المكان .
وكان أبو طالب جالساً في ناحية المسجد ، جاء ليخبرهم أن النبي -r- أخبره أن الله سلط على صحيفتهم الأرضة ، فأكلت ما فيها من جور وقطيعة وظلم ، ولم تترك إلا ذكر الله . وقال بعد ما أخبرهم بذلك : فإن كان كاذباً خلينا بينكم وبينه ، وإن كان صادقاً رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا . قالوا : أنصفت .
وقام المطعم على إثر رده على أبي جهل ليشق الصحيفة ، فوجدها قد أكلتها الأرضة ، إلا " باسمك اللهم " وما فيها من اسم الله . فكان ما أخبر به النبي -r- آية من آيات الله رآها المشركون بأعينهم ، لكنهم لم يزالوا مسترسلين في الغي .
آما الحصار فقد انتهى بعد ذلك ، وخرج رسول الله –r- ومن معه من الشعب .
وفد قريش بين يدي أبي طالب :
عادت الأمور بعد فك الحصار إلى ما كانت عليه من قبل . ولكن ما هي إلا أشهر حتى لحق أبا طالب المرض . وأخذ يشتد ويزداد ، وكان قد جاور الثمانين ، فشعرت قريش أنه لا قيام له من هذا المرض ، فاستشاروا فيما بينهم وقالوا : انطلقوا بنا إلى أبي طالب ، فليأخذ عن ابن أخيه وليعطه منا ، فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون إليه شئ فتعيرنا به العرب . يقولون : تركوه حتى إذا مات عمه تنالوه ، فانطلقوا ودخلوا عليه وطلبوا منه أن يكف هو رسول الله -r- عن آلهتكم ، وهم يدعونه وإلهه . فدعاه أبو طالب وعرض عليه ما قاله القوم . فقال رسول الله -r- : يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب ، وتؤدي إليهم العجم الجزية ، ففزعوا وقالوا : كلمة واحدة ؟ نعم ! وأبيك عشراً . فما هي ؟ قال : لا إله إلا الله ، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم ، ويقولون : } أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ { .
عـــام الحـــزن
وفاة أبي طالب :
أما مرض أبي طالب فلم يزل يشتد به حتى حضرته الوفاة . ودخل عليه رسول الله -r- وعنده أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية فقال رسول الله -r- : " أي عم ! قل لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله " . فقالا : يا أبا طالب ! أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر ما قال : على ملة عبد المطلب .
فقال النبي -r- : " لأستغفرن لك مالم أنه عنك " فنزلت :} مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ { [ 28:113]
وكانت وفاته في شهر رجب أو رمضان سنة عشر من النبوة ، وذلك بعد الخروج من الشعب بستة أشهر ، وقد كان عضداً وحرزاً لرسول الله -r- وحصناً احتمت به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء ، ولكنه بقي على ملة الأجداد فلم يفلح كل الفلاح .
قال العباس للنبي -r- : ما أغنيت عن عمك ؟ فإنه كان يحوطك ويغضب لك . قال :" هو في ضحضاح من النار ، ولو لا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار " .
خديجة إلى رحمة الله :
ولم يندمل جرح رسول الله -r- على وفاة أبي طالب حتى توفيت أم المؤمنين خديجة – رضي الله عنها – وذلك في رمضان من نفس السنة العاشرة بعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين أو بثلاثة أيام فقط . وكانت وزير صدق لرسول الله -r- على الإسلام ، آزرته على إبلاغ الرسالة ، وآسته بنفسها ومالها ، وقاسمته الأذى والهموم . قال -r- :" آمنت بي حين كفر بي الناس ، وصدقتني حين كذبني الناس ، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس ، ورزقني الله ولدها وحرم ولد غيرها ".
وورد في فضائلها أن جبريل – عليه السلام – أتى النبي -r- فقال : يا رسول الله ! هذه خديجة قد آتت ، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب ، فإذا هي أتتك فاقرء عليها السلام من ربها ، وبشرها ببيت في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب .
وكان النبي -r- يذكرها دائماً ، ويترحم عليها ، وتأخذ به الرأفة والرقة لها كلما ذكرها ، وكان يذبح الشاة فيبعث في أصدقائها . لها مناقب جمة وفضائل كثيرة .
تراكم الأحزان :
واشتد البلاء على رسول الله -r- من قومه بعد موت عمه أبي طالب وزوجة خديجة – رضي الله عنها – فقد تجرءوا عليه ، وكاشفوه بالأذى ، وطفق التي -r- يتأثر بشدة بكل ما يحدث ، ولو كان أصغر وأهون مما سبق . حتى إن سفيها من سفهاء قريش نثر التراب على رأسه ، فجعلت إحدى بناته تغسله وتبكي ، وهو يقول لها : لا تبكي يا بنية ! فإن الله مانع أباك ، ويقول بين ذلك : ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب .
زواجه - r - بسودة ثم بعائشة رضي الله عنهما :
وفي شوال – بعد الشهر الذي توفيت فيه خديجة – تزوج رسول الله -r- بسودة بنت زمعة – رضي الله عنها – وكانت تحت ابن عمها : السكران بن عمرو - t - وكانا من السابقين الأولين إلى الإسلام . وقد هاجرا إلى الحبشة ، ثم رجعا إلى مكة ، فتوفي بها السكران بن عمرو ، فلما حلت تزوجها النبي -r- وبعد أعوام وهبت نوبتها لعائشة .
أما زواجه بعائشة – رضي الله عنها – فكان أيضاً في شهر شوال ولكن بعد سودة بسنة ، تزوجها بمكة وهي بنت ست سنين ، ودخل بها في المدينة في شهر شوال في سنة الأولى من الهجرة وهي بنت تسع سنين ، وكانت أحب أزواجه - r - إليه ، وأفقه نساء الأمة . لها مناقب جمة وفضائل وافرة .
الرسول - r - في الطائف
وفي هذه الظروف قصد رسول الله - r- الطائف رجاء أن يستجيبوا لدعوته ، أو وينصروه ، فخرج إليها ماشياً على قدميه ، ومعه مولاه زيد بن حارثة ، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام حتى بلغ الطائف . ونزل على ثلاثة إخوة من رؤساء ثقيف ، فدعاهم إلى الإسلام وإلى نصرته - r- على تبليغه ، فلم يستجيبوا له ، بل ردوا عليه أسوء رد ، فتركهم وقصد الآخرين ، ودعاهم إلى قبول الإسلام ونصرته ، ولم يزل ينتقل من رئيس إلى رئيس ، فلم يترك أحداً من أشرافهم إلا وكلمه ، وقضى في ذلك عشرة أيام ، لكن لم يجب له أحد ، بل قالوا له : اخرج من بلدنا ، وأغروا به صبيانهم وسفهاءهم وعبيدهم ، فلما تهيأ وخرج وقفوا له في صفين ، وأخذوا يسبونه ويشتمونه ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه وقدميه - r - وحتى اختضب نعلاه بالدم . وكان زيد بن الحارثة - t - يقيه بنفسه ، ويدافع عنه ، فأصابه شجاج في رأسه ، واستمرت هذه السفاهة حتى وصل رسول الله - r - إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة على بعد ثلاثة أميال من الطائف فدخل فيه ، فلما دخل فيه انصرفوا عنه .
وجلس النبي - r - في الحائط تحت ظل حبلة من عنب ، متعمداً إلى جدار ، وقد أثر في نفسه ما لاقاه ، فدعا بالدعاء المشهور :
" اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس . يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني . أم إلى عدو ملكته أمري . إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك . أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " .
ورآه ابنا ربيعة في هذا الحال فأخذتهما رقة . وأرسلا إليه بقطف من عنب مع مولى لهم نصراني اسمه عداس ، فلما مد النبي - r- يده ليتناوله قال : بسم الله " ثم أكل . فقال عداس ، هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد
فقال له النبي - r - :" من أي البلاد أنت ؟ وما دينك ؟ "
فقال : نصراني ، من أهل نينوي .
فقال : " من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ "
فقال : وما يدريك ما يونس بن متى ؟
فقال النبي -r- :" ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي ". وقرأ عليه قصة يونس - عليه السلام – من القرآن ، فأسلم عداس على ما يقال .
ثم خرج رسول الله -r- من الحائط ، وتقدم في طريقه إلى مكة ، وهو كئيب حزين مهموم ، حتى إذا بلغ قرن المنازل ، أظلته سحابة فيها جبريل ومعه ملك الجبال ، فرفع -r- رأسه ، فناداه جبريل ، قال : أن الله بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت . ثم سلم ملك الجبال وقال : يا محمد ! ذلك ، فما شئت ، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين – وهما جبلا مكة : أبو قبيس والذي يقابله – فقال -r- : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً .
وأفاق رسول الله -r- من همه بمجئ هذا النصر ، وتقدم في طريقه إلى مكة حتى نزل بنخلة ، وأقام بها أياماً ، وأثناء إقامته بها صرف الله إليه نفراً من الجن يستمعون القرآن ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين ، وقد آمنوا به ، ولم يشعر بهم رسول الله -r- حتى نزل بذلك القرآن : آيات من سورة الأحقاف ، وآيات من رسول الجن .
وبعد أيام خرج رسول الله -r- من نخلة يريد مكة ، وهو يرجو من الله الفرج والمخرج ، ويخشى من قريش الشر والبطش ، فأحب أن يحتاط لنفسه ، فلما دنا من مكة مكث بحراء ، وبعث رجلاً إلى بن شريق ليجيره ، فأعتذر بأنه حليف ، والحليف لا يجير ، فأرسل إلى سهيل بن عمرو ، فاعتذر بأنه من بني عامر بن لؤي ، وهم لا يجيرون على بني كعب بن لؤي ، فأرسل إلى المطعم بن عدي ، وهو من بني نوفل بن عبد مناف أخي هاشم بنم عبد مناف جد النبي -r- وعبد مناف أعز بطن في قريش ، فقال المطعم : نعم . وتسلح هو وبنوه ، ثم أرسل إلى رسول الله -r- فجاء ودخل المسجد الحرام ، وطاف بالبيت ، وصلى ركعتين ، ثم انصرف إلى بيته ، والمطعم بن عدي وأولاده محدقون برسول الله -r- بالسلاح . وكان المطعم قد أعلن في قريش أنه أجار محمداً ، فقبلوا ذلك منه .
جدال المشركين وطلبهم الآيات
وكان من جملة جدال المشركين أنهم كانوا يطلبون من رسول الله -r- الآيات تعجيزاً وعناداً ، وقد تكرر ذلك منهم مراراً في أوقات مختلفة ، فمن ذلك أنهم اجتمعوا مرة في المسجد الحرام ، واستشاروا بينهم ، ثم أرسلوا إلى النبي -r- أن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك .
وحيث إن النبي -r- كان حريصاً على رشدهم غاية الحرص ، كما قال الله- تعالى :
} فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً { [ 18-6] فقد جاءهم سريعاً يرجو إسلامهم ، فقالوا : إنك تخبرنا أن الرسل كانت لهم آيات ، كانت لموسى عصا ، ولثمود الناقة ، وكان عيسى يحيي الموتى ، فأتنا بآية كما أرسل الأولون .
وكانوا يظنون أن من خواص الرسل أنهم يقدرون على إحداث مثل هذه الخوارق والمعجزات متى شاءوا ، كما يقدر عامة الناس على أعمالهم الطبيعية .
فاقترحوا عليه -r- أن يجعل لهم الصفا ذهباً ، أو يسير عنهم الجبال ، ويبسط لهم البلاد ، ويجري فيها الأنهار ، أو يبعث من مضى من آبائهم حتى يشهدوا بأنه رسول :
} وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً{90} أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً{91} أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ والملائكة قَبِيلاً{92} أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ { [ 17: 90-93]
وقد أبدوا رغبتهم في الإسلام إذا أتى النبي -r- بما اقترحوه } وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا { [ 6:9-10] فدعا الله أن يريهم ما طلبوه ، ورجا إسلامهم ، فجاء جبريل وخيره بين أن يريهم الله ما طلبوه فمن كفر بعد ذلك منهم عذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين ، وبين أن يفتح لهم باب التوبة والرحمة ، فقال : بل باب التوبة والرحمة ، فلما اختار النبي -r- هذا أنزل الله عليه جواب مقترحات المشركين فقال له :} قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً { [ 17: 93 ]
والمعنى قل لست أقدر على إحداث الخوارق والإتيان بالمعجزات ، لأن القدرة على ذلك أمر يختص بالله سبحانه وتعالى ، وهو منزه من أن يكون له شريك في قدرته ، وإنما أنا بشر ، كما أنكم بشر ، فلست أقدر عليه كما أنكم لا يقدرون عليه . وإنما الذي امتزت به فيما بينكم هو أنني رسول ، ويوحي إلي ، وأنتم لستم برسل ، وليس يوحى إليكم ، فالذي طلبتموه من الآيات ليس في يدي ولا تحت تصرفي ، وإنما هو إلى الله – عز وجل – إن شاء أظهرها لكم ، ويؤيدني بها عليكم ، وإن شاء أخرها عنكم ، وفي ذلك مصلحتكم .
وقد أكد الله هذا المعنى في سورة الأنعام فقال : } قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ { [ 6:109] أي إن الأنبياء والرسل ليسوا بالذين يأتون بالخوارق والمعجزات ، وإنما اللهسبحانه وتعالى – هو الذي يأتي بها . وهو إنما يظهرها على أيدي الأنبياء والمرسلين تكريماً لهم ، وتأييداً وإثباتاً نبوتهم ورسالتهم .
ثم بين الله – سبحانه وتعالى – أنه لو أراهم وأظهر لهم ما طلبوه من الآيات لا يؤمنون به . مع كونهم قد أقسموا بالله جهد أيمانهم ليؤمنن به ، فقال :} وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ { وقال : } وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً{ [ 13: 31]
وفي ثنايا مثل هذه الآيات أشار الله تعالى إلى سنة من سننه ، وهي أن القوم إذا طلبوا آية معينة ، ثم لم يؤمنوا بها إذا جاءتهم فإنهم يهلكون ولا يمهلون . وسنة الله لا تتغير ولا تتبدل ، وقد علم الله أن معظم قريش يؤمنون فيما بعد . فلذلك لم يأت لهم بما اقترحوه من الآيات الخاصة التي مضى ذكرها قريباً .
شق القمر :
كأن قريشاً لما رأوا أن رسول الله -r- لم يجبهم إلى ما اقترحوه من الآيات الخاصة ظنوا أن طلب الآيات أحسن وسيلة لتعجيزه وإسكاته . ولإقناع عامة الناس بأنه متقول ، وليس برسول ، فتقدموا خطوة أخرى ، وقرروا أن يطلبوا منه آية بغير تعيين ، ليتبين للناس عجزه ، فلا يؤمنوا به ، فجاءوا إليه ، وقالوا له : هل من آية نعرف بها أنك رسول الله ؟
فسأل رسول الله -r- ربه أن يريهم آية . فأراهم القمر قد انشق فرقتين : فرقة فوق الجبل – أي جبل أبي قبيس – وفرقه دونه ، حتى رأوا حراء بينهما ، فقال رسول الله -r- :" اشهدوا " .
ورأت قريش هذه الآية جهاراً ، بوضوح ، ولوقت طويل ، فسقط في أيديهم وبهتوا ، ولكنهم لم يؤمنوا ، بل قالوا : هذا سحر ابن أبي كبشة ، لقد سحرنا محمد ، فقال رجل : إن كان قد سحركم فإنه لا تستطيع أن يسحر الناس كلهم ، فانتظروا ما يأتيكم به السفار ، فجاء السفار فسألوهم ، فقالوا : نعم قد رأيناه . ولكن قريشاً مع ذلك أصروا على كفرهم واتبعوا أهواءهم .
وكأن انشقاق القمر كان كالتمهيد لما هو أكبر وأهم حدثاً من ذلك ، وهو الإسراء والمعراج ، فإن رؤية القمر هكذا منشقاً بعين اليقين تسهل على الذهن قبول إمكان الإسراء والمعراج والله أعلم .
الإسراء والمعراج
المراد بالإسراء توجه النبي -r- ليلاً من مكة المكرمة إلى بيت المقدس ، والمراد بالمعراج صعوده -r- إلى العالم العلوي ، وكان ذلك بجسده الشريف وروحه الأطهر .
والإسراء مذكور في القرآن في قوله – تعالى - : } سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ { . [17:1]
أما المعراج فقيل : هو مذكور في سورة النجم من آياتها السابعة إلى الثامنة عشرة . وقيل :المذكور في هذه الآيات غير المعراج .
واختلف في وقت الإسراء والمعراج ، فقيل : هو السنة التي بعث فيها النبي -r- وقيل : سنة خمس من النبوة . وقيل : في 27 رجب سنة عشر من النبوة .
وقيل : في 17 رمضان سنة اثنتي عشرة من النبوة . وقيل : في المحرم ، وقيل : في 17 ربيع الأول سنة 13 من النبوة .
أما تفصيل القصة فملخص الروايات الصحيحة : أن جبريل – عليه السلام – جاء بالبراق – وهو دابة فوق الحمار ، ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفهوالنبي -r- بالمسجد الحرام ، فركبه حتى أتى بيت المقدس ومعه جبريل ، فربطه بالحلقة التي يربط بها الأنبياء ، ثم دخل المسجد ، فصلى فيه ركعتين . أم فيهما الأنبياء . ثم أتاه جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن . فاختار اللبن ، فقال جبريل : أصبت الفطرة ، هديت وهديت أمتك . أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك .
ثم عرج به من بيت المقدس إلى السماء الدنيا ، فاستفتح له جبريل ففتح له ، فرأى هنالك آدم أبا البشر فسلم عليه ، فرد عليه السلام ، ورحب به ، وأقر بنبوته ، وعن يمينه أسودة إذا نظر إليهم ضحك – وهي أرواح السعداءوعن يساره أسودة إذا نظر إليهم بكى .- وهي أرواح الأشقياء -.
ثم عرج على السماء الثانية فاستفتح له جبريل ففتح . فرأى فيها أبني الخالة يحيى بن زكريا ، وعيسى ابن مريم – عليهما السلام – فسلم عليهما ، فردا عليه ورحبا به وأقرا بنبوته .
ثم عرج إلى السماء الثالثة ، فرأى فيها يوسف عليه السلام . وكان قد أعطى شطر الحسن . فسلم عليه ، فرد عليه ، ورحب به ، وأقر بنبوته .
ثم عرج به إلى السماء الرابعة فرأى فيها إدريس – عليه السلام – فسلم عليه ، فرد عليه ، ورحب به ، وأقر بنوبته .
ثم عرج به إلى السماء الخامسة فرأى فيها هارون بن عمران – عليه السلام – فسلم عليه فرد عليه ، ورحب به ، وأقر بنبوته .
ثم عرج به إلى السماء السادسة فلقي فيها موسى بن عمران – عليه السلام – فسلم عليه – فرد عليه ، ورحب به ، وأقر بنبوته . فلما جاوزه بكى . فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : أبكي لأن غلاماً بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي .
ثم عرج به إلى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيمعليه السلام – فسلم عليه ، فرد عليه ، ورحب به ، وأقر بنبوته . وكان مسنداً ظهره إلى البيت المعمور ، وهو بيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه .
ثم رفع إلى سدرة المنتهى ، فإذا أوراقها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال – أي الجرار الكبيرة – ثم غشيها فراش من ذهب ، وغشيها من أمر الله ما غشيها ، فتغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها .
ثم عرج به إلى الجبار – جل جلاله - ، فدنا منه ، حتى كان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . وفرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة في كل يوم وليلة . فرجع حتى مر على موسى فقال : بم أمرك ربك ؟ قال : بخمسين صلاة ، قال : أمتك لا تطيق ذلك ، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف . فالتفت إلى جبريل . فأشار أن نعم إن شئت . فرجع فوضع عنه عشراً . ثم مر بموسى فسأله فأخبره فأشار عليه بسؤال التخفيف . فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله – عز وجلحتى جعلها خمساً . ثم مر بموسى فأشار بالرجوع وسؤال التخفيف . وقال : الله لقد راودت بني إسرائيل على أدنى من هذا فضعفوا عنه وتركوه ، فقال - r - : قد استحييت من ربي ، ولكني أرضى وأسلم . فلما بعد نودي أن قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ، هي خمس وهن خمسون ، لا يبدل القول لدي .
ثم رجع عليه السلام من ليلته إلى مكة المكرمة ، فلما أصبح في قومه أخبرهم بما أراه الله عز وجل – من آياته الكبرى ، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستضرارهم عليه ، فمنهم من صفق . ومنهم من وضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً . وسعى رجال إلى أبي بكر الصديق ، وأخبروه الخبر . فقال : إن كان قال ذلك فقد صدق . قالوا : أتصدقه على ذلك ؟ قال : إني لأصدقه على أبعد من ذلك . أصدقه على خبر السماء في غدوة أو روحة ، فسمي الصديق .
وقام الكفار يمتحنونه فسألوه أن يصف لهم بيت المقدس . ولم يكن رآه قبل ذلك . فجلاه الله له حتى عاينه ، فطفق يخبرهم عن آياته ، يصفه لهم باباً باباً وموضعاً موضعاً ، فلم يستطيعوا أن يردوا عليه ، بل قالوا : أما النعت فو الله لقد أصاب .
وسألوه عن عير لهم قادمة من الشام . فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ووقت قدومها ، وعن البعير الذي يقدمها ، وكان الأمر كما قال ، ولكن أبى الظالمون إلا كفورا .
وصبيحة يوم الإسراء جاء جبريل وعلم رسول الله -r- كيفية الصلوات الخمس وأوقاتها ، وكانت الصلاة قبل ذلك ركعتين في الصباح . وركعتين في السماء .
عرض الإسلام على القبائل والأفراد
كان من دأب رسول الله -r- منذ أمره الله بالجهر بالدعوة أنه كان يخرج في موسم الحج أيام أسواق العرب إلى منازل القبائل فيدعوهم إلى الإسلام .
وأشهر أسواق العرب في الجاهلية وأقربها إلى مكة ثلاثة : عكاظ ومجنة وذو المجاز ، وعكاظ قرية بين نخلة والطائف . كانوا يقيمون بها السوق من أول شهر ذي القعدة إلى عشرين منه . ثم ينتقلون منها إلى مجنة ، فيقيمون بها السوق إلى نهاية شهر ذي القعدة ، وهي موضع في وادي مر الظهران أسفل مكة . وأما ذو المجاز فهو خلف جبل عرفه أي خلف جبل الرحمة ، وكانوا يقيمون هناك السوق من أول ذي الحجة إلى الثامن منه ، ثم يتفرغون لأداء مناسك الحج .
وممن أتاهم رسول الله -r- ودعاهم إلى الإسلام ، وعرض عليهم نفسه ليؤوه وينصروه : بنو عامر بن صعصعة . وبنو محارب بن خصفة ، وبنو فزارة ، وغسان ، ومرة ، وبنو حنيفة ، وبنو سليم ، وبنو عبس ، وبنو نصر ، وبنو البكاء ، وكندة ، وكلب . وبنو الحارث بن كعب . وعذرة ، والحضارمة . فلم يستجب له منهم أحد .
ولكنهم اختلفوا في أساليب ردودهم . فنهم من رد عليه رداً جميلاً ، ومنهم من اشترط لنفسه أن تكون له الرئاسة بعده . ومنهم من قال : أسرتك وعشيرتك أعلم بك ، حيث لم يتبعوك . ومنهم من رد عليه رداً قبيحاً . وكان بنو حنيفة رهط مسيلمة الكذاب أقبحهم رداً .
المؤمنون غير أهل مكة :
وقدر الله أن يؤمن رجال من غير أهل مكة في الزمن الذي كانت الدعوة تمر فيه بأصعب مراحلها في مكة ، فكانوا كجذوة أمل أضاءت في الظلام اليأس . فمنهم :
سويد بن الصامت – كان شاعراً لبيباً ، من سكان يثرب ، يسمى بالكامل ، لشرفه وشعره . أتى مكة حاجاً أو معتمراً . فدعاه رسول الله -r- إلى الإسلام ، فعرض هو على رسول الله -r- حكمة لقمان ، فعرض عليه رسول الله -r- القرآن فأسلم ، وقال : إن هذا قول حسن . قتل في وقعة بين الأوس والخزرج قبل يوم بعاث .
إياس بن معاذ – كان غلاماً حدثاً من سكان يثرب ، قدم مكة في أوائل سنة 11 من النبوة ، في وفد من الأوس كانوا يلتمسون الحلف من قريش على الخزرج ، فجاءهم رسول الله -r- ودعاهم إلى الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس : هذا والله خير مما جئتم له . فرمى أبو الحيسر – أحد أعضاء الوفد – تراب البطحاء في وجه إياس ، وقال : دعنا عنك ، لقد جئنا لغير هذا ، فسكت ، ولم يلبث بعد رجوعهم إلى يثرب أن هلك ، وكان يهلل ويكبر ويحمد ويسبح عند موته . ولا يشك قومه أنه مات مسلماً .
أبو ذر الغفاري – بلغ إليه خبر مبعث النبي -r- بسبب إسلام سويد بن الصامت وإياس بن معاذ . فأرسل أخاه إلى مكة ليأتي بالخبر . فذهب ورجع ، ولم يشفه ، فخرج بنفسه حتى نزل بمكة في المسجد الحرام . وبقي فيه نحو شهر ، يشرب ماء زمزم ، وهو طعامه وشرابه ، ولا يسأل عن النبي -r- أحداً خوفاً على نفسه ، ثم استتبعه علي رضي الله عنه حتى دخل به على النبي -r- فطلب منه أبو ذر أن يعرض عليه الإسلام ، فعرضه عليه فاسلم مكانه ، ثم جاء إلى المسجد الحرام وقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . فانقض عليه قريش ، وضربوه مثل ما ضربوه بالأمس . وأنقذه العباس كما أنقذه بالأمس .
ورجع أبو ذر إلى مساكن قومه بني غفار . فلما هاجر النبي -r- إلى المدينة هاجر إليها
طفيل بن عمرو الدوسي – كان شاعراً لبيباً ، رئيس قبيلته دوس في ناحية اليمن . قدم مكة سنة 11 من النبوة . فاستقبله أهل مكة . وحذروه من النبي -r- حتى حشا أذنه الكرسف حين جاء إلى المسجد الحرام ، كي لا يسمع منه -r- شيئاً . وكان -r- قائماً يصلى عند الكعبة ، فوقع في أذنه منه شئ ، فاستحسنه ، فقال في نفسه : إني لبيب وشاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح ، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول ، فإن كان حسناً قبلته ، وان كان قبيحاً تركته .
فلما انصرف النبي -r- إلى بيته تبعه حتى دخل بيته ، وذكر قصته ، وطلب منه -r- أن يعرض عليه أمره ، فعرض عليه الإسلام ، وتلا عليه القرآن فأسلم وشهد شهادة الحق ، وقل : إني مطاع في قومي ، وراجع إليهم ، وداعيهم إلى الإسلام ، فادع الله أن يجعل لي آية ، فدعا له . فلما قرب من قومه استنار وجهه كالمصباح . فدعا الله أن يجعله في غير وجهه ، فتحول النور إلى سوطه . فلما دخل على قومه دعاهم إلى الإسلام ، فأسلم أبوه وزوجته ، وأبطأ القوم ، لكنه لما هاجر إلى المدينة بعد الحديبية كان معه سبعون أو ثمانون بيتاً من قومه .
ضماد الأزدي – من أزد شنوءة من اليمن ، كان يرقي من الجنون والجن والشياطين . فجاء مكة فسمع سفهاء يقولون : إن محمداً مجنون ، فجاء ليرقيه . فقال النبي -r- : أن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلله فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، أشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد :
فاستعاد ضماد هذه الكلمات ثلاث مرات ، ثم قال : سمعت قول الكهنة والسحرة والشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ، لقد بلغن قاموس البحر ، هات يدك أبايعك على الإسلام ، فبايعه .
الإسلام في المدينة :
6-11- ستة سعداء من أهل يثرب كلهم من الخزرج وهم :
أسعد بن زرارة .
عوف بن الحارث بن رفاعة ( عوف بن عفراء )
رافع بن مالك بن العجلان .
قطبة بن عامر بن حديدة .
عقبة بن عامر بن نابي .
جابر بن عبدالله بن رئاب .
جاء هؤلاء للحج في جملة من جاء سنة 11 من النبوة ، وكان أهل يثرب يسمعون من اليهود حينما ينالون منهم في الحرب ونحوها ، أن نبياً سيبعث الآن ، قد أظل زمان بعثته ، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما كانوا بعقبة منى مر بهم رسول الله -r - ليلاً ، وهم يتكلمون ، فلما سمع الصوت عمدهم حتى لحقهم ، وقال : من أنتم ؟ قالوا : نفر من الخزرج . قال : موالي اليهود ؟- أي حلفاؤهمقالوا : نعم ، قال: أفلا تجلسون أكلمكم ؟ قالوا :بلى ! فجلسوا معه ، فشرح لهم حقيقة الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، ودعاهم إلى الله – عز وجل – فقال بعضهم لبعض : تعملون والله إنه للنبي الذي توعدكم به اليهود ، فلا تسبقنكم إليه ، فأسرعوا إلى الإسلام . وقالوا : إنا قد تركنا قومنا وبينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك . ووعده القيام بالدعوة إلى دينه ، والمقابلة في الحج القادم .
بيعة العقبة الأولى
فلما كان حج العام المقبل – سنة 12 من النبوة – قدم اثنا عشر رجلاً ، منهم عشرة من الخزرج ، واثنان من الأوس ، فأما العشرة من الخزرج فخمسة منهم هم الذين جاءوا في الماضي غير جابر بن عبدالله بن رئاب وخمسة آخرون هم :
معاذ بن الحارث ( معاذ بن عفراء ) .
ذكوان بن عبد القيس .
عبادة بن الصامت .
يزيد بن ثعلبة .
العباس بن عبادة بن نضلة .
وأما الاثنان من الأوس فهما :
أبو الهيثم بن التيهان .
عويم بن ساعدة .
اجتمع هؤلاء برسول الله -r- بعقبة منى ، فعلمهم الإسلام ، وقال لهم : تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوني في معروف . فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ، فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ، فستره الله ، فأمره إلى الله ، إن شاء عاقبه ، وإن شاء عفا عنه ، فبايعوه على ذلك .
دعوة الإسلام في يثرب :
فلما رجعوا إلى يثرب بعث معهم مصعب بن عمير - t- ليقرئهم القرآن ويفقههم في الدين ، ونزل مصعب بن عمير على أبي أمامة أسعد بن زرارة . ونشطا في نشر الإسلام . وبينما هما بستان إذ رئيس الأوس سعد بن معاذ لا بن عمه أسيد بن خضير : ألا تقوم إلى هذين الرجلين الذين أتيا يسفهان ضعفائنا ، فتزجرهما ، فأخذ أسيد حربته ، وأقبل إليهما ، فلما رآه أسعد قال لمصعب : هذا سيد قومه ، قد جاءك فاصدق الله فيه .
وجاء أسيد فوقف عليهما وقال : ما جاء بكما إلينا ؟ تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة . فقال مصعب : أو تجلس فتسمع ، فإن رضيت أمراً قبلته ، وإن كرهته كففنا عنك ما تكرهه ، فقال : أنصفت . وركز حربته وجلس ، فكلمه مصعب بالإسلام ، وتلا عليه القرآن ، فاستحسن أسيد دين الإسلام واعتنقه ، وشهد شهادة الحق .
ثم رجع أسيد ، واحتال ليرسل إليهما سعد بن معاذ ، فقال له : كلمت الرجلين فو الله ما رأيت بهما بأساً . وقد نهيتهما فقالا : نفعل ما أحببت ، ثم قال : وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ، لأنه ابن خالتك ، فيريدون أن يخفروك .
فغضب سعد ، وقام إليهما متغيظاً ، ففعل معه مصعب مثل ما فعل مع أسيد ، فهداه الله للإسلام ، فأسلم وشهد شهادة الحق ، ثم رجع إلى قومه ، فقال : يا بني عبد الأشهل ! كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا : سيدنا وأفضلنا رأياً . قال . فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله ، فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلماً ومسلمة ، إلا رجل واحد اسمه الأصيرم ، وتأخر إسلامه إلى يوم أحد ، ثم أسلم وقتل شهيداً في سبيل الله قبل أن يسجد لله سجدة .
وعاد مصعب بن عمير إلى مكة قبل حلول موعد الحج يحمل بشائر مثل هذا الفوز .
بيعة العقبة الثانية
وفي موسم الحج سنة 13 من النبوة قدم كثير من أخل يثرب من المسلمين والمشركين . وقد قرر المسلمون أن لا يتركوا رسول الله -r- بمكة يطوف في جبالها ، ويطرد ويخاف ، فاتصلوا به سراً . واتفقوا على عقد اجتماع سري في أوسط أيام التشريق ليلاً في الشعب الذي عند جمرة العقبة .
فلما جاء الموعد ناموا في رحالهم مع قومهم ، حتى إذا مضى ثلث الليل الأول أخذوا يتسللون ، فيخرج الرجل والرجلان حتى اجتمعوا عند العقبة ، وهم ثلاثة وسبعون رجلاً ، اثنان وستون من الخزرج ، وأحد عشر من الأوس ، ومعهم امرأتان : نسيبة بنت كعب من بني نجار ، وأسماء بنت عمرو من بني سلمة . وجاءهم رسول الله -r- ومعه عمه عباس بن عبد المطلب . كان على دين قومه ، ولكن أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ، ويتوثق له .
وكان العباس أول من تكلم ، فقال لهم : أن رسول الله -r- لا يزال في عز من قومه . ومنعة في بلده ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإلا فمن الآن فدعوه .
فأجاب المتكلم عنهم – وهو البراء بن معرور – وقال : نريد الوفاء والصدق وبذل الأرواح دون رسول الله -r- فتكلم يا رسول الله ! فخذ لنفسك ولربك ما أحببت .
فتكلم رسول الله -r- فتلا القرآن ودعا إلى الله ، ورغب في الإسلام واشترط لربه :
أن يعبدوه وحده ، ولا يشركوا به شيئاً .
واشترط لنفسه ولربه أيضاً أنهم قالوا له على ما نبايعك ؟ فقال :
على السمع والطاعة في النشاط والكسل .
وعلى النفقة في العسر واليسر .
وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وعلى أن تقوموا في الله ، لا تأخذكم في الله لومة لائم
وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم ، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبنائكم . ولكم الجنة .
وفي رواية عن عبادة ( بايعناه ) على أن لا ننازع المر أهله .
فأخذ بيده -r- البراء بن معرور وقال : نعم . والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع عنه أزرنا . فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة – أي السلاح – ورثناها كابراً عن كابر.
فقاطعه أبو الهيثم بن التيهان قائلاً : يا رسول الله ! إن بيننا وبين الرجال حبالاً – أي عهوداً وروابط – وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟
فتبسم رسول الله -r- وقال : بل الدم الدم ، والهدم الهدم ، أنا منكم وأنتم مني ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم .
وفي هذه اللحظة الحاسمة تقدم العباس بن عبادة بن نضلة وقال : هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن ، فإنه خزي الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافون له على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة .
قالوا : فإنا نأخذه ، على مصيبة الأموال ، وقتل الأشراف ، فمالنا بذلك يا رسول الله !
قال : الجنة .
قالوا : ابسط يدك .
فبسط يده . فقاموا ليبايعوه . فأخذ بيده أسعد بن زرارة ، وقال : رويداً يا أهل يثرب ! إنا نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة ، وقتل خياركم ، وأن تعضكم السيوف ، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه ، وأجركم على الله ، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه ، فهو أعذر لكم عند الله .
قالوا : يا أسعد ! أمط عنا يدك ، فو الله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها ، فقاموا إليه رجلاً رجلاً وبايعوه . وكان أسعد بن زرارة هو أول المبايعين على أرجح الأقوال . وقيل : بل أبو الهيثم بن التيهان . وقيل : بل البراء بن معرور .
أما بيعة المرأتين فكانت قولاً بدون مصافحة .
اثنا عشر نقيبا :
وبعد البيعة طلب منهم رسول الله -r- أن يخرجوا اثني عشر نقيباً يكونون عليهم . ويكفلون المسئولية عنهم ، فاخرجوا تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس . أما من الخزرج فهم :
سعد بن عبادة بن دليم .
أسعد بن زرارة بن عدس .
سعد بن الربيع بن عمرو .
عبدالله بن رواحة بن ثعلبة .
رافع بن مالك بن العجلان .
البراء بن معرور بن صخر .
عبدالله بن عمرو بن حرام .
عبادة بن الصامت بن قيس .
المنذر بن عمرو بن خنيس .
وأما من الأوس فهم :
أسيد بن حضير بن سماك .
سعد بن خيثمة بن الحارث .
رفاعة بن عبد المنذر بن زبير – وقيل : أبو الهيثم بن التيهان .
فلما تم اختيارهم قال لهم رسول -r- : أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ، ككفالة
الحواريين لعيسى ابن مريم ، وأنا كفيل على قومي ، قالوا : نعم .
هذه هي بيعة العقبة الثانية ، وكانت حقاً أعظم بيعة وأهمها في حياة الرسول -r- تغير بها مجرى الأحداث وتحول خط التاريخ .
ولما تمت البيعة وكاد الناس ينفضون اكتشفها أحد لشياطين ، وصاح بأنفذ صوت سمع قط : يا أهل الأخاشب – المنازل – هل لكم في محمد ، والصباة معه . قد اجتمعوا على حربكم . فقال رسول الله -r- أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك . وأمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم فرجعوا وناموا حتى أصبحوا .
وصباحاً جاءت قريش إلى خيام أهل يثرب ليقدموا الاحتجاج إليهم ، فقال المشركون : هذا خبر باطل ، ما كان من شئ . وسكت المسلمون ، فصدقت قريش المشركون ورجعوا خائبين . وأخيراً تأكد لدى قريش أن الخبر صحيح ، فأسرع فرسانهم في طلب أهل يثرب ، فأدركوا سعد فأخذوه وربطوه وضربوه وجروا شعره حتى أدخلوه مكة ، فخلصه المطعم بن عدي والحارث بن حرب . إذ كان يجير لهما قوافلهما بالمدينة ، وأراد الأنصار أن يكروا إلى مكة إذ طلع عليهم سعد قادماً ، فرحلوا إلى المدينة سالمين .
هجرة المسلمين إلى المدينة
بعد هذه البيعة – بيعة العقبة الثانية – بدأت هجرة عامة المسلمين إلى المدينة ، بينما كان بعض الصحابة قد هجر قبلها . وقد أري رسول الله -r- دار هجرة المسلمين وأخبرهم بها . قال : رأيت أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل ، فذهب وهلى – أي ظنيإلى اليمامة أو هجر ، فإذا هي المدينة يثرب ، وفي رواية : أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين ، فإما أن يكون هجر أو يثرب
وأول من هاجر أبو سلمة المخزومي زوج أم سلمة . خرج مع زوجته وابنه . فمنعها قومها منه ، وانتزع آل أبي سلمة ولده منها . فانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة ، وذلك قبل بيعة العقبة بنحو سنة ثم أطلقوا زوجته بعد نحو سنة فلحقت به .
وهاجر بعد أبي سلمة عامر بن ربيعة وزوجته ليلى بنت أبي حثمة ، وعبدالله بن أم مكتوم ، فلما تمت لبيعة تتابع المسلمون في الهجرة ، وكانوا يتسللون خفية ، وخشية قريش ، حتى هاجر عمر بن الخطاب ، فخرج علنا ، وتحدى قريشاً فلم يجترئ أحد على الوقوف في وجهه . وقدم المدينة في عشرين من الصحابة .
وهاجر المسلمون كلهم إلى المدينة ، ورجع إليها عامة من كان بأرض الحبشة . ولم يبق بمكة منهم إلا أبو بكر وعلي وصهيب وزيد بن حارثة وقليل من المستضعفين الذين لم يقدروا على الهجرة ، وتجهز أبو بكر للهجرة : وهل ترجو ذلك بأبي أنت ؟ قال : نعم . فحبس أبو بكر نفسه عليه ليصحبه ، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر ، استعداداً لذلك.
قريش في دار الندوة وقرارهم بقتل النبي -r -
وجن جنون قريش لما رأوا أن المسلمين وجدوا دار حفظ ومنعة ، ورأوا في هجرتهم واجتماعهم بالمدينة خطراً على دينهم وكيانهم وتجارتهم ، فاجتمعوا في دار الندوة صباح يوم الخميس 26 من شهر صفر سنة 14 من النبوة ، وليدرسوا خطة تفيد التخلص من هذا الخطر . خاصة وأن صاحب الدعوة -r- لا يزال في مكة ، ويخشى أن يخرج منها في عشية أو ضحاها . وقد حضر الاجتماع وجوه بارزة من سادات قريش . وحضره أيضاً إبليس في صورة شيخ جليل من أهل نجد بعد أن استأذنهم .
وطرحت القضية على المجتمعين ، فقال أبو الأسود نخرجه من أرضنا ، ونصلح أمرنا ، ولا نبالي أين ذهب .
قال الشيخ النجدي : إنكم ترون حسن حديثه ، وحلاوة منطقه ، وغلبته على قلوب الرجال ، فإذا خرج فلا غرو أن يحل على حي من العرب فتجتمع حوله الجموع ، فيطأكم بهم في بلادكم ، ثم يفعل بكم ما أراد . رؤا فيه رأيا غير هذا.
قال أبو البختري: احسبوه وأغلقوا عليه الباب ، حتى يدركه ما أدركه الشعراء قبله من الموت .
قال الشيخ النجدي : والله لئن حبستموه ليخرجن أمره إلى أصحابه، وهم يفضلونه على الآباء والأبناء، فأوشكوا أن يثبوا عليكم، وينزعوه منكم، ثم يكاثروكم به ، حتى يغلبوا على أمركم ، فانظروا في غير هذا الرأي.
قال الطاغية أبو جهل: إن لي فيه رأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد، نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسبياً وسيطاً فينا، ونعطي كلا منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إلي ويضربوه ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فيفترق دمه في القبائل، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قريش كلهم، فيرضون بالدية فنعطيها لهم .
قال الشيخ النجدي : القول ما قال الرجل : هذا الرأي الذي لا أري غيره .
وأقر المجتمعون هذا الرأي، وانفضوا ، واخذوا يستعدون ويرتبون أنفسهم لتنفيذ هذا القرار.
بين تدبير قريش وتدبير الله سبحانه وتعالى
ومن طبيعة مثل هذا الاجتماع السرية للغاية، وأن لا يبدو على السطح الظاهر أي حركة تخالف اليوميات، وتغاير العادات المستمرة، حتى لا يشم احد رائحة التآمر والخطر، ولا يدور في خلد أحد أن هناك غموضاً ينبئ عن الشر.
وكان هذا مكراً من قريش، ولكنهم ما كروا بذلك الله سبحانه وتعالى ، فخيبهم من حيث لا يشعرون، فقد نزل جبريل وأخبر النبي، صلى الله عليه وسلم بمؤامرة قريش فقال: له في الهجرة، وحدد له وقت الخروج، وبين له خطة الرد على مكر قريش فقال "لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه" .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، في نحر الظهيرة ، حين يستريح الناس في بيوتهم، وإلى بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأبرم معه أمور الهجرة، فجهزا الراحلتين إلى بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه وابرم معه أمور الهجرة ، فجهزا الراحلتين أحث الجهاز واستأجرا عبدالله بن أريقط الليثيوكان على دين قريش – ليكون دليلاً لهما في الطريق ، وكان هادياً ماهراً بالطرق . وواعداه جبل ثور بعد ثلاث ليال . ثم استمر رسول الله -r- في أعماله اليومية حسب المعتاد ، حتى لم يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة أو لأي أمر آخر اتقاء مما قررته قريش .
وكان من عادة الرسول الله -r- أن ينام في أوائل الليل بعد صلاة العشاء ، ويخرج في النصف الأخير من الليل إلى المسجد الحرام ، ويصلي فيه صلاة التهجد – قيام الليل – فأضجع علياً - t- على فراشه تلك الليلة ، وأخبره بأنه لا يصيبه مكروه ، فلما نام عامة الناس وهدأ الليل جاء المتآمرون سراً إلى بيت رسول الله -r- وطوقوه ، ورأوا على بن أبي طالب -t- نائماً على فراشه -r- متسجياً ببرده الحضرمي الأخضر ، فظنوه محمداً - r- فأخذوا يختالون زهواً ، ويرصدونه حتى إذا قام وخرج يثبوا عليه .
وكان هذا جواب مكرهم من الله سبحانه وتعالى يقول تعالى :} وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ { . [ 8:30]
هجــــرة النبي -r-
خروجه -r- من البيت :
وخرج رسول الله -r- من بيته وهم مطوقون به ، فذر تراب البطحاء على رؤوسهم ، وهو يتلو قوله سبحانه وتعالى :} وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ { [ 36:9] . فأخذ الله بأبصارهم فلم يشعروا به -r- ومضى رسول الله -r- إلى بيت أبي بكر ، ومن خوخة في داره خرجا حتى لحقا بغار ثور قبل بزوغ الفجر ، على بعد نحو خمسة أميال في اتجاه اليمن.
ثلاث ليال في الغار :
ولما انتهيا إلى الغار دخله أبو بكر أولاً حتى إذا كان فيه شئ يصيبه هو دونه رسول الله -r- فكسحه ووجد فيه ثقوباً فسدها بشق إزاره ، وبقى جحر أو جحران ألقمهما رجليه ، ثم دخل رسول الله -r- فنام في حجره ، ولدغ أبو بكر في رجله ، ولكنه لم يتحرك لمكان رسول الله -r- فذهب الألم .
وكمنا في الغار ثلاث ليال ، وكان عبدالله بن أبي بكر يبيت عندهما ، وكان شاباً فطناً ذكياً ، فيخرج من عندهما حتى يصبح في قريش كأنه بات بمكة ، وكان يسمع مكائد قريش وأخبارهم فكان يأتيهما بها حين يختلط الظلام .
وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى الغنم ، فكان يأتيهما بها حين تذهب ساعة من الليل . فيبيتان في لبنها ، ثم ينعق بها في غلس ، ويتبع بها أثر عبدالله بن أبي بكر ليعفي عليه .
أما قريش فبقيت فتيانها منتظرين قيام رسول الله -r- وخروجه حتى أصبحوا ، فلما أصبحوا قام علي من فراش رسول الله -r- فسقط في أيديهم وسألوه عن رسول الله -r- فقال : لا علم لي به ، فضربوه وسحبوه إلى الكعبة ، وحبسوه ساعة ، ولكن بدون جدوى . ثم جاءوا إلى البيت أبي بكر وسألوا ابنته أسماء عنه فقالت : لا أدري ، فلطمها الخبيث أبو جهل لطمة طرح منها قرطها . ثم أرسلوا الطلب في كل جهة ، وجعلوا مائة ناقة عن كل واحد منهما لمن يأتي بهما حيين أو ميتين .
وقد وصلوا في الطلب إلى باب الغار بحيث لو طأطأ أحدهم رأسه ونظر إلى قدميه لرأهما . حتى اشتد حزن أبي بكر -t- على رسول الله -r-
فقال : ما ظنك يا أبو بكر باثنين الله ثالثهما . لا تحزن إن الله معنا .
في الطريق إلى المدينة :
في ليلة الاثنين غرة ربيع الأول سنة 1هـ جاء الدليل عبدالله بن أريقط الليثي بالراحلتين إلى جبل ثور حسب الموعد ، فارتحل رسول الله -r- وأبو بكر ، وصحبهما عامر بن فهيرة ، وسلك بهما الدليل في اتجاه الجنوب نحو اليمن حتى أبعد ، ثم اتجه إلى الغرب نحو ساحل البحر الأحمر ، ثم اتجه إلى الشمال على مقربة من الساحل ، وسلك طريقاً لا يسلكه الناس إلا نادراً .
وواصلوا السير تلك الليلة ، ثم النهار إلى نصفه ، حتى خلا الطريق ، فاستراح النبي -r- تحت ظل صخرة ، واستكشف أبو بكر ما حوله ، وجاء راع فاستحلب منه أبو بكر ، فلما استيقظ النبي -r- سقاه حتى رضي ، ثم ارتحلوا .
وفي اليوم الثاني مرا بخيمتي أم معبد وكانت بالمشلل في ناحية قديد على بعد نحو 130كيلو متراً من مكة ، فسألاها هل عندها شئ ؟ فاعتذرت عن القرى وأخبرت أن الشاء عازب – أي بعيدة المرعى والكلأ – وكانت في جانب الخيمة شاة خلفها الجهد عن قطيع الغنم ، ولم تكن فيها قطرة من لبن ، فاستأذن رسول الله -r- ليحلبها ، فلما حلبها درت باللبن حتى امتلأ منه إناء كبير يحمله الرهط بمشقة ، فسقاه أم معبد حتى رويت ، ثم سقى أصحابه حتى رووا ، ثم شرب ، ثم حلب فيه ثانياً ، حتى ملأ الإناء ، وتركه عندها وارتحلوا .
وجاء زوجها فتعجب حين رأى اللبن ، وسألها عنه ، فأخبرته الخبر ، ووصفت النبي -r- من مفرقه إلى قدمه ومن كلامه إلى أطواره وصفاً دقيقاً جداً ، فقال أبو معبد : هذا والله صاحب قريش ، ولقد هممت أن أصحبه ، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
وفي اليوم الثالث سمع أهل مكة صوتاً بدأ من أسفلها ومر حتى خرج من أعلاها ، وتبعوه فلم يروا شخصه يقول :
جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلا خيـمتي أم معبد
هما نـــزلا بالبر وارتحـــــلا به وأفلح مع أمسـى رفيق محمد
فيا لقــصي ما زوى الله عنكم به من فعال لا تجارى وسودد
ليهن بني كعب مــكان فـتاتهم ومقـعدها للمؤمنـين بمرصد
ثم لما جاوزا قديداً تبعهما سراقة بن مالك بن جعشم المد لجي ، على فرس له ، طمعا في جائزة قريش ، فلما دنا منهم عثرت به فرسه حتى خر عنها ، ثم قام واستقسم بالأزلام : يضرهم أم لا ؟ فخرج الذي يكره ، ولكنه عصى الأزلام وركب حتى إذا دنا منهم بحيث يسمع قراءة رسول الله -r- هو لا يلتفت ، أبوبكر يكثر الالتفاف – ساخت يدا فرسه في الأرض حتى بلغتا الركبتين وخر عنها ، ثم زجرها فنهضت فلم تكد تخرج يديها ، فلما استوت قائمة صار لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان ، فا ستقسم بالأزلام فخرج الذي يكره ، وداخله رعب عظيم ، وعلم أن أمر رسول الله -r- سيظهر ، فناداهم بالأمان ، فوقفوا حتى جاءهم ، فأخبر النبي -r - بما قررته قريش ، وما يريد بهما الناس ، وعرض عليه الزاد والمتاع فلم يأخذ منه شيئاً ، وطلب منه أن يخفي أمره عن الناس . واستكتبه سراقة كتاب أمن ، فأمر عامر بن فهيرة فكتبه في أديم . ورجع سراقة فقال لمن وجده في الطلب : قد استبرأت لكم الخبر ، قد كفيتم ما ههنا حتى أرجعهم .
وفي الطريق لقيه بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه في سبعين راكبا فأسلم هو ومن معه ، وصلوا خلفه صلاة العشاء الآخرة .
ولقيهما في بطن ريم – اسم واد الزبير بن العوام في ركب من المسلمين كانوا قافلين من الشام ، فكساهما الزبير ثياباً بياضاً .
النزول بقباء :
وفي يوم الاثنين – الثامن من شهر ربيع الأول سنة 14 من النبوة – وهي السنة الأولى من الهجرة – نزل رسول الله -r- بقباء .
وكان أهل المدينة حينما سمعوا بخروج رسول الله -r- يخرجون كل غداة إلى الحرة ، حتى يردهم حر الظهيرة . فانقلبوا يوماً بعد طول الانتظار ، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله -r- وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته : يا معشر العرب ! هذا جدكم – أي حظكم – الذي تنتظرون ، فثار المسلمون إلى السلاح ، وسمعت فيهم الوجبة والتكبير فرحاً بقدوم رسول الله -r- وخرجوا للقائه بظهر الحرة ، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف بقباء .
ولما نزل بقباء جلس صامتاً ، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله -r- يحيى أبا بكر - t- ظنا منه أنه هو الرسول -r- لظهور الشيب في شعره – حتى أصابت رسول الله - r- الشمس ، فظلل عليه أبو بكر بردائه ، فعرف الناس رسول الله -r- .
ونزل رسول الله -r- بقباء على كلثوم بن الهدم ، وقيل : على سعد بن خيثمة ، ومكث بها أربعة أيام ، أسس أثناءها مسجد قباء ، وصلى فيه ، فلما كان اليوم الخامس – يوم الجمعة – ركب بأمر الله ، أبو بكر ردفه ، وأرسل إلى أخواله بني النجار ، فجاءوا متقلدين السيوف ، فسار نحو المدينة ، وهم حوله وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فجمع بهم في بطن الوادي ، وهم مائة رجل .
الدخول في المدينة :
ثم اتجه نحو المدينة ، وقد زحف الناس للاستقبال ، وارتجت البيوت والسكك بالتحميد والتقديس ، وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن :
طلـــع البدر علينا مـن ثنيات الـوداع وجـب الشكـر علينا مــــــا دعــــــــــــــــــا لله داـــــــع أيهـا المبعـوث فينا جئت بالمر المطــــــــــــــــــــــاع
وكان رسول الله -r- لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام ناقته يقولون : هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة ، فكان يقول لهم : خلوا سبيلها فإنها مأمورة . فلما وصلت الناقة إلى موضوع المسجد النبوي بركت ، فلم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلاً ، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول فنزل عنها . فجعل الناس يكلمونه في النزول عليهم ، وبادر أبو أيوب الأنصاري - t- فأدخل رحله في بيته . فجعل رسول الله -r- يقول : المرء مع رحله ، وأخذ أسعد بن زرارة بزمام راحلته فكانت عنده .
وسابق سراة الأنصار في استضافة رسول الله - r - فكانت الجفان تأتيه منهم كل ليلة ، فما من ليلة إلا وعلى بابه الثلاث أو الأربع منها .
هجرة علي ولحوقه برسول الله -r- :
ومكث على بن أبي طالب -t- بمكة بعد النبي - r- ثلاثاً ، وأدى ودائع كانت عند رسول الله -r- لأهل مكة ، ثم خرج ماشياً على قدميه حتى لحق رسول الله -r- بقباء ، ونزل على كلثوم بن الهدم .
هجرة أهل البيت :
ولما استقر رسول الله -r- بالمدينة أرسل زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة ، فقدما بفاطمة وأم كلثوم بنتي النبي -r- وبأم المؤمنين سودة ، وأم أيمن ، وأسامة بن زيد . وخرج معهم عبدالله بن أبي بكر بعيال أبي بكر : أم رومان ، وأسماء ، وعائشة ،- رضي الله عنهم وعنهن أجمعين – وذلك بعد ستة أشهر من هجرة رسول الله -r- .
هجرة صهيب :
وهاجر صهيب بعد رسول الله -r- ولما أراد الهجرة حجزه المشركون ، فتخلى عن أمواله لهم – وكانت كثيرة – فخلوا سبيله ، فلما وصل المدينة ، وقص على النبي -r- قصته قال : ربح البيع أبا يحيى ! وأبو يحيى كنية صهيب - t -
المستضعفون :
وحبس المشركون بعض المسلمين عن الهجرة ، وعذبوهم وفتنوهم عن دينهم . منهم الوليد بن الوليد ، وعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاص ، فكان رسول الله -r- يدعو على من حبسهم من لكفار قريش ، وهذا أصل القنوت ، وبعد حين قام بعض المسلمين بعمل بطولي جرئ ، أخرجهم بذلك من قيد الكفار ، فهاجروا إلى المدينة .
مناخ المدينة :
ولما نزل المهاجرون بالمدينة أصابهم هم حزن ، لفراقهم أرضهم وديارهم التي نشأوا بها وترعرعوا فيها فأخذوا يذكرون تلك الأرض ويحنون إليها ، وزاد ذلك شدة أن المدينة كانت من أوبأ أرض الله ، فلما نزلوا بها أصابتهم حمى وأنواع من المرض ، فدعا النبي - r - ربه عز وجل وقال : " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وصححها ، وبارك في صاعها ومدها ، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة " .
وأجاب الله دعاه - r - فاستراح المسلمون من الأمراض ، وأحبوا المدينة .
أعمال رسول الله -r- في المدينة المنورة
ولما استقر النبي -r- بالمدينة المنورة بدأ ينسق الأمور دينياً ودنيوياً بجانب استمراره في الدعوة إلى الله .
المسجد النبوي :
وأول خطوة اتخذها في هذا السبيل هو بناء المسجد النبوي . واشترى لذلك الأرض التي بركت بها ناقته ، وكانت لغلامين يتيمين ، وكانت مائة ذراع في مائة ذراع تقريباً ، وفيها قبور المشركين ، وخرب ونخل وشجرة من غرقد فنبشت القبور ، وسويت الخرب ، وقطعت الشجرة والنخل ، وصفت في قبلة المسجد ، وجعل الأساس قريباً من ثلاثة أذرع ، وأقيمت الحيطان من اللبن والطين ، وجعلت عضادتا الباب من الحجارة . والسقف من الجريد ، والعمد من الجذوع ، وفرشت الأرض بالرمال والحصباء ، وجعلت له ثلاثة أبواب ، وكانت القبلة في الشمال إلى بيت المقدس . وكان الرسول -r- ينقل الحجارة واللبن مع المهاجرين والأنصار ، ويرتجز ويرتجزون ، فيزيدهم ذلك نشاطاً .
وبنى بجانب المسجد حجرتين بالحجارة واللبن ، وسقفهما بالجريد والجذوع ، إحداهما لسودة بنت زمعة ، والثانية لعائشة – رضي الله عنها – بعد قدومها قريباً في شوال سنة 1هـ .
الأذان :
وبدأ المسلمون يحضرون للصلوات الخمس في جماعة ، ويتحينون أوقاتها . فيتعجل بعضهم ويتأخر البعض ، فاستشار النبي -r- والمسلمون في علامة يعرفون بها حضور الصلاة ، فأشار بعضهم برفع النار ، وبعضهم بالنفخ في البوق . وبعضهم بضرب الناقوس ، فقال عمر - t- : أولا تبعثون رجلاً ينادي ب" الصلاة جامعة " فقبل رسول الله -r- هذا الرأي وعمل به ، ثم أن عبدالله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري - t- رأى الأذان في المنام فجاء وأخبر النبي -r- فقال : إنها لرؤيا حق ، وأمره أن يلقي على بلال حتى ينادي بها ، لأنه أندى صوتاً منه ، فأذن بلال ، وسمع صوته عمر بن الخطاب -t- فجاء يجرر رداءه وقال : وقال : والله لقد رأيت مثله . فتأكد بذلك الرؤيا ، وصار الأذان أحد شعار الإسلام منذ ذلك اليوم .
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار :
كان من سجايا الأنصار وكرمهم أنهم كانوا يتنافسون في إنزال المهاجرين واستضافتهم في بيوتهم ، وكانوا كما قال الله تعالى عنهم : } وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ{ [59:9]
ثم زاد النبي -r- هذا الحب والإيثار قوة بعقد المؤاخاة بينهم وبين المهاجرين ، فجعل كل أنصاري ونزيله أخوين ، وكانوا تسعين رجلاً ، نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار ، فآخى بينهم على المؤاساة ، وأنهم يتوارثون فيما بينهم بعد الموت ، دون ذوي الأرحام ، ثم نسخ التوارث وبقيت المؤاخاة ، وكانت قد عقدت في دار أنس بن مالك - t- وعنهم أجمعين -.
وكان من حب الأنصار لإخوانهم المهاجرين أنهم عرضوا نخيلهم -r- ليقسم بينهم وبين إخوانهم المهاجرين ، فأبى فقالوا : إذن تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة فقبل ذلك .
وكان سعد بن الربيع أكثر الناس مالاً ، فقال لأخيه المهاجر عبد الرحمن بن عوف : اقسم مالي نصفين ، ولي امرأتان ، فانظر أعجبهما إليك ، فسمها لي ، أطلقها . فإذا انقضت عدتها فتزوجها . قال عبدالرحمن : بارك الله في أهلك ومالك . أين سوقكم ؟ فدلوه على سوق بني قينقاع ، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن ، وما هي إلا أيام حتى اكتسب مالاً ، وتزوج امرأة من الأنصار .
تأسيس المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية :
كانت هذه المؤاخاة ربطاً بين قرد من المهاجرين وبين فرد من الأنصار ، وحيث إن المسلمين صاروا – بعد اجتماعهم بالمدينة – أمة مستقلة فقد كانوا في حاجة إلى تنظيم اجتماعي ، وإلى تعريف بالواجبات والحقوق الاجتماعية ، وإلى إبراز النقاط التي تجعلهم أمة واحدة مستقلة عن الآخرين .
وكانت في المدينة طائفتان أخريان سوى المسلمين ، تختلفان عنهم في العقيدة والدين ، والمصالح والحاجات ، والعواطف والميول . وهم المشركون واليهود ، فعقد النبي -r- فيما بين المسلمين ميثاقاً ، وفيما بينهم وبين المشركون وفيما بينهم وبين اليهود ميثاقاً آخر ، وكتب بذلك كتاباً قرر فيه :
أن المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس .
وأن أداء ديتهم وفداء أسيرهم بين المؤمنين يكون حسب العرف السابق . وأنهم ينصرون المؤمنين في الفداء والدية .
وأنهم يقومون ضد المفسد والباغي والظالم كيد واحدة ، ولو كان ولد أحدهم .
وأنه لا يقتل مؤمن مؤمناً بكافر ، ولا ينصر كافرا على مؤمن .
وأن ذمة الله واحدة ، فيجير عليهم أدناهم .
وأن من تبع المسلمين من اليهود فله النصر والأسوة .
وأن سلم المسلمين واحدة .
وأن من قتل مؤمناً قصداً يقتص منه ، إلا أن يرضى ولي المقتول ، ويجب على المؤمنين أن يقوموا ضد القاتل .
وأنه لا يحل لمؤمن أن ينصر محدثاً أو يؤويه .
وأنهم إذا اختلفوا في شئ فإن مرده إلى الله ورسوله .
زيادة على هذا الميثاق بين النبي -r- للمسلمين حق الأخوة الإسلامية في أوقات ومناسبات شتى ، وحضهم على التعاون والتناصر ، والتعاضد والتكاتف ، والمؤاساة وإسداء الخير . حتى سمت هذه الأخوة إلى أعلى قمة عرفها التاريخ .
وأما المشركون فكانوا على وشك الانهيار ، حيث أسلمت أغلبيتهم مع ساداتهم وكبرائهم ، فلم يكن في استطاعتهم الوقوف في وجه المسلمين ، فأخذ النبي -r- عليهم :" أنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ، ولا يحول دونه على مؤمن " وبذلك انتهى ما كان يخشى منهم .
وأما اليهود فقد تم الاتفاق بينهم وبين النبي -r- على الأمور الآتية :
أنهم أمة مع المؤمنين ، ولهم دينهم وللمسلمين دينهم ، وعليهم نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم.
وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وعلى من دهم يثرب ، كل يدافع عن جهته
وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم .
وأن المرء لا يؤخذ بإثم حليفه .
وأن النصر للمظلوم .
وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين .
وأن يثرب حرام لأهل هذه الصحيفة .
وأن ما يكون بينهم من حدث أو اشتجار فإن مرده إلى الله ورسوله .
وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها .
وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم .
وبهذا الميثاق انتظم المسلمون والمشركون واليهود من سكان يثرب في كيان واحد ، وأصبحت المدينة وضواحيها دولة ذات استقلال وسيادة ، والكلمة النافذة فيها للمسلمين . ورئيسها رسول الله -r- .
ونشط رسول الله -r- وتبعه المسلمون في الدعوة إلى الله ، فكان يحضر مجالس المسلمين وغير المسلمين ، يتلو عليهم آيات الله ، ويدعوهم إلى الله ، ويزكي من آمن منهم بالله ، ويعلمهم الكتاب والحكمة .
استفزازات قريش
مكائد قريش :
وبينما كان النبي -r- يرتب أمور المدينة وينظم جوانب الحياة فيها ، ويرجو أن يجد فيها هو والمسلمون مكاناً آمناً يعلمون فيه بدينهم بغير معارضة أو استفزاز إذ فوجئوا بمكائد قريش تريد القضاء عليهم .
فمنها أنهم كتبوا إلى مشركي يثرب يحرضونهم على قتال المسلمين وإخراجهم عن المدينة ، ويددونهم بقتل مقاتلتهم واستباحة نسائهم إن لم يفعلوا ذلك . فعلاً قام مشركوا يثرب لينفذوا ذلك . ولكن أتاهم رسول الله -r- فوعظهم ونصحهم فكفوا عما أرادوا من القتال وتفرقوا .
ومنها أن سعد بن معاذ - t- رئيس الأوس ، ذهب إلى مكة معتمراً ، فطاف بالبيت ، ومعه أبو صفوان أمية بن خلف ، فلقيهما أبو جهل ، فلما عرف سعداً هدده وتوعده وقال : نطوف بمكة آمنا وقد آويتم الصباة ، وأما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً ، وكان هذا إعلاناً عن صد المسلمين عن المسجد الحرام . وعن قتلهم إذا وجدوا في حدود قريش .
وكانت لقريش صلة بيهود يثرب ، وكانت اليهود – كما أثر في الإنجيل عن المسيح عليه السلام – حيات ، أولاد الأفاعي ، فكانوا يقومون بنبش الأحقاد والضغائن القديمة بين الأوس والخزرج ويحرشونهم ويحاولون إثارة القلق والاضطراب فيما بينهم .
وهكذا أحاط الخطر بالمسلمين في المدينة من الداخل والخارج ، ووصل الأمر إلى أن الصحابة – رضي الله عنهم – لم يكونوا يبيتون إلا ومعهم السلاح ، ولم يكونوا يصبحون إلا فيه ، وكانوا يحرسون رسول الله -r- حتى نزل قوله تعالى : } وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ{ فقال -r- : يا أيها الناس انصرفوا عني فقد عصمني الله عز وجل .
مشروعية القتال :
وفي هذه الظروف الخطيرة أنزل الله تعالى الإذن بقتال قريش ، ثم تطور هذا الإذن مع تغير الظروف حتى وصل إلى مرحلة الوجوب ، وجاوز قريشاً إلى غيرهم . ولا بأس أن نبين تلك المراحل بإيجاز قبل أن ندخل في ذكر الأحداث .
المرحلة الأولى : اعتبار مشركي قريش محاربين ، لأنهم بدأوا بالعدوان ، فحق للمسلمين أن يقاتلوهم ، ويصادروا أموالهم ، دون غيرهم من بقية مشركي العرب .
قتال كل من تمالأ من مشركي العرب مع قريش ، واتحد معهم . وكذلك كل من تفرد بالاعتداء على المسلمين من غير قريش .
قتال من خان أو تحيز للمشركين من اليهود الذين كان لهم عقد وميثاق مع رسول الله -r- ، ونبذ ميثاقهم إليهم على سواء .
قتال من بادأ بعداوة المسلمين من أهل الكتاب ، كالنصارى ، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
الكف عمن دخل في الإسلام مشركاً كان أو يهودياً أو نصرانياً أو غير ذلك ، فلا يتعرض لنفسه وماله إلا بحق الإسلام وحسابه على الله .
السرايا والغزوات :
تقدم أن رسول الله -r- والمسلمين كانوا آخذين بالحيطة والحذر من البداية أمرهم ، وذلك بالحراسة والبيات مع السلاح ، فلما نزل الإذن بالقتال أخذ رسول الله -r- يرتب البعوث والدوريات لعسكرية . ويؤمر عليها أحداً من أصحابه . وهي المسماة بالسرية ، وربما خرج فيها بنفسه ، وهي المسماة بالغزوة ، وكان المقصود منها :
استكشاف حركات العدو ، وتأمين أطراف المدينة ، حتى لا يؤخذ المسلمون على غرة .
الضغط على قريش بالتعرض لقوافلهم حتى يشعروا بالخطر على تجارتهم وأموالهم وأنفسهم ، فإما أن يفيقوا عن غيهم ، ويسالموا المسلمين ويتركوهم على حريتهم في نشر الإسلام والعمل به ، - وهذا غاية ما كان يتمناه المسلمون – أو يختاروا طريق الحرب والقتال فيخسروا أولاً طريق تجارتهم ، لأنها كانت تمر بأطراف المدينة ، ويلقوا ثانياً جزاء شرهم وعدوانهم بإذن الله ونصره لعباده المؤمنين ، وهذا الذي وقعت الإشارة إلية في كلام الله سبحانه وتعالى مراراً .
عقد مواثيق التحالف ، أو عدم الاعتداء ، مع قبائل أخرى .
إبلاغ رسالة الله ، ونشر دعوة الإسلام قولاً وعملاً .
وأول سرية بعثها رسول الله -r- سرية تسمى بسيف البحر[2][2] بعثها في رمضان في السنة الأولى من الهجرة ، وأمر عليها عمه حمزة بن عبد المطلب ، وكان قوامها ثلاثين رجلاً من المهاجرين ، وقد واصلوا سيرهم حتى بلغوا إلى سيف البحر – أي ساحل البحر الأحمر – من ناحية العيص ، واعترضوا عيراً لقريش ، قادمة من الشام ، عليها أبو جهل ، في ثلاثمائة رجل ، فاصطف الفريقان ، وكاد يقع القتال ، لكن توسط مجدي بن عمرو الجهني ، فانصرف الفريقان .
كانت هذه السرية أول عمل عسكري في تاريخ الإسلام ، وكان لواؤها أبيض ، وهو أول لواء عقد في تاريخ الإسلام : وحمل اللواء أبو مرثد كناز بن حصين الغنوي .
ثم تتابعت البعوث والسرايا فأرسل في شوال عبيدة بن الحارث في ستين رجلاً من المهاجرين إلى بطن رابغ ، فلقي أبا سفيان وهو في مائتي رجل ، فوقع الترامي دون القتال .
ثم أرسل في ذي القعدة سعد بن أبي وقاص في عشرين رجلاً من المهاجرين إلى الخرار قريباً من رابغ فلم يلق كيداً .
ثم خرج رسول الله -r- بنفسه إلى الأبواء أو ودان في صفر سنة 2هـ في سبعين رجلاً من المهاجرين . فلم يلق أحداً وعقد ميثاق الأمان والتناصر مع عمرو بن مخشى الضمري . وكانت أول غزوة خرج لها رسول الله -r- .
ثم خرج إلى بواط من ناحية رضوى ، في ربيع الأول سنة 2هـ في مائتين من المهاجرين ، فلم يلق أحداً .
وفي نفس الشهر أغار كرز بن جابر الفهري على مراعي المدينة وساق بعض المواشي ، فخرج -r- في طلبه إلى سفوان من ناحية بدر ، في سبعين رجلاً من المهاجرين ، ولكن كرزا أفلت ونجح في الفرار ، وهذه الغزوة تسمى بغزوة بدر الأولى .
ثم خرج في جمادى الأولى أو الآخرة سنة 2هـ إلى ذي العشيرة في مائة وخمسين ، أو في مائتين من المهاجرين ، يعرض عيراً لقريش ذاهبة إلى الشام ، ولكنها فاتته قبل أيام . وعقد ميثاق عدم العدوان مع بني مدلج .
ثم بعث في شهر رجب سنة 2هـ عبدالله بن جحش الأسدي إلى نخلة ، بين مكة والطائف ، في اثني عشر رجلاً ، وأسروا اثنين ، وساقوا العير ، وغضب رسول الله -r- على ذلك ، ولم يرض به ، فأطلق الأسيرين وأدى دية المقتول .
وكان الحادث في آخر يوم من رجب ، فأثار المشركون ضجة بأن المسلمين انتهكوا حرمة الشهر الحرام . فأنزل الله :} يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ { [ 2: 217]
وفي شعبان سنة 2هـ حول الله القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة ، وكان ذلك مما يحبه رسول الله -r- وينتظره ، وقد انكشف بذلك بعض المخادعين من المنافقين واليهود الذين في الإسلام زوراً . فارتدوا وتطهرت صفوف المسلمين منهم .
تلك هي التحركات العسكرية التي قام بها رسول الله -r- والمسلمون لحفظ أمن المدينة وأطرافها . ولإشعار قريش بسوء عاقبتها إن لم تكف عن شرها ، ولكنها ازدادت في العلو والاستكبار ، فلاقت جزاء أمرها في بدر ، وكان عاقبة أمرها خسراً .
غزوة بدر الكبرى
وهي أول معركة فاصلة بين قريش والمسلمين ، وسببها أن رسول الله -r- كان بالمرصاد للعير التي فاتته إلى الشام حينما خرج إلى ذي العشيرة . وأرسل لها رجلين إلى الحوراء من أرض الشام ليأتيا بخبرها ، فلما مرت بهما العير أسرعا إلى المدينة ، فندب لها رسول الله -r- المسلمين ، ولم يعزم عليها الخروج ، فانتدب 313 رجلاً – وقيل 317 رجلاً – 82أو 83 أو 86 من المهاجرين و61من الأوس ، و170 من الخزرج . ولم يتخذ هؤلاء أهبتم الكاملة . فلم يكن معهم إلا فرسان وسبعون بعيراً فقط .
وعقد رسول الله -r- لواء أبيض دفعه لمصعب بن عمير ، وكان للمهاجرين علم يحمله
على بن أبي طالب ، وللأنصار علم يحمله سعد بن معاذ ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، ثم أرسل مكانه من الروحاء أبا لبابة بن عبد المنذر .
وخرج رسول الله -r- من المدينة يريد بدراً ن وهو موضع على بعد 155 كيلومتراً جنوب غربي المدينة تحيط به جبال شواهق من كل جانب ، وليس فيه إلا ثلاثة منافذ ، منفذ في الجنوب ، وهو العدوة القصوى ، ومنفذ في الشمال وهو العدوة الدنيا ، ومنفذ في الشرق قريباً من منفذ الشمال يدخل منه أهل المدينة ، وكان فيه المساكن والآبار والنخيل فكانت تنزل القوافل ، وتقيم فيه ساعات وأياماً . فكان من السهل جداً أن يسد المسلمون هذه المنافذ بعد ما تنزل العير في هذا المحيط ، فتضطر إلى الاستسلام ، ولكن من لوازم هذا التدبير أن لا يشعر أهل العير بخروج المسلمين إطلاقاً ، حتى ينزلوا ببدر على غزة ، ولذلك سلك رسول الله -r- أول ما سلك طريقاً آخر غير طريق بدر ثم تأني في التقدم إلى جهة بدر .
أما العير فكان قوامها ألف بعير موقرة بأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ، وكان رئيسها أبا سفيان ، ومعه نحو أربعين رجلاً فقط ، وكان أبو سفيان في غاية التيقظ والحذر ، يسأل كان غاد ورائح عن تحركات المسلمين ، حتى علم بخروج المسلمين من المدينة ، وهو على بعد غير قليل من بدر ، فحول اتجاه العير إلى الغرب ليسلك طريق الساحل ، ويترك طريق بدر إطلاقاً ، واستأجر رجلاً يخبر أهل مكة بخروج المسلمين بأسرع ما يمكن ، فلما بلغهم النذير استعدوا سراعاً وأوعبوا في الخروج . فلم يتخلف من كبرائهم إلا أبو لهب . وحشدوا من حولهم من القبائل ولم يتخلف من بطون قريش إلا بنو عدي .
ولما وصل هذا الجيش إلى الجحفة بلغتهم رسالة أبي سفيان يخبرهم بنجاته ويطلب منهم العودة إلى مكة ، وهم الناس بالرجوع ولكن أبي ذلك أبو جهل استكباراً ونخوة ، فلم يرجع إلا بنو زهرة . أشار عليهم بذلك حليفهم ورئيسهم الأخنس بن شريق الثقفي ، وكانوا ثلاثمائة . أما البقية . وهم ألف ، فواصلوا سيرهم حتى نزلوا قريباً من العودة القصوى ، خارج بدر ، في ميدان فسيح ، وراء الجبال المحيطة ببدر .
أما رسول الله -r- فقد علم بخروج أهل مكة ، وهو في الطريق ، فاستشار المسلمين ، فقام أبو بكر فتكلم وأحسن ، ثم قام عمر فتكلم وأحسن ، ثم قام المقداد فقال : والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى :} اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون َ{ ولكن نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك ، فأشرق وجه رسول الله -r- وسر بذلك .
ثم قال : أشيروا على أيها المسلمون ، فقام سعد بن معاذ رئيس الأنصار وقال : كأنك تعرض بنا يا رسول الله فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد . وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً . إنا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء ، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله ، وقال فيما قال : والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لا تبعناك . فسر رسول الله -r- ثم قال : سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين . والله لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم .
ثم تقدم إلى بدر فوصلها في نفس الليلة التي وصل فيها المشركون فنزل في داخل ميدان بدر قريباً من العدوة الدنيا ، فأشار عليه الحباب بن المنذر أن يتقدم فينزل على أقرب ماء من العدو حتى يصنع المسلمون حياضاً يجمعون فيها الماء لأنفسهم ، ويغورون الآبار فيبقى العدو ولا ماء له ، ففعل
وبنى المسلمون عريشاً يكون مقر قيادته -r- وعينوا له حراساً من شباب الأنصار تحت قيادة سعد بن معاذ .
ثم عبأ رسول الله -r- الجيش وتجول في ميدان القتال وهو يشير بيده ويقول : هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان ، وغداً إن شاء الله " . ثم بات يصلي إلى جذع شجرة ، وبات المسلمون مستريحين تغمرهم الثقة ، وكان الله قد أنزل المطر كما قال :} إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ { .
وفي الصباح – وهو صباح يوم الجمعة 17 من شهر رمضان سنة 2هـ تراآى الجمعان ، فدعا رسول الله -r- :" اللهم هذه قريش ، قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك . اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم احنهم الغداة " . ثم عدل الصفوف ، وأمرهم أن لا يبدؤوا بالقتال حتى يأتيهم أمره . وقال : إذا اكثبوكم – أي اقتربوا منكم – فارموهم ، واستبقوا نبلكم ، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم . ثم رجع إلى العريش ، ومعه أبو بكر -t- فابتهل إلى الله – سبحانه تعالى – ودعاه ، وناشده حتى قال :" اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد أبداً . اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً " . وبالغ في التضرع والابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فرده عليه الصديق وقال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك .
أما المشركون فاستفتح منهم أبو جهل فقال : اللهم أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرفه فاحنه الغداة ، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم .
المبارزة والقتال :
ثم تقدم ثلاثة من خيرة فرسان المشركين : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة ، وبارزوا المسلمين ، فخرج ثلاثة من شباب الأنصار ، فقال المشركون : نريد بني عمنا ، فخرج عبيدة بن الحارث ، وحمزة ، وعلي ، فقتل حمزة شيبة وقتل علي الوليد واختلفت ضربتان بين عبيدة وعتبة وأثخن كل واحد منهما الآخر ، ثم كر علي وحمزة على عتبة فقتلاه ، واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله ، فمات بعد أربعة أو خمسة أيام بالصفراء راجعاً إلى المدينة .
واستاء المشركون بنتيجة المبارزة ، واستشاطوا غضباً ، فهجموا على صفوف المسلمين بعنف ، وشدوا عليهم شدة رجا واحد . والمسلمون ثابتون في أماكنهم يدافعون عن أنفسهم ، ويقولون : أحد . أحد .
وأغفى رسول الله -r- إغفاءة ، ثم رفع رأسه وقال : أبشر أبا بكر . أتاك نصر الله . هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده ، على ثناياه النقع – أي على أطرافه الغبار – وكان الله قد أمد المسلمين يومئذ بألف من الملائكة مردفين .
ثم تقدم رسول الله -r- يثب في الدروع ويتلو قوله تعالى :} سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ { وأخذ حفنة من الحصباء ، ورمى بها وجوه المشركين ، وهو يقول : شاهت الوجوه . فما من مشرك إلا وأصاب عينية ومنخريه من تلك الحفنة ، وعن ذلك يقول الله تعالى :} وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى { .
ثم أمر رسول الله -r- المسلمين بالهجوم على المشركين ، وقال : شدوا وحرضهم على القتال . فشد المسلمون وهم على نشاطهم . وقد زادهم تحمساً وجود رسول الله -r- فيما بين أظهرهم يقاتل قدامهم ، فأخذوا يقلبون الصفوف ، ويقطعون الأعناق . ونصرهم الملائكة فكانوا يضربون فوق أعناق المشركين ، ويضربون منهم كل بنان . فكان يندر رأس الرجل لا يدرى من ضربه ، وتندر يد الرجل لا يدرى من قطعها ، حتى نزلت الهزيمة بالمشركين فلاذوا بالفرار . وأخذ المسلمون يطاردونهم فيقتلون فريقاً ويأسرون فريقاً .
وكان إبليس قد حضر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم تأييداً للمشركين ، وتحريضاً لهم على قتال المسلمين ، فلما رأى الملائكة وما يفعلون نكص على عقبيه وفر إلى البحر الأحمر وألقى نفسه فيه
مقتل أيي جهل :
وكان أبو جهل في عصابة جعلت سيوفها ورماحها حوله مثل السياج ، وكان في صفوف المسلمين حول عبد الرحمن بن عوف شابان من الأنصار لم يأمن عبدالرحمن مكانهما ، إذ قال له أحدهما سراً من صاحبه : يا عم أرني أبا جهل قال : وما تصنع به ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله -r- فو الذي نفسه بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا .وقال الآخر : مثل ذلك . فلما تصدعت الصفوف رآه عبدالرحمن يتجول فأراهما فابتدراه بالسيف حتى قتلاه . ضرب أحدهما ساقه فطاحت رجله كما تطير النوى حين تدق ، وأثخنه الأخر حتى تركه وبه رمق ثم انصرفا إلى رسول الله -r- وقال كل منها : فنظر إلى السيفين وقال : كلاكما قتله . وهما معاذ ومعوذ ابنا عفراء ، وقد استشهد معوذ في نفس الغزوة ، وبقى معاذ إلى زمن عثمان . وأعطاه رسول الله -r- سلب أبي جهل .
وبعد انتهاء المعركة خرج الناس في طلبه ، فوجده عبدالله بن مسعود وبه رمق ، فوضع رجله على عنقه وأخذ لحيته ليحتز رأسه وقال : هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال : وبماذا أخزاني ؟ هل فوق رجل قتلتموه ؟ وقال :فلو غير أكار قتلني . ثم قال : أخبرني لمن الدائرة اليوم ؟ قال الله ولرسوله . قال أبو جهل : لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم ! وقطع عبدالله بم مسعود رأسه ثم جاء به إلى رسول الله -r- فقال -r- : الله أكبر ، والحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده . قال : هذا فرعون هذه الأمة .
يوم الفرقان :
كانت هذه المعركة معركة بين الكفر والإيمان ، قاتل فيها الرجل عمه وأباه ، وابنه وأخاه ، وخاله وأدناه ، قتل فيها عمر بن الخطاب -t- خاله العاص بن هشام ، وواجه فيها أبو بكر ابنه عبد الرحمن، وأسر فيها المسلمون العباس ، وهو عم رسول الله -r- وهكذا انقطعت فيها صلة القرابة ، وأعلى الله فيها كلمة الإيمان على كلمة الكفر ، وفرق بين الحق والباطل ، فسمى ذلك اليوم بيوم الفرقان ، وهو يوم بدر ، اليوم السابع عشر من شهر رمضان .
قتلى الفريقين :
قتل في هذه المعركة أربعة عشر رجلاً من المسلمين ، ستة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار ، ودفنوا في ساحة بدر ومقابرهم لا تزال معروفة .
أما المشركون فقتل منهم سبعون ، وأسر سبعون ، ومعظمهم كانوا من الصناديد ، وقد سحبت أربع وعشرين من صناديدهم وقذفت في قليب – بئر- خبيث في بدر .
وأقام رسول الله -r- في بدر ثلاثة أيام ، فلما استعد للرجوع جاء القليب وقام على شفته ، وناداهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : يا فلان بن فلان ! ويا فلان بن فلان ! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ؟ فإنا وجدنا ماوعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ماوعدكم ربكم حقاً ؟
فقال له عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها . قال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم . ولكن لا يجيبون .
خبر المعكرة في مكة والمدينة :
وصل نبأ الهزيمة إلى مكة بفلول المشركين ، فكبتهم الله وأخزاهم ، حتى نهوا عن النياحة على القتلى ، كيلا يشمت بهم المسلمون . وكان الأسود بن المطلب قتل له ثلاثة بنين . فكان يحب أن ينوح ، فسمع ليلاً صوت نائحة ، فظن الإذن ، وبعث غلامه ، فجاء وأخبر أنها تبكي بعير أضلته ، فلم يتمالك أن قال :
أتبكي أن يضل لها بعير ويمنعها من النوم السهود فلا تبكي على بكر ولكن على بدر تقاصرت الجدود
وذلك في أبيات ندب فيها أبناءه :
أما أهل المدينة فقد أرسل أليهم رسول الله -r- بشيرين : عبدالله بن رواحة إلى العالية ، وزيد بن حارثة إلى السافلة . وكان اليهود قد أرجفوا في المدينة بدعيات كاذبة ، فلما وصل نبأ الفتح عمت الفرحة والسرور ، واهتزت المدينة تهليلاً وتكبيراً ، وتقدم رؤوس المسلمين إلى طريق بدر يهنئون رسول الله -r- .
الرسول -r- إلى المدينة :
وتقدم الرسول -r- إلى المدينة متوجاً بنصر الله ، ومعه الغنائم والساري ، فلما وصل قريباً من الصفراء نزل حكم الغنيمة ، فأخذ منها الخمس ، وقسمها سوياً بين الغزاة . فلما حل بالصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث ، فضرب عنقه على بن أبي طالب . ولما حل بعرق الظبية أمر بقتل عقبة بن أبي معيط ، فقتله عاصم بن ثابت الأنصاري ، وقيل : علي بن أبي طالب .
أما رؤوس المسلمين الذين خرجوا لتهنئيه فلقوه -r- بالروحاء ثم رافقوه يشيعونه إلى المدينة ، فدخل فيها مظفراً منصوراً قد خافه كل عدو . وأسلم بشر كثير وتظاهر عبد الله بن أبي وزملاؤه بالإسلام .
قضية الأسارى :
ولما استقر رسول الله - r - استشار في الأساري . فأشار أبو بكر بأخذ الفدية منهم ، وأشار عمر بقتلهم ، فقرر رسول الله - r - أخذ الفدية ، وكانت من أربعة آلاف إلى ثلاث آلاف درهم . ومن كان منهم يقرأ ويكتب فجعل فديته أن يعلم عشرة غلمان من المسلمين . وأحسن إلى بعض الأسارى فأطلقهم بغير فدية .
وبعثت زينب بنت رسول الله -r- في فداء زوجها أبي العاص بمال فيه قلادة لها ، كانت عند خديجة فأدخلتها بها على أبي العاص ، فلما رآها رسول الله -r- رق لها رقة شديدة ، فاستأذن الصحابة في إطلاقه بغير فدية ، ففعلوا . فأطلقه بعد ان اشترط عليه أن يخلي سبيل زينب ، فخلاها فهاجرت إلى المدينة .
وفاة ابنته -r- رقية ابنته أم كلثوم بعثمان :
وكانت رقية بنت النبي -r- مريضة حين خرج لغزوة بدر . وكانت تحت عثمان بن عفان -t- فأمره أن يتخلف عليها ليمرضها ، وله أجر من حضر بدراً ونصيبه ، وخلف عليها أيضاً أسامة بن زيد ، فتوفيت قبل رجوعه -r- قال أسامة : أتانا الخبرأي بشارة الفتح سوينا التراب على رقية بنت رسول الله -r -.
ولما استقر رسول الله -r- بالمدينة واطمأن بها زوج عثمان بن عفان -t- ابنته الأخرى : أم كلثوم . فلذلك سمى عثمان -t- بذي النورين ، وقد بقيت معه حتى توفيت في شعبان سنة تسع من الهجرة ، ودفنت بالبقيع .
ساء المشركين ومن معهم ما أكرم الله به المسلمين من النصر والفتح ، فأخذوا يدبرون مكائد يضرون بها المسلمين ، وينتقمون منهم ، ولكن الله رد كيدهم في نحورهم وأيد المؤمنين بفضله .
تحشد بنو سليم لغزو المدينة بعد أسبوع من رجوع المسلمين من غزوة بدر ، أوفي المحرم سنة 3هـ . فداهمهم المسلمون في منازلهم ، وأصابوا غنائم ، ورجعوا إلى المدينة سالمين . ثم تآمر عمير بن وهب الجمحي وصفوان بن أمية على اغتيال النبي -r- وجاء عمير لذلك إلى المدينة ، فألقى عليه القبض وأخبره النبي -r- بما تآمر عليه فأسلم .
غزوة بني قينقاع :
ثم كاشف يهود بني قينقاع بالشر والعداوة ، فنصحهم رسول الله -r- فقالوا : يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال . إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس . وصبر رسول الله -r- على هذا الجواب ، فازدادت جرأتهم ، حتى أثاروا في سوقهم فتنه قتل فيها رجل من المسلمين ورجل من اليهود ، فحاصرهم رسول الله -r- يوم السبت للنصف من شوال سنة 2هـ . واستسلموا بعد خمسة عشر يوماً لهلال ذي القعدة ، فأجلاهم إلى أذرعات الشام ، حيث مات أكثرهم بعد قليل .
غزوة السويق :
ونذر أبو سفيان بعد غزوة بدر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً -r- فخرج في مائتي راكب ، وأغار بالعريض في ناحية المدينة ، فقطعوا أسواراً من النخيل ، وأحرقوها ، وقتلوا رجلين وفروا .
وأتى الخبر رسول الله -r- فطاردهم ، ولكنهم أفلتوا ، وطرحوا أثناء فرارهم كثيراً من السويق والأزواد ليتخففوا ، وبلغ المسلمون في مطاردتهم إلى قرقرة الكدر ، ولكنهم فاتوا ، وحمل المسلمون السويق . فسميت بغزوة السويق وبغزوة قرقرة الكدر .
قتل كعب بن الأشرف :
كان كعب من أثرياء اليهود وشعرائهم ومن أشد أعداء المسلمين فكان يهجو رسول الله -r- وأصحابه ، ويشبب بنسائهم . ويمدح أعداءهم ويحرضهم عليهم . ونزل بعد بدر على قريش ، فأغراهم على حرب المسلمين . وأنشد لهم في ذلك أبياتاً ، وقال : وأنتم أهدى منهم سبيلاً ، ولم يعتبر بما حل ببني قينقاع . فقال رسول الله -r- من لكعب بن الأشراف ؟ فانتدب له محمد بن مسلمة وعباد بن بشر وأبو نائلة والحارث بن أوس وأبو عبس بن جبر . وأميرهم محمد بن مسلمة . وقد استأذن النبي -r- أن يقول شيئاً .
ثم أتى كعباً وقال : إن هذا الرجل – إشارة إلى النبي -r- قد سألنا صدقة ، وإنه قد عنانا ، أي أوقعنا في المشقة والعناء .
فاستبشر كعب وقال : والله لتملنه . فا ستقرضه محمد بن مسلمة طعاماً أو تمراً ، واتفق معه على أنه يرهنه السلاح .
وجاءه أبو نائلة فتحاور معه بمثل حوار محمد بن مسلمة ، وقال : إن معي أصحاباً على مثل رأيي أريد أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن إليهم فقبل ذلك منه .
وفي الليلة الرابعة عشرة من شهر ربيع الأول سنة 3هـ جاءه المذكورون ومعهم السلاح ، فنادوه فقام لينزل ، وكان في حصنه ، وكان حديث عهد بعرس ، فقالت له زوجته : أين تخرج هذه الساعة ؟ أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم . فلم يبال بقولها ، ولما نزل ورأى السلاح لم يستنكر ، لما سبق بينهم وبينه من العهد .
وأخذوا يمشون ليتنزهوا ، ومدح أبو نائلة رائحة عطره ، واستأذنه ليشم رأسه . فأذن له في زهو وخيلاء ، فشمه وأدخل فيه يده وأشم أصحابه ، ثم استأذنه ثانياً وفعل مثل ما فعل ، ثم ثالثاً أيضاً ، فلما استمكن من رأسه في المرة الثالثة قال : دونكم عدو الله فاختلفت عليه الأسياف دون جدوى . فوضع ابن مسلمة معولاً في ثنته ، وتحامل عليه حتى بلغ العانة ، فصاح صيحة أفزعت من حوله ، وسقط قتيلاً . وأوقدت النيران على الحصون ، لكن رجع المسلمون بسلام . وقد خمدت نار الفتنة التي طالما أقلقت المسلمين ، وكمنت أفاعي اليهود في أجحارهم لفترة من الزمان .
سرية القردة :
وفي جمادى الآخرة سنة 3هـ أرسلت قريش عيراً لهم إلى الشام عن طريق العراق ، لتخترق نجداً إلى الشام ،ولا تمر بقرب المدينة ، وكان يقودها صفوان بن أمية ، وعلم بذلك رسول الله -r- فأرسل زيد بن حارثة في مائة راكب ، فدهمها زيد وهي تنزل على ماء في نجد يسمى بقردة ، فاستولى على العير بكل ما فيها ، وفر رجال العير بأجمعهم ، وأسر الدليل فرات بن حيان فأسلم – وقدرت الغنيمة بمائة ألف ، وكانت أوجع ضربة تلقتها قريش بعد غزوة بدر .
غــــزوة أحــــد
بينما كانت قريش تستعد للانتقام من المسلمين بما أصيبت به في غزوة بدر إذا بهم يتلقون ضربة أخرى في القردة ، فازدادوا بها غضباً على غضب ، فأسرعوا في الاستعداد وفتحوا باب التطوع ، وحشدوا الأحابيش وخصصوا الشعراء للإغراء والتحريض ، حتى تجهز جيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل ، في ثلاثة آلاف بعير ومائتي فرس ، وسبعمائة درع ، ومعه عدد من النسوة للتحريض وبث روح البسالة والحماس ، وكان قائده العام أبا سفيان ، وحامل لوائه أبطال بني عبد الدار .
تحرك هذا الجيش في غيظه وغضبه حتى بلغ إلى ضواحي المدينة ، وألقى رحله في ميدان فسيح على شفير وادي قناة قريباً من جبل عينين وأحد ، وذلك يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة 3هـ
ونقل الخبر إلى رسول الله -r- قبل نزول الجيش بنحو أسبوع ، فشكل دوريات عسكرية تحسباً للطوارئ ، وحفظاً للمدينة ، فلما وصل الجيش استشار المسلمين حول خطة الدفاع . وكان رأيه -r- أن يتحصن المسلمون بالمدينة ، فيقاتل الرجال على أفواه الأزقة ، والنساء من فوق البيوت ، ووافقه رأس المنافقين عبدالله بن أبي ، وكأنه قصد الجلوس في البيت دون أن يتهم بالتخلف . ولكن تحمس الشباب ، وألحوا على المجالدة بالسيوف في مكان مكشوف ، فقبل رأيهم ، وقسم الجيش إلى ثلاث كتائب . كتيبة للمهاجرين ، وحمل لواءها مصعب بن عمير ، وأخرى للأوس ، وحمل لواءها أسيد بن حضير ، وثالثة للخزرج ، وحمل لواءها الحباب بن المنذر .
واتجه بعد صلاة العصر إلى جبل أحد فلما بلغ موضع الشيخين استعرض الجيش فرد الصغار ، وأجاز رافع بن خديج على صغره ، لأنه كان ماهراً في رمي السهام . فقال سمرة بن جندب أنا أقوى منه . أنا أصرعه ، فأمرهما بالمصارعة ، فصرع سمرة رافعاً فأجازه أيضاً .
وفي موضع الشيخين صلى المغرب والعشاء ، ثم بات هناك . وعين خمسين رجلاً لحراسة المعسكر ، فلما كان آخر الليل ارتحل قبل الفجر فصلاها بالشوط ، وهناك تمرد عبدالله بن أبي فرجع مع ثلاثمائة من أصحابة ، وسرى لأجل ذلك الضعف والاضطراب في بني سلمة وبني حارثة ، وكادتا ترجعان ، ولكن ثبتهما الله . وكان أولاً مجموع عدد المسلمين ألفاً فبقي سبعمائة .
وتقدم رسول الله -r- نحو جبل أحد من طريق قصير يترك العدو في جانب الغرب ، حتى نزل بالشعب عند منفذ الوادي ، جاعلاً ظهره إلى هضاب أحد ، وبذلك صار العدو حائلاً بين المسلمين وبين المدينة .
وهناك عبأ الجيش ، وعين خمسين رجلاً من الرماة على جبل عينين – وهو الذي يعرف بجبل الرماة – بقيادة عبدالله بن جبير الأنصاري ، وأمرهم أن يدفعوا الخيل ، ويحموا ظهور المسلمين . وأكد لهم أن لا يتركوا مكانهم حتى يأتي أمره ، سواء انتصر المسلمون أو انهزموا .
وعبأ المشركون جيشهم ، وتقدموا إلى ساحة القتال ، تحرضهم نسوتهم ، وهن يتجولون في الصفوف ، ويضر بن بالدفوف ويثرن الأبطال ، وينشدن الأبيات :
إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق فراق غير وامق
ويذكرن أصحاب اللواء بواجبهم قائلات :
ويها بني عبد الدار ويها حماة الأدبار ضرباً بكل بتار
المبارزة والقتال :
وتقارب الجيشان فطلع طلحة بن أبي طلحة العبدري حامل لواء المشركين وأشجع فرسان قريش ، ودعا إلى المبارزة وهو على بعير ، فتقدم إليه الزبير بن العوام -t- ووثب وثبة الليث حتى صار معه على جمله ، ثم أخذه واقتحم به الأرض ، وذبحه بسيفه ، فكبر النبي -r- وكبر المسلمون .
ثم انفجر القتال في كل نقطة وحاول خالد بن الوليد – وهو على فرسان المشركين –ثلاث مرات ليبلغ إلى ظهور المسلمين ، ولكن رشقه الرماة بسهامهم حتى ردوه .
وركز المسلمون هجومهم على حملة لواء المشركين حتى قتلوهم عن آخرهم وكانوا أحد عشر مقاتلاً ، فبقى اللواء ساقطاً ، وشدد المسلمون هجومهم على بقية النقاط حتى هدوا الصفوف هدا وحسوا المشركين حساً ، وأبلى أبو دجانة وحمزة – رضي الله عنهما – في ذلك بلاءً حسناً .
وأثناء هذا التقدم والانتصار قتل حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله -t- قتله وحشي بن حرب ، وكان عبداً حبشياً ماهراً في قذف الحربة ، وقد وعده مولاه جبير بن مطعم بالعتق إذا قتل حمزة ، لأن حمزة هو الذي قتل عمه طعيمة بن عدي في بدر ، فاختبأ وحشي وراء صخرة يرصد حمزة ، وبينما حمزة يضرب رأس سباع بن عرفطة – رجل من المشركين – صوب وحشي إليه الحربة ، وقذفها ، وهو على غرة ، فوقعت في أحشائه ، وخرجت من بين رجليه فسقط ولم يستطع النهوض حتى قضى نحبه -t-
ووقعت الهزيمة بالمشركين حتى لاذوا بالفرار ، وفرت النسوة المحرضات ، وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح ، ويأخذون الغنائم ، وحينئذ أخطأ الرماة ، فنزل منهم أربعون رجلاً ليصيبوا من الغنيمة ، على رغم ما كان لهم من الأمر المؤكد بالبقاء في أماكنهم . وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة ، فانقض على العشرة الباقية بجبل الرماة حتى قتلهم ، واستدار هذا الجبل حتى وصل إلى ظهور المسلمين وبدأ بتطويقهم ، وصاح فرسانه صحية عرفها المشركون فانقلبوا ، ورفعت لواءها إحدى نسائهم فالتفوا حوله وثبتوا ، وبذلك وقع المسلمون بين شقي الرحى .
هجوم المشركين على رسول الله -r- وإشاعة مقتله :
وكان رسول الله -r- في مؤخرة المسلمين ، ومعه سبعة من الأنصار واثنان من المهاجرين ، فلما رأى فرسان خالد تطلع من وراء الجبل نادى أصحابه بأعلى صوت : إلى عباد الله ! وسمع صوته المشركون – ولعلهم كانوا أقرب إليه من المسلمين – فأسرعت مجموعة منهم نحو الصوت ، وهاجمت رسول الله -r- هجوماً شديداً ، وحاولت القضاء عليه قبل أن يصل إلية المسلمون ، فقال -r- : من يردهم عنا وله الجنة ؟ أو هو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار فدفعهم ، وقاتلهم حتى قتل ، ثم رهقوه فأعاد قوله ، فتقدم رجل آخر فدفعهم وقاتلهم حتى قتل ، ثم الثالث ، ثم الرابع وهكذا حتى قتل السبعة .
ولما سقط السابع لم يبق حول رسول الله -r- إلا القرشيان طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص ، فركز المشركون حملتهم على رسول الله -r- حتى أصابته حجارة وقع لأجلها على شقه ، وأصيب رباعيته اليمنى السفلى وجرحت شفته السفلى وهشمت البيضة على رأسه . فشجت جبهته ورأسه . وضرب بالسيف على وجنته فدخلت فيها حلقتان من حلق المغفر ، وضرب أيضاً بالسيف على عاتقه ضربة عنيفة اشتكى لأجلها أكثر من شهر . وكان قد لبس درعين فلم يتهتكا .
وقع كل هذا على رغم دفاع القرشيين الدفاع المستميت ، فقد رمى سعد بن أبي وقاص حتى نثل له رسول الله -r- كنانته وقال : ارم فداك أبي وأمي . وقاتل طلحة بن عبيد الله وحده قتال مجموع من سبق ، حتى أصابه خمسة وثلاثون أو تسعة وثلاثون جرحاً ،ووقى النبي - r - فأصيبت أصابعه حتى شلت . ولما أصيب أصابعه قال : حس . فقال النبي -r- لو قلت : بسم الله ، لرفعتك الملائكة والناس ينظرون .
وخلال هذه الساعة الحرجة نزل جبريل وميكائيل فقاتلا عنه أشد القتال ، وفاء إليه -r- عدد من المسلمين فدافعوا عنه أشد الدفاع ، وكان أولهم أبا بكر الصديق ، ومعه أبو عبيدة بن الجراح – رضي الله عنهما – وتقدم أبو بكر لينزع حلقة المغفر عن وجه رسول الله -r- فألح عليه أبو عبيدة حتى نزعها هو ، فسقطت إحدى ثنيتيه ، ثم نزع الحلقة الأخرى فسقطت الثنية الأخرى ، ثم أقبلا على طلحة بن عبيد الله فعالجاه وهو جريح .
وأثناء ذلك وصل إلى رسول الله -r- أبو دجانة ومصعب بن عمير وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهم ، وتضاعف عدد المشركين أيضاً ، واشتدت هجماتهم ، وقام المسلمون ببطولات نادرة ، فمنهم من يرمي ، ومنهم من يدافع ، ومنهم من يقاتل ، ومنهم من يقي السهام على جسده .
وكان اللواء بيد مصعب بن عمير ، فضربوا على يده اليمنى حتى قطعت ، فأخذه بيده اليسرى ، فضربوا عليها حتى قطعت ، فبرك عليه بصدره وعنقه حتى قتل ، وكان الذي قتله هو عبدالله بن قمئة ، فلما قتله ظن أنه قتل رسول الله -r-، لأن مصعباً كان يشبهه r فانصرف ابن قمئة وصاح : إن محمداً قد قتل . وشاع الخبر بسرعة . وبإشاعته تخفف هجوم المشركين ، إذ ظنوا أنهم أصابوا الهدف ، وبلغوا ما أرادوا .
موقف عامة المسلمين بعد التطويق :
ولما رأى المسلمون بداية عملية التطويق تشتتوا وارتبكوا ، ولم يصلوا إلى موقف موحد . فمنهم من فر إلى الجنوب حتى بلغ المدينة المنورة ، ومنهم من فر إلى شعب أحد ولاذ بالمعسكر . ومنهم من قصد رسول الله -r- وأسرع إليه ، فدافع عنه كما تقدم . وبقي معظم المسلمين في دائرة التطويق ، ثابتين في أمكانهم ، يدفعون المطوقين ويقاتلونهم ، وحيث لم يكن بينهم من يقودهم بنظام فقد حصل في صفوفهم خبط وإرباك : رجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم ، حتى قتل اليمان والد حذيفة بأيدي المسلمين أنفسهم . فلما سمعوا خبر مقتل النبي -r- طار صواب طائفة منهم ، وخارت عزائمهم ، واستكانوا ، حتى تركوا القتال . وتشجع آخرون وقالوا : موتوا على ما مات عليه رسول الله -r- .
وبينما هم كذلك إذ رأى كعب بن مالك رسول الله -r- وهو يشق الطريق إليهم ، فعرفة بعينيه ، إذ كان وجهه تحت حلق المغفر والبيضة ، فنادى كعب بصوت عال : يا معشر المسلمين !! أبشروا ، هذا رسول الله -r- فبدأ المسلمون يرجعون إليه ، حتى تجمع حوله ثلاثون رجلاً من أصحابه ، فشق بهم الطريق بين قريش ، ونجح في إنقاذ جيشه المطوق ، وسحبه إلى شعب الجبل . وقد حاول المشركون عرقلة هذا الانسحاب ، ولكنهم فشلوا تماماً ، وقتل منهم اثنان أثناء هذه المحاولة .
وبهذه الخطة الحكيمة نجا المسلمون ، ولكن بعد دفعوا الثمن غالياً لما ارتكبه الرماة من الخطأ ومخالفة أمر رسول الله -r-.
في الشعب :
وبعدما خرج المسلمون من دائرة التطويق ، ونجحوا في التمكن من الشعب حصل بينهم وبين المشركين بعض المناوشات الخفيفة الفردية ، ولم يجترئ المشركون على التقدم والمواجهة العامة ، وإنما بقوا في الساحة قليلاً ، مثلوا خلاله القتلى فقطعوا آذانهم وأنوفهم وفروجهم ، وبقروا بطونهم ، وبقرت هند بنت عتبه عن بطن حمزة حتى أخرجت كبده ، ولاكتها ، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ، واتخذت من الآذان والأنوف قلائد وخلاخيل .
وجاء أبي بن خلف متغطرساً إلى الشعب يزعم أنه يقتل رسول الله -r-، فطعنه رسول الله -r- بحربة في ترقوته ، في فرجة بين الدرع والبيضة ، فتدحرج عن فرسه مراراً ، ورجع إلى قريش وهو يخور خوار الثور ، فلما بلغ سرف – قريباً من مكة – مات لأجله .
ثم جاء رجال من المشركين يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد ، وعلوا في بعض جوانب الجبل ، فقاتلهم عمر بن الخطاب ورهط من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل ، وتفيد بعض الروايات أن سعد بن أبي وقاص -t- قتل ثلاثة منهم .
وبلغ عدد قتلى المشركين اثنين وعشرين وقيل : سبعة وثلاثين ، أما المسلمون فقد قتل منهم سبعون : 41 من الخزرج ، و24 من الأوس ، و 4 من المهاجرين ، وواحد من اليهود ، وقيل غير ذلك
وبعد المحاولة الأخيرة الفاشلة من أبي سفيان وخالد بن الوليد أخذ المشركون يستعدون للعودة إلى مكة .
أما رسول الله -r- فإنه لما تمكن من الشعب واطمأن فيه ، جاءه علي -t- بماء من المهراس – ما هو ماء بأحد – ليشرب منه النبي -r- ، فوجد له ريحاً فلم يشرب منه ، بل غسل به الوجه ، وصبه على الرأس ، فأخذ الدم ينزف من الجرح ، ولا ينقطع ، فأحرقت فاطمة –رضي الله عنها – قطعة من حصير ، وألصقته ، فاستمسك الدم ، وجاء محمد بن مسلمة بماء سائع فشرب منه ، ودعا له بخير ، وصلى الظهر قاعداً ، وصلى المسلمون معه قعوداً .
وجاءت نسوة من المهاجرين والأنصار ، فيهن عائشة ، وأم أيمن ، وأم سليم ، وأم سليط ، فكن يملأن القرب بالماء ، ويسقين الجرحى ،- رضي الله عنهن أجمعين -.
حوار وقرار :
ولما استعد المشركون للرجوع تماماً اشرف أبو سفيان على الجبل ، ونادى : أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه ، فقال : أفيكم ابن أبي قحافة ؟ فلم يجيبوه ، فقال : أفيكم عمر بن الخطاب ؟ فلم يجيبوه ، وكان النبي -r- هو الذي نهاهم عن الإجابة ، فقال أبو سفيان : أما هؤلاء فقد كفيتموهم ، فلم يملك عمر نفسه أن قال : يا عدو الله ! إن الذين ذكرتهم أحياء ، وقد أبقى الله ما يسوءك .
فقال ؟أبو سفيان : قد كان فيكم مثله ، لم آمر بها ولم تسؤني ، ثم قال : اعل هبل ، فعلمهم النبي -r- الجواب ، فأجابوه : الله أعلى وأجل .
ثم قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم .
فعلمهم النبي - r - الجواب فأجابوه : الله مولانا ولا مولى لكم .
ثم قال أبو سفيان : أنعمت فعال ، يوم بيوم بدر ، والحرب سجال .
فقال عمر -t- : لا سواء . قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار .
قال أبو سفيان : إنكم لتزعمون ذلك ، لقد خبنا إذن وخسرنا .
ثم دعاه أبو سفيان وقال : أنشدك الله يا عمر ! أقتلنا محمداً ؟
قال عمر -t- : لا . وإنه ليستمع كلامك الآن .
قال : أنت أصدق عندي من ابن قمئة ، وأبر .
ثم نادى أبو سفيان : إن موعدكم بدر العام القابل .
فأمر رسوا الله -r- أحد أصحابة أن يقول : نعم هو بيننا وبينك موعد .
رجوع المشركين وقيام المسلمين بتفقد الجرحى ودفن الشهداء :
ثم رجع أبو سفيان إلى جيشه ، وأخذ الجيش في الارتحال ، وقد ركب الإبل وجعل الخيل بالجنب ، وكان هذا دليل قصدهم لمكة ، وكان من فضل الله على المسلمين ، إذ لم يكن بين المشركين وبين المدينة من يمنعهم عن الدخول فيها ، ولكن صرفهم الله الذي يحول بين المرء وقلبه .
فنزل المسلمون إلى ساحة القتال يتفقدون الجرحى والقتلى ، وقد نقل بعضهم بعض الشهداء إلى المدينة ، فأمر رسول الله -r- بردهم إلى مضاجعهم ، ودفنهم في ثيابهم ، بغير غسل ولا صلاة ، وقد دفن الاثنين والثلاثة في قبر واحد ، وربما جمع بين الرجلين في ثوب واحد ، وجعل بينهما الإذخر ، وقدم في اللحد من كان أكثر حفظاً للقرآن ، وقال : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة .
ووجدوا نعش حنظلة بن أبي عامر في ناحية فوق الأرض ، يقطر منه الماء ، فقال النبي -r-: إن الملائكة تغسله ، وكان من قصته أنه كان حديث عهد بعرس ، وكان معها إذ سمع المنادي ينادي للحرب ، فتركها ، وخرج إلى ساحة القتال ، وقاتل حتى قتل ، وهو جنب ، فغسلته الملائكة ، فسمى غسيل الملائكة .
وكفن حمزة في برد إن غطى رأسه بدت رجلاه ، وإن غطى رجلاه بدا رأسه ، فجعلوا على رجليه الإذخر ، وكذلك مصعب بن عمير .
إلى المدينة وفي المدينة :
ولما فرغ رسول الله -r- والمسلمون من دفن الشهداء ، والدعاء لهم ، رجعوا إلى المدينة ، وقد خرجت نسوة قتل أقاربهن ، فلقين رسول الله -r- في الطريق ، فعزاهن ودعا لهن ، وجاءت امرأة من بني دينار قتل زوجها وأخوها وأبوها ، فلما نعوا لها سألت عن رسول الله -r- فقالوا لها : إنه بحمد الله كما تحبين ، فقالت : أرونيه ، فأشاروا لها ، فلما رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل : أي صغيرة .
وبات المسلمون في حالة الطوارئ ، يحرسون المدينة ، ويحرسون رسول الله -r- ، وهم منهكون من الجرح والتعب ، والحزن والألم ، ورأى رسول الله -r- أنه لابد من متابعة حركات العدو حتى يناجزه في الميدان لو حاول العودة إلى المدينة .
غزوة حمراء الأسد :
فلما أصبح نادى في المسلمين أن يخرجوا للقاء العدو ، ولا يخرج إلا من شهد القتال بأحد ، فقالوا : سمعاً وطاعة ، وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد على بعد ثمانية أميال من المدينة ، وعسكروا هناك .
أما المشركون فكانوا نازلين بالروحاء ، على بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة ، يفكرون ويتشاورون في العودة إليها ، ويأسفون على ما فاتهم من الفرصة الصالحة .
وكان معبد بن أبي معبد الخزاعي من المناصحين لرسول الله -r- ، فجاءه بحمراء الأسد ، وعزاه على ما أصابه في أحد ، فأمره رسول الله أن يلحق أبا سفيان ويخذله ، فلحقهم بالروحاء ، وقد أجمعوا ليعودوا إلى المدينة ، فخوفهم أشد التخويف ، قال : إن محمداً خرج في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقاً ، فيهم من الحنق عليكم شئ لم أر مثله قط ، ولا أرى أن ترتحلوا حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة .
فلما سمعوا هذا خارت عزائمهم ، وانهارت معنوياتهم ، واكتفى أبو سفيان بحرب أعصاب دعائية ، إذ كلف من يقول للمسلمين :} إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ { ، حتى لا يطارده المسلمون ، وعجل الارتحال إلى مكة .
أما المسلمون فلم يؤثر فيهم هذا الإنذار ، بل :} ... زَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{ وبقوا في حمراء الأسد إلى يوم الأربعاء ، ثم رجعوا إلى المدينة :} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ { .
أحــداث وغــزوات
كان لما أصاب المسلمين بأحد أثر سئ على سمعتهم ، إذ تجرأ الأعداء ، وكاشفوهم بالنزال ، ووقعت عدة أحداث لم يكن بعضها في صالح المسلمين ، ونكتفي هنا بذكر الأهم منها فقط .
`حادث الرجيع
قدم رجال من عضل وقارة إلى رسول الله -r - ، وذكروا له أن فيهم إسلاماً ، وطلبوا منه يبعث إليهم من يعلمهم الدين ، ويقرئهم القرآن ، فبعث عشرة من أصحابه أمر عليهم عاصم بن ثابت ، فلما كانوا بالرجيع غدروا بهم ، واستصرخوا عليهم بني لحيان من هذيل ، فلحقهم قريب من مائة رام ، وأحاطوا بهم وهم في مكان مرتفع ، فأعطوهم العهد إن نزلوا أن لا يقتلوهم ، فأبى عاصم النزول ، وقاتل مع أصحابه ، فقتل منهم سبعة ، وبقي ثلاثة ، فأعطاهم الكفار العهد مرة أخرى ، فنزلوا ، فغدروا بهم ، وربطوهم ، فقال أحد الثلاثة ، هذا أول الغدر ، وأبى يصحبهم فقتلوه ، وانطلقوا بالاثنين الآخرين إلى مكة ، وهما خبيب بن عدي ، وزيد بن الدثنة ، فباعوهما ، وكان خبيب قد قتل الحارث بن عامر بن نوفل يوم بدر ، فاشترته بنته أو أخوه ، وسجنوه فترة ثم خرجوا به إلى التنعيم ليقتلوه ، فصلى ركعتين ، ثم دعا عليهم ، ثم قال فيما قال :
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
فقال له أبو سفيان : أيسرك أن محمداً عندنا نضرب عنقه ، وإنك لفي أهلك ؟ فقال : والله ما يسرني أني في أهلي ، وأن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكه تؤذيه ، ثم قتله عقبة بن الحارث بن عامر بأبيه .
وأما زيد بن الدثنة فكان قتل أمية بن محرث يوم بدر ، فابتاعه ابنه صفوان بن أمية ، وقتله بأبيه ، وقد نسب إليه ما تقدم من قول أبي سفيان ورد خبيب عليه .
وبعثت قريش ليؤتى بجزء من جسد عاصم ، فبعث الله المزنابير فحمته منهم ، وكان عاصم قد عهد الله أن لا يمسه مشرك ، ولا يمس هو مشركاً في حياته ، فحفظه الله بعد وفاته .
مأساة بئر معونة :
وفي نفس أيام حادثة الرجيع حدثت مأساة أخرى أشد منها ، وملخصها أن أبا براء عامر بن مالك ، المدعو بملاعب الأسنة ، قدم على رسول الله -r -المدينة ، فدعاه رسول الله -r - إلى الإسلام ، فلم يسلم ، ولم يبعد ، ولكنه أبدى رجاءه أن أهل نجد يجيبونه إلى الإسلام إذا بعث إليهم الدعاة ، وقال : أنا جار لهم ، فبعث إليهم رسول الله -r - سبعين داعياً من قراء الصحابة ، فنزلوا على بئر معونة ، وذهب حرام بن ملحان بكتاب رسول الله -r- إلى عدو الله عامر بن الطفيل ، فلم ينظر فيه ، وأمر رجلاً فطعنه من خلفه حتى أنفذ الرمح ، فقال حرام : الله أكبر ، فزت ورب الكعبة .
واستنفر عدو الله بني عامر فلم يجيبوه ، لجوار أبي براء ، فاستنفر بني سليم ، فأجابته بطون منها : رعل وذكوان وعصية ، فأحاطوا بالصحابة ، وقتلوهم عن آخرهم ، ولم ينج إلا كعب بن زيد ، وعمرو بن أمية الضمري ، فأما كعب بن زيد فكان جريحاً ، وظنوه قتيلاً ، فارتث من بين القتلى ، فعاش حتى قتل يوم الخندق ، وأما عمرو بن أمية الضمري ، فكان من المنذر بن عقبة في المسرح ، فلما رأيا الطير تحوم على الموقعة عرفا الحادث ، فنزل بن عقبة في المسرح ، فلما رأيا الطير تحوم على الموقعة عرفا الحادث ، فنزل المنذر ، وقاتل حتى قتل ، وأسر عمرو بن أمية ، فأخبر عنه عامر بن الطفيل أنه من مضر ، فجز ناصيته ، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه .
ورجع عمرو بن أمية إلى المدينة ، فلما كان بالقرقرة من الطريق وجد رجلين من بني كلاب ، ظنهما من العدو فقتلهما ، وكان لهما عهد من رسول الله -r- فلما قدم المدينة وأخبر رسول الله -r- قال : قتلت قتيلين لأدينهما .
وقد حزن رسول الله -r- حزناً شديداً على ما حدث بالرجيع وببئر معونة ، وكان الحادثان في شهر واحد – شهر صفر سنة 4هـ - ويقال : إن خبر الحادثين وصل إليه -r- في ليلة واحدة ، فدعا على هؤلاء القتلة ثلاثين صباحاً في صلاة الفجر ، حتى أنزل الله عنهم : أبلغوا عنا قومنا : أنا لقينا ربنا ، فرضي عنا ، ورضينا عنه . فترك القنوت .
غزوة بني النضير
تآمر بنو النضير مؤامرة أخبث من عضل وقارة ، ومن الغادرين بأصحاب بئر معونة . فقد طلبوا من رسول الله -r- أن يجتمع بهم في موضع يسمعون منه القرآن والإسلام ، ويناقشونه ، ويؤمنون به إن اقتنعوا ، فتم الاتفاق على ذلك ، وقرر هؤلاء الأشرار فيما بينهم أن يأتي كل رجل منهم بخنجر تحت ثيابه ، فيغتالون النبي -r- بغتة وعلى غرة . فوصل الخبر إلى رسول الله -r- فقرر إجلاءهم .
وقيل : لما رجع عمرو بن أمية الضمري - t - ، وأخبر بقتل رجلين من بني كلاب ، ذهب النبي -r - إلى بني النضير في نفر من الصحابة ، ليعينوه في ديتها حسب الميثاق ، فقالوا نفعل يا أبا القاسم ، اجلس ههنا ، حتى نقضى حاجتك ، فجلس على جنب جدار ينتظر ، وخلا بعضهم ببعض ، وركبهم الشيطان ، فقالوا : أيكم يأخذ هذه الرحى ويصعد فيلقها على رأسه ؟ فانبعث أشقاهم عمرو بن جحاش ، ونزل جبريل يخبر النبي -r- بما أرادوا ، فقام مسرعاً وتوجه إلى المدينة ، ثم لحقه أصحابه ، فأخبرهم بالمؤامرة وقرر إجلاءهم .
ثم بعث إليهم محمد بن مسلمة يقول لهم : اخرجوا من المدينة ، ولا تساكنوني بها ، وقد أجلتكم عشراً ، فمن وجد بعده يضرب عنقه ، فتجهزوا أياماً للرحيل ، ثم أرسل رئيس المنافقين عبدالله بن أبي : أن اثبتوا ولا تخرجوا ، فأن معي ألفين يدخلون معكم حصونكم ، ويموتون دونكم : ] لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ [ وينصركم قريظة وغطفان ، فشعروا بالقوة وامتنعوا ، وقالوا لرسول الله -r -: إنا لا نخرج ، فاصنع ما بدا لك .
فكبر رسول -r- وكبر أصحابه ، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، وأعطى اللواء عليا ، وسار إليهم ، حتى فرض عليهم الحصار ، فالتجأوا إلى حصونهم ، وأخذوا يرمون المسلمين بالنبل والحجارة ، وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم ، فأمر النبي -r- بقطعها وتحريقها ، فانهارت عزائمهم ، وألقى الله الرعب في قلوبهم ، فاستسلموا بعد ست ليال ، وقيل : بعد خمس عشرة ليلة ، على أنهم يخرجون من المدينة ، واعتزلتهم قريظة ، وخانهم رأس المنافقين وحلفاؤهم : ] كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ [
وسمح لهم رسول الله -r - بأن يحملوا معهم ما يشاؤون من الأمتعة والأموال إلا السلاح ، فحملوا ما استطاعوا ، حتى قلعوا من بيوتهم الأبواب والشبابيك ، والأوتاد وجذوع السقف ، وحملوها فيما حملوا ، وهذا الذي قال الله عنه : ] يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [ ونزل أكثرهم وأكابرهم بخيبر ، ونزلت طائفة منهم بالشام .
وقسم رسول الله -r- أرضهم وديارهم بين المهاجرين الأولين خاصة ، وأعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف من الأنصار لفقرهما ، وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة ، ويجعل ما بقى في سلاح والخيول عدة في سبيل الله ، وقد وجد عندهم من السلاح خمسين درعاً ، وخمسين بيضة ، وثلاثمائة وأربعين سيفاً .
غزوة بدر الموعد :
ذكرنا أن أبا سفيان كان قد تواعد في أحد على حرب في العام القادم ، فلما دخل شهر شعبان سنة 4هـ ، خرج رسول الله -r- إلى بدر حسب الموعد ، وأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان ، وكان معه ألف وخمسمائة مقاتل ، وعشرة أفراس ، وأعطى اللواء على بن أبي طالب ، واستخلف على المدينة عبدالله بن رواحة .
أما أبا سفيان فإنه خرج في ألفي مقاتل ، وخمسين فرساً ، حتى انتهى إلى مر الظهران ، ونزل على مجنة – ماء مشهور في تلك الناحية – وكان قد أخذه الرعب منذ خروجه ، فقال لأصحابه : لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر ، وتشربون فيه اللبن ، وهذا عام جدب ، وإني راجع فارجعوا ، فرجعوا ولم يبدوا أي معارضة .
وقد باع المسلمون أيام إقامتهم ببدر ما كان معهم من أموال التجارة ، وربحوا درهمين بدرهم ، ثم رجعوا وقد هابهم كل عدو ، وساد الأمن في كل جانب ، حتى مضى أكثر من سنة ولم يجترئ الأعداء على أن يحركوا ساكناً ، واستطاع رسول الله -r- بفضل هذا الأمن أن يتفرغ لتأمن أقصى الحدود ، حتى خرج لتأديب قطاع الطرق إلى دومة الجندل في ربيع الأول سنة 5هـ فبسط الأمن والسلام في كل جانب .
غزوة الأحزاب
كاد رسول الله - r- والمسلمون يتفرغون لنشر دينهم ، وإصلاح أحوالهم ، بعد أن ساد الهدوء بفضل ما اتخذه رسول الله -r- من الخطط الحكيمة ، فلم يحصل بعد غزوة بني النضير أي مواجهة تذكر ، لفترة تجاوز سنة ونصف سنة ، ولكن تلك هي اليهود – الذين سماهم المسيح عليه السلام : حيات وأولاد الأفاعي – لم يرقهم أن يستريح المسلمون ، فهم بعد ما استقروا بخيبر ، واطمأنوا بها أخذوا يدبرون المؤامرات ، ويتحركون وراء الستار ، حتى نجحوا في جلب جيش عرمرم من قبائل العرب ضد أهل المدينة .
يقول أهل السير : إن عشرين رجلاً من سادتهم وزعمائهم خرجوا إلى قريش ، يحرضونهم على غزو المدينة ، ووعدوهم بالنصر ، فأجابت لهم قريش ، ثم ذهبوا إلى غطفان ، فأجابوا ، ثم طافوا في القبائل فأجاب عدد منها ، ثم حركوا هؤلاء القوم جميعاً تحت خطة منسقة حتى يصل الجميع إلى أطراف المدينة في زمن واحد .
الشورى وحفر الخندق :
وبلغ خبر تجمعهم وتحركهم إلى المدينة ، فاستشار رسول الله -r- أصحابه ، فأشار سلمان الفارسي -t- بحفر الخندق ، فاستحسنوه واتفقوا عليه .
وحيث إن المدينة تحيط به اللابات أي الحرات – وهي الحجارة السود – من الشرق والغرب والجنوب ، ولا تصلح لدخول العساكر إلا جهة الشمال فإن رسول الله -r- اختار في تلك الجهة أضيق مكان بين الحرة الغربية والشرقية – وهو نحو ميل – فوصل الحرتين بحفر الخندق في هذا المكان ، وبدأ هذا الخندق في جهة المغرب من شمال جبل سلع ، ووصله في الشرق برأس ممتد من حجارة الحرة الشرقية عند أطم الشيخين .
وقد وكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا أربعين ذراعاً ، واشترك معهم رسول الله -r- في حفر الخندق ونقل التراب ، وكانوا يرتجزون فيجيب ، ويرتجز فيجيبون ، وقد كابدوا أثناء حفره أنواعاً من المشقة ، ولا سيما شدة البرد ، وشدة الجوع ، وكان يؤتي لهم بملء كف من الشعير ، فيصنع بدسم يفوح منها الريح ، فيأكلونه ، وهو يصعب مروره على الحلق ، وشكوا إلى رسول الله -r- الجوع ، وأروه على بطونهم حجراً حجراً كانوا قد ربطوه ، فأراهم على بطنه حجرين .
وقد وقعت أثناء الحفر بعض الآيات ، رأى جابر شدة الجوع في رسول الله -r- فلم يصبر ، فذبح بهيمة له ، وطحنت امرأته صاعاً من شعير ، ثم دعا رسول الله -r- سراً ، في نفر من أصحابه ، فقام رسول الله -r- بجميع أهل الخندق ، وهم ألف ، فأكلوا وشبعوا وما زالت البرمة تغط ، والعجين يخبز ، وذهبت أخت النعمان بن بشير بحفنة من تمر لأبية وخاله فبدده رسول الله -r- فوق ثوب ، ودعا أهل الخندق ، فأكلوا ورجعوا ، والتمر يسقط من أطراف الثوب .
وعرضت لجابر وأصحابه أثناء الحفر كدية شديدة ، فنزل رسول الله -r- وضربها بالمعول ، فعادت كثيباً أهيل ، أي رملاً لا يتمسك ، وعرضت لبراء وأصحابه صخرة ، فنزل رسول الله -r- فقال – بسم الله ثم ضرب ضربة بالمعول فقطع قطعة ، وخرج منها ضوء ، فقال : الله أكبر ، أعطيت مفاتيح الشام ، وإني لأنظر إلى قصورها الحمراء الساعة ، ثم ضرب الثانية وبشر بفتح فارس ، ثم الثالثة وبشر بفتح اليمن ، وانقطعت الصخرة .
بين طرفي الخندق :
وأقبلت قريش ومن تبعهم في أربعة آلاف ، ومعهم ثلاثمائة فرس ، وألف بعير ، يرأسهم أبو سفيان ، ويحمل لواءهم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري، فنزلوا بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة . وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلاف ، فنزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد ، وكان قدوم هذا الجيش العرمرم إلى أسوار المدينة بلاء شديداً ومخيفاً جداً ، كما قال اللهتعالى -:] إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا{10} هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً[ فثبت الله المؤمنين ، كما قال ] وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [ ( 33: 22) ، أما المنافقون والذين في قلوبهم مرض فقالوا : ] مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [
واستخلف رسول الله -r– على المدينة ابن أم مكتوم ، وجعل النساء والذرارى في الآطام ، ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سلع وتحصنوا به ، والخندق بينهم وبين الكفار .
وبعد أن استقر المشركون وتهيأوا تقدموا نحو المدينة ، فلما اقتربوا من المسلمين فوجئوا بخندق عريض يحول بينهم وبين المسلمين ، فبهتوا ، وقال أبو سفيان : تلك مكيدة ما عرفتها العرب ، فأخذوا يدورون حوله في طيش وغضب ، يطلبون نقطة يعبرون منها ، والمسلمون يرشقونهم بالنبل ، حتى لا يقتربوا منه ، فيتمكنوا من الاقتحام ، أو من إهالة التراب وبناء الطريق عليه .
واضطر المشركون إلى فرض الحصار على المدينة ، بينما لم يكونوا مستعدين له ، إذ لم يكن ذلك في حسابهم عند الخروج ، فأخذوا يخرجون في النهار يحاولون عبور الخندق ، والمسلمون يجابهون لهم على طول الخط ، يناضلون ويرامون بالحجارة ، وقد كثف المشركون جهودهم مراراً ، وأداموها طول النهار ، واضطر المسلمون إلى الاستمرار في الدفاع ، حتى فاتت منهم ومن رسول الله -] r [ - الصلوات ، ولم يتمكنوا من أدائها إلا بعد غروب الشمس ، أو قريباً من ذلك ، ولم تكن صلاة الخوف قد شرعت حينذاك .
وفي أحد الأيام خرج نفر من فوارس المشركين فيهم عمرو بن عبد ود ، وعكرمة بن أبي جهل ، وضرار بن الخطاب ، وغيرهم ، فقصدوا مكاناً ضيقاً من الخندق ، واقتحموه ، وجالت بهم خيلهم في الساحة التي بين الخندق وجبل سلع ، فخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين ، فحال بينهم وبين المكان الذي اقتحموا منه الخندق ، فدعا عمرو بن عبد ود إلى المبارزة ، وكان جريئاً فاتكا ، فأغضبه علي حتى نزل من الفرس ، فتجاولا و تصاولا حتى قتله علي ، وانهزم الباقون وقد ملأهم الرعب ، حتى ترك عكرمة رمحه ، وسقط نوفل بن عبدالله في الخندق فقتله المسلمون .
وأصيب أثناء المراماة عدد قليل من الطرفين ، وبلغ عدد قتلى المشركين عشرة ، وقتلى المسلمين ستة .
وأصيب سعد بن معاذ بسهم قطع أكحله ، فدعا الله أن يبقيه إن كان قد بقى من حرب قريش شئ ، وإلا فيجعل موته في هذا الجرح ، ثم قال : في دعائه :
" ولا تمتني حتى تقر عيني من قريظة "
غدر بني قريظة وأثره على سير الغزوة :
وكانت قريظة في عهد رسول الله - r - وقد سبق ذكره – فجاء حيي بن أخطب سيد بني النضير ، أثناء هذه الغزوة ، إلى كعب بن أسد سيد بني قريظة فحسن له الغدر ، وأغراه على نقض العهد ، فنقض كعب العهد ، وقام إلى جانب قريش والمشركين .
وكانت قريظة في جنوب المدينة ، والمسلمون في شمالها ، ولم يكن من يحول بين قريظة وبين نساء المسلمين وذراريهم ، فكان الخطر عليهم شديداً ، وبلغ الخبر رسول الله - r - فأرسل مسلمة بن أسلم في مائتين وزيد بن حارثة في ثلاثمائة لحراسة ذراري المسلمين ، وأرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة في رجال من الأنصار يستجلون له الخبر ، فوجدوا اليهود على أخبث ما يكونون ، فقد جاهروا بالسب والعداوة ، ونالوا من رسول الله -r - ، وقالوا : من رسول الله ؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد ، فرجعوا وقالوا لرسول الله -r - عضل وقارة : " يعني أن قريظة على غدر كغدر عضل وقارة بأصحاب الرجيع "
وتفطن الناس ، فاشتد خوفهم كما قال الله تعالى - ] إِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا{10} هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً [ . ونجم النفاق حتى قال بعضهم : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يأمل على نفسه أن يذهب إلى الغائط ، وقال آخرون : ] يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [ ، وأراد فريق منهم الفرار فاستأذنوا النبي -r - وقالوا محتالين : ] إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [ ، وما هي بعورة .
قلق رسول الله - r - حين بلغه غدرهم ، فتقنع بالثوب واضطجع ، ومكث هكذا طويلاً ، ثم نهض وقال : الله أكبر ، وبشر المسلمين بالفتح والنصر .
وأراد أن يرسل إلى عيينة بن حصن ليصالحه على ثلث ثمار المدينة ، وينسحب هو بغطفان ، فأبى ذلك سيدا الأنصار : سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، وقالا : كنا نحن وهؤلاء على الشرك ، ولم يطمعوا أن يأكلوا منها ثمرة ، فحين أكرمنا الله بالإسلام ، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ؟ والله لا نعطيهم إلا السيف ، فصوب رأيهما .
تخاذل الأطراف ونهاية الغزوة :
ولله في خلقه شئون ، فقد جاء أثناء هذه الظروف القاسية نعيم بن مسعود الأشجعي ، وهو من غطفان ، وكان صديقاً لقريش واليهود ، فقال : يا رسول الله إني قد أسلمت ، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت ، فقال : أنت رجل واحد ، وماذا عسى أن تفعل ، ولكن خذل عنا ما استطعت ، فإن الحرب خدعة .
فذهب نعيم إلى قريظة ، فلما رأوه أكرموه ، فقال : تعرفون ودي لكم ، وخاصة ما بيني وبينكم ، وإني محدثكم حديثاً فاكتموه عني ، قالوا : نعم ، قال : قد رأيتم ما وقع لبني قينقاع ، والنضير ، وقد ظاهرتم قريشاً وغطفان ، وهم ليسوا مثلكم ، فالبلد بلدكم ، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره ، وأما بلدهم وأموالهم ونساؤهم فبعيدة ، فهم إن أصابوا فرصة انتهزوها وإلا لحقوا ببلادهم ، وتركوكم ومحمداً ينتقم منكم كيف يشاء ، قالوا : فما العمل ؟ قال : لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن .
قالوا : لقد أشرت بالرأي .
ثم توجه نعيم إلى قريش واجتمع برؤسائهم ، وقال : تعلمون ودي لكم ونصحي إليكم ، قالوا : نعم . قال : فإني محدثكم حديثاً فاكتموه عني ، قالوا : نفعل ، قال : فإن يهود قد ندموا على نقضهم عهد محمد ، وخافوا أن ترجعوا وتتركوهم معه ، فراسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن ، ويدفعونها إليه ، ثم يوالونه عليكم ، فرضي بذلك ، فاحذروهم ، وإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم ، ثم ذهب إلى غطفان فقال لهم مثل ذلك .
وبهذا التدبير الحكيم تشككت النفوس وتشققت ، وأرسل أبو سفيان وفداً إلى قريظة يدعوهم إلى القتال غداً ، فقالوا ، إن اليوم يوم السبت ، ولم يصبنا ما أصابنا إلا من التعدي فيه ، ثم إنا لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهائن منكم ، لكي لا تتركونا وتذهبوا إلى بلادكم ، فقالت قريش وغطفان : صدقكم والله نعيم ، وأرسلت قريش إلى اليهود تقول لهم : لا نرهنكم أحداً ، واخرجوا للقتال . فقالوا صدقكم والله نعيم . فخارت عزائم الفريقين وتخاذلوا .
أما المسلمون فكانوا يدعون :" اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا " ، وابتهل رسول الله -r- إلى ربه – عز وجل -: " اللهم منزل الكتاب ، سريع الحساب ، اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وزلزلهم " .. فأرسل الله عليهم ريحا وجنوداً من الملائكة ، فزلزلوهم وقذفوا في قلوبهم الرعب ، وكفأت الريح قدورهم ، وقلعت خيامهم ، وضربهم البرد القارس حتى لم يقر لهم قرار ، وبدءوا يتهيأون للرحيل .
وأرسل رسول الله -r - حذيفة - t- إليهم ، ليأتي بخبرهم ، فذهب ودخل بينهم ، ثم رجع ، ولم يجد مس البرد ، بل كأنه كان في حمام – الذي يغتسلون فيه الماء الحميم أي الحار – فلما رجع أخبر برحيل القوم ونام . فلما أصبح المسلمون رأوا ساحة القتال من جهة الكفار ليس فيها داع ولا مجيب ، فقد ] ورَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً [ ..
كانت بداية هذه الغزوة في شوال سنة 5هـ ، ونهايتها بعد نحو شهر في ذي القعدة ، وكانت أكبر محاولة قام بها أعداء الإسلام لضرب المدينة ، وللقضاء عليها ، وعلى الإسلام والمسلمين ، ولكن الله خيبهم ، ورد كيدهم في نحورهم ، وكان فشلهم بمجموع هذه القوات يعني أن الطوائف الصغيرة والمتفرقة أولى أن لا تجترئ على التوجه إلى المدينة ، وقد أخبر بذلك النبي -r - فقال :الآن نغزوهم ، لا يغزونا ، نحن نسير إليهم .
غزوة بني قريظة
ورجع رسول الله -r - من الخندق ونزع السلاح والثياب ، وبينما هو يغتسل في بيت أم سلمة جاءه جبريل – عليه السلام – وأمره بالنهوض إلى بني قريظة ، وقال : إني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم ، وأقذف في قلوبهم الرعب ، ثم سار في موكبه من الملائكة
أما رسول الله -r - فأعلن في الناس : من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة ، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب ، وقدمه في جماعة إليهم ، فلما رأوه سبوا الرسول -r - وقالوا قبيحاً ، وبادر المسلمون في الخروج ، وأدركت بعضهم العصر في الطريق فمنهم من صلى ، ومنهم من أخر حتى وصل إلى بني قريظة ، وخرج رسول الله -r - في موكب المهاجرين والأنصار حتى نزل على بئر من آبارهم اسمها : " أنا " .
وألقى الله في قلوبهم الرعب ، فتحصنوا في حصونهم ، ولم يجترءوا على القتال ، وحاصرهم المسلمون بشدة ، فلما طال عليهم الحصار أرادوا أن يستشيروا بعض حلفائهم من المسلمين ، فطلبوا من رسول الله -r - أن يرسل إليهم أبا لبابة ليستشروه ، فأرسله ، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش النساء والصبيان يبكون في وجهه ، فرق لهم ، وقالوا : أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم . وأشار بيده إلى حلقه ، يريد أنه الذبح ، ثم تنبه أنه بإشارته هذه خان الله ورسوله ، فمضى على وجهه حتى أتى المسجد النبوي ، وربط نفسه بسارية من سواريه ، وحلف أن لا يحله إلا رسول الله -r - بيده ، فلما بلغ رسول الله -r - خبره قال : أما إنه لو جاءني لا ستغفرت له . أما إذا فعل ما فعل فنتركه حتى يقضي الله فيه .
ومع طول الحصار انهارت معنويات بني قريظة ، حتى نزلوا بعد خمس وعشرين ليلة على حكم رسول الله -r - ، فاعتقل الرجال ، وجعل النساء والذراري بمعزل عنهم في ناحية ، وطلب حلفاؤهم الأوس أن يحسن إليهم ، كما فعل ببني قينقاع حلفاء الخزرج ، فقال : ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا : بلى . قال : فذاك إلى سعد بن معاذ . قالوا : قد رضينا .
وكان سعد في المدينة للجرح الذي أصابه أثناء غزوة الخندق ، فجاءوا به راكباً على حمار ، فلما قرب من رسول الله -r - قال : قوموا إلى سيدكم ، فقالوا إليه ، وأحاطوا به من جانبيه ، يقولون : يا سعد ! أحسن في مواليك ، وهو ساكت لا يجيب ، فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم . فلما سمعوا ذلك رجع بعضهم إلى المدينة ونعى إليهم القوم .
ولما نزل سعد ، وأخبر بنزول قريظة على حكمه ، حكم فيهم أن يقتل الرجال ، وتسبى الذرية ، وتقسم الأموال ، فقال رسول الله -r - : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات . وقد كان هذا الحكم أيضاً طبقاً لشريعة اليهود ، بل أرف ق وأرحم من حكم شريعتهم
وعلى إثر هذا القضاء الذي قضى به سعد بن معاذ أتى ببني قريظة إلى المدينة ، فحبسوا في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار ، وحفرت لهم خنادق في سوق المدينة ، ثم ذهب بهم إلى هذه الخنادق أرسالاً أرسالاً ، وضربت أعناقهم فيها ، وكانوا أربعمائة ، وقيل : ما بين الستمائة إلى السبعمائة .
وقتل معهم حيى بن أخطب سيد بني النضير ، وكان من زعماء اليهود العشرين الذين حرضوا قريشاً وغطفان على غزوة الأحزاب ، ثم كان قد جاء إلى قريظة ، وأغراهم على نقض العهد ، حتى غدروا بالمسلمين في أحرج ساعة من حياتهم ، وكانوا قد اشترطوا عليه أن يكون معهم ، يصيبه ما يصيبهم ، فكان معهم في حصونهم أثناء الحصار والاستسلام حتى القتل .
وقد أسلم نفر من بني قريظة قبل النزول فلم يتعرض لهم ، واستوهب بعضهم فتركوا وأسلموا . وقتلت امرأة من نسائهم ، لأنها كانت قد طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته ، وجمع السلاح والأموال فكانت ألفاً وخمسمائة سيف ، وثلاثمائة درع ، وألفى رمح ، وخمسمائة ترس وحجفة ، وأثاثاً كثيراً ، وآنية وجمالاً وشياهاً ، فخمس كل ذلك مع النخل والسبي ، فأعطى للراجل سهماً وللفارس ثلاثة أسهم ، سهماً لنفسه وسهمين لفرسه .
وأرسلت السبايا إلى نجد فابتيع بها السلاح ، واصطفى النبي -e- منها ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خناقة ، فيقال : إنه تسرى بها ، ويقال : أعتقها وتزوجها ، فتوفيت بعد حجة الوداع .
ولما تم أمر قريظة أجيبت دعوة سعد بن معاذ ، وكان في خيمة في المسجد النبوي ، ليعوده النبي - e- من قريب ، فمرت عليه شاة فانتقض جرحه ، وانفجر من لبته ، فسال الدم الغزير حتى توفي لأجله ، وحملت جنازته الملائكة مع المسلمين ، واهتز لموته عرش الرحمن .
ومضى على أبي لبابة ست ليال تأتيه امرأته فتحله للصلاة ، ثم يعود فيربط نفسه بالجذع ، ثم نزلت توبته في بيت أم سلمة -t- فبشرته بها ، فثار الناس ليطلقوه فأبى حتى يطلقه رسول الله -e- ففعل حين مر به لصلاة الصبح .
وقد قام المسلمون بعد غزوة بني قريظة بعدة أعمال عسكرية أهمها ما يأتي :
مقتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق :
هو تاجر أهل الحجاز ، ورئيس يهود خيبر ، وأحد كبار المحركين والمؤلبين للأحزاب على أهل المدينة ، فلما تفرغ المسلمون من الأحزاب وقريظة انتدب لقتله خمسة من رجال الخزرج ، ليحوزوا شرفاً مثل شرف الأوس حين قتلوا كعب ابن الأشراف .
ووصل هؤلاء إلى حصنه في جهة خيبر حين غربت الشمس ، فقال قائدهم عبدالله بن عتيك : مكانكم ، فإني منطلق ومتلطف للبواب ، لعلي أدخل ، فأقبل حتى دنا من الباب ، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته ، فهتف به البواب : يا عبدالله ! إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب .
فدخل عبد الله بن عتيك ، وكمن حتى نام الناس ، فأخذ المفاتيح ، وفتح الباب ليسهل له الهروب عند الحاجة ، ثم توجه إلى بيت أبي رافع ، فكان كلما فتح باباً أغلقه من داخل حتى لو علم به الناس لا يصلون إليه حتى يقتل أبا رافع ، فلما انتهى إلى بيته فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله ، لا يدري أين هو ، فناداه : يا أبا رافع ! قال : من هذا ؟ فأهوى نحو الصوت وضربه ضربة بالسيف ، وهو دهش ، فما أغنت شيئا ، فخرج ثم جاء مغيراً صوته ، كأنه يغيثه ، وقال : ما هذا الصوت يا أبا رافع ؟ فقال لأمك الويل ، إن رجلاً في البيت ضربني بالسيف ، فعمد إليه وضربه ضربة أثخنته ، ولم يقتله ، فوضع السيف في بطنه وتحامل عليه حتى أخذ في ظهره ، ثم خرج يفتح الأبواب باباً باباُ ، والليل مقمر ، وبصره ضعيف ، فظن أنه وصل إلى الأرض ، فقدم رجله فوقع من السلم ، فأصيبت رجله فعصبها بعمامته ، واختفى عند الباب ، فلما صاح الديك قام رجل على سور الحصن وقال : أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز ، فعرف أنه مات ، فأتى أصحابه ، ورجعوا ، فلما انتهوا إلى رسول الله - e- حدثوه ، ومسح رسول الله -e- رجله فكأنه لم يشتكها قط .
أسر ثمامة بن أثال سيد اليمامة :
كان ثمامة من أشد الناس كراهية لرسول الله -e- ولدينه الإسلام ، حتى خرج متنكراً في المحرم سنة 6هـ يريد اغتيال النبي -e- بأمر مسيلمة الكذاب ، وكان النبي -e- قد أرسل محمد بن مسلمة في ثلاثين راكباً لتأديب بني بكر بن كلاب في ناحية ضرية بعد على بعد سبع ليال من المدينة في طريق البصرة ، فلما كانوا راجعين وجدوا ثمامة في الطريق فأسروه ، وجاءوا به إلى المدينة ، وربطوه بسارية من سواري المسجد ، فمر به النبي -e- فقال : ماذا عندك يا ثمامة ؟ قال عندي خير يا محمد ! إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل ، تعط منه ما شئت فتركه ، ثم مر به اليوم الثاني ، ودار نفس الحديث ، ثم اليوم الثالث كذلك ، فقال : أطلقوا ثمامة ، فأطلقوه ، فاغتسل وأسلم ، وقال : والله ما كان على ظهر الأرض من وجه أبغض إلى من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى ، ووالله ما كان على وجه الأرض من دين أبغض إلى من دينك ، فقد أصبح دينك أحب الأديان إلى .
وفي العودة ذهب ثمامة إلى مكة معتمراً فلامته قريش على إسلامه ، فقال : والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله - r- فلما انصرف منع بيع الحنطة لأهل مكة فجهدوا حتى كتبوا إلى النبي -e- يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى يسمح ببيع الطعام لهم ، ففعل - e- .
(1) حراء : اسم الجبل الذي يعرف اليوم بجبل النور ، وهو على بعد نحو ميلين من أصل مكة ، أما الغار فيقع فيه بجنب قمته الشامخة أسفل منها على يسار الصاعد إليها ، يصل الرجل إلى الغار بعد ما ينزل من القمة ، وهو غار لطيف طوله ينقص قليلاً عن أربعة أمتار ، وعرضه يزيد قليلاً على متر ونصف متر .
[1][1] القارة : اسم قبيلة عظيمة ، والأحابيش مجموعة قبائل تحالفوا عند جبل حبشي فسموا بذلك .
[2][2] السيف ، بكسر السين معناه : الساحل .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق