الجمعة، 15 يونيو 2018

15.السيرة النبوية لابن كثير 4//3.ذكر خروجه عليه السلام من مكة بعد قضاء عمرته قد تقدم ما ذكره موسى بن عقبة أن قريشا بعثوا إليه حويطب بن عبدالعزى بعد مضي أربعة أيام ليرحل عنهم كما وقع به الشرط، فعرض عليهم أن يعمل وليمة عرسه بميمونة عندهم، وإنما أراد تأليفهم بذلك، فأبوا عليه وقالوا: بل اخرج عنا.



ذكر خروجه عليه السلام من مكة بعد قضاء عمرته قد تقدم ما ذكره موسى بن عقبة أن قريشا بعثوا إليه حويطب بن عبدالعزى بعد مضي أربعة أيام ليرحل عنهم كما وقع به الشرط، فعرض عليهم أن يعمل وليمة عرسه بميمونة عندهم، وإنما أراد تأليفهم بذلك، فأبوا عليه وقالوا: بل اخرج عنا.فخرج. وكذلك ذكره ابن إسحاق (1) وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيموا بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. قالوا: لا نقر بهذا، لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا، ولكن أنت محمد بن عبدالله. قال: " أنا رسول الله وأنا محمد بن عبدالله " ثم قال لعلي ابن أبي طالب: " امح رسول الله " قال: لا والله لا أمحوك أبدا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد ابن عبدالله لا يدخل مكة [ السلاح (2) ] إلا السيف في القراب، وألا تخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه، وألا يمنع من أصحابه أحدا أراد أن يقيم بها.
فلما دخل (2) ومضى الاجل أتوا عليا فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضى الاجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم.
فتناولها علي فأخذها بيدها وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك.
فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر (3)، فقال علي: أنا أخذتها وهي ابنة عمي.
وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد:
ابنة أخي.
فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: " الخالة بمنزلة الام " وقال
__________
(1) في ابن هشام: ثلاثة أيام وأتاه حويطب في اليوم الثالث.
(2) من صحيح البخاري.
(3) ا: دخلها ! (4) ا: وحفص.
وهو تحريف ! (*)
لعلي: " أنت مني وأنا منك " وقال لجعفر: " أشبهت خلقي وخلقي " وقال لزيد: " أنت أخونا ومولانا " قال (1) على: ألا تتزوج ابنة حمزة، قال: " إنها ابنة أخي من الرضاعة ".
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
* * * وقد روى الواقدي قصة ابنة حمزة فقال: حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن عمارة ابنة حمزة بن عبدالمطلب وأمها سلمى بنت عميس كانت بمكة.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم علي بن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام نترك ابنة عمنا يتيمة بين ظهراني المشركين ؟ فلم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن إخراجها، فخرج بها، فتكلم زيد بن حارثة وكان وصي حمزة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بينهما حين آخى بين المهاجرين، فقال: أنا أحق بها، ابنة أخي، فلما سمع بذلك جعفر قال: الخالة والدة، وأنا أحق بها لمكان خالتها عندي أسماء بنت عميس.
وقال علي: ألا أراكم تختصمون ! هي ابنة عمي وأنا أخرجتها من بين أظهر المشركين، وليس لكم إليها سبب دوني، وأنا أحق بها منكم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا أحكم بينكم، أما أنت يا زيد فمولى الله ومولى رسول الله، وأما أنت يا جعفر فتشبه خلقي وخلقي، وأنت يا جعفر أولى بها، تحتك خالتها ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على عمتها " فقضى بها لجعفر.
قال الواقدي: فلما قضى بها لجعفر [ قام جعفر (2) ] فحجل حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " ما هذا يا جعفر ؟ " فقال: يا رسول الله كان النجاشي إذا أرضى أحدا قام فحجل حوله.
فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: تزوجها فقال: " ابنة أخي من
__________
(1) ا: فقال ورواية البخاري: وقال.
(2) سقطت من ا.
(*)
الرضاعة ".
فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " هل جزيت أبا سلمة ".
قلت: لانه ذكر الواقدي وغيره أنه هو الذي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمه أم سلمة، لانه كان أكبر من أخيه عمر بن أبي سلمة.
والله أعلم.
قال ابن إسحاق: ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ذي الحجة.
وتولى (1) المشركون تلك الحجة.
قال ابن هشام: وأنزل الله في هذه العمرة فيما حدثني أبو عبيدة قوله تعالى: " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا " [ يعني خيبر (2) ].
فصل ذكر البيهقي هاهنا سرية ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم.
ثم ساق بسنده عن الواقدي: حدثني محمد بن عبدالله بن مسلم، عن الزهري قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضية رجع في ذي الحجة من سنة سبع، فبعث ابن أبي العوجاء السلمي في خمسين فارسا، فخرج العين إلى قومه فحذرهم وأخبرهم فجمعوا جمعا كثيرا وجاءهم ابن أبي العوجاء والقوم معدون، فلما أن رآهم (3) أصحاب رسول الله صلى لله عليه وسلم ورأوا جمعهم دعوهم إلى الاسلام، فرشقوهم بالنبل ولم
يسمعوا قولهم وقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتم إليه.
فرموهم ساعة وجعلت الامداد
__________
(1) ا: وولى.
(2) من ابن هشام.
(3) غير ا: رأوهم.
(*)
تأتى حتى أحدقوا بهم من كل جانب، فقاتل القوم قتالا شديدا حتى قتل عامتهم، وأصيب ابن أبي العوجاء بجراحات كثيرة، فتحامل حتى رجع إلى المدينة بمن بقى معه من أصحابه في أول يوم من شهر صفر سنة ثمان.
فصل: قال الواقدي: في الحجة (1) من هذه السنة - يعني سنة سبع - رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع، وقد قدمنا الكلام على ذلك (2)، وفيها قدم حاطب بن أبي بلتعة من عند المقوقس ومعه مارية وسيرين، وقد أسلمتا في الطريق، وغلام خصى.
قال الواقدي: وفيها اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منبره درجتين ومقعده، قال: والثابت عندنا أنه عمل في سنة ثمان.
__________
(1) ا: في المحرم.
(2) في الجزء الثاني.
(*)
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن بحولك وقوتك سنة ثمان من الهجرة النبوية فصل في إسلام عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة (1) رضى الله عنهم وكان قدومهم في أوائل سنة ثمان على ما سيأتي قد تقدم طرف من ذلك (2) فيما ذكره ابن إسحاق بعد مقتل أبي رافع اليهودي،
وذلك في سنة خمس من الهجرة.
وإنما ذكره الحافظ البيهقي هاهنا بعد عمرة القضاء، فروى من طريق الواقدي: أنبأنا عبدالحميد بن جعفر، عن أبيه، قال عمرو بن العاص: كنت للاسلام مجانبا معاندا، حضرت بدرا مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحدا فنجوت، ثم حضرت الخندق فنجوت.
قال: فقلت في نفسي: كم أوضع (3) ! والله ليظهرن محمد على قريش.
فلحقت بمالي بالرهط (4)، وأقللت من الناس - أي من لقائهم -.
فلما حضر الحديبية وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح، ورجعت
__________
(1) ا: وطلحة بن أبي طلحة وهو تحريف.
(2) تقدم ذلك في هذا الجزء.
(3) أوضع: أدبر وأحارب.
(4) الرهط: موضع في شعر هذيل.
المراصد: 2 / 645 (*)
قريش إلى مكة.
جعلت أقول: يدخل محمد قابلا مكة بأصحابه، ما مكة بمنزل ولا الطائف، ولا شئ خير من الخروج، وأنا بعد ناء عن الاسلام، وأرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم.
فقدمت مكة وجمعت رجالا من قومي، وكانوا يرون رأيي ويسمعون مني ويقدمونني فيما نابهم، فقلت لهم: كيف أنا فيكم ؟ قالوا: ذو رأينا ومدرهنا (1) في يمن نقيبة (2) وبركة أمر.
قال: قلت: تعلمون إني والله لارى أمر محمد أمرا يعلو الامور علوا منكرا، وإني قد رأيت رأيا.
قالوا: وما هو ؟ قلت: نلحق بالنجاشي فنكون معه، فإن يظهر محمد كنا عند النجاشي [ فإنا أن ] نكون تحت يد النجاشي أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد، وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا.
قالوا: هذا الرأي.
قال: قلت: فاجمعوا ما نهديه له - وكان أحب ما يهدي إليه من أرضنا الادم - فجمعنا له (3) أدما كثيرا ثم خرجنا حتى قدمنا على النجاشي، فوالله إنا
لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه بكتاب كتبه يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فدخل عليه ثم خرج من عنده فقلت لاصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري ولو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك سرت قريش (4) وكنت قد أجزأت عنها حين (5) قتلت رسول محمد.
فدخلت على النجاشي فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبا بصديقي، أهديت لي من بلادك شيئا ! قال: قلت: نعم أيها الملك، أهديت لك أدما كثيرا.
ثم قدمته فأعجبه وفرق منه شيئا ؟ بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل في موضع وأمر أن يكتب ويحتفظ به.
__________
(1) ا: ذا رأى.
والمدره: المدافع.
(2) المطبوعة: نفسه وهو تحريف (3) غير ا: فحملنا أدما.
(4) ا: سررت قريشا.
(5) المطبوعة: حتى.
وهو تحريف.
(*)
فلما رأيت ريب نفسه قلت: أيها الملك إني قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول عدو لنا قد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا، فأعطنيه فأقتله.
فغضب من ذلك ورفع يده فضرب بها أنفي (1) ضربة ظننت أنه كسره، فابتدر منخراي فجعلت أتلقى الدم بثيابي، فأصابني من الذل مالو انشقت بي الارض دخلت فيها فرقا منه.
ثم قلت: أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتك.
قال: فاستحيا وقال: يا عمرو تسألني أن أعطيك رسول من يأتيه الناموس الاكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى لتقتله.
قال عمرو: فغير الله قلبي عما كنت عليه، وقلت في نفسي: عرف هذا الحق العرب والعجم، وتخالف أنت ! ثم قلت: أتشهد أيها الملك بهذا ؟ قال: نعم أشهد به
عند الله يا عمرو، فأطعني واتبعه، فوالله إنه لعلى الحق وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده.
قلت: أتبايعني له على الاسلام ؟ قال: نعم.
فبسط يده فبايعني على الاسلام، ثم دعا بطست فغسل عني الدم وكساني ثيابا.
وكانت ثيابي قد امتلات بالدم فألقيتها.
ثم خرجت على أصحابي فلما رأوا كسوة النجاشي سروا بذلك وقالوا: هل أدركت من صاحبك ما أردت ؟ فقلت لهم: كرهت أن أكلمه في أول مرة وقلت أعود إليه.
فقالوا: الرأي ما رأيت.
قال: ففارقتهم وكأني أعمد إلى حاجة، فعمدت إلى موضع السفن فأجد سفينة قد شحنت تدفع، قال: فركبت معهم ودفعوها حتى انتهوا إلى الشعبة وخرجت من السفينة ومعي نفقة، فابتعت بعيرا وخرجت أريد المدينة حتى مررت على مر الظهران، ثم
__________
(1) في الروايات الاخرى: أنفه.
(*)
ثم مضيت حتى إذا كنت بالهدة فإذا رجلان قد سبقاني بغير كثير يريدان منزلا، وأحدهما داخل في الخيمة والآخر يمسك الراحلتين، قال: فنظرت فإذا خالد بن الوليد، قال: قلت: أين تريد ؟ قال: محمدا، دخل الناس في الاسلام فلم يبق أحد به طعم (5)، والله لو أقمت لاخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها.
قلت: وأنا والله قد أردت محمدا وأردت الاسلام.
فخرج عثمان بن طلحة فرحب بي، فنزلنا جميعا في المنزل.
ثم اتفقنا حتى أتينا المدينة، فما أنسى قول رجل لقيناه ببئر أبي عتبة يصيح: يا رباح يا رباح يا رباح.
فتفاءلنا بقوله وسرنا، ثم نظر إلينا فأسمعه يقول: قد أعطت مكة المقادة بعد هذين.
فظننت أنه يعنيني ويعني خالد بن الوليد، وولى مدبرا إلى المسجد سريعا، فظننت أنه بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومنا، فكان كما ظننت.
وأنخنا بالحرة، فلبسنا من صالح ثيابنا، ثم نودي بالعصر فانطلقنا حتى اطلعنا عليه، وإن لوجهه تهللا والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع، ثم تقدمت فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفي حياء منه.
قال: فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ولم يحضرني ما تأخر، فقال: " إن الاسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها ".
قال: فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه في أمر حزبه منذ أسلمنا، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة، ولقد كنت عند عمر بتلك الحالة، وكان عمر على خالد كالعاتب.
قال عبدالحميد بن جعفر شيخ الواقدي: فذكرت هذا الحديث ليزيد بن حبيب
__________
(1) الطعم: القدرة.
(29 - السيرة 3) (*)
فقال: أخبرني راشد مولى حبيب بن أبي أوس الثقفي، عن مولاه حبيب، عن عمرو ابن العاص نحو ذلك.
قلت: كذلك رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن راشد، عن مولاه حبيب [ قال: ] حدثني عمرو بن العاص من فيه، فذكر ما تقدم في سنة خمس بعد مقتل أبي رافع.
وسياق الواقدي أبسط وأحسن.
قال الواقدي عن شيخه عبدالحميد: فقلت ليزيد بن أبي حبيب: وقت لك متى قدم عمرو وخالد ؟ قال: لا، إلا أنه قال قبل الفتح.
قلت: فإن أبي فأخبرني أن عمرا وخالدا وعثمان بن طلحة قدموا لهلال صفر سنة ثمان.
وفي صحيح مسلم ما يشهد لسياق إسلامه وكيفية حسن صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدة حياته، وكيف مات وهو يتأسف على ما كان منه في مدة مباشرته الامارة بعده
عليه الصلاة والسلام، وصفة موته رضى الله عنه.
طريق إسلام خالد بن الوليد قال الواقدي: حدثني يحيى بن المغيرة بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، قال سمعت أبي يحدث عن خالد بن الوليد قال: لما أراد الله بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الاسلام وحضرني رشدي، فقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد صلى الله عليه وسلم، فليس في مواطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شئ، وأن محمدا سيظهر.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية خرجت في خيل من المشركين فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان، فقمت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا فهممنا أن نغير عليهم ثم لم يعزم لنا - وكانت فيه خيرة - فأطلع على
ما في أنفسنا من الهم به فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك منا موقعا وقلت: الرجل ممنوع، فاعتزلنا، وعدل عن سنن (1) خيلنا وأخذ ذات اليمين.
فلما صالح قريشا بالحديبية ودافعته قريش بالرواح قلت في نفسي: أي شئ بقى ؟ أين أذهب ؟ إلى النجاشي ؟ فقد اتبع محمدا وأصحابه عنده آمنون، فأخرج إلى هرقل فأخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية ؟ فأقيم في عجم (2)، فأقيم في داري بمن بقى ؟ فأنا في ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضية [ فتغيبت ولم أشهد دخوله، وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية (3) ] فطلبني فلم يجدني فكتب إلي كتابا فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الاسلام وعقلك عقلك ! ومثل الاسلام جهله أحد ؟ وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك وقال: أين خالد ؟ فقلت: يأتي الله به، فقال: " مثله جهل الاسلام ؟ ولو كان جعل نكايته وحده مع المسلمين
كان خيرا له، ولقد مناه على غيره " فاستدرك يا أخي ما قد فاتك [ من ] مواطن صالحة.
قال: فلما جاءني كتابه نشطت للخروج وزادني رغبة في الاسلام، وسرني سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عني، وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة مجدبة فخرجت في بلاد خضراء واسعة، فقلت: إن هذه لرؤيا.
فلما أن قدمت المدينة قلت: لاذكرنها لابي بكر، فقال: مخرجك الذي هداك الله للاسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك.
قال: فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: من أصاحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فلقيت صفوان بن أمية فقلت: يا أبا وهب أما ترى
__________
(1) السنن: الجهة.
(2) ا: مع عجم.
(3) سقط من ا.
(*)
ما نحن فيه ؟ إنما نحن كأضراس، وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمد واتبعناه فإن شرف محمد لنا شرف ؟ فأبى أشد الاباء فقال: لو لم يبق غيري ما اتبعته أبدا.
فافترقنا وقلت: هذا رجل قتل أخوه وأبوه ببدر.
فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان بن أمية، فقال لي مثل ما قال صفوان بن أمية.
قلت: فاكتم علي.
قال: لا أذكره.
فخرجت لي منزلي فأمرت براحلتي فخرجت بها، إلى أن لقيت عثمان بن طلحة فقلت: إن هذا لي صديق، فلو ذكرت له ما أرجو.
ثم ذكرت من قتل من آبائه، فكرهت أن أذكره، ثم قلت: وما علي وأنا راحل من ساعتي.
فذكرت له ما صار الامر إليه، فقلت: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر لو صب فيه ذنوب من ماء لخرج، وقلت له نحوا مما قلت لصاحبي، فأسرع الاجابة، وقلت له: إني غدوت اليوم وأنا أريد
أن أغدو، وهذه راحلتي بفج مناخة.
قال: فاتعدت أنا وهو يأجج، إن سبقني أقام وأن سبقته أقمت عليه.
قال: فأدلجنا سحرا فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج، فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة فنجد عمرو بن العاص بها، قال: مرحبا بالقوم.
فقلنا: وبك.
فقال: إلى أين مسيركم ؟ فقلنا: وما أخرجك ؟ فقال: وما أخرجكم ؟ قلنا: الدخول في الاسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: وذاك الذي أقدمني.
فاصطحبنا جميعا حتى دخلنا المدينة، فأنخنا بظهر الحرة ركابنا فأخبر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر بنا، فلبست من صالح ثيابي ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيني أخي: فقال أسرع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بك فسر بقدومك وهو ينتظركم.
فأسرعنا المشي فاطلعت عليه فما زال يتبسم إلي حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد علي السلام بوجه طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقال: " تعال " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحمد لله الذي هداك قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير " قلت: يا رسول الله إني قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معاندا للحق فادع الله أن يغفرها لي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الاسلام يجب ما كان قبله " قلت: يا رسول الله على ذلك.
قال: " اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صد عن سبيل الله ".
قال خالد: وتقدم عثمان وعمرو فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وكان قدومنا في صفر سنة ثمان، قال: والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل بي أحدا من أصحابه فيما حزبه.
سرية شجاع بن وهب الاسدي إلى نفر من هوازن
قال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة، عن عمر بن الحكم، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلا إلى جمع من هوازن، وأمره أن يغير عليهم، فخرج وكان يسير الليل ويكمن النهار حتى جاءهم وهم غارون، وقد أوعز إلى أصحابه ألا تمعنوا في الطلب، فأصابوا نعما كثيرا وشاء فاستاقوا ذلك حتى إذا قدموا المدينة فكانت سهامهم خمسة عشر بعيرا كل رجل وزعم غيره أنهم أصابوا سبيا أيضا، وأن الامير اصطفى عنهم جارية وضيئة ثم قدم أهلوهم مسلمين، فشاور النبي صلى الله عليه وسلم أميرهم في ردهن إليهم، فقال: نعم فردوهن، وخير الجارية التي عنده فاختارت المقام عنده.
وقد تكون هذه السرية هي المذكورة فيما رواه الشافعي عن مالك عن نافع عن
ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد فكان فيهم عبدالله بن عمر، قال فأصبنا إبلا كثيرا فبلغت سهامنا اثنى عشر بعيرا ونفلنا رسول لله (1) صلى الله عليه وسلم بعيرا بعيرا.
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك، ورواه مسلم أيضا من حديث الليث ومن حديث عبدالله كلهم عن نافع عن ابن عمر بنحوه.
وقال أبو داود: حدثنا هناد، حدثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع عن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد فخرجت فيها فأصبنا نعما كثيرا، فنفلنا أميرنا بعيرا بعيرا لكل إنسان، ثم قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم بيننا غنيمتنا، فأصاب كل رجل منا أثنا عشر بعيرا بعد الخمس، وما حاسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أعطانا صاحبنا ولا عاب عليه ما صنع، فكان لكل منا ثلاثة عشر بعيرا بنفله.
سرية كعب بن عمير إلى بني قضاعة من أرض الشام قال الواقدي: حدثنا محمد بن عبدالله [ عن (2) ] الزهري، قال: بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من الشام، فوجدوا جمعا من جمعهم كثيرا، فدعوهم إلى الاسلام فلم يستجيبوا لهم ورشقوهم بالنبل، فلما رأى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوهم أشد القتال حتى قتلوا، فارتث (3) منهم رجل جريح في القتلى، فلما أن برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم بالبعثة إليهم فبلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر.
__________
(1) البخاري: ونفلنا بعيرا بعيرا.
بالبناء للمجهول.
(2) من ا.
(3) ارتث: جرح وبه رمق.
(*)
غزوة مؤتة وهي سرية زيد بن حارثة في نحو من ثلاثة آلاف إلى أرض البلقاء من أطراف (1) الشام قال محمد بن إسحاق بعد قصة عمرة القضية: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بقية ذي الحجة - وولى تلك الحجة المشركون - والمحرم وصفرا وشهري ربيع وبعث في جمادي الاولى بعثه إلى الشام الذين أصيبوا بمؤتة.
فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى مؤتة في جمادي الاولى من سنة ثمان، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: " إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس ".
فتجهز الناس ثم تهيأوا للخروج وهم ثلاثة آلاف.
وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمرو بن الحكم، عن أبيه قال: جاء النعمان بن فنحص اليهودي فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " زيد بن حارثة أمير الناس، فإن قتل زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة، فإن قتل عبدالله بن رواحة
فليرتض المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم ".
فقال النعمان: أبا القاسم إن كنت نبيا فلو سميت من سميت قليلا أو كثيرا أصيبوا جميعا، إن الانبياء من بني إسرائيل كانوا إذا سموا الرجل على القوم فقالوا: إن أصيب فلان
__________
(1) غير ا: من أرض.
(*)
ففلان، فلو سموا مائة أصيبوا جميعا.
ثم جعل يقول لزيد: اعهد فإنك لا ترجع أبدا، إن كان محمد نبيا.
فقال زيد: أشهد أنه نبي صادق بار صلى الله عليه وسلم.
رواه البيهقي.
* * * قال ابن إسحاق: فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم، فلما ودع عبدالله بن رواحة [ مع (1) ] من ودع بكى، فقالوا: ما يبكيك يابن رواحة.
فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا " (2) فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود ؟ !.
فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين.
فقال عبدالله بن رواحة: لكنني أسأل الرحمن مغفرة * وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا (3) أو طعنة بيدي حران مجهزة * بحربة تنفذ الاحشاء والكبدا (4) حتى يقال إذا مروا على جدثي * أرشده الله من غاز وقد رشدا قال ابن إسحاق: ثم إن القوم تهيأوا للخروج، فأتى عبدالله بن رواحة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فودعه ثم قال: فثبت الله ما آتاك من حسن * تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا إني تفرست فيك الخير نافلة * الله يعلم أني ثابت البصر
__________
(1) ليست في ا.
(2) سورة مريم الآية 71.
(3) الفرغ: السعة.
(4) الحران: الشديد.
(*)
أنت الرسول فمن يحرم نوافله * والوجه منه فقد أزرى به القدر قال بن إسحاق: ثم خرج القوم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيعهم، حتى إذا ودعهم وانصرف، قال عبدالله بن رواحة: خلف السلام على امرئ ودعته * في النخل خير مشيع وخليل * * * [ وقال الامام أحمد: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا أبو خالد الاحمر، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مؤتة فاستعمل زيدا، فإن قتل زيد فجعفر، فإن قتل جعفر فابن رواحة، فتخلف ابن رواحة فجمع مع النبي صلى الله عليه وسلم، فرآه فقال: " ما خلفك ؟ " فقال أجمع معك.
قال: " لغدوة أو روحة خير من الدنيا وما فيها (1) " ].
وقال أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة (2)، قال: فقدم أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ألحقهم.
قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه فقال: " ما منعك أن تغدو مع أصحابك ؟ " فقال: أردت أن أصلي معك الجمعة ثم ألحقهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أنفقت ما في الارض جميعا
ما أدركت غدوتهم ".
وهكذا رواه الترمذي، عن أحمد بن منيع، عن أبي معاوية، ثم قال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
__________
(1) هذا الجزء مؤخر في ا.
(2) ا: يوم جمعة.
(*)
وقال شعبة: لم يسمع الحكم عن مقسم إلا خمسة أحاديث - وعدها شعبة - وليس هذا الحديث منها (1).
[ قلت: والحجاج بن أرطاة في روايته نظر والله أعلم (2) ] والمقصود من إيراد هذا الحديث أنه يقتضي أن خروج الامراء إلى مؤتة كان في يوم جمعة.
والله أعلم.
* * * قال ابن إسحاق: ثم مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليه من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى مائة ألف منهم عليهم رجل من بلى، ثم أحد إراشة يقال له مالك بن زافلة.
وفي رواية يونس عن ابن إسحاق: فبلغهم أن هرقل نزل بمآب في مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة.
[ وقيل: كان الروم مائتي ألف ومن أعداهم خمسون ألفا.
وأقل ما قيل: إن الروم كانوا مائة ألف ومن العرب خمسون ألفا.
حكاه السهيلي (3) ] فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له.
قال: فشجع الناس عبدالله بن رواحة وقال: يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة،
__________
(1) غير ا: " وهذا الحديث قد رواه الترمذي من حديث أبي معاوية عن الحجاج - وهو ابن أرطاة.
ثم علله الترمذي بما حكاه عن شعبة أنه قال: لم يسمع الحكم عن مقسم إلا خمسة أحاديث وليس هذا منها ".
(2) ليس في ا.
(3) من ا.
(*)
ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة.
قال: فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة.
فمضى الناس.
فقال عبدالله بن رواحة في محبسهم ذلك: جلبنا الخيل من أجأ وفرع * تعر من الحشيش إلى العكوم (1) حذوناها من الصوان سبتا * أزل كأن صفحته أديم (2) أقامت ليلتين على معان * فأعقب بعد فترتها جموم (3) فرحنا والجياد مسومات * تنفس في مناخرها سموم (4) فلا وأبى مآب لنأتينها * وإن كانت بها عرب وروم فعبأنا أعنتها فجاءت * عوابس والغبار لها بريم (5) بذي لجب كأن البيض فيه * إذا برزت قوانسها النجوم (6) فراضية المعيشة طلقتها * أسنتنا فتنكح أو تئيم (7) قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر أنه حدث عن زيد بن أرقم قال: كنت (8) يتيما لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج بي في سفره ذلك مرد في
__________
(1) أجأ: أحد جبلي طئ والآخر سلمى.
وفرع: أطول جبل بأجأ وأوسطه.
وتعر: تطعم وتشبع.
والرواية عند السهيلي: تقر.
بالقاف، وقال: تقر أي يجمع بعضها إلى بعض.
والعكوم: جمع عكم وهو الجانب.
(2) حذوناها: جعلنا لها نعالا من حديد.
والصوان: حجارة ملس، والسبت: النعال التي تصنع
من الجلود المدبوغة.
والازل: الاملس.
والاديم: الجلد.
(3) معان: موضع بالشام.
والفترة: السكون والضعف.
والجموم: اجتماع القوة.
(4) سموم، بضم السين، جمع سم وهما عرقان في خيشوم الفرس.
والسموم بفتح السين: ريح حارة.
وفي ابن هشام: في مناخرها السموم.
(5) البريم: كل ما فيه لونان مختلطان، والدمع المختلط بالاثمد.
(6) اللجب: اختلاط الاصوات من كثرة الجيش.
والقوانس: جمع قونس وهو أعلى بيضة الحديد.
(7) راضية المعيشة: العيشة اللينة المطمئنة.
تئيم: تبقى دون زوج - يريد أنهم قد تجافوا عن الدعة والراحة.
(8) أ: كان.
(*)
على حقيبة رحله، فوالله إنه ليسير ليلتئذ سمعته وهو ينشد أبياته هذه: إذا أدنيتني وحملت رحلي * مسيرة أربع بعد الحساء (1) فشأنك أنعم وخلاك ذم * ولا أرجع إلى أهلى ورائي (2) وجاء المسلمون وغادروني * بأرض الشام مشتهى الثواء (3) وردك كل ذي نسب قريب * إلى الرحمن منقطع الاخاء هنالك لا أبالي طلع بعل * ولا نخل أسافلها رواء (4) قال: فلما سمعتهن منه بكيت، فخفقني بالدرة وقال: ما عليك يالكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل ؟ ثم قال عبدالله بن رواحة في بعض سفره ذلك وهو يرتجز: يا زيد زيد اليعملات الذبل * تطاول الليل هديت فانزل (5) * * * قال ابن إسحاق: ثم مضى الناس، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو وانحاز
المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة فالتقى الناس عندها، فتعبي لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلا من الانصار يقال له عباية بن مالك.
__________
(1) الحساء: سهل من الارض يستنقع فيه الماء، أو غلظ فوقه رمل يجمع ماء المطر.
(2) شأنك أنعم: يريد أنه يريحها ولا يكلفها عناء السفر بعد ذلك.
ولا أرجع: مجزوم على الدعاء.
(3) مشتهى الثواء: لا يريد رجوعا.
وقد روى: مستنهى الثواء.
قال السهيلي: مستنهى الثواء: مستفعل من النهاية والانتهاء، أي حيث انتهى مثواه.
(4) البعل: ما يشرب بعروقه من الارض.
وأسافلها رواء: كذا في ابن هشام، وغير أ.
وفي أ: أساقيها ورائي.
(5) اليعملات: النوق السريعة.
والذبل: التي أوهنها السير.
(*)
وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: شهدت مؤتة فلما دنا منا المشركون رأينا مالا قبل لاحد به من العدة والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصرى، فقال لي ثابت بن أرقم: يا أبا هريرة كأنك ترى جموعا كثيرة ؟ قلت: نعم.
قال: إنك لم تشهد بدرا معنا، إنا لم ننصر بالكثرة.
رواه البيهقي.
قال إين إسحاق: ثم التقى الناس فاقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل القوم حتى قتل، وكان جعفر أول [ رجل من ] (1) المسلمين عقر في الاسلام.
وقال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، حدثني أبي الذي أرضعني وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها ثم
قاتل القوم حتى قتل وهو يقول: ياحبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها * [ كافرة بعيدة أنسابها ] (2) * علي إن لاقيتها ضرابها * وهذا الحديث قد رواه أبو داود من حديث أبي إسحاق ولم يذكر الشعر.
وقد استدل به من جوز قتل الحيوان خشية أن ينتفع به العدو، كما يقول أبو حنيفة في الاغنام إذا لم تتبع في السير ويخشى من لحوق العدو وانتفاعهم بها أنها تذبح وتحرق ليحال (3) بينهم وبين ذلك.
والله أعلم.
قال السهيلي: ولم ينكر على جعفر أحد فدل على جوازه إلا إذا أمن أخذ العدو له،
__________
(1) من أ.
(2) ليست في أ (3) أ: فيحال.
(*)
ولا يدخل ذلك في النهي عن قتل الحيوان عبثا.
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل العلم أن جعفر أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء، ويقال: إن رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه نصفين.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف، قال: فلما قتل جعفر أخذ عبدالله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ويقول: أقسمت يا نفس لتنزلنه * لتنزلن أو لتكرهنه إن أجلب الناس وشدوا الرنه * مالى أراك تكرهين الجنه !
قد طال ما قد كنت مطمئنه * هل أنت إلا نطفة في شنه وقال أيضا: يا نفس إن لا تقتلي تموتي * هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيت فقد أعطيت * إن تفعلي فعلهما هديت يريد صاحبيه زيدا وجعفرا، ثم نزل.
فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم، فقال: شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت.
فأخذه من يده فانتهش منه نهشة.
ثم سمع الحطمة (1) في ناحية الناس فقال: وأنت في الدنيا ! ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه ثم تقدم، فقاتل حتى قتل رضى الله عنه.
قال: ثم أخذ الراية ثابت ين أقرم أخو بني العجلان.
فقال: يا معشر المسلمين
__________
(1) الحطمة: النزال والمضاربة.
(*)
اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت.
قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم وخاشى (1) بهم، ثم انحاز وانحيز عنه حتى انصرف بالناس.
* * * قال ابن إسحاق: ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني -: " أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا " قال: ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الانصار وظنوا أنه قد كان في عبدالله بن رواحة بعض ما يكرهون.
ثم قال: أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل حتى قتل شهيدا.
ثم قال: لقد رفعوا إلى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبدالله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه، فقلت: عم هذا ؟ فقيل لي: مضيا
وتردد عبدالله بن رواحة بعض التردد ثم مضى.
هكذا ذكر ابن إسحاق هذا منقطعا.
وقد قال البخاري: حدثنا أحمد بن واقد، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبر، فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان.
حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم.
تفرد به البخاري.
ورواه في موضع آخر وقال فيه وهو على المنبر: " وما يسرهم أنهم عندنا ".
__________
(1) خاشي: حجز بينهم وبين الروم.
(*)
وقال البخاري: حدثنا أحمد بن أبي بكر، حدثنا مغيرة بن عبدالرحمن المخزومي (1)، وليس بالحزامي، عن عبدالله بن سعيد، عن نافع، عن عبدالله بن عمر، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة.
قال عبدالله: كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا في جسده بضعا وتسعين من ضربة ورمية.
تفرد به البخاري أيضا.
وقال البخاري أيضا: حدثنا أحمد، حدثنا ابن وهب، عن عمرو [ عن ] ابن أبي هلال [ هو سعيد بن أبي هلال الليثي (2) ] قال: وأخبرني نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر بن أبي طالب يومئذ وهو قتيل فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شئ في دبره.
وهذا أيضا من أفراد البخاري.
ووجه الجمع بين هذه الرواية والتي قبلها أن ابن عمر اطلع على هذا العدد، وغيره اطلع على أكثر من ذلك، أو أن هذه في قبله أصيبها قبل أن يقتل، فلما صرع إلى الارض ضربوه أيضا ضربات في ظهره، فعد ابن عمر ما كان في قبله وهو من وجوه الاعداء قبل أن يقتل رضى الله عنه.
ومما يشهد لما ذكره ابن هشام من قطع يمينه وهي ممسكة اللواء ثم شماله، ما رواه البخاري: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا عمر بن علي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، قال: كان ابن عمر إذا حيى ابن جعفر قال: السلام عليك يابن ذي الجناحين.
__________
(1) وليس للمخزومي في البخاري سوى هذا الحديث، وهو بطريق المتابعة عنده.
وكان فقيه أهل المدينة بعد مالك.
إرشاد الساري 6 / 383.
(2) ليست في أ.
(*)
ورواه أيضا في المناقب، والنسائي من حديث يزيد بن هرون، عن إسماعيل بن أبي خالد.
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم، قال: سمعت خالد بن الوليد يقول: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقى في يدي إلا صفيحة يمانية.
ثم رواه عن محمد بن المثنى، عن يحيى عن إسماعيل، حدثني قيس، سمعت خالد ابن الوليد يقول: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف وصبرت في يدي صفيحة يمانية انفرد به البخاري.
* * *
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: حدثنا أبو نصر بن قتادة، حدثنا أبو عمرو مطر، حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، حدثنا (1) سليمان بن حرب، حدثنا الاسود ابن شيبان، عن خالد بن سمير، قال: قدم علينا عبدالله بن رباح الانصاري، وكانت الانصار تفقهه، فغشيه الناس فغشيته فيمن غشيه، فقال: حدثنا أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الامراء وقال: عليكم زيد بن حارثة.
فإن (2) أصيب زيد فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبد الله ابن رواحة، قال: فوثب جعفر وقال: يا رسول الله ما كنت أرغب أن تستعمل زيدا (3) علي.
قال: امض فإنك لا تدري أي ذلك خير.
فانطلقوا فلبثوا ما شاء الله، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فأمر فنودي:
__________
(1) أ: أنبأنا.
(2) غير أ: وقال إن.
(3) أ: أن يستعمل زيد.
(30 - السيرة 3) (*)
الصلاة جامعة.
فاجتمع الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أخبركم عن جيشكم هذا، إنهم انطلقوا فلقوا العدو فقتل زيد شهيدا.
فاستغفر له، ثم أخذ اللواء جعفر فشد على القوم حتى قتل شهيدا، شهد له بالشهادة واستغفر له، ثم أخذ اللواء عبدالله بن رواحة فأثبت قدميه حتى قتل شهيدا فاستغفر له، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الامراء هو أمر نفسه (1).
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إنه سيف من سيوفك أنت (2) تنصره " فمن يومئذ سمى خالد سيف الله.
ورواه النسائي من حديث عبدالله بن المبارك، عن الاسود بن شيبان به نحوه، وفيه زيادة حسنة وهو أنه عليه السلام لما اجتمع إليه الناس قال: باب خير باب خير.
وذكر الحديث.
وقال الواقدي: حدثني عبد الجبار بن عمارة بن غزية، عن عبدالله بن أبي بكر، عن عمرو بن حزم، قال: لما التقى الناس بمؤتة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وكشف الله له ما بينه وبين الشام فهو ينظر إلى معتركهم، فقال: أخذ الراية زيد ابن حارثة فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت، وحبب إليه الدنيا، فقال: الآن حين استحكم الايمان في قلوب المؤمنين تحبب إلي الدنيا ! فمضى قدما حتى استشهد فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: استغفروا له، فقد دخل الجنة وهو شهيد.
قال الواقدي: وحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما قتل زيد أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت ومناه الدنيا، فقال: الآن حين استحكم الايمان في قلوب المؤمنين يمنيني الدنيا ! ثم مضى قدما حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) أ: أمير نفسه.
(2) أ: فأنت.
(*)
وسلم.
وقال: استغفروا لاخيكم فإنه شهيد دخل الجنة، وهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث شاء من الجنة.
قال: ثم أخذ الراية عبدالله بن رواحة فاستشهد: ثم دخل الجنة معترضا فشق ذلك على الانصار، فقيل: يا رسول الله ما اعتراضه ؟ قال: لما أصابته الجراح نكل، فعاتب نفسه فتشجع واستشهد ودخل الجنة.
فسرى عن قومه.
* * * قال الواقدي: وحدثني عبدالله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه قال: لما أخذ خالد بن الوليد الراية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن حمى الوطيس.
قال الواقدي: فحدثني العطاف بن خالد، قال: لما قتل ابن رواحة مساء بات خالد ابن الوليد فلما أصبح غدا وقد جعل مقدمته ساقة وساقته مقدمة وميمنته ميسرة وميسرته ميمنة.
قال: فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئتهم وقالوا: قد جاءهم مدد، فرعبوا وانكشفوا منهزمين، قال: فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم.
وهذا يوافق ما ذكره موسى بن عقبة رحمه الله في مغازيه، فإنه قال، بعد عمرة الحديبية: ثم صدر (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فمكث بها ستة أشهر، ثم إنه بعث جيشا إلى مؤتة وأمر عليهم زيد بن حارثة وقال: إن أصيب فجعفر بن أبي طالب أميرهم، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة أميرهم، فانطلقوا حتى إذا لقوا ابن أبي سبرة الغساني بمؤتة وبها جموع (2) من نصارى العرب والروم، بها تنوخ وبهراء، فأغلق ابن أبي سبرة دون المسلمين الحصن ثلاثة أيام، ثم التقوا (3) على
__________
(1) أ: ثم صد.
(2) أ: جمع.
(3) أ: ثم خرجوا فالتقوا.
(*)
زرع (1) أحمر فاقتتلوا قتالا شديدا، فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقتل، ثم أخذه جعفر فقتل، ثم أخذه عبدالله بن رواحة فقتل، ثم اصطلح المسلمون بعد أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على خالد بن الوليد المخزومي فهزم الله العدو وأظهر المسلمين.
قال: وبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادي الاولى - يعني من سنة ثمان -.
قال موسى بن عقبة: وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مر علي جعفر في الملائكة يطير كما يطيرون وله جناحان.
قال: وزعموا - والله أعلم - أن يعلى بن أمية قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت فأخبرني وإن شئت
أخبرك.
قال: أخبرني يا رسول الله.
قال: فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم كله ووصفه لهم، فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره، وإن أمرهم لكما ذكرت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله رفع لي الارض حتى رأيت معتركهم ".
فهذا السياق فيه فوائد كثيرة ليست عند ابن إسحاق، وفيه مخالفة لما ذكره ابن إسحاق من أن خالدا إنما حاشى بالقوم حتى تخلصوا من الروم وعرب النصارى فقط.
وموسى بن عقبة والواقدي مصرحان بأنهم هزموا جموع (2) الروم والعرب الذين معهم، وهو ظاهر الحديث المتقدم عن أنس مرفوعا: " ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه ".
رواه البخاري، وهذا هو الذي رجحه ومال إليه الحافظ البيهقي بعد حكاية القولين، لما ذكرناه من الحديث.
__________
(1) أ: ردع.
وهو الزعفران.
(2) أ: جميع.
(*)
[ قلت: ويمكن الجمع بين قول ابن إسحاق وبين قول الباقين، وهو أن خالدا لما أخذ الراية حاشى بالقوم المسلمين حتى خلصهم من أيدي الكافرين من الروم والمستعربة.
فلما أصبح وحول الجيش ميمنة وميسرة ومقدمة وساقة، كما ذكره الواقدي توهم الروم أن ذلك عن مدد جاء إلى المسلمين، فلما حمل عليهم خالد هزموهم بإذن الله والله أعلم ] (1).
* * * وقد قال (2) ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر، عن عروة قال: لما أقبل أصحاب مؤتة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه [ قال: ولقيهم الصبيان يشتدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم وأعطوني ابن جعفر.
فأتى بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه (3) ] فجعلوا يحثون عليهم التراب
ويقولون: يا فرار فررتم في سبيل الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله عزوجل).
وهذا مرسل من هذا الوجه وفيه غرابة.
[ وعندي أن ابن إسحاق قد وهم في هذا السياق فظن أن هذا الجمهور الجيش، وإنما كان الذين فروا حين التقى الجمعان، وأما بقيتهم فلم يفروا بل نصروا، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وهو على المنبر في قوله: ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه، فما كان المسلمون ليسمونهم فرارا بعد ذلك، وإنما تلقوهم إكراما وإعظاما، وإنما كان التأنيب وحثى التراب للذين فروا وتركوهم هنالك، وقد كان فيهم عبد الله بن عمر رضى الله عنهما ] (4).
[ وقد (5) ] قال الامام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا زهير، حدثنا يزيد بن أبي زياد،
__________
(1) سقطت من أ.
(2) أ: لكن قال.
(3) من ابن هشام.
(4) سقطت من أ.
(5) من أ.
(*)
عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن عبدالله بن عمر، قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة قتلنا، ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا.
فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: من القوم ؟ قال: قلنا: نحن الفرارون (1).
فقال: " لا بل أنتم العكارون (2) أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين ".
قال: فأتيناه حتى قبلنا يده.
ثم رواه عن غندر عن شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى عن ابن عمر، قال: كنا في سرية ففررنا فأردنا أن نركب البحر، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله نحن الفرارون.
فقال: لا بل أنتم العكارون.
ورواه [ أبو داود (3) و ] الترمذي وابن ماجه من حديث يزيد بن أبي زياد، وقال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من حديثه.
وقال أحمد (4): حدثنا إسحاق بن عيسى وأسود بن عامر، قالا: حدثنا شريك، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن ابن عمر قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فلما لقينا العدو انهزمنا في أول غادية، فقدمنا المدينة في نفر ليلا، فاختفينا ثم قلنا: لو خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذرنا إليه.
فخرجنا إليه فلما لقيناه (5) قلنا: نحن الفرارون يا رسول الله.
قال: " بل أنتم العكارون وأنا فئتكم " قال الاسود: " وأنا فئة كل مسلم (6) ".
قال ابن إسحاق: حدثني عبدالله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عامر بن
__________
(1) غيرا: فرارون.
(2) غيرا: الكرارون.
(3) من.
(4) أ ثم قال أحمد.
(5) المطبوعة: ثم التقيناه.
وهو تحريف.
(6) ا: لكل مسلم.
(*)
عبد الله بن الزبير، أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لامرأة سلمة بن هشام بن المغيرة: مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين ؟ قالت: ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس: يا فرار فررتم في سبيل الله، حتى قعد في بيته ما يخرج وكان في غزاة مؤتة.
قلت: لعل طائفة منهم فروا لما عاينوا كثرة جموع [ الروم، وكانوا على أكثر من أضعاف الاضعاف فإنهم كانوا ثلاثة آلاف وكان (1) ] العدو على ما ذكروه مائتي ألف، ومثل هذا يسوغ الفرار على ما قد تقرر، فلما فر هؤلاء ثبت باقيهم وفتح الله عليهم وتخلصوا من أيدي أولئك وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، كما ذكره الواقدي وموسى بن
عقبة من قبله.
و [ مما (2) ] يؤيد ذلك أيضا ويزيده قوة ويشهد له (3) بالصحة ما رواه الامام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني صفوان بن عمرو، عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الاشجعي قال: خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة من المسلمين في غزوة مؤتة، ووافقني مددي (4) من اليمن ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزورا فسأله المددي طابقة من جلده فأعطاه إياه فاتخذه كهيئة الدرقة، ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرومي يغرى بالمسلمين، وقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقب فرسه (5) فخر وعلاه فقتله، وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله للمسلمين بعث
__________
(1) سقطت من المطبوعة.
(2) من أ.
(3) غير أ: ويؤيد ذلك ويشاكله بالصحة.
(4) الاصل: مدوى وهو تحريف.
والمددى: يعني رجلا من المدد الذين جاءوا يمدون المسلمين.
(5) غير أ: فعرقبه.
(*)
إليه خالد بن الوليد فأخذ من السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ؟ قال: بلى ولكني استكثرته.
فقلت: لتردنه إليه أو لاعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأبى أن يرد عليه.
قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا خالد رد عليه ما أخذت منه " قال عوف: فقلت: دونك يا خالد ألم أف لك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك ؟ فأخبرته، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " يا خالد لا ترد عليه، هل أنتم تاركوا أمرائي ؟ لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره ".
قال الوليد: سألت ثورا عن هذا الحديث، فحدثني عن خالد بن معدان، عن جبير ابن نفير، عن عوف بنحوه.
ورواه مسلم وأبو داود من حديث جبير بن نفير عن عوف بن مالك به نحوه.
وهذا يقتضي أنهم غنموا منهم وسلبوا من أشرافهم وقتلوا من أمرائهم.
وقد تقدم فيما رواه البخاري أن خالدا رضى الله عنه قال: اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية.
وهذا يقتضي أنهم أثخنوا فيهم قتلا، ولو لم يكن كذلك لما قدروا على التخلص منهم.
وهذا وحده دليل مستقل والله أعلم.
وهذا هو اختيار موسى بن عقبة والواقدي والبيهقي، وحكاه ابن هشام عن الزهري.
قال البيهقي رحمه الله: اختلف أهل المغازي في فرارهم وانحيازهم، فمنهم من ذهب إلى ذلك ومنهم من زعم أن المسلمين ظهروا على المشركين وأن المشركين انهزموا.
قال: وحديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ثم أخذها خالد ففتح الله عليه " يدل على ظهورهم عليهم.
والله أعلم.
قلت: وقد ذكر ابن إسحاق أن قطبة بن قتادة العذري - وكان رأس ميمنة المسلمين - حمل على مالك بن زافلة قال ابن هشام (1): ويقال رافلة.
وهو أمير أعراب النصارى فقتله، وقال يفتخر بذلك: طعنت ابن زافلة بن الاراش * برمح مضى فيه ثم انحطم ضربت على جيده ضربة * فمال كما مال غصن السلم وسقنا نساء بني عمه * غداة رقوقين سوق النعم (2) وهذا يؤيد ما نحن فيه، لان من عادة أمير الجيش إذا قتل أن يفر أصحابه، ثم إنه صرح في شعره بأنهم سبوا من نسائهم، وهذا واضح فيما ذكرناه.
والله أعلم.
* * * وأما ابن إسحاق فإنه ذهب إلى أنه لم يكن إلا المخاشاة والتخلص من أيدي الروم، وسمى هذا نصرا وفتحا، أي باعتبار ما كانوا فيه من إحاطة العدو بهم وتراكمهم وتكاثرهم وتكاثفهم عليهم، وكان مقتضى العادة (3) أن يصطلموا (4) بالكلية، فلما تخلصوا منهم وانحازوا عنهم كان هذا غاية المرام في هذا المقام.
وهذا محتمل، لكنه خلاف الظاهر من قوله عليه الصلاة والسلام: " ففتح الله عليهم ".
والمقصود أن ابن إسحاق يستدل على ما ذهب إليه فقال: وقد قال فيما كان أمر الناس وأمر خالد بن الوليد ومخاشاته بالناس وانصرافه بهم قيس بن المحسر اليعمري يعتذر مما صنع يومئذ وصنع الناس يقول: فوالله لا تنفك نفسي تلومني * على موقفي والخيل قابعة قبل (5)
__________
(1) من.
(2) رقوقين: موضع.
(3) غيرا: فكان مقتضى العادات.
(4) المطبوعة: يصطلحوا.
وهو تحريف.
(5) قابعة: منقبضة.
وقبل جمع أقبل وقبلاء وهو الذي يميل عينه في النظر إلى جهة العين الاخرى.
(*)
وقفت بها لا مستحيزا فنافذا * ولا مانعا من كان حم له القتل (1) على أنني آسيت نفسي بخالد * ألا خالد في القوم ليس له مثل وجاشت إلى النفس من نحو جعفر * بمؤتة إذ لا ينفع النابل النبل وضم إلينا حجزتيهم كليهما * مهاجرة لا مشركون ولا عزل قال ابن إسحاق: فبين قيس ما اختلف فيه الناس من ذلك في شعره، أن القوم حاجزوا وكرهوا الموت، وحقق انحياز خالد بمن معه.
قال ابن هشام: وأما الزهري فقال - فيما بلغنا عنه - أمر المسلمون عليهم خالد ابن الوليد ففتح الله عليهم، وكان عليهم حتى رجع إلى المدينة (2).
فصل قال ابن إسحاق: حدثني عبدالله بن أبي بكر، عن أم عيسى الخزاعية، عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب، عن جدتها أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دبغت أربعين منا (3) وعجنت عجيني وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ائتني ببني جعفر " فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ! ما يبكيك ؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شئ ؟ قال: " نعم أصيبوا هذا اليوم " قالت: فقمت أصيح، واجتمع إلي النساء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال: " لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم ".
__________
(1) مستحيزا: متحيزا إلى طائفة.
(2) ابن هشام: حتى قفل إلى النبي.
(3) المنا: الرطل الذي يوزن به، تعني أربعين رطلا من دباغ.
(*)
وهكذا وراه الامام أحمد من حديث ابن إسحاق، ورواه ابن إسحاق من طريق عبدالله بن أبي بكر، عن أم عيسى، عن أمر عون بنت محمد بن جعفر، عن أسماء، فذكر الامر بعمل الطعام، والصواب أنها أم جعفر وأم عون.
وقال الامام أحمد: حدثنا سقيان، حدثنا جعفر بن خالد، عن أبيه، عن عبدالله ابن جعفر، قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم أمر يشغلهم، أو أتاهم ما يشغلهم ".
وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة، عن جعفر
ابن خالد بن سارة المخزومي المكي، عن أبيه، عن عبدالله بن جعفر.
وقال الترمذي: حسن.
ثم قال محمد بن إسحاق: حدثني عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما أتى نعى جعفر عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن.
قالت: فدخل عليه رجل فقال: يا رسول الله [ إن النساء ] عنيننا وفتننا، قال: " ارجع إليهن فأسكتهن ".
قالت: فذهب ثم رجع فقال له مثل ذلك، قالت: وربما ضر التكلف - يعني أهله - قالت: قال: " فاذهب فأسكتهن فإن أبين فاحث في أفواههن التراب " قالت: [ وقلت ] في نفسي: أبعدك الله ! فوالله ما تركت نفسك وما أنت بمطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: وعرفت أنه لا يقدر يحثي في أفواههن التراب.
انفرد به ابن إسحاق من هذا الوجه، وليس في شئ من الكتب.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا عبد الوهاب، سمعت يحيى بن سعيد قال: أخبرتني عمرة قالت: سمعت عائشة تقول: لما قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب و عبدالله
ابن رواحة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الحزن، قالت عائشة: وأنا أطلع من صائر الباب - شق (1) - فأتاه رجل فقال: أي رسول الله، إن نساء جعفر، وذكر بكاءهن، فأمره أن ينهاهن قالت: فذهب الرجل ثم أتى فقال: والله لقد غلبننا، فزعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فاحث في أفواههن من التراب ".
قالت عائشة رضى الله عنها: فقلت: أرغم الله أنفك ! فوالله ما أنت تفعل ذلك وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء.
وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من طرق، عن يحيى بن سعيد الانصاري عن عمرة عنها.
وقال الامام أحمد: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، سمعت محمد بن أبي يعقوب يحدث عن الحسن بن سعد، عن عبدالله بن جعفر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا استعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: " إن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر، فإن قتل أو استشهد فأميركم عبدالله بن رواحة " فلقوا العدو فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه.
وأتى خبرهم النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: " إن إخوانكم لقوا العدو، وإن زيدا أخذ الراية فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه " قال: ثم أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: " لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي بني أخي " قال: فجئ بنا كأننا أفرخ، فقال " ادعوا
__________
(1) البخاري: تعني من شق الباب.
(*)
لى الحلاق " فجئ بالحلاق فحلق رؤوسنا، ثم قال: " أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبدالله فشبيه خلقي وخلقي " ثم أخذ بيدي فأشالها (1) وقال: " اللهم اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه " قالها ثلاث مرات.
قال: فجاءت أمنا فذكرت له يتمنا وجعلت تفرح (2) له فقال: " العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة ؟ ".
وهذا يقتضى أنه عليه الصلاة والسلام أرخص لهم في البكاء ثلاثة أيام ثم نهاهم عنه بعدها ولعله معنى الحديث الذى رواه الامام أحمد من حديث الحكم بن عبدالله
ابن شداد، عن أسماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها لما أصيب جعفر: " تسلبي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت ".
تفرد به أحمد.
فيحتمل أنه أذن لها في التسلب، وهو المبالغة في البكاء وشق الثياب، ويكون هذا من باب التخصيص لها بهذا لشدة حزنها على جعفر أبى أولادها، وقد يحتمل أن يكون أمرا لها بالتسلب وهو المبالغة في الاحداد ثلاثة أيام، ثم تصنع بعد ذلك ما شاءت مما يفعله المعتدات على أزواجهن من الاحداد المعتاد.
والله أعلم.
ويروى: تسلى ثلاثا - أي تصبري - وهذا بخلاف الرواية الاخرى والله أعلم.
فأما الحديث الذى قال الامام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن طلحة، حدثنا الحكم بن عيينة، عن عبدالله بن شداد عن أسماء بنت عميس، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر فقال: لا تحدى بعد يومك هذا.
فإنه من أفراد أحمد أيضا وإسناده لا بأس به، ولكنه مشكل إن حمل على ظاهره، لانه قد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله
__________
(1) شالها: رفعها.
(2) تفرح له: تحزنه.
(*)
واليوم الآخر أن تحد على ميتها أكثر من ثلاثة أيام، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ".
فإن كان ما رواه الامام أحمد محفوظا فتكون مخصوصة بذلك، أو هو أمر بالمبالغة في الاحداد هذه الثلاثة أيام كما تقدم.
والله أعلم.
قلت: ورثت أسماء بنت عميس زوجها بقصيدة تقول فيها: فآليت لا تنفك نفسي حزينة * عليك ولا ينفك جلدى أغبرا فلله عينا من رأى مثله فتى * أكر وأحمى في الهياج وأصبرا
ثم لم تنشب أن انقضت عدتها، فخطبها أبو بكر الصديق رضى الله عنه فتزوجها فأولم وجاء الناس للوليمة، فكان فيهم على بن أبى طالب، فلما ذهب الناس استأذن على أبا بكر رضى الله عنهما في أن يكلم أسماء من وراء الستر فأذن له، فلما اقترب من الستر نفحه ريح طيبها فقال لها على: - على وجه البسط - من القائلة في شعرها: فآليت لا تنفك نفسي حزينة * عليك ولا ينفك جلدى أغبرا ؟ قالت: دعنا منك يا أبا الحسن فإنك امرؤ فيك دعابة ! فولدت للصديق محمد بن أبى بكر، ولدته بالشجرة بين مكة والمدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ذاهب إلى حجة الوداع، فأمرها أن تغتسل وتهل وسيأتى في موضعه، ثم لما توفى الصديق تزوجها بعده على بن أبى طالب، وولدت له أولادا رضى الله عنه وعنها وعنهم أجمعين.
فصل قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: فلما دنوا من المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون.
قال: ولقيهم الصبيان يشتدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة، فقال: " خذوا الصبيان فاحملوهم وأعطوني ابن جعفر " فأتى بعبد الله بن جعفر فحمله بين يديه، قال: وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار فررتم في سبيل الله ! قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله ".
وهذا مرسل.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا عاصم، عن مؤرق العجلى، عن عبدالله بن جعفر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقى
الصبيان من أهل بيته، وإنه قدم من سفر فسبق بى إليه، قال: فحملني بين يديه ثم قال: " جئ بأحد بنى فاطمة " إما حسن وإما حسين، فأردفه خلفه فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة.
وقد رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عاصم الاحول عن مؤرق به.
وقال الامام أحمد: حدثنا روح، حدثنا ابن جريج، حدثنا خالد بن سارة، أن أباه أخبره أن عبدالله بن جعفر قال: لو رأيتنى وقثما وعبيد الله ابني العباس ونحن صبيان نلعب إذ مر النبي صلى الله عليه وسلم على دابة فقال: " ارفعوا هذا إلى " فحملني أمامه وقال لقثم: " ارفعوا هذا إلى " فجعله وراءه، وكان عبيد الله أحب إلى عباس من قثم، فما استحى من عمه أن حمل قثما وتركه.
قال: ثم مسح على رأسه ثلاثا وقال كلما مسح: " اللهم اخلف جعفرا في ولده ".
قال: قلت لعبد الله: ما فعل قثم ؟ قال: استشهد ؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم بالخير.
قال: أجل.
ورواه النسائي في اليوم والليلة من حديث ابن جريج به.
[ وهذا كان بعد الفتح، فإن العباس إنما قدم المدينة بعد الفتح، فأما الحديث الذى رواه الامام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا حبيب بن الشهيد، عن عبدالله بن أبى مليكة، قال: قال عبدالله بن جعفر لابن الزبير: أتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت وابن عباس ؟ قال: نعم فحملنا وتركك.
وبهذا اللفظ أخرجه البخاري ومسلم من حديث حبيب بن الشهيد وهذا يعد من الاجوبة المسكتة، ويروى أن عبدالله بن عباس أجاب به ابن الزبير أيضا، وهذه القصة قصة أخرى كانت بعد الفتح كما قدمنا بيانه.
والله أعلم (1) ].
فصل في فضل هؤلاء الامراء الثلاثة: زيد وجعفر و عبدالله رضى الله عنهم أما زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى بن امرئ القيس بن عامر ابن النعمان بن عامر بن عبد ود بن عوف بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة الكلبى القضاعى، [ فهو ] مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن أمه ذهبت تزور أهلها فأغارت عليهم خيل فأخذوه، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، وقيل اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، فوهبته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، فوجده أبوه فاختار المقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه، فكان يقال له زيد بن محمد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا شديدا.
__________
(1) سقط من ت.
(*)
وكان أول من أسلم من الموالى، ونزل فيه آيات من القرآن منها قوله تعالى: " وما جعل أدعياءكم أبناءكم " وقوله تعالى: " ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله " وقوله تعالى: " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " وقوله: " وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها " الآية.
أجمعوا أن هذه الآيات أنزلت فيه، ومعنى: " أنعم الله عليه " أي بالاسلام " وأنعمت عليه " أي بالعتق، وقد تكلمنا عليها في التفسير.
والمقصود أن الله تعالى لم يسم أحدا من الصحابة في القرآن غيره، وهداه إلى الاسلام، وأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجه مولاته أم أيمن واسمها بركة
فولدت له أسامة بن زيد، فكان يقال له الحب بن الحب، ثم زوجه بابنة عمته زينب بنت جحش، وآخى بينه وبين عمه حمزة بن عبدالمطلب وقدمه في الامرة على ابن عمه جعفر بن أبى طالب يوم مؤتة كما ذكرناه.
وقد قال الامام أحمد والامام الحافظ أبو بكر بن أبى شيبة - وهذا لفظه -: حدثنا محمد بن عبيد، عن وائل بن داود: سمعت البهى يحدث أن عائشة كانت تقول: ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سرية إلا أمره عليهم، ولو بقى بعد لاستخلفه.
ورواه النسائي عن أحمد بن سلمان، عن محمد بن عبيد الطنافسى به.
وهذا إسناد جيد قوى على شرط الصحيح، وهو غريب جدا.
والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا سليمان، حدثنا إسماعيل، أخبرني ابن دينار، عن ابن عمر رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد،
فطعن بعض الناس في إمرته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقا للامارة وإن كان لمن أحب الناس إلى، وإن هذا لمن أحب الناس إلى بعده ".
وأخرجاه في الصحيحين، عن قتيبة عن إسماعيل - هو ابن جعفر بن أبى كثير المدنى - عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر فذكره.
ورواه البخاري من حديث موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه.
ورواه البزار من حديث عاصم بن عمر، عن عبيد الله بن عمر العمرى، عن نافع، عن ابن عمر، ثم استغربه من هذا الوجه.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمر بن إسماعيل، عن مجالد، عن الشعبى، عن مسروق، عن عائشة قالت: لما أصيب زيد بن حارثة وجئ بأسامة بن زيد وأوقف بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأخر، ثم عاد من الغد فوقف بين يديه فقال: " ألاقى منك اليوم ما لقيت منك أمس ".
وهذا الحديث فيه غرابة والله أعلم.
وقد تقدم في الصحيحين أنه لما ذكر مصابهم وهو عليه السلام فوق المنبر جعل يقول " أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبدالله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله ففتح الله عليه ".
قال: وإن عينيه لتذرفان، وقال: " وما يسرهم أنهم عندنا " وفى الحديث الآخر أنه شهد لهم بالشهادة، فهم ممن يقطع لهم بالجنة.
وقد قال حسان بن ثابت يرثى زيد بن حارثة وابن رواحة: عين جودى بدمعك المبزور * واذكري في الرخاء أهل القبور واذكري مؤتة وما كان فيها * يوم راحوا في وقعة التغوير
حين راحوا وغادروا ثم زيدا * نعم مأوى الضريك والمأسور (1) حب خير الانام طرا جميعا * سيد الناس حبه في الصدور ذاكم أحمد الذى لا سواه * ذاك حزنى له معا وسروري إن زيدا قد كان منا بأمر * ليس أمر المكذب المغرور ثم جودى للخزرجي بدمع * سيدا كان ثم غير نزور قد أتانا من قتلهم ما كفانا * فبحزن نبيت غير سرور * * * وأما جعفر بن أبى طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، فهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أكبر من أخيه عليه بعشر سنين، وكان عقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وكان طالب أسن من عقيل بعشر سنين.
أسلم جعفر قديما وهاجر إلى الحبشة وكانت له هناك مواقف مشهورة، ومقامات محمودة، وأجوبة سديدة، وأحوال رشيدة، وقد قدمنا ذلك في هجرة الحبشة (2) ولله الحمد.
وقد قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر فقال عليه الصلاة والسلام: " ما أدرى أنا بأيهما أسر، أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر " وقام إليه واعتنقه وقبل بين عينيه، وقال له يوم خرجوا من عمرة القضية: " أشبهت خلقي وخلقي " فيقال: إنه حجل عند ذلك فرحا.
كما تقدم في موضعه ولله الحمد والمنة.
ولما بعثه إلى مؤتة جعل في الامرة مصليا - أي نائبا - لزيد بن حارثة، ولما قتل وجدوا فيه بضعا وتسعين ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وهو في
__________
(1) الضريك: والفقير السئ الحال.
(2) تقدم ذلك في الجزء الثاني 14 - 26.
(*)
ذلك كله مقبل غير مدبر، وكانت قد طعنت يده اليمنى ثم اليسرى وهو ممسك للواء، فلما فقدهما احتضنه حتى قتل وهو كذلك.
فيقال: إن رجلا من الروم ضربه بسيف فقطعه باثنتين، رضى الله عن جعفر ولعن قاتله.
وقد أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد فهو ممن يقطع له بالجنة.
وجاء بالاحاديث تسميته بذى الجناحين.
وروى البخاري عن ابن عمر، أنه كان إذا سلم على ابنه عبدالله بن جعفر يقول: السلام عليك يابن ذى الجناحين.
وبعضهم يرويه عن عمر بن الخطاب نفسه، والصحيح ما في الصحيح عن ابن عمر.
قالوا: لان الله تعالى عوضه عن يديه بجناحين في الجنة وقد تقدم بعض ما روى
في ذلك.
قال الحافظ أبو عيسى الترمذي: حدثنا على بن حجر، حدثنا عبدالله بن جعفر، عن العلاء بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: " رأيت جعفرا يطير في الجنة مع الملائكة ".
وتقدم في حديث أنه رضى الله عنه قتل وعمره ثلاث وثلاثون سنة.
وقال ابن لاثير في الغابة: كان عمره يوم قتل إحدى وأربعين.
قال: وقيل غير ذلك.
قلت: وعلى ما قيل إنه كان أسن من على بعشر سنين، يقتضى أن عمره يوم قتل تسع وثلاثون سنة، لان عليا أسلم وهو ابن ثمانى سنين على المشهور فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وهاجر وعمره إحدى وعشرون سنة، ويوم مؤتة كان في سنة ثمان من الهجرة والله أعلم.
وقد كان يقال لجعفر بعد قتله الطيار، لما ذكرنا، وكان كريما جوادا ممدحا، وكان لكرمه يقال له: أبا المساكين، لاحسانه إليهم.
قال الامام أحمد: وحدثنا عفان بن وهيب، حدثنا خالد، عن عكرمة، عن أبى هريرة، قال: ما احتذى النعال ولا انتعل، ولا ركب المطايا ولا لبس الثياب من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبى طالب.
وهذا إسناد جيد إلى أبى هريرة، وكأنه إنما يفضله في الكرم، فأما في الفضيلة الدينية فمعلوم أن الصديق والفاروق بل وعثمان بن عفان أفضل منه، وأما أخوه على رضى الله عنهما فالظاهر أنهما متكافئان أو على أفضل منه.
وإنما أراد أبو هريرة تفضيله في الكرم، بدليل ما رواه البخاري: حدثنا أحمد بن أبى بكر، حدثنا محمد بن إبراهيم بن دينار أبو عبد الله الجهنى، عن ابن أبى ذئب، عن سعيد المقبرى، عن أبى هريرة، أن الناس كانوا يقولون: أكثر أبو هريرة وإنى كنت
ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني خبزا لا آكل الخمير ولا ألبس الحرير ولا يخدمني فلان وفلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لاستقرئ الرجل الآية هي معى كى ينقلب بى فيطعمني، وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبى طالب، وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التى ليس فيها شئ فنشقها فنلعق ما فيها.
تفرد به البخاري.
وقال حسان بن ثابت يرثى جعفرا: ولقد بكيت وعز مهلك جعفر * حب النبي على البرية كلها ولقد جزعت وقلت حين نعيت لى * من للجلاد لدى العقاب وظلها بالبيض حين تسل من أغمادها * ضربا وإنهال الرماح وعلها
بعد ابن فاطمة المبارك جعفر * خير البرية كلها وأجلها رزءا وأكرمها جميعا محتدا * وأعزها متظلما وأذلها للحق حين ينوب غير تنحل * كذبا وأنداها يدا وأقلها فحشا وأكثرها إذا ما يجتدى * فضلا وأنداها يدا وأبلها بالعرف غير محمد لا مثله * حى من احياء البرية كلها * * * وأما ابن رواحة فهو عبدالله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الاكبر بن مالك بن الاغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، أبو محمد ويقال: أبو رواحة، ويقال: أبو عمرو، الانصاري الخزرجي، وهو خال النعمان بن بشير، أخته عمرة بنت رواحة.
أسلم قديما وشهد العقبة، وكان أحد النقباء ليلتئذ لبنى الحارث بن الخزرج، وشهد
بدرا وأحدا والخندق والحديبية وخيبر وكان يبعثه على خرصها، كما قدمنا، وشهد عمرة القضاء ودخل يومئذ وهو ممسك بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل بغرزها - يعنى الركاب - وهو يقول: * خلوا بنى الكفار عن سبيله * الابيات كما تقدم.
وكان أحد الامراء الشهداء يوم مؤتة كما تقدم، وقد شجع المسلمين للقاء الروم حين اشتوروا في ذلك، وشجع نفسه أيضا حتى نزل بعد ما قتل صاحباه، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهادة فهو ممن يقطع له بدخول الجنة.
ويروى أنه لما أنشد النبي صلى الله عليه وسلم شعره حين ودعه الذى يقول فيه: فثبت الله ما آتاك من حسن * تثبيت موسى ونصرا كالذى نصروا
قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وأنت فثبتك الله " قال.
هشام بن عروة: فثبته الله حتى قتل شهيدا ودخل الجنة.
وروى حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبدالرحمن بن أبى ليلى، أن عبدالله بن رواحة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فسمعه يقول: " اجلسوا ".
فجلس مكانه خارجا من المسجد حتى فرغ الناس من خطبته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " زادك الله حرصا على طواعية الله وطواعية رسوله ".
وقال البخاري في صحيحه: وقال معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة (1).
وقد ورد الحديث المرفوع في ذلك عن عبدالله بن رواحة بنحو ذلك، فقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، عن عمارة، عن زياد النحوي، عن أنس قال: كان عبدالله ابن رواحة إذا لقى الرجل من أصحابه يقول: تعالى نؤمن بربنا ساعة.
فقال ذات يوم لرجل، فغضب الرجل فجاء فقال: يا رسول الله ألا ترى ابن رواحة ؟ يرغب عن إيمانك
إلى إيمان ساعة ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " رحم الله ابن رواحة، إنه يحب المجالس التى تتباهى بها الملائكة ".
وهذا حديث غريب جدا.
وقال البيهقى: حدثنا الحاكم، حدثنا أبو بكر، حدثنا محمد بن أيوب، حدثنا أحمد ابن يونس، حدثنا شيخ من أهل المدينة، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، أن عبدالله بن رواحة قال لصاحب له: تعال حتى نؤمن ساعة، قال: أو لسنا بمؤمنين ؟ قال: بلى ولكنا نذكر الله فنزداد إيمانا.
وقد روى الحافظ أبو القاسم اللكى (2) من حديث أبى اليمان، عن صفوان بن سليم، عن شريح بن عبيد، أن عبدالله بن رواحة كان يأخذ بيد الرجل من أصحابه
__________
(1) صحيح البخاري 1 / 5 (2) نسبة إلى الملك وهى بليدة من أعمال برقة الغرب.
وفى الاصل: اللاكائى.
وما أثبته عن اللباب 3 / 70 (*)
فيقول: قم بنا نؤمن ساعة فنجلس في مجلس ذكر.
وهذا مرسل من هذين الوجهين وقد استقصينا الكلام على ذلك في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة.
وفى صحيح البخاري عن أبى الدرداء قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في حر شديد، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة رضى الله عنه.
وقد كان من شعراء الصحابة المشهورين، ومما نقله البخاري من شعره في رسول الله صلى الله عليه وسلم: وفينا رسول الله نتلو كتابه * إذا انشق معروف من الفجر ساطع يبيت يجافى جنبه عن فراشه * إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا * به موقنات أن ما قال واقع وقال البخاري: حدثنا عمران بن ميسرة، حدثنا محمد بن فضيل، عن حصين، عن عامر عن النعمان بن بشير قال: أغمى على عبدالله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكى، واجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئا إلا قيل لى: أنت كذلك ؟ حدثنا قتيبة، حدثنا خيثمة، عن حصين، عن الشعبى عن النعمان بن بشير قال: أغمى على عبدالله بن رواحة، بهذا.
فلما مات لم تبك عليه.
وقد قدمنا ما رثاه به حسان بن ثابت مع غيره.
وقال شاعر من المسلمين ممن رجع من مؤتة مع من رجع رضى الله عنهم: كفى حزنا أنى رجعت وجعفر * وزيد وعبد الله في رمس أقبر قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهم * وخلفت للبلوى مع المتغير وسيأتى إن شاء الله تعالى بقية ما رثى به هؤلاء الامراء الثلاثة من شعر حسان بن ثابت وكعب بن مالك رضى الله عنهما وأرضاهما.
فصل في ذكر من استشهد يوم مؤتة من المسلمين فمن المهاجرين جعفر بن أبى طالب، ومولاهم زيد بن حارثة الكلبى، ومسعود بن الاسود بن حارثة بن نضلة العدوى، ووهب بن سعد بن أبى سرح، فهؤلاء أربعة نفر.
ومن الانصار عبدالله بن رواحة، وعباد بن قيس الخزرجيان، والحارث بن النعمان بن إساف بن نضلة النجارى، وسراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء المازنى، أربعة نفر.
فمجموع من قتل من المسلمين يومئذ هؤلاء الثمانية، على ما ذكره ابن إسحاق، لكن قال ابن هشام: وممن استشهد يوم مؤتة فيما ذكره ابن شهاب الزهري: أبو كليب وجابر
ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول المازنيان، وهما شقيقان لاب وأم، وعمرو وعامر ابنا سعد بن الحارث بن عباد بن سعد بن عامر بن ثعلبة بن مالك بن أفصى.
فهؤلاء أربعة من الانصار أيضا، فالمجموع على القولين اثنا عشر رجلا.
وهذا عظيم جدا، أن يتقاتل جيشان متعاديان في الدين، أحدهما وهو الفئة التى تقاتل في سبيل الله عدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة وعدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف، ومن نصارى العرب مائة ألف، يتبارزون ويتصاولون ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين الا اثنا عشر رجلا، وقد قتل من المشركين خلق كثير ! هذا خالد وحده يقول: لقد اندقت في يدى يومئذ تسعة أسياف وما صبرت في يدى إلا صفيحة يمانية، فماذا ترى قد قتل بهذه الاسياف كلها ! دع غيره من الابطال والشجعان من حملة القرآن، وقد تحكموا في عبدة الصلبان عليهم لعائن الرحمن، في ذلك الزمان وفى كل أوان.
وهذا مما يدخل في قوله تعالى: " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين، والله يؤيد بنصره من يشاء، إن في ذلك لعبرة لاولى الابصار ".
حديث فيه فضيلة عظيمة لامراء هذه السرية (1) وهم: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبى طالب، وعبد الله بن رواحة رضى الله عنهم.
قال الامام العالم الحافظ أبو زرعة عبدالله بن عبد الكريم الرازي، نضر الله وجهه، في كتابه دلائل النبوة - وهو كتاب جليل -: حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي، حدثنا الوليد، حدثنا ابن جابر.
وحدثنا عبدالرحمن بن إبراهيم الدمشقي، حدثنا الوليد وعمرو - يعنى ابن عبد الواحد - قالا: حدثنا ابن جابر، سمعت سليم بن عامر الخبائرى
يقول: أخبرني أبو أمامة الباهلى، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بينا أنا نائم إذ أتانى رجلان فأخذا بضبعى، فأتيا بى جبلا وعرا فقالا: اصعد، فقلت: لا أطيقه.
فقالا: إنا سنسهله لك.
قال: فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا أنا بأصوات شديدة، فقلت: ما هؤلاء الاصوات ؟ فقالا: عواء أهل النار.
ثم انطلقا بى فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دما، فقلت: ما هؤلاء ؟ فقالا: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم.
فقال: خابت اليهود والنصارى " قال سليم: سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم من رأيه ؟ " ثم انطلقا بى، فإذا قوم أشد شئ انتفاخا وأنتن شئ ريحا كأن ريحهم المراحيض، قلت: من هؤلاء ؟ قالا: هؤلاء قتلى الكفار.
ثم انطلقا بى فإذا بقوم أشد انتفاخا وأنتن
__________
(1) سقط هذا الفصل من ا.
(*)
شئ ريحا كأن ريحهم المراحيض، قلت: من هؤلاء ؟ قالا: هؤلاء الزانون.
والزوانى.
ثم انطلقا بى فإذا بنساء ينهش ثديهن الحيات، فقلت: ما بال هؤلاء ؟ قالا: هؤلاء اللاتى يمنعن أولادهن ألبانهن.
ثم انطلقا بى فإذا بغلمان يلعبون بين بحرين قلت: من هؤلاء ؟ قالا: هؤلاء ذرارى المؤمنين.
ثم أشرفا بى شرفا فإذا بنفر ثلاثة يشربون من خمر لهم فقلت: من هؤلاء ؟ قالا: هذا جعفر بن أبى طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة.
ثم أشرفا بى شرفا آخر فإذا أنا بنفر ثلاثة، فقلت: من هؤلاء ؟ قالا: هذا إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وهم ينتظرونك.
فصل فيما قيل من الاشعار في غزوة مؤتة قال ابن إسحاق: وكان مما بكى به أصحاب مؤتة قول حسان: تأوبنى ليل بيثرب أعسر * وهم إذا ما نوم الناس مسهر
لذكرى حبيب هيجت لى عبرة * سفوحا وأسباب البكاء التذكر بلى إن فقدان الحبيب بلية * وكم من كريم يبتلى ثم يصبر رأيت خيار المسلمين تواردوا * شعوبا وخلفا بعدهم يتأخر فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا (1) * بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر وزيد وعبد الله حين تتابعوا (1) * جميعا وأسباب المنية تخطر غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم * إلى الموت ميمون النقيبة أزهر أغر كضوء البدر من آل هاشم * أبى إذا سيم الظلامة مجسر فطاعن حتى مال غير مؤسد * بمعترك فيه القنا متكسر
__________
(1) الاصل: تبايعوا.
وما أثبته من ابن هشام.
(*)
فصار مع المستشهدين ثوابه * جنان وملتف الحدائق أخضر وكنا نرى في جعفر من محمد * وفاء وأمرا حازما حين يأمر وما زال في الاسلام من آل هاشم * دعائم عز لا يزلن ومفخر هم جبل الاسلام والناس حولهم * رضام (1) إلى طود يروق ويبهر (2) بهاليل منهم جعفر وابن أمه * على ومنهم أحمد المتخير وحمزة والعباس منهم ومنهم * عقيل وماء العود من حيث يعصر بهم تفرج اللاواء في كل مأزق * عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر (3) هم أولياء الله أنزل حكمه * عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهر وقال كعب بن مالك رضى الله عنه: نام العيون ودمع عينك يهمل * سحا كما وكف الطباب المخضل (4) في ليلة وردت على همومها * طورا أحن وتارة أتململ واعتادني حزن فبت كأننى * ببنات نعش والسماك (5) موكل
وكأنما بين الجوانح والحشا * مما تأوبنى شهاب مدخل وجدا على النفر الذين تتابعوا * يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا صلى الاله عليهم من فتية * وسقى عظامهم الغمام المسبل صبروا بمؤتة للاله نفوسهم * حذر الردى ومخافة أن ينكلوا فمضوا أمام المسلمين كأنهم * فنق عليهن الحديد المرفل (6) إذ يهتدون بجعفر ولوائه * قدام أولهم فنعم الاول
__________
(1) الرضام: صخور عظام يوضع بعضها فوق بعض.
(2) في ا: ويقهر.
(3) العماس: المظلم.
(4) الطباب: جمع طبابة وهى سير في أسفل القربة يين الخرزتين في المزادة.
وفى ا: الضباب.
وفى غيرها: الظباء.
وهو تحريف.
(5) ا: الشمال.
(6) الفنق: جمع فنيق، وهو الفحل المكرم الذى لا يركب.
والمرفل: السابغ.
(*)
حتى تفرجت الصفوف وجعفر * حيث التقى وعث الصفوف مجدل (1) فتغير القمر المنير لفقده * والشمس قد كسفت وكادت تأفل قرم علا بنيانه من هاشم * فرعا أشم وسؤددا ما ينقل قوم بهم عصم الاله عباده * وعليهم نزل الكتاب المنزل فضلوا المعاشر عزة وتكرما * وتغمدت أحلامهم من يجهل لا يطلقون إلى السفاه حباهم * ويرى خطيبهم بحق يفصل (2) بيض الوجوه ترى بطون أكفهم * تندى إذا اعتذر الزمان الممحل وبهديهم رضى الاله لخلقه * وبحدهم نصر النبي المرسل
__________
(1) الوعث: الاختلاط والالتحام.
(2) إطلاق الحباء: كناية عن النهضة للنجدة.
(*)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الآفاق وكتبه إليهم يدعوهم إلى الله عزوجل وإلى الدخول في دين الاسلام ذكر الواقدي أن ذلك كان في آخر سنة ست في ذى الحجة بعد عمرة الحديبية، وذكر البيهقى هذا الفصل في هذا الموضع بعد غزوة مؤتة.
والله أعلم.
ولا خلاف بينهم أن بدء ذلك كان قبل فتح مكة وبعد الحديبية، لقول أبى سفيان لهرقل حين سأله: هل يغدر ؟ فقال: لا، ونحن منه في مدة لا ندرى ما هو صانع فيها.
وفى لفظ البخاري: وذلك في المدة التى ماد فيها أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن إسحاق: كان ذلك ما بين الحديبية ووفاته عليه السلام.
ونحن نذكر ذلك هاهنا وإن كان قول الواقدي محتملا.
والله أعلم.
وقد روى مسلم عن يوسف بن حماد المعنى، عن عبدالاعلى، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب قبل مؤتة إلى كسرى وقيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله عزوجل، وليس بالنجاشى الذى صلى عليه.
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، حدثنى الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن عبدالله بن عباس، حدثنى أبو سفيان من فيه إلى في قال:
كنا قوما تجارا، وكانت الحرب قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا، فلما كانت الهدنة - هدنة الحديبية - بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لم (1) نأمن إن وجدنا أمنا، فخرجت تاجرا إلى الشام مع رهط من قريش، فوالله ما علمت بمكة امرأة ولا رجلا إلا وقد حملني بضاعة، وكان وجه متجرنا من الشام غزة من أرض فلسطين.
فخرجنا حتى قدمناها وذلك حين ظهر قيصر صاحب الروم على من كان في بلاده من الفرس فأخرجهم منها، ورد عليه صليبه الاعظم وقد كان استلبوه إياه، فلما أن بلغه ذلك وقد كان منزله بحمص من الشام فخرج منها يمشى متشكرا إلى بيت المقدس ليصلى فيه تبسط له البسط ويطرح عليها الرياحين، حتى انتهى إلى إيلياء فصلى بها.
فأصبح ذات غداة وهو مهموم يقلب طرفه إلى السماء، فقالت [ له ] (2) بطارقته: أيها الملك لقد أصبحت مهموما ؟ فقال: أجل.
فقالوا: وما ذاك ؟ فقال: أريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهر، فقالوا: والله ما نعلم أمة من الامم تختتن إلا اليهود وهم تحت يديك وفى سلطانك فإن كان قد وقع [ ذلك ] (3) في نفسك منهم فابعث في مملكتك كلها فلا يبقى يهودى إلا ضربت عنقه، فتستريح من هذا الهم.
فإنهم في ذلك من رأيهم يديرونه بينهم إذ أتاهم رسول صاحب بصرى برجل من العرب قد وقع إليهم، فقال: أيها الملك إن هذا الرجل من العرب من أهل الشاء والابل يحدثك عن حدث كان ببلاده فاسأله عنه.
فلما انتهى إليه قال لترجمانه: سله ما هذا الخبر الذى كان في بلاده ؟ فسأله فقال: هو رجل من العرب من قريش خرج يزعم أنه نبى وقد اتبعه أقوام وخالفه آخرون، وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن، فخرجت من بلادي وهم على ذلك.
__________
(1) غير ا: لا.
(2) ليست في ا.
(3) ا: هذا.
(*)
فلما أخبره الخبر قال: جردوه.
فإذا هو مختتن فقال: هذا والله الذى قد أريت لا ما تقولون، أعطه ثوبه، انطلق لشأنك.
ثم إنه دعا صاحب شرطته فقال له: قلب لى الشام ظهرا لبطن حتى تأتى برجل من قوم هذا أسأله (1) عن شأنه.
* * * قال أبو سفيان: فوالله إنى وأصحابي لبغزة إذ هجم علينا فسألنا: ممن أنتم ؟ فأخبرناه، فساقنا إليه جميعا.
فلما انتهينا إليه قال أبو سفيان: فوالله ما رأيت من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من ذلك الاغلف - يريد هرقل - قال: فلما انتهينا إليه قال: أيكم أمس به رحما ؟ فقلت: أنا.
قال: أدنوه منى.
قال: فأجلسني بين يديه ثم أمر أصحابي فأجلسهم خلفي وقال: إن كذب فردوا عليه، قال أبو سفيان: فلقد عرفت أنى لو كذبت ما ردوا على، ولكني كنت امرءا سيدا أتكرم وأستحي من الكذب، وعرفت أن أدنى ما يكون في ذلك أن يرووه عنى ثم يتحدثوا به عنى بمكة، فلم أكذبه.
فقال: أخبرني عن هذا الرجل الذى خرج فيكم.
فزهدت له شأنه وصغرت له أمره [ فوالله ما التفت إلى ذلك منى وقال لى: أخبرني عما أسألك عنه من أمره (2) ] فقلت: سلنى عما بدا لك.
فقال: كيف نسبه فيكم ؟ فقلت: محضا من أوسطنا نسبا.
قال: فأخبرني، هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به ؟ فقلت: لا.
__________
(1) ا: فأسأله.
(2) سقط من المطبوعة.
(*)
قال: فأخبرني هل له ملك فاستلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوه عليه ! فقلت: لا.
قال: فأخبرني عن أتباعه، من هم ؟ فقلت: الاحداث والضعفاء والمساكين، فأما أشرافهم وذوو الانساب [ منهم (1) ] فلا.
قال: فأخبرني عمن صحبه أيحبه ويكرمه أم يقليه
ويفارقه ؟ قلت: ما صحبه رجل ففارقه.
قال: فأخبرني عن الحرب بينكم وبينه ؟ فقلت: سجال يدال علينا وندال عليه.
قال: فأخبرني هل يغدر ؟ فلم أجد شيئا أغره به إلا هي، قلت: لا ونحن منه في مدة ولا نأمن غدره فيها.
فوالله ما التفت إليها منى.
قال: فأعاد على الحديث، قال: زعمت أنه من أمحضكم نسبا، وكذلك يأخذ الله النبي، لا يأخذه إلا من أوسط قومه.
وسألتك: هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به ؟ فقلت: لا.
وسألتك: هل كان له من ملك فاستلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه ؟ فقلت: لا.
وسألتك عن أتباعه، فزعمت أنهم الاحداث والضعفاء والمساكين.
وكذلك أتباع الانبياء في كل زمان.
وسألتك عمن يتبعه أيحبه ويكرمه أم يقليه ويفارقه ؟ فزعمت أنه قل من يصحبه فيفارقه.
وكذلك حلاوة الايمان لا تدخل قلبا فتخرج منه.
وسألتك كيف الحرب بينكم وبينه ؟ فزعمت أنها سجال يدال عليكم وتدالون عليه، وكذلك يكون حرب الانبياء ولهم تكون العاقبة.
سألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر.
__________
(1) ليست في ا.
(*)
فلئن كنت صدقتني ليغلبن على ما تحت قدمى هاتين، ولوددت أنى عنده فأغسل عن قدميه ! ثم قال: الحق بشأنك.
قال: فقمت وأنا أضرب إحدى يدى على الاخرى وأقول: يا عباد الله لقد أمر أمر ابن أبى كبشة، وأصبح ملوك بنى الاصفر يخافونه في سلطانهم.
قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري قال: حدثنى أسقف من النصارى قد أدرك ذلك
الزمان قال: قدم دحية بن خليفة على هرقل بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى أما بعد فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن أبيت فإن إثم الاكارين (1) عليك.
قال: فلما انتهى إليه كتابه وقرأه أخذه فجعله بين فخذه وخاصرته، ثم كتب إلى رجل من أهل رومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرأ يخبره عما جاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه، إنه النبي الذى ينتظر لا شك فيه فاتبعه.
فأمر بعظماء الروم فجمعوا له في دسكرة ملكه ثم أمر بها فأشرجت (2) عليهم، واطلع عليهم من علية له وهو منهم خائف، فقال: يا معشر الروم إنه قد جاءني كتاب أحمد، وإنه والله النبي الذى كنا ننتظر (3) ومجمل ذكره في كتابنا، نعرفه بعلاماته وزمانه (4)، فأسلموا واتبعوه تسلم لكم دنياكم وآخرتكم.
فنخروا نخرة رجل واحد، وابتدروا أبواب الدسكرة فوجدوها مغلقة دونهم.
فخافهم وقال: ردوهم على.
فردوهم عليه فقال لهم: يا معشر الروم، إنى إنما قلت لكم هذه المقالة أختبركم بها لانظر كيف صلابتكم في دينكم ؟ فلقد رأيت منكم ما سرنى.
فوقعوا له سجدا، ثم فتحت لهم أبواب الدسكرة فخرجوا.
__________
(1) الاكار: الحراث.
(2) أشرجت: أغلقت.
(3) ا: الذى ينتظر.
(4) ا: بعلامات زمانة.
(*)
وقد روى البخاري قصة أبى سفيان مع هرقل بزيادات أخر، أحببنا أن نوردها بسندها وحروفها من الصحيح ليعلم ما بين السياقين من التباين وما فيهما من الفوائد.
قال البخاري قبل الايمان من صحيحه: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أنبأنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، أن عبدالله بن
عباس أخبره أن أبا سفيان أخبره، أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام، في المدة التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بالترجمان فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذى يزعم أنه نبى ؟ قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبا.
قال: أدنوه منى وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره.
ثم قال لترجمانه: قل لهم: إنى سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه.
[ قال (2) ] فوالله لولا [ الحياء من ] (2) أن يأثروا عنى كذبا لكذبت عنه.
ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم ؟ قلت (1): هو فينا ذو نسب.
قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله ؟ قلت: لا.
قال: فهل كان من آبائه من ملك ؟ قلت: لا.
قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ قلت: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت: بل يزيدون.
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت: لا.
قال: فهل يغدر ؟ قلت: لا ونحن منه في مدة لا ندرى ما هو فاعل فيها.
قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة.
قال: فهل قاتلتموه ؟ قلت: نعم.
قال: فكيف (3) كان قتالكم إياه ؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه.
قال: ماذا يأمركم ؟
__________
(1) ا: فقلت.
(2) من صحيح البخاري 1 / 4 (3) ا: كيف.
(*)
قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم.
ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فزعمت أنه فيكم (1) ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله ؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله.
وسألتك: هل كان من آبائه من ملك ؟ فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله ! وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاءهم ؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل.
وسألتك: أيزيدون أم ينقصون ؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الايمان حتى يتم.
وسألتك: أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فذكرت أن لا.
وكذلك الايمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك: هل يغدر ؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك: بم يأمركم ؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الاوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف.
فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمى هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج،
__________
(1) ا: منكم.
(*)
لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أنى أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى بعث به مع دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فإذا فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد عبدالله ورسوله
إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإنى أدعوك بدعاية الاسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الاريسيين و " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ".
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الاصوات وأخرجنا، فقلت لاصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر ابن أبى كبشة إنه يخافه ملك بنى الاصفر ! فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله على الاسلام.
* * * قال: وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل أسقف على نصارى الشام يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك.
قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إنى رأيت حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الامة (1) ؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود ولا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود.
__________
(1) غير ا: الامم.
(*)
فبينما هم على أمرهم أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان فخبرهم عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا ؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون.
فقال هرقل: هذا ملك هذه الامة قد ظهر.
ثم كتب إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم.
وسار هرقل إلى حمص فلم يرم (1) حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأى هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبى، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة (2) له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت.
ثم اطلع فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح (3) والرشد وأن يثبت لكم ملككم ؟ فتبايعوا لهذا (4) النبي.
فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الابواب فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الايمان قال: ردوهم على.
وقال: إنى إنما قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت.
فسجدوا له ورضوا عنه.
فكان ذلك آخر شأن هرقل.
قال البخاري: ورواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهري.
وقد رواه البخاري في مواضع كثيرة في صحيحه بألفاظ يطول استقصاؤها.
وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن الزهري.
وقد تكلمنا على هذا الحديث مطولا في أول شرحنا لصحيح البخاري بما فيه كفاية، وذكرنا ما فيه من الفوائد والنكت المعنوية واللفظية ولله تعالى الحمد والمنة.
* * * وقال ابن لهيعة عن الاسود، عن عروة قال: خرج أبو سفيان بن حرب إلى الشام
__________
(1) لم يرم: لم يبرح.
وفى الاصل بحمص.
وما أثبته عن البخاري.
(2) الدسكرة: بناء كالقصر حوله بيوت.
(3) ا: الصلاح.
(4) الاصل: فتتابعوا.
وما أثبته عن صحيح البخاري 1 / 5 (*)
تاجرا في نفر من قريش، وبلغ هرقل شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يعلم ما يعلم من شأن (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى صاحب العرب الذى بالشام في ملكه يأمره (2) أن يبعث إليه برجال من العرب يسألهم عنه، فأرسل إليه
ثلاثين رجلا منهم أبو سفيان بن حرب، فدخلوا عليه في كنيسة إيلياء التى في جوفها، فقال هرقل: أرسلت إليكم لتخبروني عن هذا الذى بمكة ما أمره ؟ قالوا: ساحر كذاب وليس بنبى.
قال: فأخبروني من أعلمكم به وأقربكم منه رحما ؟ قالوا: هذا أبو سفيان ابن عمه وقد قاتله.
فلما أخبروه ذلك أمر بهم فأخرجوا عنه، ثم أجلس أبا سفيان فاستخبره، قال: أخبرني يا أبا سفيان ؟ فقال: هو ساحر كذاب.
فقال هرقل: إنى لا أريد شتمه ولكن كيف نسبه فيكم ؟ قال: هو والله من بيت قريش.
قال: كيف عقله ورأيه ؟ قال: لم نعب له رأيا (3) قط.
قال هرقل: هل كان حلافا كذابا مخادعا في أمره ؟ قال: لا والله ما كان كذلك.
قال: لعله يطلب ملكا أو شرفا كان لاحد من أهل بيته قبله ؟ قال أبو سفيان: لا.
ثم قال: من يتبعه منكم.
هل يرجع إليكم منهم أحد ؟ قال: لا.
قال هرقل: هل يغدر إذا عاهد ؟ قال: لا إلا أن يغدر مدته هذه.
فقال هرقل: وما تخاف من مدته هذه ؟ قال: إن قومي أمدوا حلفاءهم على حلفائه وهو بالمدينة.
قال هرقل: إن كنتم أنتم بدأتم فأنتم أغدر.
__________
(1) ا: أمر.
(2) ا: فأمره (3) غير ا: لم يغب له رأى.
(*)
فغضب أبو سفيان وقال: لم يغلبنا إلا مرة واحدة وأنا يومئذ غائب، وهو يوم بدر، ثم غزوته مرتين في بيوتهم نبقر البطون ونجدع الآذان والفروج.
فقال هرقل: كاذبا تراه أم صادقا ؟ فقال: بل هو كاذب.
فقال: إن كان فيكم نبى فلا تقتلوه.
فإن أفعل الناس لذلك اليهود.
ثم رجع أبو سفيان.
ففى هذا السياق غرابة، وفيه فوائد ليست عند ابن إسحاق ولا البخاري.
وقد أورد موسى بن عقبة في مغازيه قريبا مما ذكره عروة بن الزبير.
والله أعلم.
* * * وقال ابن جرير في تاريخه: حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، حدثنا محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم قال: إن هرقل قال لدحية بن خليفة الكلبى حين قدم عليه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إنى لاعلم أن صاحبك نبى مرسل، وأنه الذى كنا ننتظر ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته، فاذهب إلى صغاطر الاسقف فاذكر له أمر صاحبكم، فهو والله في الروم أعظم منى وأجوز قولا عندهم منى، فانظر ماذا يقول لك ؟ قال: فجاء دحية فأخبره بما جاء به من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وبما يدعو إليه، فقال صغاطر: صاحبك والله نبى مرسل نعرفه بصفته ونجده في كتابنا باسمه.
ثم دخل وألقى ثيابا كانت عليه سودا وليس بياضا ثم أخذ عصاه، فخرج على الروم في الكنيسة فقال: يا معشر الروم إنه قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا فيه إلى الله وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله.
قال: فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فضربوه حتى قتلوه.
قال: فلما رجع دحية إلى هرقل فأخبره الخبر قال: قد قلت لك، إنا نخافهم على أنفسنا، فصغاطر والله كان أعظم عندهم وأجوز قولا منى.
[ وقد روى الطبراني من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه عن عبدالله بن شداد عن دحية الكلبى قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر صاحب الروم
بكتاب فقلت: استأذنوا لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأتى قيصر فقيل له: إن على الباب رجلا يزعم أنه رسول رسول الله: ففزع لذلك وقال: أدخله، فأدخله عليه وعنده بطارقته فأعطيته الكتاب فإذا فيه، بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم.
فنخر ابن أخ له أحمر أزرق سبط (1) فقال: لا تقرأ الكتاب اليوم فإنه بدأ بنفسه وكتب: صاحب الروم ولم يكتب ملك الروم.
قال: فقرئ الكتاب حتى فرغ منه، ثم أمرهم فخرجوا من عنده ثم بعث إلى فدخلت عليه، فسألني فأخبرته، فبعث إلى الاسقف فدخل عليه - وكان صاحب أمرهم يصدرون عن رأيه وعن قوله - فلما قرأ الكتاب قال الاسقف: هو والله الذى بشرنا به موسى وعيسى الذى كنا ننتظر.
قال قيصر: فما تأمرني ؟ قال الاسقف: أما أنا فإنى مصدقه ومتبعه، فقال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكن لا أستطيع أن أفعل، أن فعلت ذهب ملكى وقتلني الروم (2) ].
* * * وبه قال محمد بن إسحاق، عن خالد بن يسار، عن رجل من قدماء أهل الشام قال: لما أراد هرقل الخروج من أرض الشام إلى القسطنطينية لما بلغه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم جمع الروم فقال: يا معشر الروم إنى عارض عليكم أمورا فانظروا فيما أردت بها.
قالوا: ما هي ؟ قال: تعلمون والله أن هذا الرجل لنبى مرسل، نجده نعرفه بصفته التى وصف (3) لنا، فهلم فلنتبعه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا (4).
__________
(1) السبط: الطويل.
(2) سقط من ا.
(3) ا: وصفت.
(4) ا: وأخرانا.
(*)
فقالوا: نحن نكون تحت أيدى العرب ونحن أعظم الناس ملكا، وأكثره
رجالا وأقصاه بلدا ! قال: فهلم أعطيه الجزية كل سنة، أكسر عنى شوكته وأستريح من حربه بما أعطيه إياه.
قالوا: نحن نعطى العرب الذل والصغار بخرج يأخذونه منا، ونحن أكثر الناس عددا، وأعظمه ملكا، وأمنعه بلدا ! لا والله لا نفعل هذا أبدا.
قال: فهلم فلاصالحه على أن أعطيه أرض سورية ويدعنى وأرض الشام.
قال: وكانت أرض سورية فلسطين والاردن ودمشق وحمص، وما دون الدرب [ من أرض (1) ] سورية، وما كان وراء الدرب عندهم فهو الشام.
فقالوا: نحن نعطيه أرض سورية، وقد عرفت أنها سرة (2) الشام، لا نفعل هذا أبدا.
فلما أبوا عليه قال: أما والله لترون (3) أنكم قد ظفرتم إذا امتنعتم منه في مدينتكم.
قال: ثم جلس على بغل له فانطلق، حتى إذا أشرف على الدرب استقبل أرض الشام ثم قال: السلام عليك يا أرض سورية تسليم الوداع.
ثم ركض حتى دخل إلى القسطنطينية والله أعلم.
ذكر إرساله عليه السلام إلى ملك العرب من النصارى الذين بالشام قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب أخا بنى أسد بن خزيمة إلى المنذر بن الحارث بن أبى شمر الغساني صاحب دمشق (4).
قال الواقدي: وكتب معه: " سلام على من اتبع الهدى وآمن به، وأدعوك (5) إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك ".
__________
(1) سقطت من المطبوعة.
(2) الاصل: أنها أرض سورية الشام.
وما أثبته عن الطبري 3 / 651.
(3) الاصل: لتودن.
والتصويب من الطبري.
(4) ابن هشام: بعث شجاع بن وهب الاسدي إلى الحارث بن أبى شمر الغساني ملك تخوم الشام.
(5) ا: إنى أدعوك.
(*)
فقدم شجاع بن وهب فقرأه عليه فقال: ومن ينزع ملكى ! إنى سأسير إليه.
ذكر بعثه إلى كسرى ملك الفرس روى البخاري من حديث الليث، عن يونس، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه (1) مع رجل إلى كسرى وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه.
قال: فحسبت أن ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق.
وقال عبدالله بن وهب: عن يونس عن الزهري، حدثنى عبدالرحمن بن القارى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ذات يوم على المنبر خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وتشهد ثم قال: " أما بعد فإنى أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الاعاجم، فلا تختلفوا على كما اختلفت بنو إسرائيل على عيسى بن مريم ".
فقال المهاجرون: يا رسول الله إنا لا نختلف عليك في شئ أبدا فمرنا وابعثنا.
فبعث شجاع بن وهب إلى كسرى، فأمر كسرى بإيوانه أن يزين ثم أذن لعظماء فارس، ثم أذن لشجاع بن وهب، فلما أن دخل عليه أمر كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبض منه، فقال شجاع بن وهب: لا حتى أدفعه أنا إليك كما أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال كسرى: ادنه.
فدنا فناوله الكتاب.
ثم دعا كاتبا له من أهل الحيرة فقرأه فإذا فيه: " من محمد عبدالله ورسوله إلى كسرى عظيم فارس " قال: فأغضبه حين بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وصاح وغضب ومزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، وأمر بشجاع بن وهب فأخرج،
__________
(1) ا: كتابه.
(*)
فلما رأى ذلك قعد على راحلته ثم سار، ثم قال: والله ما أبالى على أي الطريقين أكون إذا أديت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ! قال: ولما ذهب عن كسرى سورة (1) غضبه بعث إلى شجاع ليدخل عليه، فالتمس فلم يوجد، فطلب إلى الحيرة فسبق.
فلما قدم شجاع على النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بما كان من أمر كسرى وتمزيقه لكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مزق كسرى ملكه ".
وروى محمد بن إسحاق، عن عبدالله بن أبى بكر، عن أبى سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبدالله بن حذافة [ بكتابه (2) ] إلى كسرى.
فلما قرأه مزقه، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مزق ملكه ".
* * * وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد (3)، حدثنا سلمة، حدثنا ابن إسحاق، عن يزيد بن أبى حبيب قال: وبعث عبدالله بن حذافة بن قيس بن عدى بن سعيد بن سهم إلى كسرى بن هرمز ملك فارس وكتب معه: " بسم الله الرحمن الرحيم.
من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله، وأدعوك بدعاء الله، فإنى أنا رسول الله إلى الناس كافة لانذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين.
فإن تسلم تسلم وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك ".
قال: فلما قرأه شقه (4) وقال: يكتب إلى بهذا وهو عبدى ؟ !
__________
(1) ا: ثورة.
(2) ليست في ا.
(3) غير ا: حدثنا أحمد ابن حميد.
(4) الطبري: مزقه.
(*)
قال: ثم كتب كسرى إلى باذام وهو نائبه على اليمن: أن ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به.
فبعث باذام (1) قهرمانه - وكان كاتبا حاسبا بكتاب فارس - وبعث معه رجلا من الفرس يقال له خرخرة (2)، وكتب معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى وقال: لاباذويه (3): إيت بلاد هذا الرجل وكلمه وائتنى بخبره.
فخرجا حتى قدما الطائف، فوجدا رجلا من قريش في أرض الطائف فسألوه عنه، فقال: هو بالمدينة.
واستبشر أهل الطائف - يعنى وقريش - بهما وفرحوا.
وقال بعضهم لبعض: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك، كفيتم الرجل ! فخرجا حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أبا ذويه فقال: شاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك باذام يأمره أن يبعث إليه من يأتيه بك، وقد بعثنى إليك لتنطلق معى، فإن فعلت كتب لك إلى ملك الملوك ينفعك ويكفه عنك، وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.
ودخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما وقال: " ويلكما من أمركما بهذا ؟ ! " قالا: أمرنا ربنا - يعنيان كسرى - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولكن ربى أمرنى بإعفاء لحيتى وقص شاربى " ثم قال: " ارجعا حتى تأتياني غدا ".
قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله.
__________
(1) ا: باذانه.
وفى الطبري 2 / 655: باذان (2) في الطبري: خرخسرة.
(3) الطبري: بابويه.
(*)
[ في شهر كذا وكذا في ليلة كذا وكذا من الليل سلط عليه ابنه شيرويه فقتله (1) ] قال: فدعاهما فأخبرهما فقالا: هل تدرى ما تقول ؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، فنكتب عنك بهذا ونخبر الملك باذام ؟ قال: " نعم أخبراه ذاك عنى، وقولا له: إن دينى وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى وينتهى إلى الخف والحافر، وقولا له: إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك من الابناء ".
ثم أعطى خرخرة منطقة فيها ذهب وفضة كان أهداها إليه بعض الملوك.
فخرجا من عنده حتى قدما على باذام فأخبراه الخبر فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإنى لارى الرجل نبيا كما يقول، وليكونن ما قد قال، فلئن كان هذا حقا فهو نبى مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا.
فلم ينشب باذام أن قدم عليه كتاب شيرويه: أما بعد، فإنى قد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضبا لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم ونحرهم (2) في ثغورهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لى الطاعة ممن قبلك، وانطلق إلى الرجل الذى كان كسرى قد كتب فيه فلا تهجه حتى يأتيك أمرى فيه.
فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذام قال: إن هذا الرجل لرسول.
فأسلم وأسلمت الابناء من فارس من كان منهم باليمن.
قال: وقد قال باذويه لباذام: ما كلمت أحدا أهيب عندي منه.
فقال له باذام: هل معه شرط ؟ قال: لا.
* * * قال الواقدي رحمه الله: وكان قتل كسرى على يدى ابنه شيرويه ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الآخرة، من سنة سبع من الهجرة لست ساعات مضت منها.
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: وغيرهم.
وفى الطبري 2 / 656 وتجميرهم.
أي حبسهم.
(*)
قلت: وفى شعر بعضهم ما يرشد أن قتله كان في شهر حرام وهو قول بعض الشعراء: قتلوا كسرى بليل محرما * فتولى لم يمتع بكفن وقال بعض شعراء العرب (1): وكسرى إذا تقاسمه بنوه * بأسياف كما اقتسم اللحام تمخضت المنون له بيوم * أتى (2) ولكل حاملة تمام وروى الحافظ البيهقى من حديث حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن أبى بكرة، أن رجلا من أهل فارس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن ربى قد قتل الليلة ربك ".
قال: وقيل له: - يعنى النبي صلى الله عليه وسلم -: إنه قد استخلف ابنته.
فقال: " لا يفلح قوم تملكهم امرأة ".
قال البيهقى: وروى في حديث دحية بن خليفة أنه لما رجع من عند قيصر وجد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رسل كسرى، وذلك أن كسرى بعث يتوعد صاحب صنعاء ويقول له: ألا تكفيني أمر رجل قد ظهر بأرضك يدعوني إلى دينه ؟ ! لتكفينه أو لافعلن بك.
فبعث إليه، فقال لرسله: " أخبروه أن ربى قد قتل ربه الليلة " فوجدوه كما قال.
قال: وروى داود بن أبى هند، عن عامر الشعبى نحو هذا.
ثم روى البيهقى من طريق أبى بكر بن عياش، عن داود بن أبى هند، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: أقبل سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن في وجه
__________
(1) ورد هذان البيتان في الجزء الاول من هذا الكتاب ص 49 منسوبين إلى خالد بن حق الشيباني.
(2) سبقت الرواية: ألا.
انظر الجزء الاول ص 49.
(*)
سعد خبرا " فقال: " يا رسول الله هلك كسرى " فقال: " لعن الله كسرى، أول الناس هلاكا فارس ثم العرب ".
قلت: الظاهر أنه لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهلاك كسرى لذينك الرجلين، يعنى الاميرين اللذين قدما من نائب اليمن باذام، فلما جاء الخبر بوفق ما أخبر به عليه السلام وشاع في البلاد وكان سعد بن أبى وقاص أول من سمع، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بوفق إخباره عليه السلام.
وهكذا بنحو هذا التقرير ذكره البيهقى رحمه الله.
* * * ثم روى البيهقى من غير وجه عن الزهري، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أنه بلغه أن كسرى بينما هو في دسكرة ملكه بعث له - أو قيض له - عارض يعرض عليه الحق فلم يفجأ كسرى إلا برجل (1) يمشى وفى يده عصا فقال: يا كسرى هل لك في الاسلام قبل أن أكسر هذه العصا ؟ فقال كسرى: نعم لا تكسرها.
فولى الرجل.
فلما ذهب أرسل كسرى إلى حجابه فقال: من أذن لهذا الرجل على ؟ فقالوا: ما دخل عليك أحد.
فقال: كذبتم، قال: فغضب عليهم وتهددهم ثم تركهم.
قال: فلما كان رأس الحول أتى ذلك الرجل ومعه العصا، فقال: يا كسرى هل لك في الاسلام قبل أن أكسر هذه العصا ؟ قال: نعم لا تكسرها.
فلما انصرف عنه دعا حجابه فقال لهم كالمرة الاولى.
فلما كان العام المستقبل أتاه ذلك الرجل معه العصا فقال له: هل لك يا كسرى في الاسلام قبل أن أكسر العصا ؟ فقال: لا تكسرها لا تكسرها.
فكسرها (2).
__________
(1) أ: بالرجل.
(2) أ: لا تكسرها.
فكسرها (*)
فأهلك الله كسرى عند ذلك.
* * * وقال الامام الشافعي: أنبأنا ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذى (1) نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله ".
أخرجه مسلم من حديث ابن عيينة وأخرجاه من حديث الزهري به.
قال الشافعي: ولما أتى كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مزقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يمزق ملكه " وحفظنا أن قيصر أكرم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه في مسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثبت ملكه ".
قال الشافعي وغيره من العلماء: ولما كانت العرب تأتى الشام والعراق للتجارة فأسلم من أسلم منهم، شكوا خوفهم من ملكى العراق والشام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ".
قال: فباد ملك الاكاسرة بالكلية، وزال ملك قيصر عن الشام بالكلية، وإن ثبت لهم ملك في الجملة، ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم حين عظموا كتابه.
والله أعلم.
قلت: وفى هذا بشارة عظيمة بأن ملك الروم لا يعود أبدا إلى أرض الشام.
وكانت العرب تسمى قيصر لمن ملك الشام مع الجزيرة من الروم، وكسرى لمن ملك الفرس، والنجاشى لمن ملك الحبشة، والمقوقس لمن ملك الاسكندرية، وفرعون
__________
(1) غير أ: فوالذي.
(33 - السيرة 3) (*)
لمن ملك مصر كافرا، وبطليموس لمن ملك الهند.
ولهم أعلام أجناس غير ذلك، وقد
ذكرناها في غير هذا الموضع (1) والله أعلم.
وروى مسلم عن قتيبة وغيره عن أبى عوانة، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لتفتحن عصابة من المسلمين كنوز كسرى في القصر الابيض ".
وروى أسباط، عن سماك، عن جابر بن سمرة مثل ذلك وزاد: وكنت أنا وأبى فيهم فأصبنا من ذلك ألف درهم.
بعثه عليه السلام إلى المقوقس صاحب مدينة الاسكندرية، واسمه جريج بن مينا القبطى قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثنى الزهري، عن عبدالرحمن بن عبد القارى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حاطب بن أبى بلتعة إلى المقوقس صاحب الاسنكدرية، فمضى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فقبل الكتاب وأكرم حاطبا وأحسن نزله وسرحه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأهدى له مع حاطب كسوة وبغلة بسرجها وجاريتين إحداهما أم إبراهيم، وأما الاخرى فوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحمد بن قيس العبدى.
رواه البيهقى.
ثم روى من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه حدثنا يحيى بن عبدالرحمن ابن حاطب، عن أبيه، عن جده حاطب بن أبى بلتعة قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك الاسكندرية، قال: فجئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلني في منزله وأقمت عنده، ثم بعث إلى وقد جمع بطارقته وقال: إنى سائلك عن كلام فأحب أن تفهم عنى.
قال: قلت: هلم قال أخبرني عن صاحبك أليس هو نبى ؟ قلت: بلى
__________
(1) تقدم ذلك في الجزء الثاني 29.
(*)
هو رسول الله.
قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها ؟ قال: فقلت: عيسى بن مريم أليس تشهد أنه رسول الله ؟ قال: بلى.
قلت: فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه، ألا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حيث رفعه الله إلى السماء الدنيا ؟ فقال لى: أنت حكيم قد جاء من عند حكيم، هذه هدايا أبعث بها معك إلى محمد، وأرسل معك ببذرقة (1) يبذرقونك إلى مأمنك.
قال: فأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث جوار منهن أم ابراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواحدة وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان ابن ثابت الانصاري، وأرسل إليه بطرف من طرفهم.
وذكر ابن إسحاق أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع جوار إحداهن مارية أم إبراهيم، والاخرى سيرين التى وهبها لحسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن بن حسان قلت: وكان في جملة الهدية غلام أسود خصى اسمه مأبور، وخفان ساذجان أسودان وبغلة بيضاء اسمها الدلدل.
وكان مابور هذا خصيا ولم يعلموا بأمره (2) بادئ الامر، فصار يدخل على مارية، كما كان من عاداتهم ببلاد مصر، فجعل بعض الناس يتكلم فيهما بسبب ذلك ولا يعلمون بحقيقة الحال وأنه خصى، حتى قال بعضهم: إنه الذى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب بقتله فوجده خصيا فتركه.
والحديث في صحيح مسلم من طريق [ حماد بن سلمة ] قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سليط بن عمرو بن عبد ود أخا بنى عامر بن لؤى إلى هوذة بن على صاحب اليمامة.
وبعث العلاء بن الحضرمي إلى جيفر ابن الجلندى وعمار بن الجلندى الازديين صاحبي عمان (3).
__________
(1) البذرقة: الخفارة.
(2) انظر الاصابة 6 / 13.
(3) ابن هشام: بعث العلاء بن الحضرى إلى المنذر بن ساوى العبدى ملك البحرين.
وبعث عمرو بن العاص السهمى إلى جيفر وعبد ابني الجلندى.
وبعث سليط بن عمرو..إلى ثمامة بن أثال وهوذة بن على.
(*)
غزوة ذات السلاسل ذكرها الحافظ البيهقى هاهنا قبل غزوة الفتح، فساق من طريق موسى بن عقبة وعروة بن الزبير قالا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل من مشارف الشام في بلى و عبدالله ومن يليهم من قضاعة.
قال عروة بن الزبير: وبنو بلى أخوال العاص بن وائل، فلما صار إلى هناك خاف من كثرة عدوه، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين الاولين فانتدب أبو بكر وعمر في جماعة من سراة المهاجرين رضى الله عنهم أجمعين، وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة ابن الجراح.
قال موسى بن عقبة: فلما قدموا على عمرو قال: أنا أميركم وأنا أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستمده بكم.
فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك وأبو عبيدة أمير المهاجرين.
فقال عمرو: إنما أنتم مدد أمددته.
فلما رأى ذلك أبو عبيدة - وكان رجلا حسن الخلق لين الشيمة - قال: تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: " إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا " وإنك إن عصيتني لاطيعنك.
فسلم أبو عبيدة الامارة لعمرو ابن العاص.
وقال محمد بن إسحاق: حدثنى محمد بن عبدالرحمن بن عبدالله بن الحصين التميمي، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص يستنفر العرب إلى الاسلام (1)
__________
(1) ابن هشام: إلى الشام.
ولعله تحريف.
(*)
وذلك أن أم العاص بن وائل كانت من بنى بلى، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم
إليهم يتألفهم بذلك، حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له السلاسل - وبه سميت تلك الغزوة ذات السلاسل - قال: فلما كان عليه وخاف بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الاولين، فيهم أبو بكر وعمر، وقال لابي عبيدة حين وجهه " لا تختلفا ".
فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه قال له عمرو: إنما جئت مددا لى، فقال له أبو عبيدة: لا ولكني على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه.
وكان أبو عبيدة رجلا لينا سهلا، هينا عليه أمر الدنيا.
فقال له عمرو: [ بل ] (1) أنت مددى.
فقال له أبو عبيدة: يا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لى: " لا تختلفا " وإنك إن عصيتني أطعتك فقال له عمرو: فإنى أمير عليك وإنما أنت مدد لى.
قال: فدونك.
فصلى عمرو بن العاص بالناس.
* * * وقال الواقدي: حدثنى ربيعة بن عثمان، عن يزيد بن رومان، أن أبا عبيدة لما آب إلى عمرو بن العاص فصاروا خمسمائة فساروا الليل والنهار حتى وطئ بلاد بلى ودوخها، وكلما انتهى إلى موضع بلغه أنه قد كان بهذا الموضع جمع فلما سمعوا بك (2) تفرقوا، حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلى وعذرة وبلقين، ولقى في آخر ذلك جمعا ليس بالكثير فاقتتلوا ساعة، وتراموا بالنبل ساعة، ورمى يومئذ عامر بن ربيعة وأصيبت ذراعه، وحمل المسلمون عليهم فهزموا وأعجزوا هربا في البلاد وتفرقوا، ودوخ عمرو ما هناك وأقام أياما لا يسمع لهم بجمع ولا مكان صاروا فيه، وكان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء والنعم، فكانوا ينحرون ويذبحون ولم يكن في ذلك أكثر من ذلك، ولم تكن غنائم تقسم.
__________
(1) من ابن هشام.
(2) ا: " بذلك ".
(*)
وقال أبو داود، حدثنا ابن المثنى، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبى، سمعت يحيى ابن أيوب يحدث عن يزيد بن أبى حبيب، عن عمران بن أبى أنس، عن عبدالرحمن ابن جبير، عن عمرو بن العاص، قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، قال: فتيممت ثم صليت بأصحابى الصبح، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ " قال: فأخبرته بالذى منعنى من الاغتسال وقلت: إنى سمعت الله يقول: " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما " فضحك نبى الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا.
حدثنا محمد بن سلمة [ أخبرنا ابن وهب ] (1) حدثنا ابن لهيعة (2) وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن عمران بن أنس، عن عبدالرحمن بن جبير (3)، عن أبى قيس مولى عمرو بن العاص - وكان على سرية (4) فذكر الحديث بنحوه - قال: فغسل مغابنه وتوضأ (5) وضوءه للصلاة ثم صلى بهم.
فذكر نحوه ولم يذكر التيمم.
قال أبو داود: وروى هذه القصة عن الاوزاعي، عن حسان بن عطية، وقال فيه: فتيمم.
وقال الواقدي: حدثنى أفلح بن سعيد، عن أبى عبدالرحمن بن رقيش، عن أبى بكر بن حزم قال: كان عمرو بن العاص حين قفلوا احتلم في ليلة باردة كأشد ما يكون من البرد، فقال لاصحابه: ما ترون والله، احتلمت فإن اغتسلت مت.
فدعا بماء فتوضأ وغسل فرجه وتيمم، ثم قام فصلى بهم، فكان أول من بعث عوف بن مالك بريدا.
__________
(1) من سنن أبى داود 1 / 56.
(2) سنن أبى داود: عن ابن لهيعة.
(3) قال أبو داود: عبدالرحمن بن جبير مصرى مولى خارجة بن حذافة، وليس هو ابن جبير بن نفير.
(4) أبو داود: أن عمرو بن العاص كان على سرية.
(5) المغابن: بواطن الافخاذ.
(*)
قال عوف: فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السحر وهو يصلى في بيته، فسلمت عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عوف بن مالك ؟ " فقلت: عوف بن مالك يا رسول الله.
قال: " صاحب الجزور ؟ " قلت: نعم.
ولم يزد على هذا بعد ذلك شيئا.
ثم قال: " أخبرني " فأخبرته بما كان من مسيرنا وما كان بين أبى عبيدة وعمرو ومطاوعة أبى عبيدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله أبا عبيدة بن الجراح ".
قال: ثم أخبرته أن عمرا صلى بالناس وهو جنب ومعه ماء، لم يزد على أن غسل فرجه وتوضأ.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما قدم عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن صلاته فأخبره فقال: والذى بعثك بالحق إنى لو اغتسلت لمت، لم أجد بردا قط مثله، وقد قال تعالى: " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ".
قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغنا أنه قال شيئا.
* * * وقال ابن إسحاق: حدثنى يزيد بن أبى حبيب، عن عوف بن مالك الاشجعى، قال: كنت في الغزوة التى بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص، وهى غزوة ذات السلاسل، فصحبت أبا بكر وعمر، فمررت بقوم وهم على جزور قد نحروها وهم لا يقدرون على أن يبعضوها، وكنت امرءا جازرا، فقلت لهم: تعطوني منها عشرا (1) على أن أقسمها بينكم ؟ قالوا: نعم.
فأخذت الشفرة فجزأتها مكاني، وأخذت منها جزءا فحمتله إلى أصحابي فاطبخناه وأكلناه، فقال أبو بكر وعمر: أنى لك
__________
(1) العشر: النصيب من لحم الجزور.
وفى ا: عشيرا.
(*)
هذا اللحم يا عوف ؟ فأخبرتهما فقالا: لا والله ما أحسنت حين أطعمتنا هذا.
ثم قاما يتقيآن ما في بطونهما منه.
فلما أن قفل الناس من ذلك السفر كنت أول قادم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئته وهو يصلى في بيته، فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
فقال: " أعوف بن مالك ؟ " فقلت: نعم بأبى أنت وأمى.
فقال: " صاحب الجزور ؟ " ولم يزد على ذلك شيئا.
هكذا رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبى حبيب، عن عوف بن مالك، وهو منقطع بل معضل.
قال الحافظ البيهقى: وقد رواه ابن لهيعة وسعيد بن أبى أيوب، عن يزيد بن أبى حبيب، عن ربيعة بن لقيط، عن مالك بن زهدم، أظنه عن عوف بن مالك فذكر نحوه إلا أنه قال: فعرضته على عمر فسألني عنه فأخبرته فقال: قد تعجلت أجرك ولم يأكله.
ثم حكى عن أبى عبيدة مثله، ولم يذكر فيه أبا بكر، وتمامه كنحو ما تقدم.
* * * وقال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبى عمرو قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الاصم، حدثنا يحيى بن أبى طالب، حدثنا على بن عاصم، حدثنا خالد الحذاء، عن أبى عثمان النهدي، سمعت عمرو بن العاص يقول: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل، وفى القوم أبو بكر وعمر، فحدثت نفسي أنه لم يبعثنى على أبى بكر وعمر إلا لمنزلة لى عنده، قال: فأتيته حتى قعدت بين يديه فقلت: يا رسول الله من أحب الناس إليك ؟ قال: " عائشة " ؟ قلت: إنى لست أسألك عن أهلك.
قال: " فأبوها " قلت: ثم من ؟ قال: " عمر " قلت: ثم من ؟ حتى عدد رهطا.
قال: قلت في نفسي: لا أعود أسأل عن هذا.
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طريق خالد بن مهران الحذاء، عن أبى عثمان النهدي، واسمه عبدالرحمن بن مل، حدثنى عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك ؟ قال: " عائشة " قلت: فمن الرجال ؟ قال: " أبوها " قلت: ثم من ؟ قال: " ثم عمر بن الخطاب " فعدد رجالا.
وهذا لفظ البخاري.
وفى رواية قال عمرو: فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم.
سرية أبى عبيدة إلى سيف البحر قال الامام مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلاثمائة.
قال جابر: وأنا فيهم.
فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فنى الزاد فأمر (1) أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع كله، فكان مزودى تمرا، فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فنى ولم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، قال: فقلت: وما تغنى تمرة ؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت ! قال: ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظرب (2).
قال: فأكل منه ذلك الجيش ثمانى عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلته فرحلت ثم مر تحتهما فلم يصبهما.
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك بنحوه.
وهو في الصحيحين أيضا من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر
__________
(1) غير ا: فأتوا أبا عبيدة.
(2) الظرب: الجبل المنبسط أو الصغير.
(*)
قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة راكب وأميرنا أبو عبيدة بن الجراح نرصد عيرا لقريش، فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط (1)، فسمى ذلك الجيش جيش الخبط.
قال: ونحر رجل ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم ثلاثا.
فنهاه أبو عبيدة.
قال: وألقى البحر دابة يقال لها العنبر، فأكلنا منها نصف شهر وادهنا حتى ثابت إلينا أجسامنا وصلحت.
ثم ذكر قصة الضلع.
فقوله في الحديث: " نرصد عيرا لقريش " دليل على أن هذه السرية كانت قبل صلح الحديبية.
والله أعلم.
والرجل الذى نحر لهم الجزائر هو قيس بن سعد بن عبادة رضى الله عنهما.
* * * وقال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو بكر بن إسحاق، حدثنا إسماعيل بن قتيبة، حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا أبو خيثمة، وهو زهير بن معاوية، عن أبى الزبير، عن جابر قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش، وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة.
قال فقلت: كيف كنتم تصنعون بها ؟ قال: كنا نمصها كما يمص الصبى ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل.
وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله.
قال: فانطلقنا إلى ساحل البحر فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا به دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة: ميتة.
ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا.
قال: فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد كنا نغرف من وقب (2) عينه بالقلال الدهن،
__________
(1) الخبط: ورق الشجر.
(2) الوقب: كل نقرة في الجسد كنقرة العين والكتف.
(*)
ونقتطع منه القدر كالثور أو كقدر الثور، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في عينه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها ثم رحل أعظم بعير منها فمر تحتها، وتزودنا من لحمها وشائق (1)، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال: " هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم شئ من لحمه تطعمونا ؟ " قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه.
ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، وأحمد بن يونس وأبو داود عن النفيلى، ثلاثتهم عن أبى خيثمة زهير بن معاوية الجعفي الكوفى، عن أبى الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكى عن جابر بن عبدالله الانصاري به.
قلت: ومقتضى أكثر هذه السياقات أن هذه السرية كانت قبل صلح الحديبية، ولكن أوردناها ها هنا تبعا للحافظ البيهقى رحمه الله، فإنه أوردها بعد مؤتة وقبل غزوة الفتح.
والله أعلم.
وقد ذكر البخاري بعد غزوة مؤتة سرية أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة فقال: حدثنا عمرو بن محمد، حدثنا هشيم، أنبأنا حصين بن جندب، حدثنا أبو ظبيان، قال: سمعت أسامة بن زيد يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الانصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله.
فكف الانصاري وطعنته برمحى حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ " قلت: كان متعوذا، فما زال يكررها حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
وقد تقدم هذا الحديث والكلام عليه فيما سلف.
__________
(1) الوشائق: جمع وشيقة، وهى لحم يقدد حتى ييبس.
(*)
ثم روى البخاري من حديث يزيد بن أبى عبيد، عن سلمة بن
الاكوع قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات، علينا مرة أبو بكر ومرة أسامة بن زيد رضى الله عنهما.
* * * ثم ذكر الحافظ البيهقى هاهنا موت النجاشي صاحب الحبشة على الاسلام ونعى رسول الله صلى الله عليه وسلم له إلى المسلمين وصلاته عليه.
فروى من طريق مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى إلى الناس النجاشي في اليوم الذى مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات.
أخرجاه من حديث مالك، وأخرجاه أيضا من حديث الليث عن عقيل، عن الزهري، عن سعيد وأبى سلمة، عن أبى هريرة بنحوه.
وأخرجاه من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مات اليوم رجل صالح فصلوا على أصحمة ".
وقد تقدمت (1) هذه الاحاديث أيضا والكلام عليها ولله الحمد.
قلت: والظاهر أن موت النجاشي كان قبل الفتح بكثير، فإن في صحيح مسلم أنه لما كتب إلى ملوك الآفاق كتب إلى النجاشي، وليس هو بالمسلم.
وزعم آخرون كالواقدي أنه هو والله أعلم.
وروى الحافظ البيهقى من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن موسى بن عقبة،
__________
(1) تقدم ذلك في الجزء الثاني 29.
(*)
عن أبيه، عن أم كلثوم قالت: لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال: " قد أهديت إلى النجاشي أواقى من مسك وحلة وإنى لاراه قد مات، ولا أرى الهدية
إلا سترد على، فإن ردت على - أظنه قال - قسمتها بينكن، أو فهى لك ".
قال: فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات النجاشي وردت الهدية، فلما ردت عليه أعطى أمرأة من نسائه أوقية، من ذلك المسك، وأعطى سائره أم سلمة، وأعطاها الحلة.
والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم غزوة الفتح الاعظم وكانت في رمضان سنة ثمان.
وقد ذكرها الله تعالى في القرآن في غير موضع فقال تعالى: " لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى (1) " الآية.
وقال تعالى: " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ".
وكان سبب الفتح بعد هدنة الحديبية ما ذكره محمد بن إسحاق: حدثنى الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، أنهما حدثاه جميعا قالا: كان في صلح الحديبية أنه من شاء أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم [ دخل (2) ].
فتواثبت خزاعة وقالوا: نحن ندخل في عقد محمد وعهده وتواثبت بنو بكر وقالوا: نحن ندخل في عقد قريش وعهدهم.
فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة أو الثمانية عشر شهرا، ثم إن بنى بكر وثبوا على خزاعة ليلا بماء يقال له الوتير، وهو قريب من مكة، وقالت قريش: ما يعلم بنا محمد وهذا الليل وما يرانا من أحد.
فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح وقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن عمرو بن سالم ركب عندما كان من أمر خزاعة وبنى بكر بالوتير حتى قدم على
__________
(1) سورة الحديد 10.
(2) ابن هشام: ومن أحب أن يدخل.
فليدخل.
(*)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر الخبر وقد قال أبيات شعر، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدها إياه: يا رب إنى ناشد محمدا * حلف أبيه وأبينا الا تلدا (1) قد كنتم ولدا وكنا والدا * ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر رسول الله نصرا أبدا * وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا * إن سيم خسفا وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجرى مزبدا * إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا * وجعلوا لى في كداء رصدا (2) وزعموا أن لست أدعو أحدا * فهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالوتير هجدا * وقتلونا ركعا وسجدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نصرت يا عمرو بن سالم " فما برح حتى مرت بنا عنانة (3) في السماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذه السحابة لتستهل بنصر بنى كعب ".
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز وكتمهم مخرجه، وسأل الله أن يعمى على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم.
* * * قال ابن إسحاق: وكان السبب الذى هاجهم أن رجلا من بنى الحضرمي اسمه مالك ابن عباد، من حلفاء الاسود بن رزن، خرج تاجرا فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من بنى خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة
__________
(1) الا تلد: القديم.
(2) كداء: جبل بأعلى مكة.
(3) العنان: السحاب.
(*)
قبيل الاسلام على بنى الاسود بن رزن الدئلى، وهم مفخر بنى كنانة وأشرافهم، سلمى وكلثوم وذؤيب، فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم.
قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من الديل قال: كان بنو الاسود بن رزن يودون في الجاهلية ديتين ديتين [ ونودى دية دية لفضلهم فينا ] (1).
قال ابن إسحاق: فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك إذ حجز بينهم الاسلام، فلما كان يوم الحديبية ودخل بنو بكر في عقد قريش ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الهدنة، اغتنمها بنو الديل من بنى بكر وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة ثأرا من أولئك النفر، فخرج نوفل بن معاوية الديلى في قومه وهو يومئذ سيدهم وقائدهم وليس كل بنى بكر تابعه، فبيت خزاعة وهم على الوتير - ماء لهم - فأصابوا رجلا منهم وتحاوزوا واقتتلوا، ورفدت قريش بنى بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا حتى حاوزوا (2) خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك ! فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم يا بنى بكر أصيبوا ثأركم فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم ! ولجأت خزاعة إلى دار بديل بن ورقاء بمكة وإلى دار مولى لهم يقال له رافع، وقد قال الاخزر بن لعط الديلى في ذلك: ألا هل أتى قصوى الاحابيش أننا * رددنا بنى كعب بأفوق ناصل (3) حبسناهم في دارة العبد رافع * وعند بديل محبسا غير ط ؟ ؟ ؟ بدار الذليل الآخذ الضيم بعد ما * شفينا النفوس منهم بالمناصل
__________
(1) من ابن هشام.
(2) حاوزوا: ساقوا.
(3) الافوق: السهم الذى وضع فوقه في الوتر.
والناصل: ماله نصل وهو حد السهم.
(*)
حبسناهم حتى إذا طال يومهم * نفحنا لهم من كل شعب بوابل (1) نذبحهم ذبح التيوس كأننا * أسود نبارى فيهم بالقواصل (2) هم ظلمونا واعتدوا في مسيرهم * وكانوا لدى الانصاب أول قاتل كأنهم بالجزع إذ يطردونهم * قفا ثور حفان النعام الجوافل (3) قال: فأجابه بديل بن عبد مناة بن سلمة بن عمرو بن الاجب، وكان يقال له بديل ابن أم أصرم فقال: تعاقد قوم يفخرون ولم ندع * لهم سيدا يندوهم غير نافل أمن خيفة القوم الاولى تزدريهم * تجيز الوتير خائفا غير آيل وفى كل يوم نحن نحبو حباءنا * لعقل ولا يحبى لنا في المعاقل ونحن صبحنا بالتلاعة داركم * بأسيافنا يسبقن لوم العواذل (4) ونحن منعنا بين بيض وعتود * إلى خيف رضوى من مجر القبائل (5) ويوم الغميم قد تكفت ساعيا * عبيس فجعناه بجلد حلاحل (6) أإن أجمرت في بيتها أم بعضكم * بجعموسها تنزون إن لم نقاتل (7) كذبتم وبيت الله ما إن قتلتم * ولكن تركنا أمركم في بلابل قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبى سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كأنكم بأبى سفيان قد جاءكم يشد في العقد ويزيد في المدة ".
__________
(1) الشعب: المطمئن بين جبلين.
والوابل: المطر الشديد.
(2) القواصل: السيوف القواطع.
(3) ثور: جبل بمكة ومنعه من الصرف لانه أراد به البقعة.
وقفاه: وراءه.
وتروى: بفاثور.
قال أبو ذر: ظاهره أنه اسم موضع.
والحفان: صغار النعام.
والجوافل: الهاربة المسرعة.
(4) التلاعة: ماء لبنى كنانة بالحجاز.
(5) بيض: من منازل بنى كنانة بالحجاز.
وعتود: ماء لكنانة.
(6) تكفت: حاد عن طريقه.
والجلد: القوى.
والحلاحل: السيد الشجاع.
(7) الجعموس: الرجيع.
وأجمرت: رمت به بسرعة.
يريد: الفزع والحذر.
(*) (34 - السيرة 3)
قال ابن إسحاق: ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما أصيب منهم ومظاهرة قريش بنى بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشد العقد ويزيد في المدة وقد رهبوا للذى صنعوا، فلما لقى أبو سفيان بديلا قال: من أين أقبلت يا بديل ؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل في بطن هذا الوادي.
قال: فعمد أبو سفيان إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى.
فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا.
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته، فقال: يا بنية ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش أو رغبت به عنى ؟ فقالت: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه.
فقال: يا بنية والله لقد أصابك بعدى شر ! ثم ذهب إلى أبى بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنا بفاعل.
ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال عمر: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فوالله لو لم أجد لكم إلا الذر (1) لجاهدتكم به.
ثم خرج فدخل على على ابن أبى طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندها حسن غلام يدب بين يديهما، فقال: يا على إنك أمس القوم بى رحما وأقربهم منى قرابة، وقد جئت في حاجة،
فلا أرجعن كما جئت خائبا، فاشفع لى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: ويحك أبا سفيان ! والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.
فالتفت إلى فاطمة فقال: يا بنت محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس
__________
(1) الذر: النمل.
وهو كالمثل، لان الذر لا يقاتل به.
(*)
فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟ فقالت: والله ما بلغ بنى ذلك أن يجير بين الناس وما يجير أحد على النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: يا أبا الحسن إنى أرى الامور قد اشتدت على فانصحني.
قال: والله ما أعلم شيئا يغنى عنك، ولكنك سيد بنى كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك.
فقال: أو ترى ذلك مغنيا عنى شيئا ؟ قال: لا والله ما أظن، ولكن لا أجد لك غير ذلك.
فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إنى قد أجرت بين الناس.
ثم ركب بعيره فانطلق، فلما أن قدم على قريش قالوا: ما وراءك ؟ قال: جئت محمدا فكلمته، فوالله ما رد على شيئا، ثم جئت ابن أبى قحافة فوالله ما وجدت فيه خيرا، ثم جئت عمر فوجدته أعدى عدو، ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم، وقد أشار على بأمر صنعته فوالله ما أدرى هل يغنى عنا شيئا أم لا ؟ قالوا: بماذا أمرك ؟ قال: أمرنى أن أجير بين الناس ففعلت: قالوا: هل أجاز ذلك محمد ؟ قال: لا.
قالوا: ويحك ما زادك الرجل على أن لعب بك فما يغنى عنا ما قلت.
فقال: لا والله ما وجدت غير ذلك.
[ فائدة ذكرها السهيلي.
فتكلم على قول فاطمة في هذا الحديث: " وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم " على ما جاء في الحديث: " ويجير على المسلمين أدناهم " قال: وجه الجمع بينهما بأن المراد بالحديث من يجير واحدا أو نفرا يسيرا، وقول فاطمة: فمن يجير عددا من غزو الامام إياهم فليس له ذلك.
قال: كان سحنون وابن الماجشون يقولان: إن أمان المرأة موقوف على إجازة الامام لقوله لام هانئ: " قد أجرنا من
أجرت يا أم هانئ " قال: ويروى هذا عن عمرو بن العاص وخالد بن الوليد.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز أمان العبد وفى قوله عليه السلام: " ويجير عليهم أدناهم " ما يقتضى دخول العبد والمرأة.
والله أعلم ] (1).
__________
(1) سقط من ح.
(*)
وقد روى البيهقى من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة قال: قالت بنو كعب: اللهم إنى ناشد محمدا * حلف أبينا وأبيه الا تلدا فانصر هداك الله نصرا أعتدا * وادع عباد الله يأتوا مددا (1) وقال موسى بن عقبة في فتح مكة: ثم إن بنى نفاثة من بنى الديل أغاروا على بنى كعب، وهم في المدة التى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وكانت بنو كعب في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت بنو نفاثة في صلح قريش، فأعانت بنو بكر بنى نفاثة، وأعانتهم قريش بالسلاح والرقيق، واعتزلتهم بنو مدلج ووفوا بالعهد الذى كانوا عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى بنى الديل رجلان هما سيداهم، سلمى بن الاسود وكلثوم بن الاسود، ويذكرون أن ممن أعانهم صفوان بن أمية وشيبة بن عثمان وسهيل بن عمرو.
فأغارت بنو الديل على بنى عمرو وعامتهم، زعموا، نساء وصبيان وضعفاء الرجال فألجأوهم وقتلوهم حتى أدخلوهم إلى دار بديل بن ورقاء بمكة.
فخرج ركب من بنى كعب حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له الذى أصابهم وما كان من أمر قريش عليهم في ذلك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارجعوا فتفرقوا في البلدان ".
وخرج أبو سفيان من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخوف الذى كان،
فقال: يا محمد اشدد العقد وزدنا في المدة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولذلك قدمت ؟ هل كان من حدث قبلكم ؟ " فقال معاذ الله ! نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل.
__________
(1) الاعتد: الحاضر.
(*)
فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى أبا بكر فقال: جدد العقد وزدنا في المدة.
فقال أبو بكر: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لاعنتها عليكم.
ثم خرج فأتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال عمر بن الخطاب: ما كان من حلفنا جديدا فأخلقه الله، وما كان منه مثبتا فقطعه الله، وما كان منه مقطوعا فلا وصله الله ! فقال له أبو سفيان: جزيت من ذى رحم شرا.
ثم دخل على عثمان فكلمه فقال عثمان: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم اتبع أشراف قريش يكلمهم فكلهم يقول: عقدنا في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما يئس مما عندهم دخل على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمها فقالت: إنما أنا امرأة، وإنما ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال لها: فأمري أحد ابنيك.
فقالت: إنهما صبيان ليس مثلهما يجير.
قال: فكلمي عليا.
فقالت: أنت فكلمه.
فكلم عليا فقال له: يا أبا سفيان إنه ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتات على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار، وأنت سيد قريش وأكبرها وأمنعها فأجر بين عشيرتك.
قال: صدقت وأنا كذلك.
فخرج فصاح: ألا إنى قد أجرت بين الناس، ولا والله ما أظن أن يخفرنى أحد.
ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنى قد أجرت بين الناس، ولا والله ما أظن أن يخفرنى أحد ولا يرد جواري.
فقال: " أنت تقول يا أبا حنظلة " فخرج أبو سفيان على ذلك.
فزعموا - والله أعلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أدبر ؟ ؟
أبو سفيان: " اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة ولا يسمعوا بنا إلا فجأة ".
وقدم أبو سفيان مكة فقالت له قريش: ما وراءك ؟ هل جئت بكتاب من محمد أو عهد ؟ قال: لا والله لقد أبى على، وقد تتبعت أصحابه فما رأيت قوما لملك عليهم أطوع منهم له، غير أن على بن أبى طالب قد قال لى: التمس جوار الناس عليك ولا تجر أنت عليه وعلى قومك، وأنت سيد قريش وأكبرها وأحقها ألا تخفر جواره.
فقمت بالجوار ثم دخلت على محمد فذكرت له أنى قد أجرت بين الناس وقلت: ما أظن أن تخفرنى.
فقال: أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة.
فقالوا مجيبين له: رضيت بغير رضى، وجئتنا بمالا يغنى عنا ولا عنك شيئا، وإنما لعب بك على لعمر الله ! ما جوارك بجائز وإن إخفارك عليهم لهين.
ثم دخل على امرأته فحدثها الحديث فقالت: قبحك الله من وافد قوم ! فما جئت بخير.
قال: ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سحابا فقال: " إن هذه السحاب لتبض بنصر بنى كعب ".
فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يمكث بعد ما خرج أبو سفيان، ثم أخذ في الجهاز وأمر عائشة أن تجهزه وتخفى ذلك.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد أو إلى بعض حاجاته، فدخل
أبو بكر على عائشة فوجد عندها حنطة تنسف وتنقى، فقال لها: يا بنية لم تصنعين هذا الطعام ؟ فسكتت.
فقال: أيريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغزو ؟ فصمتت، فقال: يريد بنى الاصفر - وهم الروم - ؟ فصمتت، فقال: فلعله يريد أهل نجد ؟ فصمتت.
قال: فلعله يريد قريشا ؟ فصمتت.
قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله أتريد أن تخرج مخرجا ؟ قال: نعم.
قال: فلعلك تريد بنى الاصفر ؟ قال: لا.
قال: أتريد أهل نجد ؟ قال: لا.
قال: فلعلك تريد قريشا ؟ قال: نعم.
قال أبو بكر: يا رسول الله أليس بينك وبينهم مدة ؟ قال: " ألم يبلغك ما صنعوا ببنى كعب ؟ ".
قال: وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بالغزو، وكتب حاطب بن أبى بلتعة إلى قريش، وأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على الكتاب.
وذكر القصة كما سيأتي.
* * * وقال محمد بن إسحاق: حدثنى محمد بن جعفر، عن عروة، عن عائشة أن أبا بكر دخل على عائشة وهى تغربل حنطة فقال: ما هذا ؟ أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز ؟ قالت: نعم فتجهز.
قال: وإلى أين ؟ قالت: ما سمى لنا شيئا غير أنه قد أمرنا بالجهاز.
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة وأمر بالجد والتهيؤ وقال: " اللهم خذ العيون والاخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها " فتجهز الناس.
فقال حسان يحرض الناس ويذكر مصاب خزاعة: عناني ولم أشهد ببطحاء مكة * رجال بنى كعب تحز رقابها
بأيدى رجال لم يسلوا سيوفهم * وقتلى كثير لم تجن ثيابها (1) ألا ليت شعرى هل تنالن نصرتي * سهيل بن عمرو حرها وعقابها (2)
__________
(1) لم تجن: لم تستر.
يريد أنهم قتلوا ولم يدفنوا.
(2) ابن هشام: وخزها.
وكذلك رواية الديوان.
(*)
وصفوان عودا حز من شفر استه * فهذا أوان الحرب شد عصابها (1) فلا تأمننا يابن أم مجالد * إذا احتلبت صرفا وأعصل نابها (2) ولا تجزعوا منها فإن سيوفنا * لها وقعة بالموت يفتح بابها قصة حاطب بن أبى بلتعة قال محمد بن إسحاق: حدثنى محمد بن جعفر، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا قالوا: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة كتب حاطب بن أبى بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذى أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الامر في السير إليهم، ثم أعطاه امرأة زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم لى غيره أنا سارة مولاة لبعض بنى عبدالمطلب وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها ثم خرجت به.
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث على بن أبى طالب والزبير بن العوام فقال: " أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبى بلتعة بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم ".
فخرجا حتى أدركاها بالحليفة حليفة بنى أبى أحمد، فاستنزلاها فالتمساه في رحلها فلم يجدا فيه شيئا، فقال لها على: إنى أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك.
فلما رأت الجد منه قالت: أعرض.
فأعرض، فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه، فأتى به
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا فقال: " يا حاطب ما حملك على هذا ؟ "
__________
(1) ابن هشام: وصفوان عودحن.
(2) الصرف: الخالص.
وأعصل: اعوج.
يريد اشتداد الحرب.
وابن أم مجالد: عكرمة بن أبى جهل.
(*)
فقال: يا رسول الله أما والله إنى لمؤمن بالله وبرسوله ما غيرت ولا بدلت، ولكننى كنت امرءا ليس لى في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لى بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم.
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني فلاضرب عنقه فإن الرجل قد نافق ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ".
وأنزل الله في حاطب: " يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة " إلى آخر القصة.
هكذا أورد ابن إسحاق هذه القصة مرسلة.
وقد ذكر السهيلي أنه كان في كتاب حاطب: أن رسول الله قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له ما وعده.
قال: وفى تفسير ابن سلام أن حاطبا كتب: إن محمدا قد نفر فإما إليكم وإما إلى غيركم فعليكم الحذر.
* * * وقد قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، أخبرني الحسن بن محمد، أنه سمع عبيدالله بن أبى رافع، سمعت عليا يقول: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها
ظعينة معها كتاب فخذوه منها " فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب.
فقالت: ما معى.
فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب.
قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من
حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا حاطب ما هذا ؟ " فقال: يا رسول الله لا تعجل على، إنى كنت امرءا ملصقا في قريش، يقول: كنت حليفا ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن دينى ولا رضا بالكفر بعد الاسلام.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إنه قد صدقكم " فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ! فقال: " إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ".
فأنزل الله سورة: " يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء " إلى قوله: " فقد ضل سواء السبيل ".
وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه، من حديث سفيان بن عيينة.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الامام أحمد: حدثنا حجين ويونس قالا: حدثنا ليث بن سعد، عن أبى الزبير، عن جابر بن عبدالله، أن حاطب بن أبى بلتعة كتب إلى أهل مكة يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد غزوهم، فدل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المرأة التى معها الكتاب، فأرسل إليها فأخذ كتابها من رأسها وقال: " يا حاطب أفعلت ؟ "
قال: نعم.
قال: أما إنى لم أفعله غشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفاقا، قد علمت أن الله مظهر رسوله ومتم له أمره، غير أنى كنت غريبا بين ظهرانيهم وكانت والدتى معهم، فأردت أن أتخذ يدا عندهم.
فقال له عمر: ألا أضرب رأس هذا ؟ فقال:
" أتقتل رجلا من أهل بدر ؟ وما يدريك لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم ".
تفرد بهذا الحديث من هذا الوجه الامام أحمد وإسناده على شرط مسلم.
ولله الحمد.
فصل قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة، عن ابن عباس قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري، وخرج لعشر مضين من شهر رمضان فصام وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد بين عسفان وأمج أفطر، ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين.
وقال عروة بن الزبير: كان معه اثنا عشر ألفا.
وكذا قال الزهري وموسى بن عقبة.
فسبعت سليم وبعضهم يقول ألفت سليم، وألفت مزينة وفى كل القبائل عدد وإسلام، وأوعب (1) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والانصار فلم يتخلف عنه منهم أحد.
وروى البخاري، عن محمود، عن (2) عبد الرزاق، عن معمر عن الزهري نحوه.
وقد روى البيهقى من حديث عاصم بن على، عن الليث بن سعد، عن عقيل عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبدالله، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح في رمضان.
قال: وسمعت سعيد بن المسيب يقول مثل ذلك، لا أدرى أخرج في ليال من شعبان
فاستقبل رمضان، أو خرج في رمضان بعد ما دخل ؟ غير أن عبيد الله بن عبدالله أخبرني
__________
(1) ا: وأرغب.
(2) ا: ابن عبد الرازق وهو تحريف.
(*)
أن ابن عباس قال: صام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الكديد - الماء الذى بين قديد وعسفان - أفطر، فلم يزل يفطر حتى انصرم الشهر.
ورواه البخاري، عن عبدالله بن يوسف، عن الليث، غير أنه لم يذكر الترديد بين شعبان ورمضان.
* * * وقال البخاري: حدثنا على بن عبدالله، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس عن ابن عباس قال: سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بإناء فشرب بها (1) ليراه الناس، فأفطر حتى قدم مكة.
قال: وكان ابن عباس يقول: صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر.
وقال يونس: عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عباس قال: مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفرة الفتح واستعمل على المدينة أبا رهم كلثوم بن الحصين الغفاري، وخرج لعشر مضين من رمضان، فصام وصام الناس معه، حتى أتى الكديد بين عسفان وأمج فأفطر، ودخل مكة مفطرا فكان الناس يرون أن آخر الامر (2) من رسول الله صلى الله عليه وسلم الفطر، وأنه نسخ ما كان قبله.
قال البيهقى: فقوله: " خرج لعشر من رمضان " مدرج في الحديث، وكذلك ذكره عبيدالله بن إدريس، عن ابن إسحاق.
ثم روى من طريق يعقوب بن سفيان، عن جابر، عن يحيى، عن صدقة، عن ابن إسحاق أنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشر مضين من رمضان.
سنة ثمان.
__________
(1) غير ا: نهارا.
(2) غير ا: يرون آخر الامرين.
(*)
ثم روى البيهقى من حديث أبى إسحاق الفزارى، عن محمد بن أبى حفصة، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عباس قال: كان الفتح لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان.
قال البيهقى: وهذا الادراج وهم، إنما هو من كلام الزهري.
ثم روى من طريق ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح - فتح مكة - فخرج من المدينة في رمضان ومعه من المسلمين عشرة آلاف، وذلك على رأس ثمانى سنين ونصف سنة من مقدمه المدينة، وافتتح مكة لثلاث عشرة بقين من رمضان.
وروى البيهقى من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبدالله، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان ومعه عشرة آلاف من المسلمين، فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر.
قال (1) الزهري: وإنما يؤخذ بالاحدث فالاحدث (2).
قال الزهري: فصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان.
ثم عزاه إلى (3) الصحيحين من طريق عبد الرزاق.
فالله أعلم.
وروى البيهقى من طريق سعيد بن عبد العزيز التنوخى، عن عطية بن قيس، عن أبى سعيد الخدرى قال: آذننا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل عام الفتح لليلتين خلتا من رمضان، فخرجنا صواما حتى بلغنا الكديد، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفطر فأصبح الناس مرضى (4) منهم الصائم ومنهم المفطر، حتى إذا بلغنا المنزل الذى نلقى العدو أمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعين.
وقد رواه الامام أحمد، عن أبى المغيرة، عن سعيد بن عبد العزيز، حدثنى عطية بن
__________
(1) المطبوعة: فقال.
خطأ.
(2) البخاري: وإنما يؤخذ من أمر رسول الله الآخر فالآخر.
(3) المطبوعة: في.
خطأ.
(4) المطبوعة: مرحى.
خطأ.
(*)
قيس، عمن حدثه، عن أبى سعيد الخدرى، قال: آذننا رسول الله بالرحيل عام الفتح لليلتين خلتا من رمضان، فخرجنا صواما حتى بلغنا الكديد، فأمرنا رسول الله بالفطر، فأصبح الناس منهم الصائم ومنهم المفطر، حتى إذا بلغ أدنى منزل يلقى العدو أمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعون.
* * * قلت: فعلى ما ذكره الزهري، من أن الفتح كان يوم الثالث عشر من رمضان، وما ذكره أبو سعيد من أنهم خرجوا من المدينة في ثانى شهر رمضان، يقتضى أن مسيرهم كان بين (1) مكة والمدينة في إحدى عشرة ليلة.
ولكن روى البيهقى، عن أبى الحسين بن الفضل، عن عبدالله بن جعفر، عن يعقوب بن سفيان، عن الحسن بن الربيع، عن ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري ومحمد بن على بن الحسين، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعمرو بن شعيب، وعبد الله بن أبى بكر، وغيرهم.
قالوا: كان فتح مكة في عشر بقيت من شهر رمضان سنة ثمان.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا وهيب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبدالله قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح صائما حتى أتى كراع الغميم والناس معه مشاة وركبانا، وذلك في شهر رمضان (2).
فقيل: يا رسول الله إن الناس قد اشتد عليهم الصوم وإنما ينظرون كيف فعلت ؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء فرفعه فشرب والناس ينظرون، فصام بعض الناس وأفطر البعض، حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بعضهم صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أولئك العصاة ".
__________
(1) ا: من.
(2) ا: في رمضان.
(*)
وقد رواه مسلم من حديث الثقفى والدراوردى، عن جعفر بن محمد.
وروى الامام أحمد من حديث محمد بن إسحاق، حدثنى بشير بن يسار، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في رمضان فصام وصام المسلمون معه، حتى إذا كان بالكديد دعا بماء في قعب وهو على راحلته، فشرب والناس ينظرون، يعلمهم أنه قد أفطر، فأفطر المسلمون.
تفرد به أحمد.
فصل في إسلام العباس بن عبدالمطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم وأبى سفيان بن الحارث ابن عبدالمطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن أبى أمية بن المغيرة المخزومى أخى أم سلمة أم المؤمنين.
وهجرتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدوه في أثناء الطريق وهو ذاهب إلى فتح مكة.
قال ابن إسحاق: وقد كان العباس بن عبدالمطلب لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق.
قال ابن هشام: لقيه بالجحفة مهاجرا بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض، فيما ذكره ابن شهاب الزهري.
قال ابن إسحاق: وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب وعبد الله بن أبى أمية قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا بنيق العقاب (1) فيما بين مكة والمدينة والتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فيهما فقالت: يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك.
قال: " لا حاجة لى بهما، أما ابن عمى فهتك عرضى، وأما ابن عمتى فهو الذى
قال لى بمكة ما قال " (2).
__________
(1) ا: بنيق العقيق.
(2) قال له: " والله لا آمنت بك حتى تتخذ سلما إلى السماء فتعرج فيه وأنا أنظر، ثم تأتى بصك وأربعة من الملائكة يشهدون أن الله قد أرسلك " الروض الانف 2 / 267.
(*)
قال: فلما خرج إليهما الخبر بذلك ومع أبى سفيان بنى له فقال: والله ليأذنن لى أو لآخذن بيد بنى هذا ثم لنذهبن في الارض حتى (1) نموت عطشا وجوعا.
فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم رق لهما، ثم أذن لهما فدخلا عليه فأسلما، وأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذر إليه مما كان مضى منه: لعمرك إنى يوم أحمل راية * لتغلب خيل اللات خيل محمد لكا لمدلج (2) الحيران أظلم ليله * فهذا أواني حين أهدى وأهتدى هداني هاد غير نفسي ونالني * مع (3) الله من طردت كل مطرد أصد وأنأى جاهدا عن محمد * وأدعى وإن لم أنتسب من محمد هم ما هم من لم يقل بهواهم * وإن كان ذا رأى يلم ويفند أريد لارضيهم ولست بلائط * مع القوم ما لم أهد في كل مقعد فقل لثقيف لا أريد قتالها * وقل لثقيف تلك: غيرى أوعدى فما كنت في الجيش الذى نال عامرا * ولا (4) كان عن جرا لساني ولا يدى قبائل جاءت من بلاد بعيدة * نزائع جاءت من سهام وسردد (5) قال ابن إسحاق: فزعموا أنه حين أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ونالني مع الله من طردت كل مطرد " ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في صدره وقال: " أنت طردتني كل مطرد ".
__________
(1) غير ا: ثم نموت.
(2) ا: إن المدلج.
(3) ا: من.
(4) غير ا: وما كان.
(5) سهام وسردد: موضعان من أرض عك.
(*)
فصل ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مر الظهران نزل فيه فأقام، كما روى البخاري عن يحيى بن بكير، عن الليث ومسلم، عن أبى الطاهر، عن ابن وهب، كلاهما عن يونس، عن الزهري، عن أبى سلمة عن جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران نجتنى الكباث، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عليكم بالاسود منه فإنه أطيب " قالوا: يا رسول الله أكنت ترعى الغنم ؟ قال: " نعم، وهل من نبى إلا وقد رعاها ".
وقال البيهقى، عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن سنان بن إسماعيل، عن أبى الوليد سعيد بن مينا، قال: لما فرغ أهل مكة ورجعوا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسير إلى مكة، فلما انتهى إلى مر الظهران نزل بالعقبة فأرسل الجناة يجتنون الكباث، فقلت لسعيد: وما هو ؟ قال: ثمر الاراك.
قال: فانطلق ابن مسعود فيمن يجتنى، قال: فجعل أحدهم إذا أصاب حبة طيبة قذفها في فيه، وكانوا ينظرون إلى دقة ساقى ابن مسعود وهو يرقى في الشجرة فيضحكون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعجبون من دقة ساقيه ؟ فوالذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد ! ".
وكان ابن مسعود ما اجتنى من شئ جاء به وخياره فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في ذلك: هذا جناى وخياري فيه * إذ كل جان يده إلى فيه
(35 - السيرة 3)
وفى الصحيحين عن أنس قال: أنفجنا (1) أرنبا ونحن بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا وأدركتها فأخذتها فأتيت بها أبا طلحة فذبحها.
وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذيها فقبله.
* * * وقال ابن إسحاق: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران وقد عميت الاخبار على (2) قريش، فلا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدرون ما رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعل، وخرج في تلك الليالى أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتجسسون الاخبار وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به.
وذكر ابن لهيعة عن أبى الاسود عن عروة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بين يديه [ عيونا ] (3) خيلا يقتصون العيون، وخزاعة لا تدع أحدا يمضى وراءها فلما جاء أبو سفيان وأصحابه أخذتهم خيل المسلمين وقام إليه عمر يجأ في عنقه، حتى أجاره العباس بن عبدالمطلب وكان صاحبا لابي سفيان.
قال ابن إسحاق: وقال العباس حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران قلت: واصباح قريش ! والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر.
قال: فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء فخرجت عليها حتى جئت الاراك فقلت: لعلى أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي
__________
(1) أنفجنا: أثرنا.
(2) غير ا: عن.
(3) ليست في ا.
(*)
مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها (1) عليهم عنوة.
قال: فوالله إنى لاسير عليها وألتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبى سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا.
قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب.
قال: يقول أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة ؟ فعرف صوتي.
فقال: أبو الفضل ؟ قال: قلت: نعم.
قال: مالك فدى لك أبى وأمى ! قال: قلت: ويحك يا أبا سفيان ! هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس.
فقال: واصباح قريش والله ! فما الحيلة فداك أبى وأمى ؟ قال: قلت والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك.
قال: فركب خلفي ورجع صاحباه.
وقال عروة: بل ذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلما وجعل يستخبرهما عن أهل مكة.
وقال الزهري وموسى بن عقبة: بل دخلوا مع العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * * [ قال: فجئت به، كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا ؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: غم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا ؟
__________
(1) غير ا: يدخل.
(*)
وقام إلي.
فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله ! الحمد لله الذى أمكن منك بغير عقد ولا عهد.
وزعم عروة بن الزبير أن عمر وجأ في رقبة أبى سفيان وأراد قتله فمنعه منه العباس.
وهكذا ذكر موسى بن عقبة، عن الزهري، أن عيون رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذوهم بأزمة جمالهم فقالوا: من أنتم ؟ قالوا: وفد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلقيهم العباس فدخل بهم على رسول الله فحادثهم عامة الليل ثم دعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فشهدوا، وأن محمدا رسول الله.
فشهد حكيم وبديل وقال أبو سفيان: ما أعلم ذلك ثم أسلم بعد الصبح.
ثم سألوه أن يؤمن قريشا فقال: " من دخل دار أبى سفيان فهو آمن - وكانت بأعلى مكة - ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن.
وكانت بأسفل مكة - ومن أغلق بابه فهو آمن " قال العباس: ] (1) ثم خرج عمر يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وركضت البغلة فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطئ.
قال: فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني فلاضرب عنقه ؟ قال: قلت: يا رسول إنى قد أجرته.
ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه فقلت: والله لا يناجيه الليلة دوني رجل.
فلما أكثر عمر في شأنه قال قلت: مهلا يا عمر ! فوالله أن لو كان من رجال (2) بنى عدى بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بنى عبد مناف.
فقال: مهلا يا عباس، فوالله لاسلامك يوم أسلمت كان أحب إلى من إسلام الخطاب لو أسلم ! وما بى إلا أنى قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) من ا.
(2) ا: لو كان معى رجل من بنى عدى.
(*)
وسلم من إسلام الخطاب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به ".
* * * قال: فذهبت به إلى رحلى فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله قال: " ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله ؟ " فقال: بأبى أنت وأمى ! ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عنى شيئا بعد ! قال: " ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنى رسول الله ؟ " قال: بأبى أنت وأمى ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا ! فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك ؟ قال: فشهد شهادة الحق فأسلم.
قال العباس: فقلت يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فاجعل له شيئا.
قال: " نعم، من دخل دار أبى سفيان فهو آمن " زاد عروة: " ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن " وهكذا قال موسى بن عقبة عن الزهري.
" ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن ".
فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم (1) الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها ": وذكر موسى بن عقبة عن الزهري أن أبا سفيان وبديلا وحكيم بن حزام
__________
(1) خطم الجبل: أنفه (*)
كانوا وقوفا مع العباس عند خطم الجبل، وذكر أن سعد لما قال لابي سفيان.
اليوم يوم الملحمه: * اليوم تستحل الحرمه فشكا أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعزله عن راية الانصار وأعطاها الزبير بن العوام فدخل بها من أعلى مكة وغرزها بالحجون، ودخل خالد من أسفل مكة فلقيه بنو بكر وهذيل، فقتل من بنى بكر عشرين ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، وانهزموا فقتلوا بالحزورة (1) حتى بلغ قتلهم باب المسجد.
قال العباس: فخرجت بأبى سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه.
قال: ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هؤلاء ؟ فأقول: سليم.
فيقول: مالى ولسليم.
ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء ؟ فأقول: مزينة.
فيقول: مالى ولمزينة.
حتى نفدت القبائل ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته قال: مالى ولبنى فلان.
حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والانصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله يا عباس ! من هؤلاء ؟ قال: قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والانصار، قال: ما لاحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما ! قال: قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة.
قال: فنعم إذن.
قال: قلت النجاء إلى قومك.
* * * حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل
__________
(1) الحزورة: كانت سوق مكة.
(*)
لكم به، فمن دخل دار أبى سفيان فهو آمن.
فقامت إليه هند بنت عتبة [ فأخذت بشاربه (1) ] فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الاحمس (2) قبح من طليعة قوم.
فقال أبو سفيان: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم مالا قبل لكم به، من دخل دار أبى سفيان فهو آمن.
قالوا: قاتلك الله ! وما تغنى عنا دارك ؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
[ وذكر عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بأبى سفيان قال له: إنى لارى وجوها كثيرة لا أعرفها، لقد كثرت هذه الوجوه على ؟ فقال له رسول الله: " أنت فعلت هذا وقومك، إن هؤلاء صدقوني إذ كذبتموني، ونصروني إذ أخرجتموني ".
ثم شكا إليه قول سعد بن عبادة حين مر عليه فقال: يا أبا سفيان: اليوم يوم الملحمه * اليوم تستحل الحرمه فقال رسول الله: " كذب سعد، بل هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة ".
وذكر عروة أن أبا سفيان لما أصبح صبيحة تلك الليلة التى كان عند العباس، ورأى الناس يجنحون للصلاة وينتشرون في استعمال الطهارة خاف وقال للعباس: ما بالهم ؟ قال: إنهم قد سمعو النداء فهم ينتشرون للصلاة.
فلما حضرت الصلاة ورآهم يركعون
__________
(1) ليست في أ.
(2) الحميت: الزق.
أو وعاء السمن.
والدسم: السمين.
والاحمس: الكثير اللحم.
(*)
ويسجدون بسجوده قال: يا عباس ما يأمرهم بشئ إلا فعلوه ؟ قال: نعم والله لو أمرهم بترك الطعام والشراب لاطاعوه.
وذكر موسى بن عقبة عن الزهري أنه لما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلوا يتكففون، فقال: يا عباس ما رأيت كالليلة ولا ملك كسرى وقيصر ! ] (1).
* * * وقد روى الحافظ البيهقى عن الحاكم وغيره عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثنى الحسين بن عبدالله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس.
فذكر هذه القصة بتمامها كما أوردها زياد البكائى عن ابن إسحاق منقطعة.
فالله أعلم.
على أنه قد روى البيهقى من طريق أبى بلال الاشعري، عن زياد البكائى، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، قال: جاء العباس بأبى سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكر القصة.
إلا أنه ذكر أنه أسلم من ليلته قبل أن يصبح بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من دخل دار أبى سفيان فهو آمن " قال أبو سفيان: وما تسع دارى ؟ فقال: " ومن دخل الكعبة فهو آمن " قال: وما تسع الكعبة ؟ فقال: " ومن دخل المسجد فهو آمن " قال: وما يسع المسجد ؟ فقال: " ومن أغلق عليه بابه فهو آمن " فقال أبو سفيان: هذه واسعة.
وقال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هدم، عن أبيه قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشا خرج أبو سفيان ابن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله
__________
(1) من أ.
(*)
عليه وسلم، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه ؟ كأنها نيران عرفة ؟ فقال بديل بن ورقاء: نيران بنى عمرو.
فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك.
فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم، فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم أبو سفيان.
فلما سار قال للعباس: " احبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين " فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تمر كتيبة كتيبة على أبى سفيان، فمرت كتيبة فقال: يا عباس من هذه ؟ قال: هذه غفار.
قال: مالى ولغفار.
ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هذيم فقال مثل ذلك، ومرت سليم فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها فقال: من هذه ؟ قال: هؤلاء الانصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية.
فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة.
اليوم تستحل الكعبة.
فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الذمار.
ثم جاءت كتيبة وهى أقل الكتائب، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الزبير بن العوام، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبى سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة ؟ فقال: ما قال ؟ قال: كذا وكذا.
فقال: " كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة " وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون.
قال عروة: وأخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: هاهنا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية ؟ قال: نعم.
قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من كدى، فقتل من خيل خالد بن الوليد يومئذ رجلان حبيش بن الاشعر وكرز بن جابر الفهرى.
وقال أبو داود: حدثنا
عثمان بن أبى شيبة، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح جاءه العباس بن عبدالمطلب بأبى سفيان بن حرب فأسلم بمر الظهران، فقال له العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فلو جعلت له شيئا ؟ قال: " نعم من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن ".
صفة دخوله عليه الصلاة والسلام مكة ثبت في الصحيحين من حديث مالك [ عن الزهري (1) ] عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: " اقتلوه ".
قال مالك: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نرى والله أعلم محرما.
وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا أبو الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء.
ورواه أهل السنن الاربعة من حديث حماد بن سلمة.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
ورواه مسلم عن قتيبة، ويحيى بن يحيى، عن معاوية بن عمار الدهنى، عن أبى الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء من غير إحرام.
وروى مسلم من حديث أبى أسامة، عن مساور الوراق، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه قال: كأنى أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعليه عمامة حرقانية (2) سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه.
__________
(1) سقطت من ا.
(2) الحرقانية: على لون ما أحرقته النار.
(*)
وروى مسلم في صحيحه، والترمذي والنسائي من حديث عمار الدهنى، عن أبى الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء.
وروى أهل السنن الاربعة من حديث يحيى بن آدم، عن شريك القاضى، عن عمار الدهنى، عن أبى الزبير، عن جابر قال: كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة أبيض.
وقال ابن إسحاق، عن عبدالله بن أبى بكر، عن عائشة: كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أبيض، ورايته سوداء تسمى العقاب، وكانت قطعة من مرط مرجل (1).
وقال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن عبدالله بن قرة، قال: سمعت عبدالله بن مغفل يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يرجع.
وقال: لولا أن يجتمع الناس حولي لرجعت كما رجع.
وقال محمد بن إسحاق: حدثنى عبدالله بن أبى بكر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذى طوى وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة حمراء (2)، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه (3) ليكاد يمس واسطة الرحل.
وقال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا دعلج بن أحمد، حدثنا أحمد ابن على الابار، حدثنا عبدالله بن أبى بكر المقدسي، حدثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وذقنه على رحله (4) متخشعا.
__________
(1) المرط: كساء من صوف.
والمرجل: الذى فيه صور الرجال.
وتروى مرحل بالحاء أي فيه صور الرحال.
(2) ا: بشقة برد حمراء.
(3) العثنون: اللحية أو ما فضل منها بعد العارضين.
(4) غير ا: راحلته.
(*)
وقال: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو بكر بن بالويه، حدثنا أحمد بن صاعد، حدثنا إسماعيل بن أبى الحارث، حدثنا جعفر بن عون، حدثنا إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس، عن ابن مسعود، أن رجلا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فأخذته الرعدة، فقال: " هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد ".
قال: وهكذا رواه محمد بن سليمان بن فارس وأحمد بن يحيى بن زهير، عن إسماعيل ابن أبى الحارث موصولا.
ثم رواه عن أبى زكريا المزكى، عن أبى عبدالله محمد بن يعقوب، عن محمد بن عبد الوهاب، عن جعفر بن عون، عن إسماعيل بن قيس مرسلا.
وهو المحفوظ.
وهذا التواضع في هذا الموطن عند دخوله صلى الله عليه وسلم مكة في مثل هذا الجيش الكثيف العرمرم، بخلاف ما اعتمده سفهاء بنى إسرائيل حين أمروا أن يدخلوا باب بيت المقدس وهم سجود - أي ركع - يقولون حطة فدخلوا يزحفون على أستاهم وهم يقولون: حنطة في شعرة ! وقال البخاري: حدثنا القاسم بن خارجة، حدثنا حفص بن ميسرة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح من كداء التى بأعلى مكة.
تابعه أبو أسامة ووهب في كداء.
حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من أعلى مكة من كداء.
وهو أصح إن أراد أن المرسل أصح من المسند المتقدم انتظم الكلام، وإلا فكداء بالمد هي المذكورة في الروايتين وهى في أعلى مكة، وكدى مقصور في أسفل مكة.
وهذا هو المشهور والانسب.
وقد تقدم أنه عليه السلام بعث خالد بن الوليد من أعلى مكة، ودخل هو عليه
السلام من أسفلها من كدى وهو في صحيح البخاري.
والله أعلم.
وقد قال البيهقى: أنبأنا أبو الحسين بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار [ حدثنا عبدالله بن إبراهيم بن المنذر الخزامى، حدثنا معن، حدثنا عبدالله بن عمر بن حفص، عن نافع، عن ابن عمر (1) ] قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح رأى (2) النساء يلطمن وجوه الخيل، فتبسم إلى أبى بكر وقال: " يا أبا بكر كيف قال حسان ؟ " فأنشده أبو بكر رضى الله عنه: عدمت بنيتي إن لم تروها * تثير النقع من كتفي كداء ينازعن الاعنة (3) مسرجات * يلطمهن بالخمر النساء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادخلوها من حيث قال حسان ! ".
* * * وقال محمد بن إسحاق: حدثنى يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، عن جدته أسماء بنت أبى بكر قالت: لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذى طوى قال أبو قحافة لابنة له من أصغر ولده: أي بنية اظهري بى على أبى قبيس.
قالت: وقد كف بصره.
قالت: فأشرفت به عليه فقال: أي بنية ماذا ترين ؟ قالت: أرى سوادا مجتمعا.
قال: تلك الخيل.
قالت: وأرى رجلا يسعى بين يدى ذلك السواد مقبلا ومدبرا.
قال: أي بنية ذلك الوازع - يعنى الذى يأمر الخيل ويتقدم إليها - ثم قالت: قد والله انتشر السواد.
فقال: قد والله إذا دفعت الخيل فأسرعي بى إلى بيتى.
فانحطت به وتلقاه الخيل قبل أن يصل إلى بيته.
قالت: وفى عنق الجارية طوق من ورق فيلقاها رجل فيقتطعه من عنقها.
__________
(1) سقطت من ا.
(2) غير ا: وأتى النساء.
(3) ا: الاسنة.
ولعلها تحريف.
(*)
قالت: فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ودخل المسجد أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه ؟ ! " قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشى إليك من أن تمشى أنت إليه.
قال: فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره ثم قال: أسلم.
فأسلم.
قالت: ودخل به أبو بكر وكان رأسه كالثغامة (1) بياضا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " غيروا هذا من شعره ".
ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته وقال: أنشد الله والاسلام طوق أختى ؟ فلم يجبه أحد قال: فقال: أي أخية احتسبي طوقك، فوالله إن الامانة في الناس اليوم لقليل ! يعنى به الصديق ذلك اليوم على التعيين (2)، لان الجيش فيه كثرة، ولا يكاد أحد.
يلوى على أحد، مع انتشار الناس، ولعل الذى أخذه تأول أنه من حربى والله أعلم.
وقال الحافظ البيهقى: أنبأنا عبدالله الحافظ، أنبأنا أبو العباس الاصم، أنبأنا بحر بن نصر، أنبأنا ابن وهب، أخبرني ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر، أن عمر بن الخطاب أخذ بيد أبى قحافة فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " غيروه ولا تقربوه سوادا ".
قال ابن وهب: وأخبرني عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هنأ أبا بكر بإسلام أبيه.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبى نجيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذى طوى أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كداء، وكان الزبير على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كدى.
__________
(1) الثغامة: واحدة الثغام، وهو نبت أبيض.
(2) أ: يعنى الصديق ذلك اليوم على العين.
(*)
قال ابن إسحاق: فزعم بعض أهل العلم أن سعدا حين وجه داخلا قال: اليوم يوم الملحمه.
اليوم تستحل الحرمه.
فسمعها رجل.
قال ابن هشام: يقال: إنه عمر بن الخطاب.
فقال: يا رسول الله أتسمع ما يقول سعد بن عبادة ؟ ما نأمن أن يكون له في قريش صولة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى: " أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها ".
قلت: وذكر غير محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما شكا إليه أبو سفيان قول سعد بن عبادة حين مر به، وقال: يا أبا سفيان: اليوم يوم الملحمه اليوم تستحل الحرمة - يعنى الكعبة -.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بل هذا يوم تعظم فيه الكعبة " وأمر بالراية - راية الانصار - أن تؤخذ من سعد بن عبادة كالتأديب له، ويقال: إنها دفعت إلى ابنه قيس بن سعد.
وقال موسى بن عقبة، عن الزهري: دفعها إلى الزبير بن العوام.
فالله أعلم.
* * * وذكر الحافظ بن عساكر في ترجمة يعقوب بن إسحاق بن دينار، حدثنا عبدالله بن السرى الانطاكي، حدثنا عبدالرحمن بن أبى الزناد، وحدثني موسى بن عقبة، عن أبى الزبير، عن جابر بن عبدالله قال: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية يوم فتح مكة إلى سعد بن عبادة فجعل يهزها ويقول: اليوم يوم الملحمه: يوم تستحل الحرمه.
قال: فشق ذلك على قريش وكبر في نفوسهم، قال: فعارضت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره وأنشأت تقول (1): يا نبى الهدى إليك لجاحى قريش ولات حين لجاء
__________
(1) نسب السهيلي هذه الابيات إلى ضرار بن الخطاب.
الروض 2 / 271.
(*)
حين ضاقت عليهم سعة الار * ض وعاداهم إله السماء [ والتقت حلقتا البطان على القو * م ونودوا بالصيلم الصلعاء ] (1) إن سعدا يريد قاصمة الظه * ر بأهل الحجون والبطحاء خزرجي لو يستطيع من الغي * ظ رمانا بالنسر والعواء (2) فانهينه فإنه الاسد الاس * ود والليث والغ في الدماء فلئن أقحم اللواء ونادى * يا حماة اللواء أهل اللواء لتكونن بالبطاح قريش * بقعة القاع في أكف الاماء (3) إنه مصلت يريد لها الرأ * ى صموت كالحية الصماء (4) قال: فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشعر دخله رحمة لهم ورأفة بهم، وأمر بالراية فأخذت من سعد بن عبادة ودفعت إلى ابنه قيس بن سعد.
قال: فيروى أنه عليه الصلاة والسلام أحب ألا يخيبها إذ رغبت إليه واستغاثت به، وأحب ألا يغضب سعد، فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه (5).
* * * قال ابن إسحاق: وذكر ابن أبى نجيح في حديثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خالد بن الوليد فدخل من الليط أسفل مكة في بعض الناس، وكان خالد على المجنبة اليمنى وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب، وأقبل أبو عبيدة ابن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لاهل مكة (6) بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة فضربت له هنالك قبة.
__________
(1) من الروض الانف.
والبطان: حزام القتب.
والصيلم: الداهية.
والصلعاء: المشهورة.
(2) العواء: الكلب.
(3) القاع: الارض السهلة المنبسطة.
(4) المصلت: الرجل الماضي (5) سقط من أ.
(6) غير أ: لمكة.
(*)
وروى البخاري من حديث الزهري، عن على بن الحسين، عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد، أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله أين تنزل غدا ؟ فقال: " وهل ترك لنا عقيل من رباع (1) " ثم قال: " لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر ".
ثم قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، حدثنا أبو الزبير، عن عبدالرحمن، عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله الخيف، حيث تقاسموا على الكفر ".
وقال الامام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا ابراهيم - يعنى ابن سعد - عن الزهري، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " منزلنا غدا إن شاء الله بخيف بنى كنانة حيث تقاسموا على الكفر ".
ورواه البخاري من حديث إبراهيم بن سعد به نحوه.
وقال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبى نجيح و عبدالله بن أبى بكر، أن صفوان ابن أمية وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا ناسا بالخندمة ليقاتلوا، وكان حماس بن قيس بن خالد أخو بنى بكر يعد سلاحا قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلح منه، فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى ؟ قال: لمحمد وأصحابه.
فقالت: والله ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شئ ! قال: والله إنى لارجو أن أخدمك بعضهم.
ثم قال: إن يقبلوا اليوم فما لى عله * هذا سلاح كامل وأله (2) وذو غرارين سريع السلة (3) قال: ثم شهد الخندمة مع صفوان وعكرمة وسهيل، فلما لقيهم المسلمون من أصحاب
__________
(1) الرباع: جمع ربع، وهى الدار.
(2) الالة: جميع أداة الحرب.
(3) الغرار: حد الرمح والسيف والسهم.
يريد: سيفا.
(36 - السيرة 3) (*)
خالد ناوشوهم شيئا من قتال، فقتل كرز بن جابر أحد بنى محارب بن فهر وحبيش (1) بن خالد بن ربيعة بن أصرم حليف بنى منقذ، وكانا في جيش خالد، فشذا عنه فسلكا غير طريقه فقلا جميعا، وكان قتل كرز قبل حبيش.
قالا: وقتل من خيل خالد أيضا سلمة بن الميلاء الجهنى، وأصيب من المشركين قريب من اثنى عشر أو ثلاثة عشر.
ثم انهزموا فخرج حماس منهزما حتى دخل بيته ثم قال لامرأته: أغلقى على بابى.
قالت: فأين ما كنت تقول ؟ فقال: إنك لو شهدت يوم الخندمه * إذ فر صفوان وفر عكرمه وأبو يزيد قائم كالمؤتمه * واستقبلتهم بالسيوف المسلمه (2) يقطعن كل ساعد وجمجمه * ضربا فلا يسمع إلا غمغمه لهم نهيت خلفنا وهمهمه * لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه (3) قال ابن هشام: وتروى هذه الابيات للرعاش الهذلى.
قال: وكان شعار المهاجرين يوم الفتح وحنين والطائف: " يا بنى عبدالرحمن " وشعار الخزرج: " يا بنى عبدالله " وشعار الاوس: " يا بنى عبيد الله ".
وقال الطبراني: حدثنا على بن سعيد الرازي، حدثنا أبو حسان الزيادي، حدثنا شعيب بن صفوان، عن عطاء بن السائب، عن طاووس، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله حرم هذا البلد يوم خلق السموات والارض، وصاغه يوم صاغ الشمس والقمر، وما حياله من السماء حرام، وإنه لا يحل لاحد قبلى، وإنما حل لى ساعة من نهار ثم عاد كما كان ".
__________
(1) الاصل: حنيش.
وهو تحريف وما أثبته عن الروض الانف.
(2) أبو يزيد: يريد سهيل بن عمرو، وكان خطيب قريش.
والمؤتمة: الاسطوانة، من قولهم وتم وأتم إذا ثبت.
وتروى الموتمة.
بالواو بدل الهمز، ومعناها: الايم التى مات عنها زوجها.
الروض 2 / 272 (3) النهيت: الزئير.
(*)
فقيل له: هذا خالد بن الوليد يقتل ؟ فقال: " قم يا فلان فأت خالد بن الوليد فقل له فليرفع يديه من القتل ".
فأتاه الرجل فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اقتل من قدرت عليه ! فقتل سبعين إنسانا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأرسل إلى خالد فقال: " ألم أنهك عن القتل ؟ " فقال: جاءني فلان فأمرني أن أقتل من قدرت عليه.
فأرسل إليه: " ألم آمرك ؟ " قال: أردت أمرا وأراد الله أمرا فكان أمر الله فوق أمرك، وما استطعت إلا الذى كان.
فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فما رد عليه شيئا.
* * * قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى أمرائه ألا يقاتلوا (1) إلا من قاتلهم، غير أنه أهدر دم نفر سماهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة وهم: عبدالله بن سعد بن أبى سرح، كان قد أسلم وكتب الوحى ثم ارتد، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد أهدر دمه فر إلى عثمان وكان أخاه من الرضاعة، فلما جاء به ليستأمن له صمت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال: " نعم ".
فلما انصرف مع عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله: " أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رأني قد صمت فيقتله " فقالوا: يا رسول الله هلا أومأت إلينا ؟ فقال: " إن النبي لا يقتل بالاشارة ".
وفى رواية (2): " إنه لا ينبغى لنبى أن تكون له خائنة الاعين ".
قال ابن هشام: وقد حسن إسلامه بعد ذلك وولاه عمر بعض أعماله ثم ولاه عثمان.
__________
(1) ا: يقتلوا.
(2) ا: وفى رواية لهذا.
(*)
قلت: ومات وهو ساجد في صلاة الصبح أو بعد انقضاء صلاتها في بيته.
قال ابن إسحاق: وعبد الله بن خطل رجل من بنى تيم بن غالب.
قلت: ويقال إن اسمه عبدالعزى بن خطل، ويحتمل أنه كان كذلك ثم لما أسلم سمى عبدالله.
ولما أسلم بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا (1) وبعث معه رجلا من الانصار، وكان معه مولى له فغضب عليه غضبة فقتله (2)، ثم ارتد مشركا، وكان له قينتان فرتنى وصاحبتها، فكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلهذا أهدر دمه ودم قينتيه، فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة، اشترك في قتله أبوبرزة الاسلمي وسعيد بن حريث المخزومى، وقتلت إحدى قينتيه واستؤمن للاخرى.
قال: والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد قصى، وكان ممن يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ولما تحمل العباس بفاطمة وأم كلثوم ليذهب بهما إلى المدينة يلحقهما برسول الله صلى الله عليه وسلم أول الهجرة نخس بهما الحويرث هذا الجمل الذى هما عليه فسقطتا إلى الارض، فلما أهدر دمه قتله على بن أبى طالب.
قال: ومقيس بن صبابة (3) لانه قتل قاتل أخيه خطأ بعد ما أخذ الدية، ثم ارتد مشركا، قتله رجل من قومه يقال له نميلة بن عبدالله.
قال: وسارة مولاة لبنى عبدالمطلب ولعكرمة بن أبى جهل، لانها كانت تؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى (4) بمكة.
قلت: وقد تقدم عن بعضهم أنها التى تحملت الكتاب من حاطب بن أبى بلتعة، وكأنها عفى عنها أو هربت ثم أهدر دمها.
والله أعلم.
فهربت حتى استؤمن لها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنها فعاشت إلى زمن
__________
(1) مصدقا: جابيا للصدقات (2) ا: ثم قتله.
(3) في القاموس: ابن حبابة.
(4) كذا ولعلها: وهو.
(*)
عمر، فأوطأها رجل [ فرسا (1) ] فماتت.
وذكر السهيلي أن فرتنى أسلمت أيضا.
قال ابن إسحاق: وأما عكرمة بن أبى جهل فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام واستأمنت له من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه، فذهبت في طلبه حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم.
* * * وقال البيهقى: أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمس الفقيه، أنبأنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أنبأنا أحمد بن يوسف السلمى، حدثنا أحمد بن المفضل، حدثنا أسباط بن نصر الهمداني.
قال: زعم السدى عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: " اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة " وهم: عكرمة بن أبى جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح.
فأما عبدالله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عمارا وكان أشب الرجلين فقتله.
وأما مقيس فأدركه الناس في السوق فقتلوه، وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم قاصف، فقال أهل السفينة لاهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغنى عنكم شيئا هاهنا.
فقال عكرمة: والله لئن لم ينج في البحر إلا الاخلاص فإنه لا ينجى في البر غيره ! اللهم إن لك على
عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتى محمدا حتى أضع يدى في يده فلاجدنه عفوا كريما [ فجاء (2) ] فأسلم.
وأما عبدالله بن سعد بن أبى سرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سقطت من ا.
(2) سقطت من ا.
(*)
فقال: يا رسول الله بايع عبدالله.
فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: " أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رأني كففت يدى عن بيعته فيقتله ؟ " فقالوا: ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينك ؟ فقال: " إنه لا ينبغى أن يكون لنبى خائنة أعين (1) ".
ورواه أبو داود والنسائي من حديث أحمد بن المفضل به نحوه.
وقال البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو العباس الاصم، أنبأنا أبو زرعة الدمشقي، حدثنا الحسن بن بشر الكوفى، حدثنا الحكم بن عبدالملك، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة إلا أربعة: عبدالعزى بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح، وأم سارة.
فأما عبدالعزى بن خطل فإنه قتل وهو متعلق بأستار الكعبة.
قال: ونذر رجل أن يقتل عبدالله بن سعد بن أبى سرح إذا رآه، وكان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له، فلما أبصر به الانصاري اشتمل على السيف، ثم أتاه فوجده في حلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يتردد ويكره أن يقدم عليه، فبسط النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه، ثم قال للانصاري: " قد انتظرتك أن توفى بنذرك ؟ " قال: يا رسول الله هبتك، أفلا أومضت إلى ؟ قال: " إنه ليس
للنبى أن يومض ".
وأما مقيس بن صبابة، فذكر قصته، في قتله رجلا مسلما بعد إسلامه ثم ارتداده بعد ذلك.
قال: وأما أم سارة فكانت مولاة لقريش، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فشكت
__________
(1) غير ا: لا ينبغى لنبى أن تكون له خائنة الاعين.
(*)
إليه الحاجة فأعطاها شيئا، ثم بعث معها رجل بكتاب إلى أهل مكة.
فذكر قصة حاطب ابن أبى بلتعة.
* * * وروى محمد بن إسحاق عن عبدالله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن مقيس ابن صبابة قتل أخوه هشام يوم بنى المصطلق، قتله رجل من المسلمين وهو يظنه مشركا، فقدم مقيس مظهرا للاسلام ليطلب دية أخيه، فلما أخذها عدا على قاتل أخيه فقتله ورجع إلى مكة مشركا، فلما أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه قتل وهو بين الصفا والمروة.
وقد ذكر ابن إسحاق والبيهقي شعره حين قتل قاتل أخيه وهو قوله: شفى النفس من قد بات (1) بالقاع مسندا * يضرج ثوبيه دماء الاخادع وكانت هموم النفس من قبل قتله * تلم وتنسيني وطاء المضاجع قتلت به فهرا (2) وغرمت عقله * سراة بنى النجار أرباب فارع حللت به نذري (3) وأدركت ثؤرتى * وكنت إلى الاوثان أول راجع قلت: وقيل: إن القينتين اللتين أهدر دمهما كانتا لمقيس بن صبابة هذا، وأن ابن عمه قتله بين الصفا والمروة.
وقال بعضهم: قتل ابن خطل الزبير بن العوام رضى الله عنه.
* * * وقال ابن إسحاق: حدثنى سعيد بن أبى هند، عن أبى مرة مولى عقيل بن أبى طالب أن أم هانئ ابنة أبى طالب قالت: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فر إلى رجلان من أحمائي [ من بنى مخزوم (4) ].
__________
(1) سبقت الرواية ص 298 أن قد بات.
(2) سبقت الرواية: ثأرت به.
(3) سبقت الرواية: حللت به وترى.
(4) سقطت من ا.
(*)
قال ابن هشام: هما الحارث بن هشام وزهير بن أبى أمية بن المغيرة.
قال ابن إسحاق: وكانت عند هبيرة بن أبى وهب المخزومى، قالت: فدخل على أخى على بن أبى طالب فقال: والله لاقتلنهما، فأغلقت عليهما باب بيتى، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها لاثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به ثم صلى ثمانى ركعات من الضحى ثم انصرف إلى فقال: " مرحبا وأهلا بأم هانئ ما جاء بك ؟ " فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي، فقال: " قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت فلا نقتلهما (1) ".
وقال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبى ليلى، قال: ما أخبرنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلى الضحى غير أم هانئ، فإنها ذكرت أنه يوم فتح مكة اغتسل في بيتها ثم صلى ثمانى ركعات، قالت: ولم أره صلى صلاة أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود.
وفى صحيح (2) مسلم من حديث الليث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن سعد بن أبى هند، أن أبا مرة مولى عقيل حدثه أن أم هانئ بنت أبى طالب حدثته أنه لما كان عام الفتح فر إليها رجلان من بنى مخزوم فأجارتهما، قالت: فدخل علي علي فقال: أقتلهما،
فلما سمعته أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة، فلما رأني رحب وقال: " ما جاء بك ؟ " قلت: يا نبى الله كنت أمنت رجلين من أحمائي فأراد علي قتلهما.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ " ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غسله فسترت عليه فاطمة، ثم أخذ ثوبا فالتحف به، ثم صلى ثمانى ركعات سبحة (3) الضحى.
__________
(1) غير ا: يقتلهما.
(2) ا: وفى حديث مسلم.
(3) السبحة: النافلة.
(*)
وفى رواية أنها دخلت عليه وهو يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب، فقال: " من هذه ؟ " قالت: أم هانئ.
قال: " مرحبا بأم هانئ " قالت: يا رسول الله زعم ابن أمي علي ابن أبى طالب أنه قاتل رجلين قد أجرتهما ؟ ! فقال: " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ " قالت: ثم صلى ثمانى ركعات..وذلك ضحى فظن كثير من العلماء أن هذه كانت صلاة الضحى.
وقال آخرون: بل كانت هذه صلاة الفتح، وجاء التصريح بأنه كان يسلم من كل ركعتين.
وهو يرد على السهيلي وغيره ممن يزعم أن صلاة الفتح تكون ثمانيا بتسليمة واحدة، وقد صلى سعد بن أبى وقاص يوم فتح المدائن في إيوان كسرى ثمانى ركعات يسلم من كل ركعتين.
ولله الحمد.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبدالله بن أبى ثور، عن صفية بنت شيبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده، [ فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد
استكف (1) له الناس في المسجد ] (2).
وقال موسى بن عقبة: ثم سجد سجدتين ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها، ودعا بماء فشرب منها وتوضأ، والناس يبتدرون وضوءه، والمشركون يتعجبون من ذلك ويقولون: ما رأينا ملكا قط ولا سمعنا به - يعنى مثل هذا - وأخر المقام إلى مكانه اليوم وكان ملصقا بالبيت.
__________
(1) استكف: اجتمع.
(2) هذه الجملة مؤخرة في: أ بعد قوله: وكان ملصقا بالبيت.
(*)
قال محمد بن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة فقال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو موضوع تحت قدمى هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدية مغلظة مائة من الابل، أربعون منها في بطونها أولادها، يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس (1) من آدم وآدم من تراب " ثم تلا هذه الآية: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى " الآية كلها.
ثم قال: " يا معشر قريش، ما ترون أنى فاعل فيكم ؟ " قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم.
قال: " اذهبوا فأنتم الطلقاء ".
ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي بن أبى طالب ومفتاح الكعبة في يده فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أين عثمان بن طلحة ؟ " فدعى له فقال: " هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء ".
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن جدعان، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو على درج الكعبة:
" الحمد لله الذى صدق وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده، ألا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط أو العصا فيه مائة من الابل ".
وقال مرة [ أخرى (2) ]: " مغلظة فيها أربعون خلفة في بطونها أولادها، ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية ودم ودعوى " وقال مرة: " ومال تحت قدمى هاتين، إلا ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت فإنهما أمضيتهما لاهلهما على ما كانت ".
__________
(1) أ: الناس ابن آدم.
(2) ليست في أ.
(*)
وهكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث على بن [ زيد بن (1) ] جدعان عن القاسم بن ربيعة بن جوشن الغطفانى، عن ابن عمر به.
* * * قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، ورأى إبراهيم مصورا في يده الازلام يستقسم بها، فقال: " قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالازلام [ ما شأن إبراهيم والازلام (1) ]: " ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين " ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست.
وقال الامام أحمد: حدثنا سليمان، أنبأنا عبدالرحمن، عن موسى بن عقبة، عن أبى الزبير، عن جابر قال: كان في الكعبة صور، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم [ عمر بن الخطاب (1) ] أن يمحوها فبل عمر ثوبا ومحاها به.
فدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيها منها شئ.
وقال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن أبى معمر، عن عبدالله - هو ابن مسعود - قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلثمائة نصب، فجعل يطعنها
بعود في يده ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل.
جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ".
وقد رواه مسلم من حديث ابن عيينة.
وروى البيهقى، عن ابن إسحاق، عن عبدالله بن أبى بكر، عن على بن عبدالله ابن عباس، عن أبيه، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح مكة وعلى
__________
(1) سقطت من المطبوعة.
(*)
الكعبة ثلثمائة صنم، فأخذ قضيبه، فجعل يهوى به إلى الصنم وهو يهوى حتى مر عليها كلها.
ثم روى من طريق سويد بن [ سعيد ] عن القاسم بن عبدالله، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة وجد بها ثلثمائة وستين صنما، فأشار إلى كل صنم بعصا وقال: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " فكان لا يشير إلى صنم إلا ويسقط من غير أن يمسه بعصاه.
ثم قال: وهذا وإن كان ضعيفا فالذي قبله يؤكده.
وقال حنبل بن إسحاق: أنبأنا أبو الربيع، عن يعقوب القمى، حدثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جاءت عجوز شمطاء حبشية تخمش وجهها وتدعو بالويل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تلك نائلة أيست أن تعبد ببلدكم هذا أبدا ".
وقال ابن هشام: حدثنى من أثق به من أهل الرواية في إسناد له عن ابن شهاب، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة [ عن ابن عباس (2) ] أنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته فطاف عليها وحول الكعبة أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الاصنام ويقول:
" جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقى منها صنم إلا وقع، فقال تميم بن أسد الخزاعى: وفى الاصنام معتبر وعلم * لمن يرجو الثواب أو العقابا وفى صحيح مسلم عن شيبان بن فروخ، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن
__________
(1) من ابن هشام.
(*)
عبد الله بن رباح، عن أبى هريرة، في حديث فتح مكة قال: وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الحجر فاستلمه وطاف بالبيت، وأتى إلى صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه، وفى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوس وهو آخذ بسيتها (1) فلما أتى على الصنم فجعل يطعن في عينه ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " فلما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت، فرفع يديه وجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو.
وقال البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبى، حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وفى أيديهما الازلام (2)، فقال: " قاتلهم الله ! لقد علموا ما استقسما بها قط ".
ثم دخل البيت فكبر في نواحى البيت وخرح ولم يصل.
تفرد به البخاري دون مسلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا همام، حدثنا عطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وفيها ست سوار، فقام إلى كل سارية
فدعا ولم يصل فيه.
ورواه مسلم عن شيبان بن فروخ، عن همام بن يحيى العوذى، عن عطاء به.
وقال الامام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو ابن الحارث، أن بكيرا حدثه عن كريب، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل البيت وجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم، فقال: " أما
__________
(1) السية: ما عطف من طرفي القوس.
(2) أ: من الازلام.
(*)
هم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، هذا إبراهيم مصورا، فما باله يستقسم ؟ ! ".
وقد رواه البخاري والنسائي من حديث ابن وهب به.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، أخبرني عثمان الخزرجي، أنه سمع مقسما يحدث عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فدعا في نواحيه، ثم خرج فصلى ركعتين.
تفرد به أحمد.
وقال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل، أنبأنا ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في البيت ركعتين.
قال البخاري: وقال الليث، حدثنا يونس، أخبرني نافع، عن عبدالله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة ابن زيد، ومعه عثمان بن طلحة من الحجبة، حتى أناخ في المسجد، فأمر أن يؤتى بمفتاح الكعبة، فدخل ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فمكث فيه نهارا طويلا، ثم خرج فاستبق الناس، فكان عبدالله بن عمر أول من دخل فوجد بلالا وراء الباب قائما، فسأله: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأشار له إلى المكان الذى صلى فيه.
قال عبدالله: ونسيت أن أسأله كم صلى من سجدة.
ورواه الامام أحمد عن هشيم، حدثنا غير واحد وابن عون، عن نافع، عن ابن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الفضل بن عباس وأسامة بن زيد وعثمان ابن طلحة وبلال فأمر بلالا فأجاف (1) عليهم الباب فمكث فيه ما شاء الله ثم خرج.
__________
(1) أجاف: أغلق.
(*)
قال ابن عمر: فكان أول من لقيت منهم بلالا فقلت: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: هاهنا بين الاسطوانتين.
قلت: وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أنه عليه السلام صلى في الكعبة تلقاء وجهة بابها من وراء ظهره، فجعل عمودين عن يمينه، وعمودا عن يساره، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، وكان بينه وبين الحائط الغربي مقدار ثلاثة أذرع.
* * * قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال، فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا فسمع منه ما يغيظه ! فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته.
فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمت لاخبرت عنى هذه الحصا.
فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " قد علمت الذى قلتم " ثم ذكر ذلك لهم.
فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله ! ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثنى والدى، حدثنى بعض آل جبير
ابن مطعم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة أمر بلالا فعلا على الكعبة على ظهرها فأذن عليها بالصلاة، فقال بعض بنى سعيد بن العاص: لقد أكرم الله سعيدا إذ قبضه قبل أن يسمع هذا الاسود على ظهر الكعبة ! وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، قال ابن أبى مليكة: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن يوم الفتح فوق الكعبة، فقال رجل من قريش للحارث
ابن هشام: ألا ترى إلى هذا العبد أين صعد ؟ فقال: دعه فإن يكن الله يكرهه فسيغيره.
وقال يونس بن بكير وغيره، عن هشام بن عرون، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالا عام الفتح فأذن على الكعبة ليغيظ به (1) المشركين.
* * * وقال محمد بن سعد، عن الواقدي، عن محمد بن حرب، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن أبى إسحاق، أن أبا سفيان بن حرب بعد فتح مكة كان جالسا فقال في نفسه: لو جمعت لمحمد جمعا ؟ فإنه ليحدث نفسه بذلك إذ ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين كتفيه وقال: " إذا يخزيك الله ! " قال: فرفع رأسه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على رأسه فقال: ما أيقنت أنك نبى حتى الساعة.
قال البيهقى: وقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ - إجازة - أنبأنا أبو حامد أحمد بن الحسن المقرى، أنبأنا أحمد بن يوسف السلمى، حدثنا محمد بن يوسف الفريابى، حدثنا يونس ابن أبى إسحاق عن أبى السفر، عن ابن عباس، قال: رأى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى والناس يطأون عقبيه، فقال بينه وبين نفسه: لو عاودت هذا الرجل القتال ؟ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضرب بيده في صدره فقال: " إذا يخزيك الله ".
فقال: أتوب إلى الله وأستغفر الله مما تفوهت به.
ثم روى البيهقى من طريق ابن خزيمة وغيره، عن أبى حامد بن الشرقي، عن أبى محمد ابن يحيى الذهلى، حدثنا موسى بن أعين الجزرى، حدثنا أبى، عن إسحاق بن راشد، عن سعيد بن المسيب، قال: لما كان ليلة دخل الناس مكة ليلة الفتح، لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا، فقال أبو سفيان لهند: أترى هذا من الله ؟
__________
(1) ا: بهم.
(*)
قالت: نعم هذا من الله.
قال: ثم أصبح أبو سفيان فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قلت لهند: أترى هذا من الله ؟ قالت: نعم هذا من الله " فقال أبو سفيان: أشهد أنك عبدالله ورسوله، والذى يحلف به ما سمع قولى هذا أحد من الناس غير هند.
وقال البخاري: حدثنا إسحاق، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، أخبرني حسن ابن مسلم، عن مجاهد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والارض فهى حرام بحرام الله إلى يوم القيامة لا تحل لاحد قبلى ولا تحل لاحد بعدى، ولم تحلل لى إلا ساعة من الدهر، لا ينفر صيدها ولا يعضد شوكها ولا يختلى خلاؤها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد " فقال العباس بن عبدالمطلب: إلا الاذخر يا رسول الله، فإنه لابد منه للدفن والبيوت ؟ فسكت ثم قال: " إلا الاذخر فإنه حلال ".
وعن ابن جريج، أخبرني عبد الكريم - هو ابن مالك الجزرى - عن عكرمة، عن ابن عباس بمثل هذا أو نحو هذا ورواه أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
تفرد به البخاري من هذا الوجه الاول، وهو مرسل، ومن هذا الوجه الثاني أيضا.
* * * وبهذا وأمثاله استدل من ذهب إلى أن مكة فتحت عنوة، وللوقعة التى كانت
في الخندمة كما تقدم.
وقد قتل فيها قريب من عشرين نفسا من المسلمين والمشركين، وهى ظاهرة في ذلك، وهو مذهب جمهور العلماء.
والمشهور عن الشافعي أنها فتحت صلحا، لانها لم تقسم، ولقوله صلى الله عليه وسلم (37 - السيرة 3)
ليلة الفتح: " من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن دخل الحرم فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن ".
وموضع تقرير هذه المسألة في كتاب الاحكام الكبيز إن شاء الله تعالى.
وقال البخاري: حدثنا سعيد بن شرحيبل، حدثنا الليث، عن المقبرى، عن أبى شريح الخزاعى، أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لى أيها الامير أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناى ووعاه قلبى وأبصرته عيناى حين تكلم به، أنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: " إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرا، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لى فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالامس، فليبلغ الشاهد الغائب ".
فقيل لابي شريح: ماذا قال لك عمرو ؟ قال: قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم، ولا فارا بجزية.
وروى البخاري أيضا، ومسلم عن قتيبة، عن الليث بن سعد به نحوه.
وذكر ابن إسحاق أن رجلا يقال له ابن الاثوع قتل رجلا في الجاهلية من خزاعة يقال له احمر بأسا (1)، فلما كان يوم الفتح قتلت خزاعة ابن الاثوع (1) وهو بمكة، قتله خراش بن أمية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، لقد كثر القتل إن نفع، لقد قتلتم رجلا لادينه ".
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالرحمن بن حرملة الاسلمي، عن سعيد بن المسيب قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع خراش بن أمية قال: " إن خراشا
__________
(1) احمر بأسا: اسم مركب، كتأبط شرا.
(*)
لقتال ".
وقال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن أبى سعيد المقبرى، عن أبى شريح الخزاعى (1) قال: لما قدم عمرو بن الزبير (2) مكة لقتال أخيه عبدالله بن الزبير جئته فقلت له: يا هذا إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيبا فقال: " يأيها الناس إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والارض، فهى حرام من حرام الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرا، لم تحل لاحد كان قبلى ولا تحل لاحد يكون بعدى، ولم تحل لى إلا هذه الساعة غضبا على أهلها، ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالامس، فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل فيها فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم، يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر إن نفع، لقد قتلتم قتيلا لادينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاءوا فدم قاتله وإن شاءوا فعقله.
" ثم ودى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذى قتلته خزاعة.
فقال عمرو لابي شريح: انصرف أيها الشيخ فنحن أعلم بحرمتها منك، إنها لا تمنع سافك دم، ولا خالع طاعة، ولا مانع جزية.
فقال أبو شريح: إنى كنت شاهدا وكنت غائبا، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ شاهدنا غائبنا وقد أبلغتك فأنت وشأنك.
* * *
قال ابن هشام: وبلغني أن أول قتيل وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
__________
(1) ا: العدوى.
(2) قال السهيلي: هذا وهم وصوابه عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية وهو الاشدق.
الروض 2 / 277.
(*)
الفتح جنيدب بن الاكوع، قتلته بنو كعب فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة (1) ناقة.
وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى، عن حسين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: لما فتحت مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كفوا السلاح إلا خزاعة من بنى بكر " فأذن لهم حتى صلى العصر ثم قال: " كفوا السلاح " فلقى رجل من خزاعة رجلا من بنى بكر من غد بالمزدلفة فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خطيبا.
فقال، فرأيته وهو مسند ظهره إلى الكعبة قال: " إن أعدى الناس على الله من قتل في الحرم، أو قتل غير قاتله أو قتل بذحول (2) الجاهلية " وذكر تمام الحديث.
وهذا غريب جدا.
وقد روى أهل السنن بعض هذا الحديث.
فأما ما فيه من أنه رخص لخزاعة أن تأخذ بثأرها من بنى بكر إلى العصر من يوم الفتح فلم أره إلا في هذا الحديث، وكأنه، إن صح، من باب الاختصاص لهم مما كانوا أصابوا منهم ليلة الوتير.
والله أعلم.
وروى الامام أحمد، عن يحيى بن سعيد، وسفيان بن عيينة ويزيد بن عبيد، كلهم عن زكريا بن أبى زائدة عن عامر الشعبى، عن الحارث بن مالك بن البرصاء الخزاعى، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم فتح مكة: " لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة ".
ورواه الترمذي عن بندار، عن يحيى بن سعيد القطان به.
وقال: حسن صحيح.
__________
(1) أ: فوداه مائة ناقة.
(2) الذحول: جمع ذحل، وهو الثأر.
(*)
قلت: فإن كان نهيا فلا إشكال، وإن كان نفيا فقال البيهقى: معناه على كفر أهلها.
وفى صحيح مسلم من حديث زكريا بن أبى زائدة، عن عامر الشعبى، عن عبدالله ابن مطيع، عن أبيه مطيع بن الاسود العدوى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: " لا يقتل قرشي صبرا بعد اليوم إلى يوم القيامة " والكلام عليه كالاول سواء.
* * * قال ابن هشام: وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة ودخلها قام على الصفا يدعو وقد أحدقت به الانصار فقالوا فيما بينهم: أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها ؟ فلما فرغ من دعائه قال: " ماذا قلتم ؟ " قالوا: لا شئ يا رسول الله.
فلم يزل بهم حتى أخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " معاذ الله ! المحيا محياكم والممات مماتكم ".
وهذا الذى علقه ابن هشام قد أسنده الامام أحمد بن حنبل في مسنده فقال: حدثنا بهز وهاشم قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت، وقال هاشم: حدثنى ثابت البنانى، حدثنا عبدالله بن رباح قال: وفدت وفود إلى معاوية أنا فيهم وأبو هريرة، وذلك في رمضان، فجعل بعضنا يصنع لبعض الطعام، قال: وكان أبو هريرة يكثر ما يدعونا، قال هاشم: يكثر أن يدعونا إلى رحله.
قال: فقلت: ألا أصنع طعاما فأدعوهم إلى رحلى ؟ قال: فأمرت بطعام يصنع، فلقيت أبا هريرة من العشاء قال: قلت: يا أبا هريرة الدعوة (2)
عندي الليلة.
قال: استبقتني (1) ؟ قال هاشم: قلت: نعم فدعوتهم فهم عندي.
__________
(1) الاصل: استبقني.
(2) الاصل: الدعوى.
(*)
فقال أبو هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الانصار ؟ فذكر فتح مكة، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة، قال: فبعث الزبير على أحد المجنبتين وبعث خالدا على المجنبة الاخرى وبعث أبا عبيدة على الجسر، وأخذوا بطن الوادي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته وقد وبشت (1) قريش أوباشها، قال: قالوا: نقدم هؤلاء، فإن كان لهم شئ كنا معهم، وإن أصيبوا أعطيناه الذى سألنا.
قال أبو هريرة: فنظر فرأني فقال: " يا أبا هريرة " فقلت: لبيك رسول الله، فقال: " اهتف لى بالانصار ولا يأتنى إلا أنصارى " فهتفت بهم فجاءوا فأطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم ؟ " ثم قال بيديه إحداهما على الاخرى: " احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا ".
قال: فقال أبو هريرة: فانطلقنا فما يشاء واحد منا أن يقتل منهم ما شاء، وما أحد منهم يوجه إلينا منهم شيئا.
قال: فقال أبو سفيان: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم ! قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن " قال: فغلق الناس أبوابهم.
قال: وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحجر فاستلمه، ثم طاف بالبيت قال: وفى يده قوس آخذ بسية القوس، قال: فأتى في طوافه على صنم إلى جنب البيت يعبدونه.
قال: فجعل يطعن بها في عينه ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن
الباطل كان زهوقا ".
__________
(1) وبشت: جمعت.
(*)
قال: ثم أتى الصفا فعلاه حيث ينظر إلى البيت، فرفع يديه فجعل يذكر الله بما شاء أن يذكره ويدعوه.
قال: والانصار تحت.
قال: يقول بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته.
قال أبو هريرة: وجاء الوحى، وكان إذا جاء لم يخف علينا، فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضى.
قال هاشم: فلما قضى الوحى رفع رأسه، ثم قال: " يا معشر الانصار، أقلم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته ؟ قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله.
قال: " فما أسمى إذا ؟ ! كلا إنى عبدالله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم والممات مماتكم ".
قال: فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذى قلنا إلا الضن بالله ورسوله.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم " وقد رواه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة.
زاد النسائي: وسلام ابن مسكين.
ورواه مسلم أيضا من حديث حماد بن سلمة ثلاثتهم عن ثابت، عن عبدالله بن رباح الانصاري نزيل البصرة، عن أبى هريرة به نحوه.
* * * وقال ابن هشام: وحدثني - يعنى بعض أهل العلم - أن فضالة بن عمير بن الملوح - يعنى الليثى - أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما
دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضالة ؟ " قال: نعم فضالة يا رسول الله.
قال: " ماذا كنت تحدث به نفسك ؟ قال: لا شئ، كنت أذكر الله.
قال: فضحك
النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: " استغفر الله " ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شئ أحب إلى منه.
قال فضالة: فرجعت إلى أهلى فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها فقالت: هلم إلى الحديث ؟ فقال: لا وانبعث فضالة يقول: قالت هلم إلى الحديث فقلت لا * يأبى عليك الله والاسلام لو ما رأيت محمدا وقبيله * بالفتح يوم تكسر الاصنام لرأيت دين الله أضحى بينا * والشرك يغشى وجهه الاظلام قال ابن إسحق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة [ عن عائشة (1) ] قالت: خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن، فقال عمير بن وهب: يا نبى الله إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر، فأمنه يا رسول الله صلى الله عليك.
فقال: " هو آمن ".
فقال: يا رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك.
فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التى دخل فيها مكة.
فخرج بها عمير حتى أدركه وهو يريد أن يركب في البحر، فقال: يا صفوان فداك أبى وأمى الله الله في نفسك أن تهلكها، هذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جئتك به.
قال: ويلك اعزب عنى فلا تكلمني.
قال: أي صفوان فداك أبى وأمى أفضل الناس وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس، ابن عمك عزه عزك وشرفه
__________
(1) سقط من ا.
(*)
شرفك وملكه ملكك.
قال: إنى أخافه على نفسي.
قال: هو أحلم من ذلك وأكرم.
فرجع معه حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك قد أمنتنى ؟ قال: " صدق " قال: فاجعلني بالخيار فيه شهرين.
قال: " أنت بالخيار أربعة أشهر ".
ثم حكى ابن إسحاق عن الزهري أن فاختة بنت الوليد امرأة صفوان وأم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبى جهل وقد ذهبت وراءه إلى اليمن فاسترجعته فأسلم، فلما أسلما أقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتهما بالنكاح الاول.
قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن عبدالرحمن بن حسان بن ثابت قال: رمى حسان ابن الزبعرى وهو بنجران ببيت واحد ما زاد عليه: لاتعد من رجلا أحلك بغضه * نجران في عيش أحذ لئيم (1) فلما بلغ ذلك ابن الزبعرى خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وقال حين أسلم: يا رسول المليك إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنا بور إذ أبارى الشيطان في سنن الغى * ومن مال ميله مغرور (2) آمن اللحم والعظام لربى * ثم قلبى الشهيد أنت النذير إننى عنك زاجر ثم حيا * من لؤى وكلهم مغرور قال ابن إسحاق: وقال عبدالله بن الزبعرى أيضا حين أسلم: منع الرقاد بلابل وهموم * والليل معتلج الرواق بهيم مما أتانى أن أحمد لامنى * فيه فبت كأننى محموم
__________
(1) الاحذ: القليل المنقطع.
(2) غير أ: مثبور.
(*)

روابط عرض كتاب السيرة النبوية لابن كثير
3.   3. ج1/ 3 ..
-------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق