الجمعة، 15 يونيو 2018

6. . السيرة النبوية لاب كثير ج2//2..

ص6 .السيرة النبوية لابن كثير ج2/2.

 باب مجادلة المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقامة الحجة الدامغة عليهم واعترافهم في أنفسهم بالحق، وإن أظهروا المخالفة عنادا وحسدا وبغيا وجحودا    قال إسحاق بن راهويه: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب السختيانى، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا.
قال: لم ؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قبله ! قال: قد علمت قريش أنى من أكثرها مالا.
قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له.
قال: وماذا أقول ؟ فو الله ما منكم رجل أعرف بالاشعار منى، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده منى، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذى يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذى يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.
قال: قف عنى حتى أفكر فيه.
فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره.
فنزلت " ذرنى ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدوا وبنين شهودا (1) " الآيات.
هكذا رواه البيهقى عن الحاكم، عن عبد الله بن محمد الصنعانى بمكة، عن إسحاق به.
وقد رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة مرسلا.
فيه أنه قرأ عليه " إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون (2) ".
وقال البيهقى: عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق حدثنى محمد بن أبى محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة عن ابن عباس، أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم (3) فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر
صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قول بعضكم بعضا (4).
فقيل: يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقوم به (5).
__________
(1) سورة المدثر 11 - 13.
(2) سورة النحل 90.
(3) ط: المواسم.
محرفة.
(4) ابن هشام: ويرد قولكم بعضه بعضا.
(5) ابن هشام والمراجع: نقول.
(*)
فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع فقالوا: نقول كاهن.
فقال: ما هو بكاهن: رأيت الكهان، فما هو بزمزمة الكهان.
فقالوا: نقول مجنون.
فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
فقالوا: نقول شاعر.
فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.
قالوا: فنقول هو ساحر.
قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا بعقده.
قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق (1)، وإن فرعه لجني (2)، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لان تقولوا: هذا ساحر، فتقولوا هو ساحر يفرق بين المرء ودينه، وبين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وعشيرته.
فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون للناس حين (3) قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره.
وأنزل الله في الوليد " ذرنى ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا (4) " الآيات، وفى أولئك النفر الذين جعلوا القرآن عضين: " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون (5) ".
قلت: وفى ذلك قال الله تعالى إخبارا عن جهلهم وقلة عقلهم: " بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه، بل هو شاعر، فليأتنا بآية كما أرسل الاولون (6) " فحاروا ماذا يقولون
__________
(1) خ ط: لمغدق، وما أثبته عن ابن هشام والعذق: النخلة (2) ابن هشام: لجناة وهو ما يجنى من الثمر (3) الاصل: حتى، وما أثبته عن ابن هشام.
(4) سورة المدثر 11 - 13 (5) سورة الحجر 92، 93 (6) سورة الانبياء 5 (*)
فيه، فكل شئ يقولونه باطل.
لان من خرج عن الحق مهما قاله أخطأ.
قال الله تعالى: " انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (1) ".
وقال الامام عبد بن حميد في مسنده: حدثنى أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا على ابن مسهر، عن الاجلح، هو ابن عبد الله الكندى، عن الذيال بن حرملة الاسدي، عن جابر بن عبد الله، قال: اجتمع قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذى فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه.
فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة.
فقالوا: أنت يا أبا الوليد.
فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التى عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة (2) قط أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل ! إن كان إنما
بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فرغت ؟ " قال: نعم.
فقال رسول الله
__________
(1) سورة الاسراء 48 (2) السخلة: تطلق على الذكر والانثى من أولاد الضأن.
(*)
صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم.
كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون " إلى أن بلغ " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ".
فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا ؟ قال: لا.
فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك ؟ قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته.
قالوا: فهل أجابك ؟ فقال: نعم.
ثم قال: لا والذى نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
قالوا: ويلك ! يكلمك الرجل بالعربية لا تدرى ما قال ؟ قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة.
وقد رواه البيهقى وغيره عن الحاكم، عن الاصم عن عباس الدوري، عن يحيى بن معين، عن محمد بن فضيل،: عن الاجلح به.
وفيه كلام.
وزاد: وإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسا ما بقيت.
وعنده أنه لما قال: " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " أمسك عتبة (1) على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم.
فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا صبا إلى محمد وأعجبه طعامه،
وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه فأتوه.
فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد.
__________
(1) ط: عقبة.
وهو تحريف.
(*)
فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا.
وقال: لقد علمتم أنى من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته، وقص عليهم القصة، فأجابني بشئ والله ما هو بسخر ولا بشعر ولا كهانة، قرأ " بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحم الرحيم " حتى بلغ " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب.
ثم قال البيهقى: عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن محمد بن إسحاق، حدثنى يزيد بن أبى زياد مولى بنى هاشم، عن محمد بن كعب قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدا حليما، قال ذات يوم وهو جالس في نادى قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها ويكف عنا.
قالوا: بلى يا أبا الوليد ! فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث فيما قال له عتبة وفيما عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من المال والملك وغير ذلك.
وقال زياد بن إسحاق: فقال عتبة: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكف عنا.
وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون.
فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم إليه وكلمه.
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخى إنك منا حيث قد علمت من السطة (1) في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك
__________
(1) الاصل الشطر.
وهو تحريف وما أثبته من الاكتفا للكلاعي.
والسطة: الشرف.
(*)
بأمر عظيم فرقت جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منى حتى أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها.
قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا الوليد أسمع ".
قال: يا بن أخى إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الامر مالا جمعنا لك من أموالا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يتداوى منه.
أو كما قال له.
حتى إذا فرغ عتبة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أفرغت يا أبا الوليد ؟ " قال: نعم.
قال: اسمع منى.
قال: أفعل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون " فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فلما سمع بها عتبة أنصت لها، وألقى بيديه خلفه أو خلف ظهره معتمدا عليهما ليسمع منه.
حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجدها ثم قال: " سمعت يا أبا الوليد ؟ " قال: سمعت.
قال: " فأنت وذاك ".
ثم قام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير
الوجه الذى ذهب به.
فلما جلسوا إليه قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال: ورائي أنى والله قد سمعت قولا
ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بى، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذى سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنت أسعد الناس به.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.
قال: هذا رأيى لكم، فاصنعوا ما بدا لكم.
ثم ذكر يونس عن ابن إسحاق شعرا قاله أبو طالب يمدح فيه عتبة.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الاصبهاني، أخبرنا أبو قتيبة سلمة ابن الفضل الادمى بمكة، حدثنا أبو أيوب احمد بن بشر الطيالسي، حدثنا داود بن عمرو الضبى، حدثنا المثنى بن زرعة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر.
قال: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عتبة بن ربيعة " حم تنزيل من الرحمن الرحيم " أتى أصحابه فقال لهم: يا قوم أطيعوني في هذا الامر اليوم، واعصوني فيما بعده، فو الله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناى كلاما مثله، وما دريت ما أرد عليه.
وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه.
ثم روى البيهقى، عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن ابن إسحاق، حدثنى الزهري قال: حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان والاخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى بالليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع منه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له
حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رأكم بعض سفهائكم لاوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا.
فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود.
فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا.
فلما أصبح الاخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها [ وأشياء لا أعرفها ولا أعرف ما يراد بها (1) ] فقال الاخنس: وأنا والذى حلفت به.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال: ماذا سمعت ؟ ! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا (2) على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبى يأتيه الوحى من السماء ! فمتى ندرك هذه ! والله لا نسمع به أبدا ولا نصدقه.
فقام عنه الاخنس به شريق.
ثم قال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس، حدثنا أحمد، حدثنا يونس، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن المغيرة بن شعبة.
قال: إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى أمشى أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله
* (هامش * (1) من الاكتفا.
(2) الاكتفا: تحا ؟ ينا.
(*)
صلى الله عليه وسلم لابي جهل: " يا أبا الحكم، هلم إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله ".
فقال أبو جهل: يا محمد، هل أنت منته عن سب آلهتنا ؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت ؟ فنحن نشهد أن قد بلغت، فو الله لو أنى أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل على فقال: والله إنى لاعلم أن ما يقول حق، ولكن [ يمنعنى ] شئ، إن بنى قصى.
قالوا: فينا الحجابة.
فقلنا: نعم.
ثم قالوا فينا السقاية فقلنا: نعم.
ثم قالوا فينا الندوة.
فقلنا: نعم.
ثم قالوا: فينا اللواء.
فقلنا: نعم.
ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبى ! والله لا أفعل.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الاصم، حدثنا محمد بن خالد، حدثنا أحمد بن خلف، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق.
قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على أبى جهل وأبى سفيان، وهما جالسان، فقال أبو جهل: هذا نبيكم يا بنى عبد شمس.
قال أبو سفيان: وتعجب أن يكون منا نبى ! فالنبى يكون فيمن أقل منا وأذل.
فقال أبو جهل: أعجب أن يخرج غلام من بين شيوخ نبيا ! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع، فأتاهما فقال: " أما أنت يا أبا سفيان، فما لله ورسوله غضبت ولكنك حميت للاصل.
وأما أنت يا أبا الحكم، فو الله لتضحكن قليلا ولتبكين كثيرا " فقال: بئسما تعدني يا بن أخى من نبوتك.
هذا مرسل من هذا الوجه، وفيه غرابة.
وقول أبى جهل، لعنه الله، كما قال الله تعالى مخبرا عنه وعن أضرابه " وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا، أهذا الذى بعث الله رسولا ؟ إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها، وسوف يعلمون حين يرون
العذاب من أضل سبيلا (1).
__________
(1) سورة الفرقان 41، 42.
(*)
وقال الامام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " (1).
قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن، وسبوا من أنزله ومن جاء به، قال: فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " ولا تجهر بصلاتك " أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن " ولا تخافت بها " عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك " وابتغ بين ذلك سبيلا ".
وهكذا رواه صاحبا الصحيح من حديث أبى بشر جعفر بن أبى حية به.
وقال محمد بن إسحاق: حدثنى داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلى تفرقوا عنه وأبوا أن يستمعوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله بعض ما يتلو وهو يصلى، استرق السمع دونهم فرقا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يستمع، فإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئا، فأنزل الله تعالى " ولا تجهر بصلاتك " فيتفرقوا عنك " ولا تخافت بها " فلا يسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك، لعله يرعوى إلى بعض ما يسمع، فينتفع به " وابتغ بين ذلك سبيلا ".
إلى هنا ينتهى الجزء الاول من السيرة النبوية لابن كثير ويليه الجزء الثاني وأوله باب الهجرة إلى الحبشة
__________
(1) سورة الاسراء 110 (*)
السيرة النبوية - ابن كثير ج 2
السيرة النبوية
ابن كثير ج 2
السيرة النبوية للامام أبى الفداء إسماعيل بن كثير 701 - 774 ه تحقيق مصطفى عبد الواحد الجزء الثاني 1396 ه - 1976 م دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع هاتف 236769 - 246161 ص.
ب 5769 بيروت لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم باب هجرة من هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى أرض الحبشة فرارا بدينهم من الفتنة قد تقدم ذكر أذية المشركين للمستضعفين من المؤمنين، وما كانوا يعاملونهم به من الضرب الشديد والاهانة البالغة.
وكان الله عزوجل قد حجرهم عن رسوله صلى الله عليه وسلم ومنعه بعمه أبى طالب.
كما تقدم تفصيله.
ولله الحمد والمنة.
وروى الواقدي أن خروجهم إليها في رجب سنة خمس من البعثة، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة، وأنهم انتهوا إلى البحر ما بين ماش وراكب،
فاستأجروا سفينة بنصف دينار إلى الحبشة.
وهم: عثمان بن عفان، وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الاسد، وامرأته أم سلمة بنت أبى أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة العنزي، وامرأته ليلى بنت أبى حثمة، وأبو سبرة بن أبى رهم، وحاطب (1) بن عمرو، وسهيل بن بيضاء، وعبد الله بن مسعود.
رضى الله عنهم أجمعين.
قال ابن جرير: وقال آخرون: بل كانوا اثنين وثمانين رجلا، سوى نسائهم
__________
(1) في ابن هشام: ويقال بل أبو حاطب.
(*)
وأبنائهم، وعمار بن ياسر، نشك، فإن كان فيهم فقد كانوا ثلاثة وثمانين رجلا.
* * * وقال محمد بن إسحاق: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله عزوجل ومن عمه أبى طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهى أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه.
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم.
فكانت أول هجرة كانت في الاسلام.
فكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكذا روى البيهقى من حديث يعقوب بن سفيان، عن عباس العنبري، عن بشر بن موسى، عن الحسن بن زياد البرجمى (1)، حدثتا قتادة، قال: أول من هاجر إلى الله تعالى بأهله عثمان بن عفان رضى الله عنه.
سمعت النضر بن أنس يقول سمعت أبا حمزة، يعنى أنس بن مالك، يقول: خرج عثمان بن عفان ومعه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أرض الحبشة، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقدمت امرأة من قريش فقالت:
__________
(1) نسبة إلى البراجم، قبيلة من تميم، وهو لقب لخمس بطون.
اللباب 1 - 7.
1.
(*)
يا محمد، قد رأيت ختنك (1) ومعه امرأته.
قال: على أي حال رأيتيهما ؟ قالت: رأيته قد حمل امرأته حمار من هذه الدبابة (2) وهو يسوقها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صحبهما الله ! إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط عليه السلام.
قال ابن إسحاق: وأبو حذيفة بن عتبة، وزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو، وولدت له بالحبشة محمد بن أبى حذيفة.
والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الاسد، وامراته أم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة، وولدت له بها زينب.
وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب، وهو من بنى عنز بن وائل، وامرأته ليلى بنت أبى حثمة، وأبو سبرة بن أبى رهم العامري، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو، ويقال أبو حاطب بن عمر بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، وهو أول من قدمها فيما قيل.
وسهيل بن بيضاء فهؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة، فيما بلغني قال ابن هشام: وكان عليهم عثمان بن مظعون، فيما ذكر بعض أهل العلم
قال ابن إسحاق: ثم خرج جعفر بن أبى طالب ومعه امرأته أسماء بنت عميس، وولدت له بها عبدالله بن جعفر.
وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة * * * وقد زعم موسى بن عقبة أن الهجرة الاولى إلى أرض الحبشة كانت حين دخل
__________
(1) الختن: الصهر.
(2) الدبابة: الضعيفة التى تدب في المشى.
(*)
أبو طالب ومن حالفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشعب.
وفى هذا نظر.
والله أعلم.
وزعم أن خروج جعفر بن أبى طالب إنما كان في الهجرة الثانية إليها، وذلك بعد عود بعض من كان خرج أولا، حين بلغهم أن المشركين أسلموا وصلوا، فلما قدموا مكة، وكان فيمن قدم عثمان بن مظعون، فلم يجدوا ما أخبروا به من إسلام المشركين صحيحا، فرجع من رجع منهم ومكث آخرون بمكة، وخرج آخرون من المسلمين إلى أرض الحبشة وهى الهجرة الثانية.
كما سيأتي بيانه.
قال موسى بن عقبة: وكان جعفر بن أبى طالب فيمن خرج ثانيا.
وما ذكره ابن إسحاق من خروجه في الرعيل الاول أظهر كما سيأتي بيانه.
والله أعلم.
لكنه كان في زمرة ثانية من المهاجرين أولا، وهو المقدم عليهم والمترجم عنهم عند النجاشي وغيره.
وكما سنورده مبسوطا.
* * * ثم إن ابن إسحاق سرد الخارجين صحبة جعفر رضى الله عنهم.
وهم: عمرو بن سعيد بن العاص، وامرأته فاطمة بنت صفوان بن أمية بن محرث
ابن شق الكنانى.
وأخوه خالد، وامرأته أمينة بنت خلف بن أسعد الخزاعى، وولدت له بها سعيدا وأمة التى تزوجها بعد ذلك الزبير فولدت له عمرا وخالدا.
قال: وعبد الله بن جحش بن رئاب، وأخوه عبيد الله، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان.
وقيس بن عبدالله من بنى أسد بن خزيمة وامرأته بركة بنت يسار مولاة أبى سفيان.
ومعيقيب بن أبى فاطمة، وهو من موالى سعيد بن العاص.
قال ابن هشام: وهو من دوس.
قال: وأبو موسى [ الاشعري ] عبدالله بن قيس حليف آل عتبة بن ربيعة.
وسنتكلم معه في هذا.
وعتبة بن غزوان، ويزيد بن زمعة بن الاسود، وعمرو بن أمية بن الحارث بن أسد، وطليب بن عمير بن وهب بن أبى كثير (1) بن عبد، وسويبط بن سعد بن حريملة (2)، وجهم بن قيس العبدوى، ومعه امرأته أم حرملة بنت عبد الاسود بن خزيمة، وولداه عمرو بن جهم وخزيمة بن جهم، وأبو الروم بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وفراس بن النضر بن الحارث بن كلدة، وعامر بن أبى وقاص أخو سعد، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف الزهري.
وامرأته رملة بنت أبى عوف بن ضبيرة، وولدت بها عبدالله.
وعبد الله بن مسعود، وأخوه عتبة، والمقداد بن الاسود، والحارث بن خالد بن صخر التيمى، وامرأته ريطة بنت الحارث بن جبيلة (3)، وولدت له بها موسى وعائشة وزينب وفاطمة.
وعمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، وشماس بن عثمان بن الشريد المخزومى.
قال: وإنما سمى شماسا لحسنه، وأصل اسمه عثمان بن عثمان.
وهبار بن سفيان بن عبد الاسد المخزومى، وأخوه عبدالله، وهشام بن أبى حذيفة
__________
(1) وتروى: كبير.
(2) وتروى: حرملة.
(3) في الاستيعاب: ابن جبلة.
(*)
ابن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم، وسلمة بن هشام بن المغيرة، وعياش بن أبى ربيعة بن المغيرة، ومعتب بن عوف بن عامر، ويقال له عيهامة، وهو من حلفاء بنى مخزوم.
قال: وقدامة وعبد الله أخوا عثمان بن مظعون، والسائب بن عثمان بن مظعون، وحاطب بن الحارث بن معمر، ومعه امرأته فاطمة بنت المجلل، وابناه منها محمد والحارث، وأخوه خطاب، وامرأته فكيهة بنت يسار، وسفيان بن معمر بن حبيب، وامرأته حسنة وابناه منها جابر وجنادة، وابنها من غيره، وهو شرحبيل بن عبدالله، أحد الغوث بن مزاحم بن تميم، وهو الذى يقال له شرحبيل بن حسنة.
وعثمان بن ربيعة بن أهبان بن وهب بن حذافة بن جمح، وخنيس بن حذافة بن قيس بن عدى، وعبد الله بن الحارث بن قيس بن عدى بن سعيد بن سهم، وهشام بن العاص بن وائل بن سعيد، وقيس بن حذافة بن قيس بن عدى، وأخوه عبد الله.
وأبو قيس بن الحارث بن قيس بن عدى، وإخوته: الحارث ومعمر والسائب وبشر وسعيد، أبناء الحارث، و [ أخو ] سعيد بن قيس بن عدى لامه، وهو سعيد بن عمرو التميمي.
وعمير بن رئاب بن حذيفة بن مهشم بن سعيد بن سهم، وحليف لبنى سهم وهو
محمية بن جزء (1)، الزبيدى ومعمر بن عبدالله العدوى، وعروة بن عبدالعزى، وعدى بن نضلة بن عبدالعزى، وابنه النعمان، وعبد الله بن مخرمة العامري، وعبد الله بن سهيل ابن عمرو، وسليط بن عمرو، وأخوه السكران، ومعه زوجته سودة بنت زمعة، ومالك بن ربيعة، وامرأته عمرة بنت السعدى، وأبو حاطب (2) بن عمرو العامري وحليفهم سعد بن خولة، وهو من اليمن.
__________
(1) ويروى كما في ابن هشام والاستيعاب: ابن جزاء.
(2) ويروى كما في الاستيعاب: حاطب بن عمرو.
(*)
وأبو عبيدة عامر بن عبدالله بن الجراح الفهرى، وسهيل بن بيضاء، وهى أمه، واسمها دعد بنت جحدم بن أمية بن ظرب بن الحارث بن فهر، وهو سهيل بن وهب ابن ربيعة بن هلال [ بن أهيب ] (1) بن ضبة، وعمرو بن أبى سرح بن ربيعة بن هلال [ بن أهيب ] (1) بن مالك بن ضبة بن الحارث، وعياض بن زهير بن أبى شداد بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة، وعمرو بن الحارث بن زهير بن أبى شداد بن ربيعة، وعثمان بن عبد غنم بن زهير أخوان، وسعيد بن عبد قيس بن لقيط، وأخوه الحارث، الفهريون.
* * * قال ابن إسحق: فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا أو ولدوا بها،: ثلاثة وثمانين رجلا إن كان عمار ابن ياسر فيهم، وهو يشك فيه.
* * * قلت: وذكر ابن إسحق أبا موسى الاشعري فيمن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة غريب جدا.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، سمعت حديجا (2) أخا زهير بن
معاوية، عن أبى إسحق، عن عبدالله بن عتبة، عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو (3) من ثمانين رجلا، فيهم عبدالله بن مسعود وجعفر، وعبد الله بن عرفطة، وعثمان بن مظعون وأبو موسى، فأتوا النجاشي.
__________
(1) الزيادة من ابن هشام.
(2) الاصل خديج بالخاء.
وهو تحريف وما أثبته عن المسند.
(3) ط: نحوا.
وما أثبته عن المسند.
(*)
وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية.
فلما دخلا على النجاشي سجدا له ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له: إن نفرا من بنى عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا عن ملتنا.
قال: فأين هم ؟ قالا: في أرضك فابعث إليهم.
فبعث إليهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم.
فاتبعوه.
فسلم ولم يسجد، فقالوا له: ما لك لا تسجد للملك ؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله عزوجل.
قال: وما ذاك ؟ قال: إن الله بعث إلينا رسولا، ثم أمرنا ألا نسجد لاحد إلا لله عزوجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة.
قال عمرو: فإنهم يخالفونك في عيسى بن مريم.
قال: فما تقولون في عيسى بن مريم وأمه.
قال: نقول كما قال الله: هو كلمته وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التى لم يمسها بشر ولم يفرضها ولد (1).
قال: فرفع عودا من الارض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله
ما يزيدون على الذى نقول (2) فيه ما سوى (3) هذا، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله وأنه الذى نجد في الانجيل، وأنه الرسول الذى بشر به عيسى بن مريم، انزلوا حيث شئتم، والله لو لا ما أنا فيه من الملك لاتيته حتى أكون أنا الذى أحمل نعليه (4) !
__________
(1) رواية النهاية لابن الاثير: ولم يفترضها ولد.
قال: أي لم يؤثر فيها ولم يحزها، يعنى قبل المسيح.
ورواية ابن الجوزى في الوفا: ولم يقرعها ذكر.
(2) مسند أحمد: يقول.
(3) المسند: ما يسوى.
(4) زاد في المسند: وأوضئه.
(*)
وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما.
ثم تعجل عبدالله بن مسعود حتى أدرك بدرا.
وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلغه موته.
وهذا إسناد جيد قوى وسياق حسن، وفيه ما يقتضى أن أبا موسى كان فيمن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة، إن لم يكن مدرجا من بعض الرواة.
والله أعلم.
* * * وقد روى عن أبى إسحق السبيعى من وجه آخر.
فقال الحافظ أبو نعيم في الدلائل: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكريا الغلابى، حدثنا عبدالله بن رجاء، حدثنا إسرائيل.
وحدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكريا، حدثنا الحسن بن علوية القطان، حدثنا عباد بن موسى الختلى، حدثنا إسماعيل بن جعفر، حدثنا إسرائيل.
وحدثنا أبو أحمد، حدثنا عبدالله بن محمد بن شيرويه، حدثنا إسحق بن إبراهيم، هو ابن راهوبه، حدثنا عبيد الله (1) بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن إبى إسحق،
عن أبى بردة، عن أبى موسى، قال: أمرنا رسول الله صلى عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبى طالب إلى أرض النجاشي (2).
فبلغ ذلك قريشا فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، وجمعوا للنجاشي هدية.
وقدما على النجاشي فأتياه بالهدية، فقبلها، وسجدا له.
__________
(1) دلائل النبوة 205: عبدالله.
(2) الدلائل أرض الحبشة.
(*)
ثم قال عمرو بن العاص: إن ناسا من أرضنا رغبوا عن ديننا، وهم في أرضك.
قال لهم النجاشي: في أرضى ؟ ! قالا: نعم.
فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلم منكم أحد، أنا خطيبكم اليوم.
فانتهينا (1) إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره، والقسيسون جلوس سماطين، وقد قال له عمرو وعماره: إنهم لا يسجدون لك.
فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان: اسجدوا للمك.
فقال جعفر: لا نسجد إلا لله عزوجل.
فلما انتهينا إلى النجاشي قال: ما منعك أن تسجد ؟ قال: لا نسجد إلا لله.
فقال له النجاشي: وما ذاك ؟ قال: إن الله بعث فينا رسولا، وهو الرسول الذى بشر به عيسى بن مريم عليه
الصلاة والسلام من بعده، اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، ونقيم الصلاة ونؤتى الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر.
فأعجب النجاشي قوله.
فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال: أصلح الله الملك، إنهم يخالفونك في عيسى بن مريم.
فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبكم في ابن مريم.
__________
(1) الدلائل: فانتهيت.
(*)
قال: يقول فيه قول الله: هو روح الله وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التى لم يقربها بشر ولم يفرضها ولد.
فتناول النجاشي عودا من الارض فرفعه فقال: يا معشر القسيسين والرهبان: ما يزيدون هؤلاء على ما نقول في ابن مريم ولا وزن هذه.
مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذى بشر به عيسى، ولو لا ما أنا فيه من الملك لاتيته حتى أقبل نعليه، امكثوا في أرضى ما شئتم.
وأمر لنا بطعام وكسوة، وقال: ردوا على هذين هديتهما.
وكان عمرو بن العاص رجلا قصيرا، وكان عمارة رجلا جميلا، وكانا أقبلا في البحر فشربا، ومع عمرو امرأته، فلما شربا قال عمارة لعمرو: مر امرأتك فلتقبلنى.
فقال له، عمرو: ألا تستحى ! فأخذ عمارة عمرا فرمى به في البحر، فجعل عمرو يناشد عمارة حتى أدخله السفينة.
فحقد عليه عمرو في ذلك، فقال عمرو للنجاشي: إنك إذا خرجت خلفك عمارة في أهلك.
فدعا النجاشي بعمارة فنفخ في إحليله، فطار مع الوحش (1).
وهكذا رواه الحافظ البيهقى في الدلائل عن طريق أبى على الحسن بن سلام السواق،
عن عبيد الله بن موسى، فذكر بإسناده مثله، إلى قوله: " فأمر لنا بطعام وكسوة ".
قال: وهذا إسناد صحيح، وظاهره يدل على أن أبا موسى كان بمكة، وأنه خرج مع جعفر بن أبى طالب إلى أرض الحبشة.
والصحيح عن يزيد بن عبدالله بن أبى بردة، عن جده أبى بردة، عن أبى موسى: أنهم بلغهم مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم باليمن، فخرجوا مهاجرين في بضع وخمسين
__________
(1) الذى في دلائل النبوة لابي نعيم 196 - 207 عدة روايات عن الهجرة إلى الحبشة وليس فيه رواية واحدة كاملة بهذا السياق الذى ذكره ابن كثير، ولعله أدمج بعضها في بعض.
(*)
رجلا في سفينة، فألقتهم سفينتهم إلى النجاشي بأرض الحبشة، فوافقوا جعفر بن أبى طالب وأصحابه عندهم، فأمره جعفر بالاقامة، فأقاموا عنده حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن خيبر.
قال: وأبو موسى شهد ما جرى بين جعفر وبين النجاشي فأخبر عنه.
قال: ولعل الراوى وهم في قوله: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق ".
والله أعلم.
* * * وهكذا رواه البخاري في باب هجرة الحبشة: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة، حدثنا بريد (1) بن عبدالله، عن أبى بردة، عن أبى موسى، قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فركبنا سفينة، فألقتنا سفننا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه، فأقمنا معه حتى قدمنا، فوافينا (2) النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لكم أنتم أهل السفينة هجرتان ".
وهكذا رواه مسلم عن أبى كريب وأبى عامر عبدالله بن براد (3)، كلاهما عن أبى أسامة به.
وروياه في مواضع أخر مطولا.
والله أعلم.
* * * وأما قصة جعفر مع النجاشي فإن الحافظ ابن عساكر رواها في ترجمة جعفر بن أبى طالب من تاريخه، من رواية نفسه ومن رواية عمرو بن العاص، وعلى يديهما جرى الحديث، ومن رواية ابن مسعود، كما تقدم، وأم سلمة كما سيأتي.
__________
(1) خ ط: يزيد.
وهو تحريف وما أثبته من البخاري 2 / 186.
(2) ابن يوسف بن أبى بردة بن أبى موسى.
(3) البخاري: فوافقنا.
(*)
فأما رواية جعفر فإنها عزيزة جدا، رواها ابن عساكر، عن أبى القاسم السمرقندى، عن أبى الحسين بن النقور، عن أبى طاهر المخلص، عن أبى القاسم بن البغوي، قال: حدثنا أبو عبدالرحمن الجعفي، عن عبدالله بن عمر بن أبان، حدثنا أسد بن عمرو البجلى، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبى عن عبدالله بن جعفر، عن أبيه قال: بعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية من أبى سفيان إلى النجاشي، فقالوا له، ونحن عنده: قد صار إليك ناس من سفلتنا وسفهائنا، فادفعهم إلينا.
قال: لا حتى أسمع كلامهم.
قال: فبعث إلينا فقال: ما يقول هؤلاء ؟ قال: قلنا هؤلاء قوم يعبدون الاوثان، وإن الله بعث إلينا رسولا فآمنا به وصدقناه.
فقال لهم النجاشي: أعبيد هم لكم ؟ قالوا: لا.
فقال: فلكم عليهم دين ؟.
قالوا: لا.
قال فخلوا سبيلهم.
قال: فخرجنا من عنده، فقال عمرو بن العاص: إن هؤلاء يقولون في عيسى
غير ما تقول.
قال: إن لم يقولوا في عيسى مثل قولى لم أدعهم في أرضى ساعة من نهار.
فأرسل إلينا، فكانت الدعوة الثانية أشد علينا من الاولى.
قال: ما يقول صاحبكم في عيسى بن مريم ؟ قلنا: يقول: هو روح الله وكلمته ألقاها إلى عذراء بتول.
قال: فأرسل فقال: ادعوا لى فلان القس وفلان الراهب، فأتاه ناس منهم، فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم ؟
فقالوا: أنت أعلمنا، فما تقول ؟ قال النجاشي، وأخذ شيئا من الارض، قال: ما عدا عيسى ما قال هؤلاء مثل هذا.
ثم قال: أيؤذيكم أحد ؟ قالوا: نعم.
فنادى مناد: من آذى أحدا منهم فأغرموه أربعة دراهم.
ثم قال: أيكفيكم ؟ قلنا: لا فأضعفها.
قال: فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وظهر بها قلنا له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظهر وهاجر إلى المدينة وقتل الذين كنا حدثناك عنهم، وقد أردنا الرحيل إليه، فردنا.
قال: نعم.
فحملنا وزودنا، ثم قال: أخبر صاحبك بما صنعت إليكم، وهذا صاحبي معكم، أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، وقل له يستغفر لى.
قال جعفر: فخرجنا حتى أتينا المدينة، فتلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتنقني، ثم قال: ما أدرى أنا بفتح خيبر أفرح أم بقدوم جعفر ! ووافق ذلك فتح خيبر.
ثم جلس.
فقال رسول النجاشي: هذا جعفر فسله ما صنع به صاحبنا.
فقال: نعم، فعل بنا كذا وكذا، وحملنا وزودنا، وشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وقال لى: قل له يستغفر لى.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم دعا ثلاث مرات: اللهم اغفر للنجاشي فقال المسلمون: آمين.
ثم قال جعفر: فقلت للرسول: انطلق فأخبر صاحبك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال ابن عساكر: حسن غريب.
* * * وأما رواية أم سلمة فقد قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحق، حدثنى الزهري، عن أبى بكر بن عبدالرحمن بن حارث بن هشام، عن أم سلمة رضى الله عنها، أنها قالت: لما ضاقت مكة وأوذى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله في منعة من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شئ مما يكره ومما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه ".
فخرجنا إليها أرسالا، حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنين على ديننا، ولم نخش فيها ظلما.
فلما رأت قريش أنا قد أصبنا دارا وأمنا غاروا منا، فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا ليخرجنا من بلاده وليردنا عليهم.
فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبى ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا منهم رجلا إلا هيأوا له هدية على حدة، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تتكلموا فيهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، فإن استطعتم أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا.
فقدما عليه، فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته، فكلموه فقالوا له: إنما قدمنا على هذا الملك في سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم ولم يدخلوا في دينكم.
(2 - السيرة - 2)
فبعثنا قومهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فإشيروا عليه بأن يفعل.
فقالوا: نفعل.
ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، وكان من أحب ما يهدون إليه من مكة الادم (1)، وذكر موسى بن عقبة أنهم أهدوا إليه فرسا وجبة ديباج.
فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له: أيها الملك، إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجأوا إلى بلادك، وقد بعثنا إليك فيهم عشائرهم، آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم، فإنهم أعلى بهم عينا، فإنهم لن يدخلوا في دينك فتمنعهم لذلك.
فغضب ثم قال: لا لعمر الله ! لا أردهم حتى أدعوهم فأكلمهم وأنظر ما أمرهم، قوم لجأوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيرى، فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم ولم أدخل بينهم وبينهم، ولم أنعم عينا.
وذكر موسى بن عقبة أن أمراءه أشاروا عليه بأن يردهم إليهم، فقال: لا والله حتى أسمع كلامهم وأعلم على أي شئ هم عليه.
فلما دخلوا عليه سلموا ولم يسجدوا له، فقال: أيها الرهط ألا تحدثوني ما لكم
لا تحيوني كما يحيينى من أتانا من قومكم ؟ ! فأخبروني ماذا تقولون في عيسى، وما دينكم ؟ أنصارى أنتم ؟ قالوا: لا.
قال: أفيهود أنتم ؟
__________
(1) الادم: الجلد، أو المصبوغ منه.
(*)
قالوا: لا.
قال: فعلى دين قومكم ؟ قالوا: لا.
قال: فما دينكم ؟ قالوا: الاسلام.
قال: وما الاسلام ؟ قالوا: نعبد الله، لا نشرك به شيئا.
قال: من جاءكم بهذا ؟ قالوا: جاءنا به رجل من أنفسنا، قد عرفنا وجهه ونسبه، بعثه الله إلينا كما بعث الرسل إلى من قبلنا، فأمرنا بالبر والصدقة والوفا وأداء الامانة، ونهانا أن نعبد الاوثان، وأمرنا بعبادة الله وحده لا شريك له فصدقناه وعرفنا كلام الله، وعلمنا أن الذى جاء به من عند الله، فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا وعادوا النبي الصادق، وكذبوه وأرادوا قتله، وأرادونا على عبادة الاوثان، ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا.
قال: والله إن هذا لمن المشكاة التى خرج منها أمر موسى.
قال جعفر: وأما التحية: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن تحية أهل الجنة
السلام، وأمرنا بذلك فحييناك بالذى يحيى بعضنا بعضا.
وأما عيسى بن مريم، فعبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وابن العذراء البتول.
فأخذ عودا وقال: والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود.
فقال عظماء الحبشة: والله لئن سمعت الحبشة لتخلعنك.
فقال: والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا، وما أطاع الله الناس في حين رد على ملكى فأطيع (1) الناس في دين الله، معاذ الله من ذلك.
وقال يونس عن ابن إسحاق: فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم، ولم يكن شئ أبغض لعمرو بن العاص وعبد الله بن أبى ربيعة من أن يسمع كلامهم.
فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا: ماذا تقولون ؟ فقالوا: وماذا نقول ! نقول والله ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن من ذلك ما كان.
فلما دخلوا عليه كان الذى يكلمه منهم جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه.
فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذى أنتم عليه ؟ فارقتم دين قومكم ولم تدخلو في يهودية ولا نصرانية.
فقال له جعفر: أيها الملك، كنا قوما على الشرك، نعبد الاوثان ونأكل الميتة ونسئ الجوار، يستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئا ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبيا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الارحام ونحمى الجوار، ونصلي لله عزوجل ونصوم له ولا نعبد غيره.
وقال زياد (2) عن ابن إسحاق: فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد
نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والاوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الامانة، وصلة الارحام وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور
__________
(1) المطبوعة: فاطع.
وهو تحريف.
(2) هو زياد البكائى راوي السيرة عن إبن اسحق، وروايته مقابلة لرواية يونس بن بكير.
(*)
وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، أمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
قال: فعدد (1) عليه أمور الاسلام.
فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فعبدنا الله وحده لا شريك له، ولم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا.
فعدا علينا قومنا فعذبونا ليفتنونا عن ديننا ويردونا إلى عبادة الاوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث.
فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك.
قالت: فقال النجاشي: هل معك شئ مما جاء به ؟ فقرأ عليه صدرا من " كهيعص " فبكى والله النجاشي حتى أخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم.
ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التى جاء بها موسى، انطلقوا راشدين، لا والله لا أردهم عليكم ولا أنعمكم عينا.
فخرجنا من عنده، وكان أبقى الرجلين فينا عبدالله بن ربيعة، فقال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا بما أستأصل به خضراءهم، ولاخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذى يعبد عيسى بن مريم، عبد !
فقال له عبدالله بن ربيعة: لا تفعل، فإنهم وإن كانوا خالفونا فإن لهم رحما ولهم حقا.
__________
(1) الاصل: فعدوا.
محرفة، وما أثبته عن ابن هشام.
(2) هو زياد البكائى راوي السيرة عن ابن إسحاق، وروايته مقابلة لرواية يونس بن بكير.
(*)
فقال: والله لافعلن.
فلما كان الغد دخل عليه فقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عنه.
فبعث والله إليهم، ولم ينزل بنا مثلها.
فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو يسألكم عنه ؟ فقالوا: نقول والله الذى قاله الله فيه، والذى أمرنا نبينا أن نقوله فيه.
فدخلوا عليه وعنده بطارقته، فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم ؟ فقال له جعفر: نقول هو عبدالله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فدلى النجاشي يده إلى الارض فأخذ عودا بين إصبعيه فقال: ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العويد.
فتناخرت بطارقته (1)، فقال: وإن تناخرتم والله ! اذهبوا فأنتم شيوم في الارض.
الشيوم: الآمنون في الارض.
من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ثلاثا.
ما أحب أن لى دبرا وأنى آذيت رجلا منكم، والدبر بلسانهم: الذهب.
وقال زياد عن ابن إسحاق: ما أحب أن لى دبرا من ذهب.
قال ابن هشام: ويقال زبرا.
وهو الجبل بلغتهم.
ثم قال النجاشي: فو الله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى، ولا أطاع
الناس في فأطيع الناس فيه، ردوا عليهما هداياهم فلا حاجة لى بها، واخرجا من بلادي.
__________
(1) ط: بطراقته وهو تحريف.
(*)
فخرجا مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به.
* * * قالت: فأقمنا مع خير جار في خير دار.
فلم ينشب (1) أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه.
فو الله ما علمتنا حزنا حزنا قط هو أشد منه، فرقا من أن يظهر ذلك الملك عليه فيأتى ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه.
فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائرا.
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض: من يخرج فيحضر الوقيعة حتى ينظر على من تكون.
فقال الزبير، وكان من أحدثهم سنا: أنا.
فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، فجعل يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس، فحضر الوقعة.
فهزم الله ذلك الملك وقتله وظهر النجاشي عليه.
فجاءنا الزبير، فجعل يليح لنا بردائه ويقول: ألا فأبشروا، فقد أظهر الله النجاشي.
قالت (2): فو الله ما علمتنا فرحنا بشئ قط فرحنا بظهور النجاشي.
ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا إلى مكة وأقام من أقام.
* * *
__________
(1) ط: نشب.
محرفة.
(2) ط: قلت: محرفة.
(*)
قال الزهري: فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير عن أم سلمة، فقال عروة: أتدرى ما قوله: ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه ؟ فقلت: لا، ما حدثنى ذلك أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة.
فقال عروة: فإن عائشة حدثتني أن أباه كان ملك قومه، وكان له أخ له من صلبه اثنا عشر رجلا، ولم يكن لابي النجاشي ولد غير النجاشي، فأدارت الحبشة رأيها بينها فقالوا: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه، فإن له اثنى عشر رجلا من صلبه فتوارثوا الملك، لبقيت الحبشة عليهم دهرا طويلا لا يكون بينهم اختلاف.
فعدوا عليه فقتلوه وملكوا أخاه.
فدخل النجاشي بعمه حتى غلب عليه، فلا يدير أمره غيره، وكان لبيبا حازما من الرجال.
فلما رأت الحبشة مكانه من عمه، قالوا: قد غلب هذا الغلام على أمر عمه، فما نأمن أن يملكه علينا، وقد عرف أنا قتلنا أباه، فلئن فعل لم يدع منا شريفا إلا قتله، فكلموه فيه فليقتله أو ليخرجنه من بلادنا.
فمشوا إلى عمه فقالوا: قد رأينا مكان هذا الفتى منك، وقد عرفت أنا قتلنا أباه وجعلناك مكانه، وإنا لا نأمن أن يملك علينا فيقتلنا، فإما أن تقتله، وإما أن تخرجه من بلادنا.
قال: ويحكم ! قتلتم أباه بالامس وأقتله اليوم ! بل أخرجه من بلادكم.
فخرجوا به فوقفوه في السوق وباعوه من تاجر من التجار قذفه في سفينة بستمائة درهم أو بسبعمائة فانطلق به.
فلما كان العشى هاجت سحابة من سحائب الخريف، فخرج عمه يتمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتله.
ففزعوا إلى ولده، فإذا هم محمقون ليس في أحد منهم خير.
فمرج (1) على الحبشة أمرهم.
فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله إن ملككم الذى لا يصلح أمركم غيره للذى بعتم الغداة، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه قبل أن يذهب.
فخرجوا في طلبه، فأدركوه فردوه، فعقدوا عليه تاجه وأجلسوه على سريره وملكوه.
فقال التاجر: ردوا على مالى كما أخذتم منى غلامي.
فقالوا: لا نعطيك.
فقال: إذا والله لاكلمنه.
فمشى إليه فكلمه فقال: أيها الملك، إنى ابتعت غلاما فقبض منى الذين باعوه ثمنه، ثم عدوا على غلامي فنزعوه من يدى ولم يردوا على مالى.
فكان أول ما خبر من صلابة حكمه وعدله أن قال: لتردن عليه ماله أو لتجعلن يد غلامه في يده فليذهبن به حيث شاء.
فقالوا: بل نعطيه ماله.
فأعطوه إياه.
فلذلك يقول: ما أخذ الله منى الرشوة فآخذ الرشوة حين رد على ملكى، وما أطاع الناس في فأطيع الناس فيه.
* * * وقال موسى بن عقبة: كان أبو النجاشي ملك الحبشة، فمات والنجاشى غلام صغير، فأوصى إلى أخيه أن إليك ملك قومك حتى يبلغ ابني، فإذا بلغ فله الملك.
__________
(1) مرج: اضطرب واختلط.
(*)
فرغب أخوه في الملك، فباع النجاشي من بعض التجار.
فمات عمه من ليلته وقضى، فردت الحبشة النجاشي حتى وضعوا التاج على رأسه.
هكذا ذكره مختصرا، وسياق ابن إسحق أحسن وأبسط فالله أعلم.
* * * والذى وقع في سياق ابن إسحاق إنما هو ذكر عمرو بن العاص وعبد الله بن أبى ربيعة.
والذى ذكره موسى بن عقبة والاموى وغير واحد أنهما عمرو بن العاص وعمارة ابن الوليد بن المغيرة.
وهو أحد السبعة الذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تضاحكوا يوم وضع سلا الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو ساجد عند الكعبة.
وهكذا (1) تقدم في حديث ابن مسعود وأبى موسى الاشعري.
والمقصود أنهما حين خرجا من مكة، كانت زوجة عمرو معه، وعمارة كان شابا حسنا، فاصطحبا في السفينة، وكأن عمارة طمع في امرأة عمرو بن العاص، فألقى عمرا في البحر ليهلكه، فسبح حتى رجع إليها، فقال له عمارة: لو أعلم أنك تحسن السباحة لما ألقيتك.
فحقد عمرو عليه.
فلما لم يقض لهما حاجة في المهاجرين من النجاشي، وكان عمارة قد توصل إلى بعض أهل النجاشي، فوشى به عمرو، فأمر به النجاشي فسحر حتى ذهب عقله وساح في البرية مع الوحوش.
وقد ذكر الاموى قصته مطولة جدا، وأنه عاش إلى زمن إمارة عمر بن الخطاب، وأنه تقصده بعض الصحابة ومسكه، فجعل يقول: أرسلني أرسلني وإلا مت.
فلما لم يرسله مات من ساعته فالله أعلم.
__________
(1) أي كونهما عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد.
(*)
وقد قيل: إن قريشا بعثت إلى النجاشي في أمر المهاجرين مرتين: الاولى مع عمرو ابن العاص وعمارة، والثانية مع عمرو وعبد الله بن أبى ربيعة.
نص عليه أبو نعيم في الدلائل.
والله أعلم.
وقد قيل إن البعثة الثانية كانت بعد وقعة بدر.
قاله الزهري.
لينالوا ممن هناك ثارا، فلم يجبهم النجاشي رضى الله عنه وأرضاه إلى شئ، مما سألوا.
فالله أعلم.
* * * وقد ذكر زياد عن ابن إسحق أن أبا طالب لما رأى ذلك من صنيع قريش، كتب إلى النجاشي أبياتا يحضه فيها على العدل وعلى الاحسان إلى من نزل عنده من قومه: ألا ليت شعرى كيف في النأى جعفر * وعمرو وأعداء العدو الاقارب وما نالت (1) افعال النجاشي جعفرا * وأصحابه، أو عاق ذلك شاغب تعلم أبيت اللعن أنك ماجد * كريم فلا يشقى إليك (2) المجانب ونعلم أن الله زادك بسطة * وأسباب خير كلها بك لازب (3) * * * وقال يونس عن ابن إسحق: حدثنى يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، قال: إنما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان رضى الله عنه، والمشهور أن جعفرا هو المترجم رضى الله عنه.
وقال زياد البكائى عن ابن إسحق: حدثنى يزيد بن رومان عن عروة، عن عائشة رضى الله عنها، قالت: لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور.
__________
(1) وتروى: وهل نالت.
(2) وتروى: لديك.
(3) لازب: لاصق ملازم.
(*)
ورواه أبو داود عن محمد بن عمرو الرازي، عن سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحق به: لما مات النجاشي رضى الله عنه كنا نتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور.
* * * وقال زياد عن محمد بن إسحق: حدثنى جعفر بن محمد، عن أبيه قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك فارقت ديننا.
وخرجوا عليه.
فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا.
ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم.
ثم جعله في قبائه عند المنكب الايمن.
وخرج إلى الحبشة وصفوا له، فقال: يا معشر الحبشة، ألست أحق الناس بكم ؟ قالوا: بلى.
قال: فكيف أنتم بسيرتي فيكم ؟ قالوا: خير سيرة.
قال: فما بكم ؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبده ورسوله.
قال: فما تقولون أنتم في عيسى ؟ قالوا: نقول هو ابن الله.
فقال النجاشي، ووضع يده على صدره على قبائه: وهو يشهد أن عيسى بن مريم لم يزد على هذا.
وإنما يعنى ما كتب.
فرضوا وانصرفوا.
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له.
* * * وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذى مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات.
وقال البخاري: " موت النجاشي " حدثنا أبو الربيع، حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي: مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة ".
وروى ذلك من حديث أنس بن مالك وابن مسعود وغير واحد.
وفى بعض الروايات تسميته أصحمة، وفى رواية مصحمة، وهو أصحمة بن بحر (1).
وكان عبدا صالحا لبيبا ذكيا، وكان عادلا عالما رضى الله عنه وأرضاه.
وقال يونس عن ابن إسحق: اسم النجاشي مصحمة.
وفى نسخة صححها البيهقى: أصحم.
وهو بالعربية عطية.
قال: وإنما النجاشي اسم الملك، كقولك كسرى، هرقل.
قلت: كذا، ولعله يريد به قيصر، فإنه علم لكل من ملك الشام مع الجزيرة من بلاد الروم، وكسرى علم على من ملك الفرس، وفرعون علم لمن ملك مصر كافة، والمقوقس لمن ملك الاسكندرية، وتبع لم ملك اليمن والشحر، والنجاشى لمن ملك الحبشة، وبطليموس لمن ملك اليونان، وقيل الهند، وخاقان لمن ملك الترك.
__________
(1) الاصل: أصحمة بن أبجر.
وما أثبته من القاموس.
(*)
وقال بعض العلماء: إنما صلى عليه لانه كان يكتم إيمانه من قومه، فلم يكن عنده يوم مات من يصلى عليه، فلهذا صلى عليه.
قالوا: فالغائب إن كان قد صلى عليه ببلده لا تشرع الصلاة عليه ببلد أخرى، ولهذا لم يصل [ على ] النبي صلى الله عليه وسلم في غير المدينة، لا أهل مكة ولا غيرهم، وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة، لم ينقل أنه صلى على أحد منهم في غير البلدة التى صلى عليه فيها.
فالله أعلم.
* * * قلت: وشهود أبى هريرة رضى الله عنه الصلاة على النجاشي دليل على أنه إنما مات بعد فتح خيبر [ في السنة ] التى قدم [ فيها ] بقية المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه يوم فتح خيبر.
ولهذا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله ما أدرى بأيهما أنا أسر، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر بن أبى طالب ! وقدموا معهم بهدايا وتحف من عند النجاشي رضى الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبتهم أهل السفينة اليمنية أصحاب أبى موسى الاشعري، وقومه من الاشعريين رضى الله عنهم.
ومع جعفر وهدايا النجاشي: ابن أخى النجاشي ذو نختر أو ذو مخمر، أرسله ليخدم النبي صلى عليه وسلم عوضا عن عمه، رضى الله عنهما وأرضاهما.
وقال السهيلي: توفى النجاشي في رجب سنة تسع من الهجرة، وفى هذا نظر.
والله أعلم.
* * *
وقال البيهقى: أنبأنا الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطوسى، حدثنا
أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا هلال بن العلاء الرقى، حدثنا أبى العلاء بن مدرك، حدثنا أبو هلال بن العلاء، عن أبيه، عن غالب، عن أبى أمامة قال: قدم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام يخدمهم، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله.
فقال: " إنهم كانوا لاصحابي مكرمين، وإنى أحب أن أكافئهم ".
ثم قال: وأخبرنا أبو محمد عبدالله بن يوسف الاصبهاني، أنبأنا أبو سعيد بن الاعرابي، حدثنا هلال بن العلاء، حدثنا أبى، حدثنا طلحة بن يزيد، عن الاوزاعي، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن أبى قتادة، قال: قدم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يخدمهم، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله.
فقال: " إنهم كانوا لاصحابنا مكرمين، وإنى أحب أن أكافئهم ".
تفرد به طلحة بن زيد، عن الاوزاعي.
وقال البيهقى: حدثنا أبو الحسين بن بشران، حدثنا أبو عمرو بن السماك، حدثنا حنبل بن إسحق، حدثنا الحميدى، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، قال: لما قدم عمرو ابن العاص من أرض الحبشة جلس في بيته فلم يخرج إليهم، فقالوا: ما شأنه ما له لا يخرج ؟ فقال عمرو: إن أصحمة يزعم أن صاحبكم نبى.
[ إسلام عمر بن الخطاب ] قال ابن إسحق: ولما قدم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبى ربيعة على قريش، ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم، وردهم النجاشي بما يكرهون وأسلم عمر بن الخطاب، وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة، حتى غاظوا (1) قريشا.
فكان عبدالله بن مسعود يقول: ما كنا نقدر على أن نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه.
قلت: وثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: " ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب ".
وقال زياد البكائى: حدثنى مسعر بن كدام، عن سعد بن إبراهيم قال: قال ابن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا وما نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه.
* * * قال ابن إسحق: وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة.
حدثنى عبدالرحمن بن الحارث بن عبدالله بن عياش بن أبى ربيعة، عن عبد العزيز ابن عبدالله بن عامر بن ربيعة، عن أمه أم عبدالله بنت أبى حثمة قالت: والله إنا
__________
(1) ابن هشام: حتى عازوا قريشا.
أي غلبوهم.
(*)
لنترحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا، إذ أقبل عمر فوقف وهو على شركه، فقالت: وكنا نلقى منه أذى لنا وشدة غلينا.
قالت: فقال: إنه للانطلاق يا أم عبدالله ؟ ! قلت: نعم، والله لنخرجن في أرض من أرض الله، إذ آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا مخرجا.
قالت: فقال: صحبكم الله !
ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا.
قالت: فجاء عامر بحاجتنا تلك، فقلت له: يا أبا عبدالله لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا ! قال: أطمعت في إسلامه ؟ قالت: قلت: نعم.
قال: لا يسلم الذى رأيت حتى يسلم حمار الخطاب ! قالت: يأسا منه، لما كان يرى من غلظته وقسوته على الاسلام.
* * * قلت: هذا يرد قول من زعم أنه كان تمام الاربعين من المسلمين.
فإن المهاجرين إلى الحبشة كانوا فوق الثمانين.
اللهم إلا أن يقال: إنه كان تمام الاربعين بعد خروج المهاجرين.
ويؤيد هذا ما ذكره ابن إسحاق ههنا في قصة إسلام عمر وحده رضى الله عنه، وسياقها، فإنه قال: وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب، وكانت عند سعيد بن زيد ابن عمرو بن نفيل، كانت قد أسلمت، وأسلم زوجها سعيد بن زيد، وهم مستخفون بإسلامهم من عمر.
(3 - السيرة - 2)
وكان نعيم بن عبدالله النحام، رجل من بنى عدى، قد أسلم أيضا مستخفيا بإسلامه من قومه.
وكان خباب بن الارت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن، فخرج عمر يوما متوشحا سيفه، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه قد ذكروا (1) له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين، من بين
رجال ونساء، ومع رسول الله صلى عليه وسلم عمه حمزة وأبو بكر بن أبى قحافة الصديق وعلى بن أبى طالب رضى الله عنهم، في رجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة.
فلقيه نعيم بن عبدالله فقال: أين تريد يا عمر ؟ قال: أريد محمدا، هذا الصابئ الذى فرق أمر قريش، وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها، فأقتله.
فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر ! أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الارض وقد قتلت محمدا ؟ ! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ؟ قال: وأى أهل بيتى ؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة، فقد والله أسلما وتابعا محمدا صلى الله عليه وسلم على دينه، فعليك بهما.
فرجع عمر عائدا إلى أخته فاطمة، وعندها خباب بن الارت معه صحيفة فيها " طه " يقرئها إياها.
فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة
__________
(1) الاصل: فذكروا.
والتصويب من ابن هشام.
(*)
بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى الباب قراءة خباب عليها.
فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التى سمعت ؟ قالا له: ما سمعت شيثا.
قال: بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه.
وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها.
فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك.
فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع وارعوى، وقال لاخته: أعطيني هذه الصحيفة التى كنتم تقرأون آنفا، أنظر ما هذا الذى جاء به محمد.
وكان عمر كاتبا.
فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها.
قال: لا تخافى.
وحلف بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها.
فلما قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت: يا أخى إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسه إلا المطهرون.
فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وفيها " طه ".
فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه !.
فلما سمع ذلك خباب بن الارت خرج إليه فقال له: والله يا عمر إنى لارجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنى سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الاسلام بأبى الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب.
فالله الله يا عمر.
فقال عند ذلك فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم.
فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه.
فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر من خلل الباب فإذا هو بعمر متوشح بالسيف، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع فقال: يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا بالسيف.
فقال حمزة فأذن له: فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه، وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه.
فقال رسول صلى الله عليه وسلم: إيذن له.
فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة،
فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة، فقال: ما جاء بك يا بن الخطاب ؟ فو الله ما أرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة.
فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لاومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله.
قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة، فعرف أهل البيت أن عمر قد أسلم.
فتفرق أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم من مكانهم وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعلموا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتصفون بهما من عدوهم.
قال ابن إسحق: فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر حين أسلم رضى الله عنه.
* * * قال ابن إسحق: وحدثني عبدالله بن أبى نجيح المكى، عن أصحابه عطاء ومجاهد وعمن روى ذلك، أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه أنه كان يقول:
كنت للاسلام مباعدا، وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة (1) فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك، فلم أجد فيه منهم أحدا، فقلت: لو أنى جئت فلانا الخمار لعلى أجد عنده خمرا فأشرب منها.
فخرجت فجئته فلم أجده.
قال: فقلت: لو أنى جئت الكعبة فطفت سبعا أو سبعين.
قال: فجئت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى، وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وكان مصلاه بين الركنين
الاسود واليماني.
قال: فقلت حين رأيته: والله لو أنى استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول.
فقلت: لئن دنوت منه لاستمع منه لاروعنه، فجئت من قبل الحجر، فدخلت تحت ثيابها فجعلت أمشى رويدا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى يقرأ القرآن، حتى قمت في قبلته مستقبله ما بينى وبينه إلا ثياب الكعبة.
قال: فلما سمعت القرآن رق له قلبى وبكيت ودخلني الاسلام.
فلم أزل في مكاني قائما حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، ثم انصرف، وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبى حسين، وكان مسكنه في الدار الرقطاء التى كانت بيد معاوية.
قال عمر: فتبعته، حتى إذا دخل بين دار عباس ودار ابن أزهر أدركته، فلما سمع
__________
(1) الحزورة: كانت سوق مكة، ثم دخلت المسجد لما زيد فيه.
(*)
حسى عرفني، فظن أنى إنما اتبعته لاوذيه، فنهمنى (1) ثم قال: ما جاء بك يا بن الخطاب هذه الساعة ؟ قال: قلت: جئت لاومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله.
قال: فحمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " قد هداك الله يا عمر " ثم مسح صدري ودعا لى بالثبات.
ثم انصرفت ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته.
قال ابن إسحق: فالله أعلم أي ذلك كان.
قلت: وقد استقصيت كيفية إسلام عمر رضى الله عنه وما ورد في ذلك من الاحاديث والآثار مطولا في أول سيرته التى أفردتها على حدة.
ولله الحمد والمنة.
* * *
قال ابن إسحق: وحدثني نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر قال: أي قريش أنقل للحديث ؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحى.
فغدا عليه.
قال عبدالله: وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت.
حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أنى أسلمت ودخلت في دين محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال: فو الله ما راجعه حتى قام يجر رداءه، واتبعه عمر واتبعته أنا، حتى [ إذا ] قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش.
وهم في أنديتهم حول الكعبة.
ألا إن ابن الخطاب قد صبأ.
__________
(1) نهمنى: زجرني.
(*)
قال: يقول عمر من خلفه: كذب ولكني قد أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه، حتى قامت الشمس على رؤوسهم.
قال: وطلح (1) فقعد، وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا.
قال: فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى، حتى وقف عليهم.
فقال: ما شأنكم ؟ فقالوا: صبأ عمر.
قال: فمه، رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون ؟ أترون بنى عدى يسلمون لكم
صاحبكم هكذا ؟ ! خلوا عن الرجل.
قال: فو الله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه.
قال: فقلت لابي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت، من الرجل الذى زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك.
قال: ذاك أي بنى العاص بن وائل السهمى.
وهذا إسناد جيد قوى، وهو يدل على تأخر إسلام عمر، لان ابن عمر عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، وكانت أحد في سنة ثلاث من الهجرة، وقد كان مميزا يوم أسلم أبوه، فيكون إسلامه قبل الهجرة بنحو من أربع سنين.
وذلك بعد البعثة بنحو تسع سنين.
والله أعلم.
* * *
__________
(1) طلح: تعب وأعيى.
(*)
وقال البيهقى: حدثنا الحاكم، أخبرنا الاصم، أخبرنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس، عن ابن إسحق قال: ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون رجلا وهو بمكة، أو قريب من ذلك، من النصارى حين ظهر خبره من أرض الحبشة، فوجدوه في المجلس، فكلموه وسألوه، ورجال قريش في أنديتهم حول الكعبة.
فلما فرغوا من مساءلتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عزوجل وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره.
فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقال: خيبكم الله من
ركب ! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم، ما نعلم ركبا أحمق منكم ! أو كما قال.
قالوا لهم: لا نجاهلكم، سلام عليكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا نألون أنفسنا خيرا.
فيقال: إن النفر من نصارى نجران، والله أعلم أي ذلك كان.
ويقال، والله أعلم، أن فيهم نزلت هذه الآيات: " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به، إنه الحق من ربنا، إنا كنا من قبله مسلمين، أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرأون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون.
وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين (1) ".
__________
(1) سورة القصص 52 - 55 (*)
فصل قال البيهقى في الدلائل: باب ما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي: ثم روى عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن ابن إسحق، قال: بسم الله الرحمن الرحيم " هذا كتاب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي الاصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإنى أنا رسوله، فأسلم تسلم: " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا تتخذ بعضنا بعضا
أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (1) ".
فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك " هكذا ذكره البيهقى بعد قصة هجرة الحبشة، وفى ذكره ها هنا نظر، فإن الظاهر أن هذا الكتاب إنما هو إلى النجاشي الذى كان بعد المسلم صاحب جعفر وأصحابه.
وذلك حين كتب إلى ملوك الارض يدعوهم إلى الله عزوجل قبيل الفتح، كما كتب إلى هرقل عظيم الروم قيصر الشام، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى صاحب مصر، وإلى النجاشي.
قال الزهري: كانت كتب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم واحدة، يعنى نسخة واحدة، وكلها فيها هذه الآية، وهى من سورة آل عمران، وهى مدنية بلا خلاف، فإنها من صدر السورة.
__________
(1) سورة آل عمران 64.
(*)
وقد نزل ثلاث وثمانون آية من أولها في وفد نجران، كما قررنا ذلك في التفسير، ولله الحمد والمنة.
فهذا الكتاب إلى الثاني لا إلى الاول.
وقوله فيه: " إلى النجاشي الاصحم " لعل " الاصحم " مقحم من الراوى بحسب ما فهم.
والله أعلم.
* * * وأنسب من هذا ها هنا ما ذكره البيهقى أيضا، عن الحاكم، عن أبى الحسن محمد بن عبدالله الفقيه، بمرو، حدثنا حماد بن أحمد، حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحق، قال: بعث رسول الله صلى عليه وسلم عمرو بن أمية الضمرى إلى النجاشي في شأن
جعفر بن أبى طالب وأصحابه، وكتب معه كتابا: " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي الاصحم ملك الحبشة، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه من روحه ونفخته، كما خلق آدم بيده ونفخه، وإنى أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بى وبالذي جاءني، فإنى رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمى جعفرا ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاءوك فاقرهم، ودع التجبر فإنى أدعوك وجنودك إلى الله عزوجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى ".
فكتب النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى
محمد رسول الله من النجاشي الاصحم بن أبجر (1)، سلام عليك يا نبى الله من الله ورحمة الله وبركاته، لا إله إلا هو الذى هداني إلى الاسلام، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فو رب السماء والارض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقرينا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقا ومصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك يا نبى الله بأريحا بن الاصحم بن أبجر، فإنى لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإنى أشهد أن ما تقول حق.
فصل في ذكر مخالفة قبائل قريش بنى هاشم وبنى عبدالمطلب في نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحصرهم إياهم في شعب أبى طالب مدة طويلة، وكتابتهم بذلك صحيفة ظالمة فاجرة،
وما ظهر في ذلك كله من آيات النبوة ودلائل الصدق.
قال موسى بن عقبة عن الزهري: ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا، حتى بلغ المسلمون (2) الجهد واشتد عليهم البلاء، وجمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية.
فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بنى عبدالمطلب، وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم، وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله.
فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانا ويقينا.
__________
(1) الذى في القاموس: ابن بحر.
(2) ط: المسلمين.
(*)
فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعوا على ذلك، اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا أمرهم ألا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق: لا يقبلوا من بنى هاشم صلحا أبدا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل.
فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الاسواق، فلا يتركوا لهم طعاما يقدم مكة ولا بيعا إلا بادروهم إليه فاشتروه.
يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد به مكرا أو اغتيالا له، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أو بنى عمه فاضطجعوا على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه.
* * * فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بنى عبد مناف ومن قصى، ورجال من سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بنى هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق.
واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه.
وبعث الله على صحيفتهم الارضة فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق.
ويقال: كانت معلقة في سقف البيت، فلم تترك اسما لله فيها إلا لحسته، وبقى ما كان فيها من شرك وظلم وقطيعة رحم.
وأطلع الله عزوجل رسوله على الذى صنع بصحيفتهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم لابي طالب، فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبني.
فانطلق يمشى بعصابته من بنى عبدالمطلب، حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش، فلما رأوهم عامدين لجماعتهم أنكروا ذلك وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء، فأتوهم ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتكلم أبو طالب فقال: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم، فأتوا بصحيفتكم التى تعاهدتم عليها، فعله أن يكون بيننا وبينكم صلح.
وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها.
فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفوع إليهم، فوضعوها بينهم، وقالوا: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم، فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد، جعلتموه خطرا لهلكة قومكم وعشيرتكم وفسادهم.
فقال أبو طالب: إنما أتيتكم لاعطيكم أمرا لكم فيه نصف، إن ابن أخى أخبرني، ولم يكذبنى، أن الله برئ من هذه الصحيفة التى في أيديكم، ومحا كل اسم هو له فيها، وترك فيها غدركم وقطيعتكم إيانا وتظاهركم علينا بالظلم.
فإن كان الحديث الذى قال ابن أخى كما قال فأفيقوا، فو الله لا نسلمه أبدا حتى يموت من عندنا آخرنا.
وإن كان الذى قال باطلا دفعناه إليكم فقتلتموه أو استحييتم.
قالوا: قد رضينا بالذى تقول.
ففتحوا الصحيفة، فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد أخبر خبرها.
فلما رأتها قريش كالذى قال أبو طالب قالوا: والله إن كان هذا قط إلا سحرا من صاحبكم.
فارتكسوا وعادوا بشر ما كانوا عليه من كفرهم والشدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام على رهطه بما تعاهدوا عليه.
فقال أولئك النفر من بنى عبدالمطلب: إن أولى بالكذب والسحر غيرنا، فكيف ترون، فإنا نعلم أن الذى اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا، ولو لا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم وهى في أيديكم، طمس ما كان فيها من اسمه وما كان فيها من بغى تركه، أفنحن السحرة أم أنتم.
* * * فقال عند ذلك النفر من بنى عبد مناف وبنى قصى ورجال من قريش ولدتهم نساء من بنى هاشم، منهم أبوالبخترى، والمطعم بن عدى، وزهير بن أبى أمية بن المغيرة، وزمعة ابن الاسود وهشام بن عمرو، وكانت الصحيفة عنده وهو من بنى عامر بن لؤى، في رجال من أشرافهم ووجوههم: نحن براء مما في هذه الصحيفة.
فقال أبو جهل لعنه الله: هذا أمر قضى بليل.
وأنشأ أبو طالب يقول الشعر في شأن صحيفتهم ويمدح النفر الذين تبرأوا منها ونقضوا ما كان فيها من عهد ويمتدح النجاشي.
* * * قال البيهقى: وهكذا روى شيخنا أبو عبد الله الحافظ، يعنى من طريق ابن لهيعة، عن أبى الاسود، عن عروة بن الزبير، يعنى كسياق موسى بن عقبة رحمه الله.
وقد تقدم عن موسى بن عقبة أنه قال: إنما كانت هجرة الحبشة بعد دخولهم إلى الشعب، عن أمر رسول الله صلى الله عيله وسلم لهم في ذلك.
فالله أعلم.
قلت: والاشبه أن أبا طالب إنما قال قصيدته اللامية التى قدمنا ذكرها بعد دخولهم الشعب أيضا، فذكرها ههنا أنسب.
والله أعلم.
ثم روى البيهقى من طريق يونس، عن محمد بن إسحق قال: لما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذى بعث به وقامت بنو هاشم وبنو المطلب دونه، وأبوا أن يسلموه، وهم من خلافه على مثل ما قومهم عليه، إلا أنهم اتقوا أن يستذلوا ويسلموا أخاهم لما قارفه من قومه.
فلما فعلت ذلك بنو هاشم وبنو المطلب، وعرفت قريش ألا سبيل إلى محمد، اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بنى هاشم وبنى عبدالمطلب: ألا يناكحوهم ولا ينكحوا إليهم وألا يبايعوهم ولا يبتاعوا منهم، وكتبوا صحيفة في ذلك وعلقوها بالكعبة.
ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم، واشتد عليهم البلاء وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدا.
ثم ذكر القصة بطولها في دخولهم شعب أبى طالب وما بلغوا فيه من فتنة الجهد
الشديد، حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من رواء الشعب من الجوع.
حتى كره عامة قريش ما أصابهم وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم الظالمة.
وذكروا أن الله برحمته أرسل على صحيفة قريش الارضة، فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أكلته، وبقى فيها الظلم والقطيعة والبهتان، فأخبر الله تعالى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر بذلك عمه أبا طالب.
ثم ذكر بقية القصة كرواية موسى بن عقبة وأتم.
* * * وقال ابن هشام عن زياد عن محمد بن إسحق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا منه (1)
__________
(1) ابن هشام: أصابوا به.
(*)
أمنا وقرارا، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم، فكان هو وحمزة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الاسلام يفشو في القبائل، فاجتمعوا (1) وائتمروا على أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بنى هاشم وبنى عبدالمطلب، على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم.
وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار ابن قصى.
قال ابن هشام: ويقال النضر بن الحارث.
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشل بعض أصابعه.
وقال الواقدي: كان الذى يكتب الصحيفة طلحة بن أبى طلحة العبدرى.
قلت: والمشهور أنه منصور بن عكرمة، كما ذكره ابن إسحق، وهو الذى شلت يده فما كان ينتفع بها، وكانت قريش تقول بينها: انظروا إلى منصور بن عكرمة.
قال الواقدي: وكانت الصحيفة معلقة في جوف الكعبة.
* * * قال ابن إسحق: فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبى طالب، فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه.
وخرج من بنى هاشم أبو لهب بن عبدالعزى بن عبد المطلب إلى قريش فظاهرهم.
وحدثني حسين بن عبدالله أن أبا لهب لقى هند بنت عتبة بن ربيعة حين فارق
__________
(1) ابن هشام: اجتمعوا.
وهو الصواب.
(*)
قومه وظاهر عليهم قريشا فقال: يا بنة عتية، هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقها (1) وظاهر عليها.
قالت: نعم، فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة.
قال ابن إسحق: وحدثت أنه كان يقول في بعض ما يقول: يعدني محمد أشياء لا أراها يزعم أنها كائنة بعد الموت، فماذا وضع في يدى بعد ذلك ؟ ! ثم ينفخ في يديه فيقول: تبا لكما، لا أرى فيكما شيئا مما يقول محمد.
فأنزل الله تعالى: " تبت يدا أبى لهب وتب ".
قال ابن اسحق: فلما اجتمعت على ذلك قريش وصنعوا فيه الذى صنعوا قال أبو طالب: ألا أبلغا عنا على ذات بيننا * لؤيا وخصا من لؤى بنى كعب ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب وأن عليه في العباد محبة * ولا خير ممن خصه الله بالحب
وأن الذى ألصقتم من كتابكم * لكم كائن نحسا كراغية السقب (2).
أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى * ويصبح من لم يجن ذنبا كذى الذنب ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا * أواصرنا بعد المودة والقرب وتستجلبوا حربا عوانا (3) وربما * أمر على من ذاقه حلب الحرب فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا * لعزاء من عض الزمان ولا كرب
__________
(1) ابن هشام: فارقهما.
(2) راغية السقب: أراد ناقة صالح.
والسقب: ولد الناقة: والراغية من الرغاء، وهو صوت الابل.
(3) عوانا: مستمرة.
(*) (4 - السيرة - 2)
ولما تبن منا ومنكم سوالف * وأيد أترت بالقساسية الشهب (1) بمعترك ضيق ترى كسر القنا * به والنسور الطخم يعكفن كالشرب (2) كأن مجال (3) الخيل في حجراته * ومعمعة الابطال معركة الحرب (3) أليس أبونا هاشم شد أزره * وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب ولسنا نمل الحرب حتى تملنا * ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب ولكننا أهل الحفائظ والنهى * إذا طار أرواح الكماة من الرعب * * * قال ابن إسحق: فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا، حتى جهدوا ولم يصل إليهم شئ إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش.
وقد كان أبو جهل بن هشام، فيما يذكرون، لقى حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بنى هاشم ؟ والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة.
فجاءه أبوالبخترى بن هشام بن الحارث بن أسد فقال: ما لك وله ؟.
فقال: يحمل الطعام إلى بنى هاشم.
فقال له أبوالبخترى: طعام كان لعمته عنده بعثت به إليه، أتمنعه أن يأتيها بطعامها ؟ خل سبيل الرجل.
قال: فأبى أبو جهل لعنه الله، حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبوالبخترى لحى بعير فضربه به فشجه ووطئه وطئا شديدا.
__________
(1) تبن: تفصل، والسوالف: صفحات الاعناق.
وأترت: قطعت.
والقساسية: نوع من السيوف.
(2) النسور الطخم: السود الرؤوس.
والشرب: الجماعة من القوم يشربون.
(3) الاصل: صحال.
ولا معنى لها.
وما أثبته عن نسخة من ابن هشام.
(*)
وحمزة بن عبدالمطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشمتون بهم.
[ المستهزئون ] ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهارا، مناديا بأمر الله تعالى لا يتقى فيه أحدا من الناس.
فجعلت قريش حين منعه الله منها وقام عمه وقومه من بنى هاشم وبنى عبدالمطلب دونه، وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه.
وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم، وفيمن نصب لعداوته.
منهم من سمى لنا، ومنهم من نزل القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار.
فذكر ابن إسحاق أبا لهب ونزول السورة فيه، وأمية بن خلف ونزول قوله تعالى: " ويل لكل همزة لمزة " السورة بكمالها فيه.
والعاص بن وائل ونزول قوله " أفرأيت الذى كفر بآياتنا وقال: لاوتين مالا
وولدا " (1) فيه.
وقد تقدم شئ من ذلك.
وأبا جهل بن هشام، وقوله للنبى صلى الله عليه وسلم: لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك (2) [ الذى تعبد ] (3)، ونزول قول الله فيه: " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم " (4) الآية.
والنضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة، ومنهم من يقول علقمة بن كلدة، قاله السهيلي، وجلوسه بعد النبي صلى الله عليه وسلم في مجالسه، حيث يتلو القرآن ويدعوا إلى
__________
(1) سورة مريم 77.
(2) الاصل: آلهتك.
وهو تحريف وما أثبته عن ابن هشام.
(3) من ابن هشام.
(4) سورة الانعام 108.
(*)
الله، فيتلو عليهم النضر شيئا من أخبار رستم واسفنديار وما جرى بينهم من الحروب في زمن الفرس، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا منى، وما حديثه إلا أساطير الاولين اكتتبتها كما اكتتبها.
فأنزل الله تعالى: " وقالوا أساطير الاولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا (1) " وقوله: " ويل لكل أفاك أثيم " (2).
* * * قال ابن اسحق: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا، يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد.
فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفى المجلس غير واحد من رجال قريش.
فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر، فكلمه رسول الله صلى الله
عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون، لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون، لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون " (3).
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبدالله بن الزبعرى السهمى حتى جلس.
فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبدالمطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم.
فقال عبدالله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدا: أكل
__________
(1) سورة الفرقان 5.
(2) سورة الجاثية 7.
(3) سورة الانبياء 98 - 100.
(*)
من يعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى.
فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم.
فذكر ذلك لرسول الله صلى عليه وسلم فقال: " كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده في النار، إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته ".
فأنزل الله تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون.
لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون " (1).
أي عيسى وعزيز ومن عبد من الاحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى.
ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، سبحانه، بل عباد مكرمون " (2).
والآيات بعدها.
ونزل في إعجاب المشركين بقول ابن الزبعرى: " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون.
وقالوا أ آلهتنا خير أم هو ؟ ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون " (3).
وهذا الجدل الذى سلكوه باطل.
وهم يعلمون ذلك، لانهم قوم عرب، ومن لغتهم أن " ما " لما لا يعقل، فقوله " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " إنما أريد بذلك ما كانوا يعبدونه من الاحجار التى كانت صور أصنام، ولا يتناول ذلك الملائكة الذين
__________
(1) سورة الانبياء.
101، 102 (2) سورة الانبياء.
26 - 29 سورة الزخرف 57، 58.
(*)
زعموا أنهم يعبدونهم في هذه الصور، ولا المسيح، ولا عزيزا، ولا أحدا من الصالحين، لان اللفظ لا يتناولهم لا لفظا ولا معنى.
فهم يعلمون أن ما ضربوه بعيسى بن مريم من المثل جدل باطل، كما قال الله تعالى: " ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ".
ثم قال: " إن هو " أي عيسى " إلا عبد أنعمنا عليه " أي بنبوتنا " وجعلناه مثلا لبنى إسرائيل " أي دليلا على تمام قدرتنا على ما نشاء، حيث خلقناه من أنثى بلا ذكر، وقد خلقنا حواء من ذكر بلا أنثى، وخلقنا آدم لا من هذا ولا من هذا، وخلقنا سائر بنى آدم من ذكر وأنثى.
كما قال في الآية الاخرى: " ولنجعله آية للناس " أي أمارة ودليلا على قدرتنا
الباهرة " ورحمة منا " نرحم بها من نشاء.
* * * وذكر ابن إسحق الاخنس بن شريق ونزول قوله تعالى فيه: " ولا تطع كل حلاف مهين " (1) الآيات.
وذكر الوليد بن المغيرة حيث قال: أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمرو (2) الثقفى سيد ثقيف، فنحن عظيما القريتين، ونزول قوله فيه: " وقالوا لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " (3) والتى بعدها.
وذكر أبى بن خلف حين قال لعقبة بن أبى معيط: ألم يبلغني أنك جالست محمدا وسمعت منه ؟ وجهى من وجهك حرام إلا أن تتفل في وجهه.
ففعل ذلك عدو الله عقبة لعنه الله.
فأنزل الله: " ويوم يعض الظالم على يديه يقول: يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتا ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا (4) " والتى بعدها.
__________
(1) سورة نون 10 (2) ابن هشام: عمرو بن عمير.
(3) سورة الزخرف 31.
(4) سورة الفرقان 27، 28.
(*)
قال: ومشى أبى بن خلف بعظم بال قد أرم فقال: يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرم ؟ ! ثم فته بيده، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: نعم، أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا، ثم يدخلك النار.
وأنزل الله تعالى: " وضرب لنا مثلا ونسى خلقه، قال: من يحيى العظام وهى رميم.
قل: يحييها الذى أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (1) إلى
آخر السورة.
قال: واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني وهو يطوف عند باب الكعبة، الاسود بن المطلب والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الامر.
فأنزل الله فيهم: " قل يا أيها الكافرون.
لا أعبد ما تعبدون " إلى آخرها.
ولما سمع أبو جهل بشجرة الزقوم قال: أتدرون ما الزقوم ؟ هو تمر يضرب بالزبد ! ثم قال: هلم فلنتزقم.
فأنزل الله تعالى: " إن شجرة الزقوم طعام الاثيم (2) ".
قال: ووقف الوليد بن المغيرة فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه وقد طمع في إسلامه.
فمر به ابن أم مكتوم، عاتكة بنت عبدالله بن عنكثة، الاعمى، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يستقرئه القرآن.
فشق ذلك عليه حتى أضجره، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلامه.
فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا وتركه.
فأنزل الله تعالى: " عبس وتولى، أن جاءه الاعمى " إلى قوله: " مرفوعة مطهرة ".
__________
(1) سورة يس 78، 79 (2) سورة الدخان 43، 44.
(*)
وقد قيل: إن الذى كان يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه ابن أم مكتوم: أمية بن خلف.
فالله أعلم.
* * * ثم ذكر ابن اسحق من عاد من مهاجرة الحبشة إلى مكة.
وذلك حين بلغهم إسلام أهل مكة، وكان النقل ليس بصحيح، ولكن كان له سبب.
وهو ما ثبت في الصحيح وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما مع المشركين، وأنزل الله عليه: " والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم " يقرؤها عليهم حتى ختمها وسجد، فسجد من هناك من المسلمين والمشركين والجن والانس.
وكان لذلك سبب ذكره كثير من المفسرين عند قوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم (1) ".
وذكروا قصة الغرانيق، وقد أحببنا الاضراب عن ذكرها صفحا لئلا يسمعها من لا يضعها على مواضعها، إلا أن أصل القصة في الصحيح.
قال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس ".
انفرد به البخاري دون مسلم.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبى إسحق،
__________
(1) سورة الحج 52.
(*)
سمعت الاسود، عن عبدالله قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم " والنجم " بمكة، فسجد فيها، وسجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصا أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا، فرأيته بعد قتل كافرا ".
ورواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، من حديث شعبة.
وقال الامام أحمد: حدثنا إبراهيم، حدثنا رباح، عن معمر، عن ابن طاووس،
عن عكرمة بن خالد، عن جعفر بن المطلب بن أبى وداعة، عن أبيه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم، فسجد وسجد من عنده، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد، ولم يكن أسلم يومئذ المطلب، فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرؤها إلا سجد معه.
وقد رواه النسائي، عن عبدالملك بن عبدالحميد، عن أحمد بن حنبل به.
وقد يجمع بين هذا والذى قبله بأن هذا سجد ولكنه رفع رأسه استكبارا، وذلك الشيخ الذى استثناه ابن مسعود لم يسجد بالكلية.
والله اعلم.
* * * والمقصود أن الناقل لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقد أنهم قد أسلموا واصطلحوا معه ولم يبق نزاع بينهم.
فطار الخبر بذلك وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة بها، فظنوا صحة ذلك.
فأقبل منهم طائفة طامعين بذلك، وثبتت جماعة، وكلاهما محسن مصيب فيما فعل.
فذكر ابن إسحق أسماء من رجع منهم: عثمان بن عفان، وامرأته رقية بنت رسول صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة ابن عتبة بن ربيعة، وامرأته سهلة بنت سهيل، وعبد الله بن جحش بن رئاب، وعتبة
ابن غزوان، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وسويبط بن سعد، وطليب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، والمقداد بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وأبو سلمة بن عبد الاسد، وامرأته أم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة، وشماس بن عثمان.
وسلمة بن هشام، وعياش بن أبى ربيعة، وقد حبسا بمكة حتى مضت بدر وأحد والخندق.
وعمار بن ياسر، وهو ممن شك فيه: أخرج إلى الحبشة أم لا.
ومعتب بن عوف، وعثمان بن مظعون، وابنه السائب، وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون، وخنيس بن حذافة، وهشام بن العاص بن وائل، وقد حبس بمكة إلى بعد الخندق، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبى حثمة، وعبد الله بن مخرمة.
وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وقد حبس حتى كان يوم بدر فانحاز إلى المسلمين فشهد معهم بدرا.
وأبو سبرة بن أبى رهم، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل.
والسكران بن عمرو بن عبد شمس، وامرأته سودة بنت زمعة، وقد مات بمكة قبل الهجرة وخلف على امرأته رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسعد بن خولة، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن الحارث بن زهير، وسهيل ابن بيضاء، وعمرو بن أبى سرح.
فجميعهم: ثلاثه وثلاثون رجلا، رضى الله عنهم.
* * * وقال البخاري: وقالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين ".
فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر إلى الحبشة إلى المدينة.
وفيه عن أبى موسى وأسماء رضى الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد تقدم حديث أبى موسى، وهو في الصحيحين، وسيأتى حديث أسماء بنت عميس، بعد فتح خيبر حين قدم من كان تأخر من مهاجرة الحبشة، إن شاء الله، وبه الثقة.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن سليمان بن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله، قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلى فيرد
علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله، إنا كنا نسلم عليك فترد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي لم ترد علينا.
قال: " إن في الصلاة شغلا ".
وقد روى البخاري أيضا ومسلم وأبو داود والنسائي من طرق أخر، عن سليمان بن مهران، عن الاعمش به: وهو يقوى تأويل من تأول حديث زيد بن أرقم الثابت في الصحيحين: كنا نتكلم في الصلاة، حتى نزل قوله: " وقوموا لله قانتين " (1 فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ".
على أن المراد جنس الصحابة، فإن زيدا أنصارى مدنى، وتحريم الكلام في الصلاة ثبت بمكة، فتعين الحمل على ما تقدم.
وأما ذكره الآية وهى مدينة فمشكل، ولعله اعتقد أنها المحرمة لذلك، وإنما كان المحرم له غيرها معها.
والله أعلم.
* * * قال ابن إسحق: وكان ممن دخل منهم بجوار (2) [ فيما سمى لنا (3) ] عثمان بن
__________
(1) سورة البقرة 238 (2) الاصل: وكان ممن دخل معهم بجوار.
وهو تحريف، وما أثبته عن ابن هشام (3) من ابن هشام.
(*)
مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الاسد في جوار خاله ابى طالب، فإن أمه برة بنت عبدالمطلب (1).
فأما عثمان بن مظعون فإن صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف حدثنى عمن حدثه عن عثمان قال: لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء وهو يروح ويغدو في أمان من الوليد بن المغيرة قال: والله إن غدوى
ورواحى في جوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل دينى يلقون من البلاء والاذى في الله ما لا يصيبني لنقص كثير (1) في نفسي ! فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك.
قال: لم يا بن أخى ؟ لعله آذاك أحد من قومي ؟ قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله عزوجل، ولا أريد أن أستجير بغيره.
قال: فانطلق إلى المسجد فاردد على جواري علانية كما أجرتك علانية.
قال: فانطلقا، فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد بن المغيرة: هذا عثمان قد جاء يرد على جواري.
قال: صدق، قد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكني قد أحببت ألا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره.
ثم انصرف عثمان رضى الله عنه، ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان فقال لبيد: * ألا كل شئ ما خلا الله باطل *
__________
(1) ابن هشام: وأم أبى سلمة برة بنت عبدالمطلب (2) ابن هشام: كبير.
(*)
فقال عثمان: صدقت.
فقال لبيد: * وكل نعيم لا محالة زائل * فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.
فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم ؟ !
فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله.
فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل ولطم عينه فخضرها، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ [ من ] (1) عثمان، فقال: أما والله يابن أخى إن كانت عينك عما أصابها لغنية، ولقد كنت في ذمة منيعة.
قال: يقول عثمان: بل والله إن عينى الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله ! وإنى لفى جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس.
فقال له الوليد: هلم يابن أخى إلى جوارك فعد.
قال: لا.
* * * قال ابن إسحق: وأما أبو سلمة بن عبد الاسد، فحدثني أبى إسحق بن يسار، عن سلمة بن عبدالله بن أبى سلمة، أنه حدثه أن أبا سلمة لما استجار بأبى طالب مشى إليه رجال من بنى مخزوم فقالوا له: يا أبا طالب، هذا منعت منا ابن أخيك محمدا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا ؟
__________
(1) من ابن هشام.
(*)
قال: إنه استجار بى، وهو ابن أختى، وإن أنا لم أمنع ابن أختى لم أمنع ابن أخى.
فقام أبو لهب فقال: يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه، والله لتنتهن أو لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد.
قالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة.
وكان لهم وليا وناصرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبقوا على ذلك.
فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول، ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال أبو طالب يحرض أبا لهب على نصرته ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن امرءا أبو عتيبة عمه * لفى روضة ما إن يسام المظالما أقول له وأين منه نصيحتي * أبا معتب ثبت سوادك قائما ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة * تسب بها إما هبطت المواسما وول سبيل العجز غيرك منهم * فإنك لم تخلق على العجز لازما وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى * أخا الحرب يعطى الخسف حتى يسالما وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة * ولم يخذلوك غانما أو مغارما جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما بتفريقهم من بعد ود وألفة * جماعتنا كيما ينالوا المحارما كذبتم وبيت الله نبزى (1) محمدا * ولما تروا يوما لدى الشعب قائما قال ابن هشام: وبقى منها بيت تركناه.
__________
(1) نبزى: نسلب.
(*)
ذكر عزم الصديق على الهجرة إلى أرض الحبشة قال ابن إسحق: وقد كان أبو بكر الصديق رضى الله عنه، كما حدثنى محمد بن مسلم الزهري، عن عروة، عن عائشة، حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الاذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما رأى، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذن له.
فخرج أبو بكر رضى الله عنه مهاجرا، حتى إذا سار من مكة يوما أو يومين، لقيه
ابن الدغنة (1)، أخو بنى الحارث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذ سيد الاحابيش.
قال الواقدي: اسمه الحارث بن يزيد، أحد بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة.
وقال السهيلي: اسمه مالك.
فقال: إلى أين يا أبا بكر ؟ قال: أخرجنى قومي وآذوني وضيقوا على.
قال: ولم ؟ والله إنك لتزين العشيرة وتعين على النوائب وتفعل المعروف وتكسب المعدوم، ارجع فإنك في جواري.
فرجع معه، حتى إذا دخل مكة قام معه ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إنى قد أجرت ابن أبى قحافة، فلا يعرض له أحد إلا بخير.
قال: فكفوا عنه.
__________
(1) ابن الدغنة، بفتح الدال المشددة وكسر الغين المعجمة والنون مخففة مفتوحة، كذا ضبطه الزرقائى، وهو ضبط الرواة، وأهل اللغة يضبطونه بالدال مشددة مضمومة والغين مضمومة والنون مشددة مضمومة ومعنى الدغنة: المسترخية.
(*)
قالت: وكان لابي بكر مسجد عند باب داره في بنى جمح، فكان يصلى فيه، وكان رجلا رقيقا أذا قرأ القرآن استبكى.
قالت: فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء، يعجبون لما يرون من هيئته.
قال: فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة فقالوا: يا ابن الدغنة، إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق وكانت له هيئة، ونحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يفتنهم، فأته فمره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء.
قالت: فمشى ابن الدغنة إليه فقال: يا أبا بكر، إنى لم أجرك لتؤذي قومك،
وقد كرهوا مكانك الذى أنت به وتأذوا بذلك منك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت.
قال: أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله.
قال: فاردد على جواري.
قال: قد رددته عليك.
قال: فقام ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إن ابن أبى قحافة قد رد على جواري، فشأنكم بصاحبكم.
* * * وقد روى الامام البخاري هذا الحديث (1) متفردا به، وفيه زيادة حسنة.
فقال: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب (2) فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبوى (3) قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه
__________
(1) صحيح البخاري باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة 2 / 190 (2) الاصل: قال ابن هشام: وهو تحريف وما أثبته من صحيح البخاري 2 / 190 (3) الاصل: أبواي.
وهو خطأ.
وما أثبته عن البخاري.
(*)
رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية.
فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد (1) لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة (2)، فقال: أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر: أخرجنى قومي فأريد أن أسيح في الارض فأعبد ربى.
فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلدك.
فرجع، وارتحل معه ابن الدغنة، وطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم ويحمل الكل ويقرى الضيف، ويعين على نوائب الحق ؟ ! فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ويصل فيها، ولقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
فقال ابن الدغنة ذلك لابي بكر.
فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره.
ثم بدا لابي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلى فيه ويقرأ القرآن.
فيتقذف (1) نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينه إذا قرأ القرآن.
__________
(1) برك الغماد: موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلى البحر.
وقد حكى في الباء الضم والكسر (2) قبيلة تشتهر بالرمي ولهم ما يقال: قد أنصف القارة من راماها.
(3) أي يتدافعون فيقذف بعضهم بعضا فيتساقطون عليه.
ورواية المواهب: " فيتقصف " أي يزدحم ورواية المروزى والمستملي: فينقذف بالنون.
شرح المواهب 1 / 289.
(*) (5 - السيرة - 2)
فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن الصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتتن أبناؤنا ونساؤنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لابي بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبى بكر فقال: قد علمت الذى قد عاقدتك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلى ذمتي، فإنى لا أحب أن تسمع العرب أنى أخفرت في رجل عقدت له.
فقال أبو بكر: فإنى أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عزوجل.
ثم ذكر تمام الحديث في هجرة أبى بكر رضى الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي مبسوطا.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق، قال: لقيه، يعنى أبا بكر الصديق حين خرج من جوار ابن الدغنة، سفيه من سفهاء قريش، وهو عامد إلى الكعبة، فحثا على رأسه ترابا، فمر بأبى بكر الوليد ابن المغيرة أو العاص بن وائل، فقال له أبو بكر رضى الله عنه: ألا ترى ما يصنع هذا السفيه ؟ ! فقال: أنت فعلت ذلك بنفسك.
وهو يقول: أي رب ما أحلمك، أي رب ما أحلمك، أي رب ما أحلمك ! فصل كل هذه القصص ذكرها ابن إسحق معترضا بها بين تعاقد قريش على بنى هاشم وبنى المطلب، وكتابتهم عليهم الصحيفة الظالمة وحصرهم إياهم في الشعب، وبين نقض
الصحيفة وما كان من أمرها، وهى أمور مناسبة لهذا الوقت، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: من أراد المغازى فهو عيال على ابن إسحق.
قال ابن إسحق: هذا وبنو هاشم وبنو المطلب في منزلهم الذى تعاقدت فيه قريش عليهم في الصحيفة التى كتبوها.
ثم إنه قام في نقض الصحيفة نفر من قريش.
ولم يبل فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر
ابن مالك بن حسل بن عامر بن لؤى، وذلك أنه كان ابن أخى نضلة بن هشام بن عبد مناف لامه.
وكان هشام لبنى هاشم واصلا، وكان ذا شرف في قومه.
فكان، فيما بلغني، يأتي بالبعير، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلا، قد أوقره طعاما، حتى إذا بلغ به فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه فدخل الشعب عليهم، ثم يأتي به قد أوقره برا فيفعل به مثل ذلك.
ثم إنه مشى إلى زهير بن أبى أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم، وكانت أمه عاتكة بنت عبدالمطلب، فقال: يا زهير أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم ؟ أما إنى أحلف بالله لو كانوا أخوال أبى الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا.
قال: ويحك يا هشام، فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معى رجل آخر لقمت في نقضها.
قال: قد وجدت رجلا.
قال: من هو ؟ قال: أنا.
قال له زهير: ابغنا ثالثا.
فذهب إلى المطعم بن عدى فقال له: يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بطنان من
بنى عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه ؟ ! أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا.
قال: ويحك فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد.
قال: وجدت لك ثانيا.
قال: من ؟ قال: أنا.
قال: ابغنا ثالثا.
قال قد فعلت قال: من هو ؟ قال: زهير بن أبى أمية.
قال ابغنا رابعا.
فذهب إلى أبى البخترى بن هشام فقال نحو ما قال للمطعم بن عدى، فقال: وهل تجد أحدا يعين على هذا ؟ قال: نعم.
قال: من هو ؟ قال: زهير بن أبى أمية والمطعم بن عدى وأنا معك.
قال:
ابغنا خامسا.
فذهب إلى زمعة بن الاسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الامر الذى تدعوني إليه من أحد ؟ قال: نعم.
ثم سمى القوم.
فاتعدوا حطم الحجون ليلا بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك، وأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم.
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبى أمية عليه حلة، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل الناس فقال: يا أهل مكة أنأ كل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل: وكان في ناحية المسجد: والله لا تشق.
قال زمعة بن الاسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت.
قال أبو البخترى: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به.
قال المطعم بن عدى: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها.
وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك.
قال أبو جهل: هذا أمر قد قضى بليل وتشوور فيه بغير هذا المكان.
وأبو طالب جالس في ناحية المسجد.
وقام المطعم بن عدى إلى الصحفة ليشقها فوجد الارضة قد أكلتها إلا " باسمك اللهم " وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة فشلت يده، فيما يزعمون.
قال ابن هشام: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابي
طالب: يا عم إن الله قد سلط الارضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان.
فقال: أربك أخبرك بهذا ؟ قال: نعم.
قال: فو الله ما يدخل عليك أحد.
ثم خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إن ابن أخى قد أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم، فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عنها، وإن كان كاذبا دفعت إليكم ابن أخى.
فقال القوم: قد رضينا.
فتعاقدوا على ذلك.
ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزادهم ذلك شرا.
فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا.
قال ابن إسحاق: فلما مزقت وبطل ما فيها قال أبو طالب فيما كان من أمر أولئك القوم الذين قاموا في نقض الصحيفة يمدحهم:
ألا هل أتى بحرينا صنع ربنا * على نأيهم والله بالناس أرود (1) فيخبرهم أن الصحيفة مزقت * وأن كل ما لم يرضه الله مفسد تراوحها إفك وسحر مجمع * ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد تداعى لها من ليس فيها بقرقر (2) * فطائرها في رأسها يتردد وكانت كفاء وقعة بأثيمة * ليقطع منها ساعد ومقلد (3) ويظعن أهل المكتين فيهربوا * فرائصهم من خشية الشر ترعد ويترك حراث يقلب أمره * أيتهم فيها عند ذاك وينجد فمن ينش من حضار مكة عزه * فعزتنا في بطن مكة أتلد نشأنا بها والناس فيها قلائل * فلم ننفكك نزداد خيرا ونحمد
ونطعم حتى يترك الناس فضلهم * إذا جعلت أيدى المفيضين ترعد جزى الله رهطا بالحجون تجمعوا * على ملا يهدى لحزم ويرشد قعودا لدى حطم الحجون كأنهم * مقاولة بل هم أعز وأمجد أعان عليها كل صقر كأنه * إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد (4) جرئ على جل (5) الخطوب كأنه * شهاب بكفى قابس يتوقد من الاكرمين من لؤى بن غالب * إذا سيم خسفا وجهه يتربد طويل النجاد خارج نصف ساقه * على وجهه يسقى الغمام ويسعد
__________
(1) بحرينا: أراد بهم الذين بأرض الحبشة، نسبهم إلى البحر لركوبهم إياه.
كما قال عليه السلام لاسماء بنت عميس حين قدمت من أرض الحبشة: " البحرية الحبشية " وأرود: أرفق.
(2) القرقر: أراد الذليل، والقرقر: الارض الموطوءة التى لا تمنع سالكها.
ويجوز أن يريد به: ليس بذى هزل.
الروض.
(3) المقلد: العنق.
(4) رفرف الدرع: فضولها.
والاحرد: الذى في مشيه تثاقل، وهو من الحرد، وهو عيب في الرجل.
(5) وتروى: جلى.
(*)
عظيم الرماد سيد وابن سيد * يحض على مقرى الضيوف ويحشد ويبنى لابناء العشيرة صالحا * إذا نحن طفنا في البلاد ويمهد ألظ (1) بهذا الصلح كل مبرإ * عظيم اللواء أمره ثم يحمد قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا * على مهل وسائر الناس رقد هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا * وسر أبو بكر بها ومحمد متى شرك الاقوام في حل أمرنا * وكنا قديما قبلها نتودد وكنا قديما لا نقر ظلامة * وندرك ما شئنا ولا نتشدد
فيال قصى هل لكم في نفوسكم * وهل لكم فيما يجئ به غد فإنى وإياكم كما قال قائل * لديك البيان لو تكلمت أسود قال السهيلي: أسود اسم جبل قتل به قتيل ولم يعرف قاتله، فقال أولياء المقتول: لديك البيان لو تكلمت أسود.
أي يا أسود لو تكلمت لابنت لنا عمن قتله (2).
ثم ذكر ابن إسحاق شعر حسان يمدح المطعم بن عدى وهشام بن عمرو لقيامهما في نقض الصحيفة الظالمة الفاجرة الغاشمة.
وقد ذكر الاموى ها هنا أشعارا كثيرة اكتفينا بما أورده ابن إسحاق.
وقال الواقدي: سألت محمد بن صالح، وعبد الرحمن بن عبد العزيز: متى خرج بنو هاشم من الشعب ؟ قالا: في السنة العاشرة، يعنى من البعثة، قبل الهجرة بثلاث سنين.
قلت: وفى هذه السنة بعد خروجهم توفى أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجته خديجة بنت خويلد رضى الله عنها.
كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ألظ: أخ وطالب.
(2) السهيلي: فقال أولياء المقتول هذه المقالة فذهبت مثلا.
(*)
فصل وقد ذكر محمد بن إسحاق رحمه الله بعد إبطال الصحيفة قصصا كثيرة تتضمن نصب عداوة قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفير أحياء العرب والقادمين إلى مكة لحج أو عمرة أو غير ذلك منه، وإظهار الله المعجزات على يديه، دلالة على صدقه فيما جاءهم به من البينات والهدى، وتكذيبا لهم فيما يرمونه من البغى والعدوان والمكر والخداع، ويرمونه من الجنون والسحر والكهانة والتقول، والله غالب على أمره.
* * * فذكر قصة الطفيل بن عمرو الدوسى مرسلة.
وكان سيدا مطاعا شريفا في دوس، وكان قد قدم مكة فاجتمع به أشراف قريش وحذروه من رسول الله ونهوه أن يجتمع به أو يسمع كلامه.
قال: فو الله ما زالوا بى حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئا ولا أكلمه، حتى حشوت أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا (1) فرقا من أن يبلغني شئ من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه.
قال فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى عند الكعبة.
قال: فقمت منه قريبا، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله.
قال: فسمعت كلاما حسنا، قال: فقلت في نفسي: واثكل أمي ! والله إنى لرجل لبيب شاعر ما يخفى على الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذى يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته.
__________
(1) الكرسف: القطن.
(*)
قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته [ فاتبعته حتى إذا دخل بيته (1) ] دخلت عليه فقلت: يا محمد إن قومك قالوا لى كذا وكذا.
للذى قالوا.
قال: فو الله ما برحوا بى يخوفونني أمرك حتى سددت أذنى بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعت قولا حسنا، فاعرض على أمرك.
قال: فعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الاسلام وتلا على القرآن، فلا والله
ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه.
قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا نبى الله إنى امرؤ مطاع في قومي، وإنى راجع إليهم وداعيهم إلى الاسلام، فادع الله أن يجعل لى آية تكون لى عونا عليهم فيما أدعوهم إليه.
قال فقال: اللهم اجعل له آية.
قال فخرجت إلى قومي، حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر، وقع بين عينى نور مثل المصباح.
قال: فقلت: اللهم في غير وجهى فإنى أخشى أن يظنوا أنها (2) مثلة وقعت في وجهى لفراقي دينهم.
قال: فتحول فوقع في رأس سوطي.
قال: فجعل الحاضرون (3) يتراءون ذلك النور في رأس سوطي كالقنديل المعلق وأنا أنهبط (4) عليهم من الثنية، حتى جئتهم فأصبحت فيهم.
__________
(1) سقطت من المطبوعة.
(2) الاصل: يظنوا بها وما أثبته من ابن هشام.
(3) ابن هشام: الحاضر.
(4) ابن هشام: أهبط.
(*)
فلما نزلت أتانى أبى، وكان شيخا كبيرا، فقلت: إليك عنى يا أبت، فلست منك ولست منى.
قال: ولم يا بنى ؟ قال: قلت أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: أي بنى فدينك دينى.
فقلت: فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم ائتنى حتى أعلمك مما علمت.
قال: فذهب فاغتسل وطهر ثيابه، ثم جاء فعرضت عليه الاسلام فأسلم.
قال: ثم أتتنى صاحبتي، فقلت: إليك عنى، فلست منك ولست منى.
قالت: ولم ؟ بأبى أنت وأمى.
قال: قلت: فرق بينى وبينك الاسلام، وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم.
قالت: فدينى دينك.
قال: فقلت فاذهبي إلى حمى (1) ذى الشرى فتطهري منه.
وكان ذو الشرى صنما لدوس، وكان الحمى حمى حموه حوله، به وشل (2) من ماء يهبط من جبل.
قالت: بأبى أنت وأمى، أتخشى على الصبية من ذى الشرى شيئا ؟ قلت: لا، أنا ضامن لذلك.
قال: فذهبت فاغتسلت، ثم جاءت فعرضت عليها الاسلام فأسلمت.
ثم دعوت دوسا إلى الاسلام فأبطأوا على، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة.
فقلت: يا رسول الله، إنه قد غلبنى على دوس الزنا، فادع الله عليهم.
قال: " اللهم اهد دوسا، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم ".
__________
(1) ويقال له أيضا: حنى (2) الوشل: الماء القليل.
(*)
قال: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الاسلام، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم معى من قومي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس، فلحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين.
ثم لم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة، فقلت: يا رسول الله ابعثنى إلى ذى الكفين صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه.
قال ابن إسحاق: فخرج إليه، فجعل الطفيل وهو يوقد عليه النار يقول: يا ذا الكفين (1) لست من عبادكا * ميلادنا أقدم من ميلادكا إنى حشوت النار في فؤادكا قال: ثم رجع [ إلى (2) ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان معه بالمدينة، حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما ارتدت العرب خرج الطفيل مع المسلمين، فسار معهم حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل.
فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة، فقال لاصحابه: إنى قد رأيت رؤيا فاعبروها لى، رأيت أن رأسي حلق، وأنه خرج من فمى طائر، وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في فرجها، وأرى ابني يطلبني طلبا حثيثا ثم رأيته حبس عنى.
قالوا: خيرا.
قال: أما أنا والله فقد أولتها.
__________
(1) الكفين: أراد الكفين بالتشديد فخفف للضرورة.
وذكر السهيلي أنه قد يخفف في غير الشعر، فإن صح هذا فهو تثنية كفء من كفأت الاناء ثم سهلت الهمزة ونقلت حركتها إلى الفاء كالخبء والخب.
الروض 1 / 235 (2) من ابن هشام.
(*)
قالوا: ماذا ؟ قال: أما حلق رأسي فوضعه، وأما الطائر الذى خرج منه فروحي، وأما المرأة التى أدخلتني في فرجها فالارض تحفر لى فأغيب فيها.
وأما طلب ابني إياى ثم حبسه عنى فإنى أراه سيجتهد أن يصيبه ما أصابني.
فقتل رحمه الله تعالى شهيدا باليمامة، وجرح ابنه جراحة شديدة، ثم استبل منها، ثم قتل عام اليرموك زمن عمر شهيدا.
رحمه الله.
هكذا ذكر محمد بن إسحاق قصة الطفيل بن عمرو مرسلة بلا إسناد.
ولخبره شاهد في الحديث الصحيح.
* * * قال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبى الزناد، عن الاعرج، عن أبى هريرة، قال: لما قدم الطفيل وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن دوسا قد استعصت، قال: " اللهم اهد دوسا وائت بهم ".
رواه البخاري، عن أبى نعيم، عن سفيان الثوري.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قدم الطفيل بن عمرو الدوسى وأصحابه، فقالوا: يا رسول الله إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليها.
قال أبو هريرة فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقلت: هلكت دوس ! فقال: " اللهم اهد دوسا، وائت بهم ".
إسناده جيد ولم يخرجوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن حجاج الصواف، عن أبى الزبير، عن جابر، أن الطفيل بن عمرو الدوسى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ قال: حصن كان لدوس في الجاهلية.
فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، للذى ذخر الله للانصار.
فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا (1) المدينة، فمرض فجزع فأخذ مشاقص فقطع بها براجمه (2)، فشخبت يداه فما رقأ الدم حتى مات.
فرآه الطفيل بن عمرو في منامه في هيئة حسنة، ورآه مغطيا يديه، فقال له: ما صنع ربك ؟ فقال: غفر لى بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال: فما لى أراك مغطيا يديك ؟ قال: قيل لى لن يصلح منك ما أفسدت !
قال: فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم وليديه فاغفر ".
رواه مسلم عن أبى بكر بن أبى شيبة وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن سليمان ابن حرب به.
فإن قيل: فما الجمع بين هذا الحديث وبين ما ثبت في الصحيحين من طريق الحسن، عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات، فقال الله عزوجل عبدى بادرنى بنفسه فحرمت عليه الجنة ".
فالجواب من وجوه: أحدها: أنه قد يكون ذاك مشركا وهذا مؤمن.
ويكون قد جعل هذا الصنيع سببا مستقلا في دخوله النار، وإن كان شركه مستقلا إلا أنه نبه على هذا لتعتبر أمته.
__________
(1) اجتووا المدينة: كرهوا المقام بها لضجر وسقم.
(2) المشاقص: جمع مشقص وهو سهم فيه نصل عريض: والبراجم: مفاصل الاصابع.
(*)
الثاني: قد يكون هذاك عالما بالتحريم، وهذا غير عالم لحداثة عهده بالاسلام.
الثالث: قد يكون ذاك فعله مستحلا له، وهذا لم يكن مستحلا بل مخطئا، الرابع: قد يكون أراد ذاك بصنيعه المذكور أن يقتل نفسه، بخلاف هذا فإنه يجوز أنه لم يقصد قتل نفسه وإنما أراد غير ذلك.
الخامس: قد يكون هذاك قليل الحسنات فلم تقاوم كبر ذنبه المذكور، فدخل النار وهذا قد يكون كثير الحسنات فقاومت الذنب فلم يلج النار، بل غفر له بالهجرة إلى نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولكن بقى الشين في يده فقط وحسنت هيئة سائره فغطى الشين منه، فلما رآه الطفيل بن عمرو مغطيا يديه قال له: ما لك ؟ قال: قيل لى لن يصلح منك ما أفسدت.
فلما قصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له فقال: " اللهم وليديه فاغفر " أي فأصلح منها ما كان فاسدا.
والمحقق أن الله استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب الطفيل ابن عمرو.
قصة أعشى بن قيس قال ابن هشام: حدثنى خلاد بن قرة بن خالد السدوسى وغيره من مشايخ بكر ابن وائل، عن (1) أهل العلم، أن أعشى بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن على ابن بكر بن وائل، خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الاسلام، فقال يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) ابن هشام: من أهل العلم.
(*)
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وبت كما بات السليم مسهدا ما ذاك من عشق النساء وإنما * تناسيت قبل اليوم خلة (1) مهددا ولكن أرى الدهر الذى هو خائن * إذا أصلحت كفاى عاد فأفسدا كهولا وشبانا فقدت وثروة * فلله هذا الدهر كيف ترددا وما زلت أبغى المال مذ أنا يافع * وليدا وكهلا حين شبت وأمردا وأبتذل العيس المراقيل تعتلى * مسافة ما بين النجير فصرخدا (2) ألا أيهذا السائلى أين يممت * فإن لها في أهل يثرب موعدا فإن تسألي عنى فيارب سائل * حفى عن الاعشى به حيث أصعدا أجدت برجليها النجاء (3) وراجعت * يداها خنافا لينا غير أحردا (4)
وفيها أذا ما هجرت عجرفية * أذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا (5) وآليت لا آوى لها من كلالة * ولا من حفى حتى تلاقى محمدا متى ما تناخى عند باب ابن هاشم * تراحى وتلقى من فواضله ندى نبى يرى ما لا ترون وذكره * أغار لعمري في البلاد وأنجدا (6) له صدقات ما تغب ونائل * فليس عطاء اليوم مانعه غدا أجدك لم تسمع وصاة محمد * نبى الاله حيث أوصى وأشهدا
__________
(1) وتروى: صحبة.
(2) العيس المراقيل: الابل المسرعة.
النجير وصرخد: بلدان.
(3) ط: النجاء.
وهو تحريف.
(4) خنفت الناقة ببديها في السير إذا مالت بهما نشاطا.
(5) الحرباء: دويبة تستقبل الشمس برأسها، والاصيد: المائل العنق، والمقصود حين تكون الشمس في وسط السماء وذلك أحر ما تكون الرمضاء، يصف ناقته بالنشاط وقوة المشى في ذلك الوقت.
(6) رواية ابن دريد في الاشتقاق 1 / 18: نبى يرى ما لا ترون وذكره * لعمري غار في البلاد وأنجدا قال: " ومن روى: " أغار لعمري " فقد لحن وأخطأ ".
(*)
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى * ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله * فترصد للامر الذى كان أرصدا فإياك والميتات لا تقربنها * ولا تأخذن سهما حديدا لتقصدا وذا النصب المنصوب لا تنسكنه * ولا تعبد الاوثان والله فاعبدا ولا تقربن حرة (1) كان سرها * عليك حراما فانكحن أو تأبدا (2) وذا الرحم القربى فلا تقطعنه * لعاقبة ولا الاسير المقيدا
وسبح على حين العشية (3) والضحى * ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا ولا تسخرن من بائس ذى ضرارة * ولا تحسبن المال للمرء مخلدا قال ابن هشام: فلما كان بمكة أو قريب منها، اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم.
فقال له: يا أبا بصير: إنه يحرم الزنا.
فقال الاعشى: والله إن ذلك لامر مالى فيه من أرب.
فقال: يا أبا بصير: إنه يحرم الخمر.
فقال الاعشى: أما هذه فو الله إن في نفسي منها العلالات، ولكني منصرف فأتروى منها عامى هذا، ثم آتيه فأسلم.
فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
هكذا أورد ابن هشام هذه القصة ها هنا، وهو كثير المؤاخذات لمحمد بن إسحاق رحمه الله، وهذا مما يؤاخذ به ابن هشام رحمه الله ! فإن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد وقعة بنى النضير كما سيأتي بيانه.
__________
(1) وتروى: جارة.
(2) تأبد: ترهب، لان الراهب أبدا أعزب، فقيل له متأبد، اشتق من لفظ الابد.
(3) ابن هشام: العشيات.
(*)
فالظاهر أن عزم الاعشى على القدوم للاسلام إنما كان بعد الهجرة، وفى شعره ما يدل على ذلك، وهو قوله: ألا أيهذا السائلى أين يممت * فإن لها في أهل يثرب موعدا وكان الانسب والاليق بابن هشام أن يؤخر ذكر هذه القصة إلى ما بعد الهجرة ولا يوردها ها هنا.
والله أعلم.
قال السهيلي: وهذه غفلة من ابن هشام ومن تابعه، فإن الناس مجمعون على أن الخمر
لم ينزل تحريمها إلا في المدينة بعد أحد.
وقد قال: وقيل إن القائل للاعشى هو أبو جهل بن هشام في دار عتبة ابن ربيعة.
وذكر أبو عبيدة أن القائل له ذلك هو عامر بن الطفيل في بلاد قيس، وهو مقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وقوله: ثم آته فأسلم لا يخرجه عن كفره بلا خلاف والله أعلم.
ثم ذكر ابن إسحاق ها هنا قصة الاراشى وكيف استعدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبى جهل في ثمن الجمل الذى ابتاعه منه، وكيف أذل الله أبا جهل وأرغم أنفه حتى أعطاه ثمنة في الساعة الراهنة.
وقد قدمنا ذلك في ابتداء الوحى، وما كان من أذية المشركين عند ذلك.
(6 - السيرة - 2)
قصة مصارعة ركانة وكيف أراه الشجرة التى دعاها فأقبلت صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق: وحدثني أبى إسحاق بن يسار قال: كان ركانة بن عبد يزيد ابن هاشم بن المطلب بن عبد مناف أشد قريش.
فخلا يوما برسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ركانة ألا تتقى الله وتقبل ما أدعوك إليه.
قال: إنى لو أعلم أن الذى تقول حق لاتبعتك.
فقال له رسول الله: " أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق ؟ ".
قال: نعم.
قال: " فقم حتى أصارعك ".
قال: فقام ركانة إليه فصارعه، فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وسلم أضجعه
لا يملك من نفسه شيئا.
ثم قال: عد يا محمد.
فعاد فصرعه.
فقال: يا محمد والله إن هذا للعجب، أتصرعني ؟ ! قال: " وأعجب من ذلك إن شئت أريكه، إن اتقيت الله واتبعت أمرى ".
قال: وما هو ؟ قال: " أدعو لك هذه الشجرة التى ترى فتأتيني ".
قال: فادعها.
فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال لها: ارجعي إلى مكانك ! فرجعت إلى مكانها.
قال: فذهب ركانة إلى قومه فقال: يا بنى عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الارض، فو الله ما رأيت أسحر منه قط ! ثم أخبرهم بالذى رأى والذى صنع.
هكذا روى ابن إسحاق هذه القصة مرسلة بهذا البيان.
وقد روى أبو داود والترمذي من حديث أبى الحسن العسقلاني، عن أبى جعفر بن محمد بن ركانة، عن أبيه، أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الترمذي: غريب.
ولا نعرف أبا الحسن ولا ابن ركانة.
قلت: وقد روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد، عن ابن عباس رضى الله عنهما: أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل مرة على مائة من الغنم، فلما كان في الثالثة قال: يا محمد ما وضع ظهرى إلى الارض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إلى منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقام عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عليه غنمه.
وأما قصة دعائه الشجرة فأقبلت، فسيأتي في كتاب دلائل النبوة بعد السيرة من طرق جيدة صحيحة في مرات متعددة.
إن شاء الله وبه الثقة.
وقد تقدم عن أبى الاشدين أنه صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر ابن إسحاق قصة قدوم النصارى من أهل الحبشة نحوا من عشرين راكبا إلى مكة فأسلموا عن آخرهم، وقد تقدم ذلك بعد قصة النجاشي.
ولله الحمد والمنة.
* * * قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد فجلس (1) إليه المستضعفون من أصحابه، خباب، وعمار، وأبو فكيهة يسار (2) مولى صفوان بن أمية، وصهيب، وأشباههم من المسلمين، هزئت بهم قريش، وقال بعضهم لبعض:
__________
(1) الاصل: يجلس وهو تحريف لا يستقيم به المعنى، وما أثبته من ابن هشام.
(2) الاصل: وأبوفكية ويسار.
وهو خطأ.
وما أثبته من ابن هشام.
(*)
هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بالهدى ودين الحق، لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه وما خصهم الله به دوننا.
فأنزل الله عزوجل فيهم: " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ما عليك من حسابهم من شئ، وما من حسابك عليهم من شئ، فتطردهم فتكون من الظالمين، وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا.
أليس الله بأعلم بالشاكرين.
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم (1) ".
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة (2) غلام نصراني يقال له جبر، عبد لبنى الحضرمي، وكانوا يقولون: والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جبر.
فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم " إنما يعلمه بشر.
لسان الذى يلحدون إليه أعجمى
وهذا لسان عربي مبين (3) ".
ثم ذكر نزول سورة الكوثر في العاص بن وائل حين قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه أبتر.
أي لا عقب له.
فإذا مات انقطع ذكره.
فقال الله تعالى: " إن شانئك هو الابتر " أي المقطوع الذكر بعده، ولو خلف ألوفا من النسل والذرية، وليس الذكر والصيت ولسان الصدق بكثرة الاولاد والانسال والعقب.
وقد تكلمنا على هذه السورة في التفسير.
ولله الحمد.
__________
(1) سورة الانعام 52 - 54.
(2) الاصل بيعة وما أثبته عن ابن هشام.
والمبيعة: مفعلة مثل المعيشة.
(3) سورة النحل 103.
(*)
وقد روى عن أبى جعفر الباقر: أن العاص بن وائل إنما قال ذلك حين مات القاسم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيبة.
ثم ذكر نزول قوله: " وقالوا لو لا أنزل عليه ملك، ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر (1) " وذلك بسبب قول أبى بن خلف وزمعة بن الاسود، والعاص بن وائل، والنضر بن الحارث: لو لا أنزل عليك ملك يكلم الناس عنك.
قال ابن إسحاق: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبى جهل ابن هشام، فهمزوه واستهزءوا به، فغاظه ذلك فأنزل الله تعالى في ذلك من أمرهم " ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون " (1).
قلت: وقال الله تعالى " ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين (1) " وقال تعالى " إنا كفيناك المستهزئين (2) ".
قال سفيان: عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال:
المستهزءون: الوليد بن المغيرة، والاسود بن عبد يغوث الزهري، والاسود بن المطلب أبو زمعة، والحارث بن عيطل (3)، والعاص بن وائل السهمى.
فأتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراه الوليد فأشار جبريل إلى أنمله وقال: كفيته.
ثم أراه الاسود بن المطلب، فأومأ إلى عنقه وقال: كفيته.
ثم أراه الاسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه وقال: كفيته.
__________
(1) سورة الانعام (2) سورة الحجر 95.
(3) سيأتي أنه ابن الطلاطلة.
كما في ابن هشام والروض.
(*)
ثم أراه الحارث بن عيطل فأومأ إلى بطنه وقال: كفيته.
ومر به العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه وقال: كفيته.
فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا له فأصاب أنمله فقطعها.
وأما الاسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها.
وأما الاسود بن المطلب فعمى.
وكان سبب ذلك أنه نزل تحت سمرة فجعل يقول: يا بنى ألا تدفعون عنى ! قد قتلت.
فجعلوا يقولون: ما نرى شيئا.
وجعل يقول: يا بنى ألا تمنعون عنى قد هلكت، ها هو ذا الطعن بالشوك في عينى.
فجعلوا يقولون: ما نرى شيئا.
فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه.
وأما الحارث بن عيطل فأخذه الماء الاصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها.
وأما العاص بن وائل فبينما هو كذلك يوما إذ دخل في رأسه شبرقة حتى امتلات منها فمات منها.
وقال غيره في هذا الحديث: فركب إلى الطائف على حمار فربض به على شبرقة، يعنى شوكة، فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته.
رواه البيهقى بنحو من هذا السياق.
* * * وقال ابن إسحاق: وكان عظماء المستهزئين كما حدئنى يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير خمسة نفر، وكانوا ذوى أسنان وشرف في قومهم: الاسود بن المطلب أبو زمعة، دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم أعم بصره وأثكله ولده ".
والاسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث ابن الطلاطلة.
وذكر أن الله تعالى أنزل فيهم " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ".
وذكر أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فمر به الاسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمى.
ومر به الاسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى باطنه فمات منه حبنا.
ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعبه، كان أصابه قبل ذلك بسنين، من مروره برجل يريش نبلا له من خزاعة، فتعلق سهم بإزاره فخدشه خدشا يسيرا، فانتقض بعد ذلك فمات.
ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته.
ومر به الحارث بن الطلاطل فأشار إلى رأسه فامتحض قيحا فقتله.
* * * ثم ذكر ابن إسحاق: أن الوليد بن المغيرة لما حضره الموت أوصى بنيه الثلاثة وهم خالد وهشام والوليد.
فقال لهم: أي بنى، أوصيكم بثلاث: دمى في خزاعة فلا تطلوه (1)، والله إنى لاعلم أنهم منه براء ولكني أخشى أن تسبوا به بعد اليوم، ورباى في ثقيف فلا تدعوه حتى تأخذوه، وعقرى (2) عند أبى أزيهر الدوسى فلا يفوتنكم به.
وكان
__________
(1) لا تطلوه: لا تهدروه.
وفى ابن هشام: فلا تطلنه.
(2) العقر بالضم في الاصل: دية فرج المرأة إذا غصبت على نفسها، ثم كثر ذلك حتى استعمل في المهر.
(*)
أبو أزيهر قد زوج الوليد بنتا له ثم أمسكها عنه فلم يدخلها عليه حتى مات، وكان قد قبض عقرها منه، وهو صداقها.
فلما مات الوليد وثبت بنو مخزوم على خزاعة يلتمسون منهم عقل الوليد، وقالوا إنما قتله سهم صاحبكم، فأبت عليهم خزاعة ذلك، حتى تقاولوا أشعارا وغلظ بينهم الامر.
ثم أعطتهم خزاعة بعض العقل واصطلحوا وتحاجزوا.
قال ابن إسحاق: ثم عدا هشام بن الوليد على أبى أزيهر وهو بسوق ذى المجاز فقتله، وكان شريفا في قومه، وكانت ابنته تحت أبى سفيان، وذلك بعد بدر، فعمد يزيد بن أبى سفيان فجمع الناس لبنى مخزوم وكان أبوه غائبا، فلما جاء أبو سفيان غاظه ما صنع ابنه يزيد، فلامه على ذلك وضربه وودى أبا أزيهر وقال لابنه: أعمدت إلى أن تقتل قريش بعضها بعضا في رجل من دوس ؟ ! وكتب حسان بن ثابت قصيدة له يحض أبا سفيان في دم أبى أزيهر، فقال: بئس ما ظن حسان أن يقتل بعضنا بعضا وقد ذهب أشرافنا يوم بدر.
ولما أسلم خالد بن الوليد وشهد الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله في ربا أبيه من أهل الطائف.
قال ابن إسحاق: فذكر لى بعض أهل العلم أن هؤلاء الآيات نزلن في ذلك " يا أيها
الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين (1) " وما بعدها.
قال ابن إسحاق: ولم يكن في بنى أزيهر ثأر نعلمه حتى حجز الاسلام بين الناس، إلا أن ضرار بن الخطاب بن مرداس الاسلمي (2) خرج في نفر من قريش إلى أرض
__________
(1) سورة البقرة 278.
(2) في ابن هشام: الدوسى.
وهو ضرار بن الخطاب بن مرداس بن كبير بن عمرو بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب، كان فارس قريش في الجاهلية وأدرك الاسلام، وكان شاعرا فارسا، وهو من رجال بنى فهر أخذ مرباعهم في الجاهلية.
الاشتقاق 1 / 103.
(*)
دوس، فنزلوا على امرأة يقال لها أم غيلان مولاة لدوس، وكانت تمشط النساء وتجهز العرائس، فأرادت دوس قتلهم بأبى أزيهر، فقامت دونه أم غيلان ونسوة كن معها حتى منعتهم.
قال السهيلي: يقال إنها أدخلته بين درعها وبدنها.
قال ابن هشام: فلما كانت أيام عمر بن الخطاب، أتته أم غيلان وهى ترى أن ضرارا أخوه، فقال لها عمر: لست بأخيه إلا في الاسلام، وقد عرفت منتك عليه.
فأعطاها على أنها بنت سبيل.
قال ابن هشام: وكان ضرار بن الخطاب لحق عمر بن الخطاب يوم أحد، فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول: انج يا بن الخطاب لا أقتلك.
فكان عمر يعرفها له بعد الاسلام.
رضى الله عنهما.
فصل وذكر البيهقى ها هنا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قريش حين استعصت عليه بسبع مثل سبع يوسف.
وأورد ما أخرجاه في الصحيحين (1) من طريق الاعمش، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق عن ابن مسعود.
قال: خمس مضين، اللزام، والروم، والدخان،
والبطشة، والقمر.
وفى رواية عن ابن مسعود قال: إن قريشا، لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطأوا عن الاسلام، قال: " اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف ".
__________
(1) أورد البخاري هذه الروايات في تفسير سورة الفرقان والدخان في صحيحه 2 / 347، 361، 362.
وهى مختلفة عما هنا (*)
قال: فأصابتهم سنة حتى حصت (1) كل شئ، حتى أكلوا الجيف والميتة، وحتى أن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع، ثم دعا فكشف الله عنهم، ثم قرأ عبدالله هذه الآية " إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون " قال فعادوا فكفروا فأخروا إلى يوم القيامة، أو قال فأخروا إلى يوم بدر، قال عبدالله: إن ذلك لو كان يوم القيامة كان لا يكشف عنهم " يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون " قال: يوم بدر.
وفى رواية عنه: قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس إدبارا قال: " اللهم سبع كسبع يوسف " فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام، فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر، فقال: " اللهم حوالينا ولا علينا " فانجذب السحاب عن رأسه فسقى الناس حولهم.
قال: لقد مضت آية الدخان، وهو الجوع الذى أصابهم، وذلك قوله " إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون " وآية الروم، والبطشة الكبرى، وانشقاق القمر، وذلك كله يوم بدر.
قال البيهقى: يريد، والله أعلم، البطشة الكبرى والدخان وآية اللزام كلها حصلت ببدر.
__________
(1) الاصل: فحصت.
وهو تحريف والتصويب من البخاري 2 / 262 ولفظ البخاري: فأصابتهم سنة حصت كل شئ.
وحصت: أهلكت.
والحص: حلق الشعر.
(*)
قال: وقد أشار البخاري إلى هذه الرواية، ثم أورد من طريق عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال جاء: أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغيث من الجوع لانهم لم يجدوا شيئا حتى أكلوا العهن، فأنزل الله تعالى: " ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون " قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرج الله عنهم.
ثم قال الحافظ البيهقى: وقد روى في قصة أبى سفيان ما دل على أن ذلك بعد الهجرة، ولعله كان مرتين.
والله أعلم.
فصل ثم أورد البيهقى قصة فارس والروم ونزول قوله تعالى " الم.
غلبت الروم في أدنى الارض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون.
في بضع سنين، لله الامر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ".
ثم روى من طريق سفيان الثوري، عن حبيب بن أبى عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لانهم أهل كتاب، وكان المشركين يحبون أن تظهر فارس على الروم لانهم أهل أوثان، فذكر ذلك المسلمون لابي بكر، فذكره أبو بكر للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: " أما أنهم سيظهرون " فذكر أبو بكر ذلك للمشركين فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا، إن ظهروا كان لك كذا وكذا، وإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا.
فذكر ذلك أبو بكر للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا جعلته أداة ".
قال: دون العشر.
فظهرت الروم بعد ذلك.
وقد أوردنا طرق هذا الحديث في التفسير وذكرنا أن المباحث - أي المراهن - لابي بكر أمية بن خلف، وأن الرهن كان على خمس قلائص، وأنه كان إلى مدة، فزاد
فيها الصديق عن أمر رسول الله صلى عليه وسلم وفى الرهن.
وأن غلبة الروم على فارس كان يوم بدر، أو كان يوم الحديبية، فالله أعلم.
ثم روى من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا أسيد الكلابي، أنه سمع العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه.
قال: رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم، وظهورهم على الشام والعراق.
كل ذلك في خمس عشرة سنة !
فصل في الاسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، ثم عروجه من هناك إلى السموات، وما رأى هنالك من الآيات ذكر ابن عساكر أحاديث الاسراء في أوائل البعثة، وأما ابن إسحاق فذكرها في هذا الموطن بعد البعثة بنحو من عشر سنين.
وروى البيهقى من طريق موسى بن عقبة، عن الزهري أنه قال: أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى المدينة بسنة.
قال: وكذلك ذكره ابن لهيعة، عن أبى الاسود، عن عروة.
ثم روى الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن أسباط بن نصر، عن إسماعيل السدى.
أنه قال: فرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس ببيت المقدس ليلة أسرى به، قبل مهاجره بستة عشر شهرا.
فعلى قول السدى يكون الاسراء في شهر ذى القعدة، وعلى قول الزهري وعروة
يكون في ربيع الاول.
وقال أبو بكر بن أبى شيبة: حدثنا عثمان، عن سعيد بن ميناء، عن جابر وابن عباس، قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الاول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات.
فيه انقطاع.
وقد اختاره الحافظ عبد الغنى بن سرور المقدسي في سيرته، وقد أورد حديثا لا يصح سنده، ذكرناه في فضائل شهر رجب، أن الاسراء كان ليلة السابع والعشرين من رجب والله أعلم.
ومن الناس من يزعم أن الاسراء كان أول ليلة جمعة من شهر رجب، وهى ليلة الرغائب التى أحدثت فيها الصلاة المشهورة، ولا أصل لذلك.
والله أعلم.
وينشد بعضهم في ذلك: ليلة الجمعة عرج بالنبي * ليلة الجمعة أول رجب وهذا الشعر عليه ركاكة، وإنما ذكرناه استشهادا لمن يقول به.
وقد ذكرنا الاحاديث الواردة في ذلك مستقصاة عند قوله تعالى: " سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا، أنه هو السميع البصير ".
فلتكتب من هناك على ما هي عليه من الاسانيد والعزو، والكلام عليه ومعها.
ففيها مقنع وكفاية.
ولله الحمد والمنة.
* * * ولنذكر ملخص كلام ابن إسحاق رحمه الله: فإنه قال بعد ذكر ما تقدم من الفصول.
ثم أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى،
وهو بيت المقدس من إيلياء، وقد فشا الاسلام بمكة في قريش وفى القبائل كلها.
قال: وكان من الحديث فيما بلغني عن مسراه صلى الله عليه وسلم عن ابن مسعود، وأبى سعيد، وعائشة، ومعاوية، وأم هانئ بنت أبى طالب رضى الله عنهم، والحسن بن أبى الحسن، وابن شهاب الزهري، وقتادة وغيرهم من أهل العلم، ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر لى من أمره.
وكان في مسراه صلى الله عليه وسلم وما ذكر لى منه بلاء وتمحيص، وأمر من أمر الله
وقدرته (1) وسلطانه، فيه عبرة لاولى الالباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق وكان من أمر الله على يقين.
فأسرى به كيف شاء وكما شاء، ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم وقدرته التى يصنع بها ما يريد.
وكان عبدالله بن مسعود فيما بلغني يقول: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالبراق، وهى الدابة التى كانت تحمل عليها الانبياء قبله، تضع حافرها في موضع منتهى طرفها، فحمل عليها.
ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السماء والارض.
حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى، في نفر من الانبياء قد جمعوا له، فصلى بهم.
ثم أتى بثلاثة آنية من لبن وخمر وماء.
فذكر أنه شرب إناء اللبن، فقال لى جبريل: هديت وهديت أمتك.
* * * وذكر ابن إسحاق في سياق الحسن البصري مرسلا أن جبريل أيقظه، ثم خرج به إلى باب المسجد الحرام، فأركبه، البراق، وهو دابة أبيض بين البغل والحمار، وفى
فخديه جناحان يحفز بهما رجليه، يضع حافره في منتهى طرفه، ثم حملني عليه ثم خرج معى لا يفوتنى ولا أفوته.
قلت: وفى الحديث، وهو عن قتادة فيما ذكره ابن إسحاق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد ركوب البراق شمس به، فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال
__________
(1) ابن هشام: في قدرته (*)
ألا تستحى يا براق مما تصنع ! فو الله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه.
قال: فاستحى حتى ارفض عرقا، ثم قر حتى ركبته.
قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى معه جبريل، حتى انتهى به إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الانبياء، فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم.
ثم ذكر اختياره إناء اللبن على إناء الخمر، وقول جبريل له: هديت وهديت أمتك، وحرمت عليكم الخمر.
قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فأصبح يخبر قريشا بذلك.
فذكر أنه كذبه أكثر الناس، وارتدت طائفة بعد إسلامها.
وبادر الصديق إلى التصديق وقال: إنى لاصدقه في خبر السماء بكرة وعيشة، أفلا أصدقه في بيت المقدس ! وذكر أن الصديق سأله عن صفة بيت المقدس، فذكرها له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فيومئذ سمى أبو بكر الصديق.
قال الحسن: وأنزل الله في ذلك " وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس " الآية.
* * * وذكر ابن إسحاق فيما بلغه عن أم هانئ، انها قالت: ما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من بيتى، نام عندي تلك الليلة بعد ما صلى العشاء الآخرة، فلما
كان قبيل الفجر أهبنا (1) فلما كان الصبح وصلينا معه، قال: " يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة في هذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم قد صليت الغداة معكم الآن كما ترين ".
ثم قام ليخرج، فأخذت بطرف ردائه فقلت: يا نبى الله لا تحدث بهذا الحديث الناس فيكذبونك ويؤذونك.
قال: " والله لاحدثنهموه ".
فأخبرهم فكذبوه.
فقال: وآية ذلك أنى مررت بعير بنى فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة، فند لهم بعير فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان (2) مررت بعير بنى فلان، فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشئ، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان، وآية ذلك أن عيرهم تصوب الآن من ثنية التنعيم البيضاء، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والاخرى برقاء.
قال: فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل الذى وصف لهم وسألوهم عن الاناء وعن البعير، فاخبروهم كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه.
وذكر يونس بن بكير، عن أسباط، عن إسماعيل السدى، أن الشمس كادت أن تغرب قبل أن يقدم ذلك العير، فدعا الله عزوجل فحبسها حتى قدموا كما وصف لهم.
قال: فلم تحتبس الشمس على أحد إلا عليه ذلك اليوم وعلى يوشع بن نون.
رواه البيهيقى.
* * *
__________
(1) أهبنا: أيقظنا.
(2) ضجنان: جبل بناحية نهامة.
وفى الاصل: صحنان محرفة.
(*) (7 - السيرة - 2)
قال ابن إسحاق: وأخبرني من لا أتهم عن أبى سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتى بالمعراج، ولم أر شيئا قط أحسن منه، وهو الذى يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر.
فأصعدني فيه صاحبي حتى انتهى بى إلى باب من أبواب السماء يقال له باب الحفظة عليه بريد (1) من الملائكة يقال له إسماعيل، تحت يده اثنا عشر ألف ملك، تحت يد كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك.
قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا حدث بهذا الحديث: " وما يعلم جنود ربك إلا هو ".
ثم ذكر بقية الحديث وهو مطول جدا، وقد سقناه بإسناده ولفظه بكماله في التفسير وتكلمنا عليه، فإنه من غرائب الاحاديث وفى إسناده ضعف.
وكذا في سياق حديث أم هانئ، فإن الثابت في الصحيحين من رواية شريك بن أبى نمر، عن أنس، أن الاسراء كان من المسجد من عند الحجر.
وفى سياقه غرابة أيضا من وجوه قد تكلمنا عليها هناك.
ومنها قوله: " وذلك قبل أن يوحى إليه " والجواب أن مجيئهم أول مرة كان قبل أن يوحى إليه، فكانت تلك الليلة ولم يكن فيها شئ، ثم جاءه الملائكة ليلة أخرى ولم يقل في ذلك: " وذلك قبل أن يوحى إليه " بل جاءه بعد ما أوحى إليه.
فكان الاسراء قطعا بعد الايحاء، إما بقليل كما زعمه طائفة، أو بكثير نحو من عشر سنين كما زعمه آخرون، وهو الاظهر.
وغسل صدره تلك الليلة قبل الاسراء غسلا ثانيا، أو ثالثا على قول، أنه مطلوب إلى الملا الاعلى والحضرة الالهية.
__________
(1) ابن هشام: ملك من الملائكة.
(*)
ثم ركب البراق رفعة له وتعظيما وتكريما، فلما جاء بيت المقدس ربطه بالحلقة التى كانت تربط بها الانبياء، ثم دخل بيت المقدس فصلى في قبلته تحية المسجد.
وأنكر حذيفة رضى الله عنه دخوله إلى بيت المقدس وربطه الدابة وصلاته فيه.
وهذا غريب، والنص المثبت مقدم على النافي.
ثم اختلفوا في اجتماعه بالانبياء وصلاته بهم: أكان قبل عروجه إلى السماء كما دل عليه ما تقدم، أو بعد نزوله منها كما دل عليه بعض السياقات وهو أنسب.
كما سنذكره على قولين.
فالله أعلم.
وقيل: إن صلاته بالانبياء كانت في السماء.
وهكذا تخيره من الآنية اللبن والخمر والماء، هل كانت ببيت المقدس كما تقدم ؟ أو في السماء كما ثبت في الحديث الصحيح.
والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من أمر بيت المقدس نصب له المعراج وهو السلم فصعد فيه إلى السماء، ولم يكن الصعود على البراق كما قد يتوهمه بعض الناس، بل كان البراق مربوطا على باب مسجد بيت المقدس ليرجع عليه إلى مكة.
فصعد من سماء إلى سماء في المعراج، حتى جاوز السابعة، وكلما جاء سماء تلقته منها مقربوها ومن فيها من أكابر الملائكة والانبياء.
وذكر أعيان من رآه من المرسلين، كآدم في سماء الدنيا، ويحيى وعيسى في الثانية وإدريس في الرابعة، وموسى في السادسة (1) على الصحيح، وإبراهيم في السابعة مسندا
ظهره إلى البيت المعمور، الذى يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه صلاة وطوافا ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.
__________
(1) لم يذكر المؤلف من رأى في الثالثة والخامسة.
(*)
ثم جاوز مراتبهم كلهم، حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الاقلام ورفعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، ونبقها كقلال هجر، وغشيها عند ذلك أمور عظيمة وألوان متعددة باهرة، وركبتها الملائكة مثل الغربان على الشجرة كثرة، وفراش من ذهب، وغشيها من نور الرب جل جلاله.
* * * ورأى هناك جبريل عليه السلام، له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين السماء والارض، وهو الذى يقول الله تعالى: " ولقد رآه نزلة أخرى.
عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى.
إذ يغشى السدرة ما يغشى.
ما زاغ البصر وما طغى " أي ما زاغ يمينا ولا شمالا ولا ارتفع عن المكان الذى حد له النظر إليه.
وهذا هو الثبات العظيم والادب الكريم.
وهذه الرؤيا الثانية لجبريل عليه السلام على الصفة التى خلقه الله تعالى عليها، كما نقله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو ذر وعائشة رضى الله عنهم أجمعين.
والاولى هي قوله تعالى: " علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى.
وهو بالافق الاعلى.
ثم دنا فتدلى.
فكان قاب قوسين أو أدنى.
فأوحى إلى عبده ما أوحى " وكان ذلك بالابطح، تدلى جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم سادا عظم خلقه ما بين السماء والارض، حتى كان بينه وبينه قاب قوسين أو أدنى.
هذا هو الصحيح في التفسير، كما دل عليه كلام أكابر الصحابة المتقدم ذكرهم رضى الله عنهم.
فأما قول شريك عن أنس في حديث الاسراء: " ثم دنا الجبار رب العزة
فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى " فقد يكون من فهم الراوى فأقحمه في الحديث (1) والله أعلم.
__________
(1) قال السهيلي: " وهذا مع صحة نقله لا يكاد أحد من المفسرين يذكره، لاستحالة ظاهرة أو للغفلة عن موضعه.
ولا استحالة فيه " انظر رأيه في الروض 1 / 249 (*)
وإن كان محفوظا فليس بتفسير الآية الكريمة، بل هو شئ آخر غير ما دلت عليه الآية الكريمة والله أعلم.
وفرض الله سبحانه وتعالى على عبده محمد صلى الله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته الصلوات ليلتئذ، خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم لم يزل يختلف بين موسى وبين ربه عزوجل حتى وضعها الرب، جل جلاه وله الحمد المنة، إلى خمس، وقال: " هي خمس وهى خمسون الحسنة بعشر أمثالها ".
فحصل له التكليم من الرب عزوجل ليلتئذ.
وأئمة السنة كالمطبقين على هذا.
واختلفوا في الرؤية فقال بعضهم: رآه بفؤاده مرتين.
قاله ابن عباس وطائفة.
وأطلق ابن عباس وغيره الرؤية، وهو محمول على التقييد.
وممن أطلق الرؤية أبو هريرة وأحمد بن حنبل رضى الله عنهما.
صرح بعضهم بالرؤية بالعينين.
واختاره ابن جرير، وبالغ فيه، وتبعه على ذلك آخرون من المتأخرين.
وممن نص على الرؤية بعينى رأسه الشيخ أبو الحسن الاشعري فيما نقله السهيلي عنه، واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في فتاويه.
وقالت طائفة: لم يقع ذلك، لحديث أبى ذر في صحيح مسلم: قلت: يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ فقال: " نور أنى أراه " وفي رواية " رأيت نورا ".
قالوا: ولم يكن رؤية الباقي بالعين الفانية.
ولهذا قال الله تعالى لموسى فيما روى في بعض الكتب الالهية: يا موسى إنه لايرانى حى إلا مات، ولا يابس إلا تدهده.
والخلاف في هذه المسألة مشهور بين السلف والخلف.
والله أعلم.
ثم هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس.
الظاهر أن الانبياء هبطوا معه تكريما له وتعظيما عند رجوعه من الحضرة الالهية العظيمة، كما هي عادة الوافدين، لا يجتمعون بأحد قبل الذى طلبوا إليه.
ولهذا كان كلما مر على واحد منهم يقول له جبريل عندما يتقدم ذاك للسلام عليه: هذا فلان فسلم عليه.
فلو كان قد اجتمع بهم قبل صعوده لما احتاج إلى تعرف بهم مرة ثانية.
ومما يدل على ذلك أنه قال: " فلما حانت الصلاة: أممتهم " ولم يحن وقت إذ ذاك إلا صلاة الفجر، فتقدمهم إماما بهم عن أمر جبريل، فيما يرويه عن ربه عزوجل.
فاستفاد بعضهم من هذا أن الامام الاعظم يقدم في الامامة على رب المنزل، حيث كان بيت المقدس محلتهم ودار إقامتهم.
ثم خرج منه فركب البراق وعاد إلى مكة، فأصبح بها وهو في غاية الثبات السكينة والوقار.
* * * وقد عاين في تلك الليلة من الآيات والامور التى لو رآها أو بعضها غيره لاصبح مندهشا أو طائش العقل.
ولكنه صلى الله وسلم أصبح واجما، أي ساكنا، يخشى إن بدأ فأخبر قومه بما رأى أن يبادروا إلى تكذيبه.
فتلطف بإخبارهم أولا بأنه جاء بيت المقدس في تلك الليلة.
وذلك أن أبا جهل لعنه الله، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام وهو جالس واجم.
فقال له: هل من خبر ؟ فقال: نعم.
فقال: وما هو ؟
فقال: إنى أسرى بى الليلة إلى بيت المقدس.
قال: إلى بيت المقدس ؟ قال: نعم.
قال: أرأيت إن دعوت قومك لك لتخبرهم، أتخبرهم بما أخبرتني به ؟ قال: نعم.
فأراد أبو جهل جمع قريش ليسمعوا منه ذلك، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم ليخبرهم ذلك ويبلغهم.
فقال أبو جهل: هيا معشر قريش، وقد اجتمعوا من أنديتهم.
فقال: أخبر قومك بما أخبرتني به.
فقص عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، وأنه جاء بيت المقدس هذه الليلة وصلى فيه.
فمن بين مصفق وبين مصفر تكذيبا له واستبعادا لخبره، وطار الخبر بمكة.
وجاء الناس إلى أبى بكر رضى الله عنه، فأخبروه أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا.
فقال: إنكم تكذبون عليه.
فقالوا: والله إنه ليقوله.
فقال: إن كان قاله فلقد صدق.
ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله مشركو قريش، فسأله عن ذلك، فأخبره، فاستعلمه عن صفات بيت المقدس، ليسمع المشركون ويعلموا صدقه فيما أخبرهم به.
وفى الصحيح: أن المشركين هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قال: فجعلت أخبرهم عن آياته، فالتبس على بعض الشئ، فجلى الله لى بيت
المقدس، حتى جعلت أنظر إليه دون دار عقيل وأنعته لهم.
فقال: أما الصفة فقد أصاب.
وذكر ابن إسحاق ما تقدم من إخباره لهم بمروره بعيرهم وما كان من شربه ماءهم.
فأقام الله عليهم الحجة واستنارت لهم المحجة، فآمن من آمن على يقين من ربه، وكفر من كفر بعد قيام الحجة عليه.
كما قال الله تعالى " وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس " أي اختبارا لهم وامتحانا.
قال ابن عباس: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى عليه وسلم.
وهذا مذهب جمهور السلف والخلف، من أن الاسراء كان ببدنه وروحه صلوات الله وسلامه عليه، كما دل على ذلك ظاهر السياقات من ركوبه وصعوده في المعراج وغير ذلك.
ولهذا قال: " سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه " والتسبيح إنما يكون عند الآيات العظيمة الخارقة، فدل على أنه بالروح والجسد، والعبد عبارة عنهما.
وأيضا فلو كان مناما لما بادر كفار قريش إلى التكذيب به والاستبعاد له، إذ ليس في ذلك كبير أمر، فدل على أنه اخبرهم بأنه أسرى به يقظة لا مناما.
وقوله في حديث شريك عن أنس: " ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر " معدود في غلطات شريك، أو محمول على أن الانتقال من حال إلى حال يسمى يقظة.
كما سيأتي في حديث عائشة رضى الله عنها حين ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فكذبوه، قال: " فرجعت مهموما فلم أستفق إلا بقرن الثعالب ".
وفى حديث أبى أسيد حين جاء بابنه إلى رسول الله صلى عليه وسلم ليحنكه
فوضعه على فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالحديث مع الناس، فرفع أبو أسيد ابنه، ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد الصبى، فسأل عنه فقالوا رفع فسماه المنذر.
وهذا الحمل أحسن من التغليط.
والله أعلم.
* * * وقد حكى ابن إسحاق فقال: حدثنى بعض آل أبى بكر، عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله أسرى بروحه.
قال: وحدثني يعقوب بن عتبة: أن معاوية كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقة.
قال ابن إسحاق: فلم ينكر ذلك من قولهما، لقول الحسن: إن هذه الآية نزلت في ذلك " وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس " وكما قال إبراهيم عليه السلام " يا بنى إنى أرى في المنام أنى أذبحك " وفى الحديث: " تنام عيناى (1) وقلبي يقظان ".
قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان قد جاءه وعاين فيه ما عاين من أمر الله تعالى، على أي حالة كان نائما أو يقظان (2)، كل ذلك حق وصدق.
* * * قلت: وقد توقف ابن إسحاق في ذلك وجوز كلا من الامرين من حيث الجملة، ولكن الذى لا يشك فيه ولا يتمارى أنه كان يقظان لا محالة، لما تقدم.
وليس مقتضى كلام عائشة رضى الله عنها أن جسده صلى الله عليه وسلم ما فقد وإنما كان الاسراء بروحه، أن يكون مناما كما فهمه ابن إسحاق، بل قد يكون وقع
__________
(1) الاصل: عينى: وما أثبته من ابن هشام.
(2) ط: يقظانا.
وهو خطأ (*)
الاسراء بروحه حقيقة وهو يقظان لا نائم، وركب البراق وجاء بيت المقدس وصعد السموات وعاين ما عاين حقيقة ويقظة لا مناما.
لعل هذا مراد عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها، ومراد من تابعها على ذلك، لا ما فهمه ابن إسحاق من أنهم أرادوا بذلك المنام.
والله أعلم.


 
روابط عرض كتاب السيرة النبوية لابن كثير
ترجمة ابن كثير الحافظ
1.السيرة النبوية لابن كثير ج1 /1.
2.السيرة النبوية لابن كثير ج1 /2.
3.ج1/ 3 السيرة النبوية لابن كثير الحافظ.
4.السيرة النبوية لابن كثير ج1//4
5.السيرة النبوية لاب كثير ج2//1..
6.السيرة النبوية لاب كثير ج2//2..
7.السيرة النبوية لابن كثير ج2//3.
8.السيرة النبوية لابن كثير ج2//4.
9.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /1 .
10.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /2 .
11.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /3 .
12.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /4 .
13..السيرة النبوية لابن كثير ج4 ا ج4//1.
14.السيرة النبوية لابن كثير ج4 ا ج4//2.
15.السيرة النبوية لابن كثير 4//3.ذكر خروجه عليه ال...
ص16.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص17.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص18.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص19.السيرة النبوية لابن كثير الجزء السادس -ج6//1
ص20. ج6//2 السيرة النبوية لابن كثير
ص21.ج6//3 السيرة النبوية لابن كثير
ص22.ج6//4 السيرة النبوية لابن هشام الحافظ
الروابط الي الجزء 6
ص23.السيرة النبوية لابن كثير الجزء 7 بتصنيف الشاملة...






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق