الجمعة، 15 يونيو 2018

8. السيرة النبوية لابن كثير ج2//4.



8.السيرة النبوية لابن كثير ج2// 4.
باب بدء الهجرة من مكة إلى المدينة قال الزهري، عن عروة، عن عائشة: قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذ بمكة - للمسلمين: " قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين ".
فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى المدينة من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين.
رواه البخاري.
وقال أبو موسى: عن النبي صلى الله عليه وسلم: " رأيت في المنام أنى أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلى إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب ".
وهذا الحديث قد أسنده البخاري في مواضع أخر بطوله.
وراه مسلم كلاهما عن أبى كريب.
زاد مسلم وعبد الله بن مراد، كلاهما عن أبى أسامة، عن يزيد بن عبدالله بن أبى بردة، عن جده أبى بردة، عن أبى موسى عبدالله ابن قيس الاشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بطوله.
قال الحافظ أبو بكر البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس القاسم بن القاسم السيارى بمرو، حدثنا إبراهيم بن هلال، حدثنا العامري، عن على بن الحسن بن شقيق، حدثنا عيسى بن عبيد الكندى، عن غيلان بن عبدالله العامري عن أبى زرعة بن عمرو بن جرير، عن جرير، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أوحى إلى أي هؤلاء البلاد الثلاثة نزلت فهى دار هجرتك: المدينة، أو البحرين، أو قنسرين ".
قال أهل العلم: ثم عزم له على المدينة، فأمر أصحابه بالهجرة إليها.
هذا حديث غريب (1) جدا، وقد رواه الترمذي في المناقب من جامعه منفردا به عن أبى عمار الحسين بن حريث، عن الفضل بن موسى، عن عيسى بن عبيد، عن غيلان بن عبدالله العامري، عن أبى زرعة بن عمر بن جرير، عن جرير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله أوحى إلى أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهى دار هجرتك: المدينة، أو البحرين، أو قنسرين " ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث الفضل تفرد به أبو عمار.
قلت: وغيلان بن عبدالله العامري هذا ذكره ابن حبان في الثقات، إلا أنه قال: روى عن أبى زرعة حديثا منكرا في الهجرة. والله أعلم.
* * * قال ابن اسحاق: لما أذن الله تعالى في الحرب بقوله " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله (2) " الآية.
فلما أذن الله في الحرب وتابعه هذا الحى من الانصار على الاسلام والنصرة له، ولمن
__________
(1) قال الزرقائى: صححه الحاكم وأقره الذهبي في تلخيصه، لكنه قال في الميزان: حديث منكر، ما أقدم الترمذي على تحسينه بل قال غريب.
وقال الحافظ: في ثبوته نظر، لمخالفته ما في الصحيح.
شرح المواهب 1 / 318.
(2) سورة الحج 39، 40.
(*)
اتبعه وأوى إليهم من المسلمين، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الانصار وقال: " إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها ".
فخرجوا إليها أرسالا. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة.
فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من
المهاجرين من قريش من بنى مخزوم، أبو سلمة عبدالله بن عبد الاسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وكانت هجرته إليها قبل بيعة العقبة بسنة، حين آذته قريش مرجعه من الحبشة، فعزم على الرجوع إليها، ثم بلغه أن بالمدينة لهم إخوانا فعزم إليها.
قال ابن إسحاق: فحدثني أبى، عن سلمة بن عبدالله بن عمر بن أبى سلمة، عن جدته أم سلمة قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لى بعيره ثم حملني عليه وجعل معى ابني سلمة بن أبى سلمة في حجري، ثم خرج يقود بى بعيره. فلم رأته رجال بنى المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد ؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده وأخذوني منه.
قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الاسد رهط أبى سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.
قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده،
وانطلق به بنو عبد الاسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة.
قالت: ففرق بينى وبين ابني وبين زوجي.
قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس في الابطح، فما أزال أبكى حتى أمسى، سنة أو قريبا منها.
حتى مر بى رجل من بنى عمى أحد بنى المغيرة، فرأى ما بى فرحمني، فقال لبنى المغيرة: ألا تحرجون من هذه المسكينة ؟ فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها ؟ !.
قالت: فقالوا لى: الحقى بزوجك إن شئت.
قالت: فرد بنو عبد الاسد إلى عند ذلك ابني، قالت: فارتحلت بعيرى، ثم
أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة.
قالت: وما معى أحد من خلق الله.
حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة ابن أبى طلحة أخا بنى عبد الدار، فقال: إلى أين يا ابنة أبى أمية ؟ قلت: أريد زوجي بالمدينة.
قال: أو ما معك أحد ؟ قلت: ما معى أحد إلا الله وبنى هذا.
فقال: والله ما لك من مترك.
فأخذ بخطام البعير فانطلق معى يهوى بى، فو الله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بى، ثم استأخر عنى حتى إذا نزلت استأخر ببعيرى فحط عنه ثم قيده في الشجر، ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها.
فإذا دنا الرواح قام إلى بعيرى فقدمه فرحله، ثم استأخر عنى وقال: اركبي.
فإذا ركبت فاستويت على بعيرى أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ينزل بى.
فلم يزل يصنع ذلك بى حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بنى عمرو بن عوف
بقباء قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة بها نازلا، فادخليها على بركة الله.
ثم انصرف راجعا إلى مكة.
فكانت تقول: ما أعلم أهل بيت في الاسلام أصابهم ما أصاب آل أبى سلمة، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة.
أسلم عثمان بن طلحة بن أبى طلحة العبدرى هذا بعد الحديبية، وهاجر هو وخالد بن الوليد معا، وقتل يوم أحد أبوه وإخوته، الحارث وكلاب ومسافع، وعمه عثمان بن أبى طلحة.
ودفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وإلى ابن عمه شيبة والد بنى شيبة مفاتيح الكعبة، أقرها عليهم في الاسلام كما كانت في الجاهلية، ونزل في ذلك قوله تعالى: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها (1) ".
* * *
قال ابن إسحاق: ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبى سلمة، عامر بن ربيعة حليف بنى عدى، معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة العدوية.
ثم عبدالله بن جحش ابن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، حليف بنى أمية بن عبد شمس، احتمل بأهله وبأخيه عبد، أبى أحمد، اسمه عبد كما ذكره ابن إسحاق وقيل ثمامة.
قال السهيلي: والاول أصح.
وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر، وكان يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكان شاعرا وكانت عنده الفارعة بنت أبى سفيان بن حرب، وكانت أمه أميمة بنت عبدالمطلب بن هاشم.
فغلقت دار بنى جحش هجرة، فمر بها عتبة بن ربيعة والعباس بن عبدالمطلب
__________
(1) سورة النساء 58 (*)
وأبو جهل بن هشام وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة تخفق أبوابها يبابا ليس بها ساكن، فلما رآها كذلك تنفس الصعداء وقال: وكل دار وإن طالت سلامتها * يوما ستدركها النكباء والحوب قال ابن هشام: وهذا البيت لابي دؤاد الايادي في قصيدة له.
قال السهيلي: واسم أبى دؤاد حنظلة بن شرقي وقيل حارثة.
ثم قال عتبة: أصبحت دار بنى جحش خلاء من أهلها.
فقال أبو جهل: وما تبكى عليه من فل بن فل (1) ثم قال، يعنى للعباس: هذا من عمل ابن أخيك، هذا فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وقطع بيننا.
* * * قال ابن إسحاق: فنزل أبو سلمة وعامر بن ربيعة وبنو جحش بقباء على مبشر بن عبد المنذر ثم قدم المهاجرون أرسالا.
قال: وكان بنو غنم بن دودان أهل إسلام قد أوعبوا إلى المدينة هجرة رجالهم ونساؤهم وهم: عبدالله بن جحش، وأخوه أبو أحمد، وعكاشة بن محصن، وشجاع، وعقبة ابنا وهب، وأربد بن جميرة (2) ومنقذ بن نباتة، وسعيد بن رقيش، ومحرز بن نضلة، وزيد بن رقيش، وقيس بن جابر، وعمرو بن محصن، ومالك بن عمرو، وصفوان بن عمرو، وثقف بن عمرو، وربيعة بن أكثم، والزبير بن عبيدة، وتمام بن عبيدة، وسخبرة بن عبيدة، ومحمد بن عبدالله بن جحش.
ومن نسائهم زينب بنت جحش، وحمنة بنت جحش، وأم حبيب بنت جحش، وجد امة بنت جندل، وأم قيس بنت محصن، وأم حبيب بنت ثمامة، وآمنة بنت رقيش، وسخبرة بنت تميم.
__________
(1) الفل: الواحد.
(2) ويقال فيه: ابن حميرة.
وابن حمير.
(*)
قال أبو أحمد بن جحش في هجرتهم إلى المدينة: ولما رأتنى أم أحمد غاديا * بذمة من أخشى بغيب وأرهب تقول فأما كنت لابد فاعلا * فيمم بنا البلدان ولتنأ يثرب فقلت لها: ما يثرب بمظنة (1) * وما يشأ الرحمن فالعبد يركب إلى الله وجهى والرسول ومن يقم * إلى الله يوما وجهه لا يخيب فكم قد تركنا من حميم مناصح * وناصحة تبكى بدمع وتندب ترى أن وترا نأينا (2) عن بلادنا * ونحن نرى أن الرغائب نطلب دعوت بنى غنم لحقن دمائهم * وللحق لما لاح للناس ملحب أجابوا بحمد الله لما دعاهم * إلى الحق داع والنجاح فأوعبوا وكنا وأصحابا لنا فارقوا الهدى * أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا كفوجين أما منهما فموفق * على الحق مهدى وفوج معذب
طغوا وتمنوا كذبة وأزلهم * عن الحق إبليس فخابوا وخيبوا ورعنا إلى قول النبي محمد * فطاب ولاة الحق منا وطيبوا نمت بأرحام إليهم قريبة * ولا قرب بالارحام إذ لا تقرب فأى ابن أخت بعدنا يأمننكم * واية صهر بعد صهرى يرقب ستعلم يوما أينا إذ تزايلوا * وزيل أمر الناس للحق أصوب * * * قال ابن إسحاق: ثم خرج عمر بن الخطاب، وعياش بن أبى ربيعة، حتى قدما المدينة.
__________
(1) ابن هشام: فقلت لها: بل يثرب اليوم وجهنا.
(2) الاصل: نائيا.
وهو تحريف وما أثبته عن ابن هشام.
(*)
فحدثني نافع، عن عبدالله بن عمر، عن أبيه قال: اتعدنا لما أردت الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبى ربيعة وهشام بن العاص التناضب من إضاة بنى غفار فوق سرف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه.
قال: فأصبحت أنا وعياش عند التناضب، وحبس هشام وفتن فافتتن.
فلما قدمنا المدينة نزلنا في بنى عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش، وكان ابن عمهما وأخاهما لامهما، حتى قدما المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فكلماه وقالا له: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك.
فرق لها، فقلت له: إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فو الله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت ! قال: فقال: أبر قسم أمي، ولى هنالك مال فاخذه.
قال: قلت: والله إنك لتعلم
أنى لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالى ولا تذهب معهما.
قال: فأبى على إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك قلت: أما إذ فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من أمر القوم ريب فانج عليها.
فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخى والله لقد استغلظت بعيرى هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال: بلى.
فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالارض عدوا عليه فأوثقاه رباطا، ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن.
قال عمر: فكنا نقول: لا يقبل الله ممن افتتن توبة.
وكانوا يقولون ذلك لانفسهم.
حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنزل الله " قل يعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم.
وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون.
واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون " (1).
قال عمر: وكتبتها وبعثت بها إلى هشام بن العاص.
قال هشام: فلما أتتنى جعلت أقرأها بذى طوى أصعد بها وأصوب ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم فهمنيها، فألقى الله في قلبى أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا.
قال: فرجعت إلى بعيرى فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
وذكر ابن هشام أن الذى قدم بهشام بن العاص، وعياش ابن أبى ربيعة إلى المدينة الوليد بن المغيرة سرقهما من مكة وقدم بهما يحملهما على بعيره وهو ماش معهما، فعثر فدميت أصبعه فقال: هل أنت إلا إصبع دميت * وفى سبيل الله ما لقيت * * * وقال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، أنبأنا أبو إسحاق سمع البراء قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، ثم قدم علينا عمار وبلال.
وحدثني محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبى إسحاق، سمعت البراء
__________
(1) سورة الزمر 53 - 55.
(*)
ابن عازب قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان الناس، فقدم بلال وسعد وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشئ فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جعل الاماء يقلن: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما قدم حتى قرأت " سبح اسم ربك الاعلى " في سور من المفصل.
ورواه مسلم في صحيحه من حديث إسرائيل عن أبى إسحاق، عن البراء بن عازب بنحوه.
وفيه التصريح بأن سعد بن أبى وقاص هاجر قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد زعم موسى بن عقبة عن الزهري أنه إنما هاجر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصواب ما تقدم.
قال ابن إسحاق: ولما قدم عمر بن الخطاب المدينة هو ومن لحق به من أهله وقومه
وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر، وخنيس بن حذافة السهمى زوج ابنته حفصة، وابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وواقد بن عبدالله التميمي حليف لهم، وخولى بن أبى خولى، ومالك بن أبى خولى حليفان لهم من بنى عجل، وبنو البكير إياس وخالد وعاقل وعامر، وحلفاؤهم من بنى سعد بن ليث، فنزلوا على رفاعة عبد المنذر بن زنير في بنى عمرو بن عوف بقباء.
* * * قال ابن إسحاق: ثم تتابع المهاجرون رضى الله عنهم.
فنزل طلحة بن عبيد الله وصهيب بن سنان على خبيب بن إساف أخى بلحارث بن الخزرج بالسنح.
ويقال: بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة.
قال ابن هشام: وذكر لى عن ابى عثمان النهدي أنه قال: بلغني أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذى بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك ؟ ! والله لا يكون ذلك.
فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالى أتخلون سبيلى ؟ قالوا: نعم.
قال: فإنى قد جعلت لكم مالى.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ربح صهيب، ربح صهيب ".
وقد قال البيهقى: حدثنا الحافظ أبو عبد الله، إملاء، أخبرنا أبو العباس إسماعيل بن عبدالله بن محمد بن ميكال، أخبرنا عبدان الاهوازي، حدثنا زيد بن الجريش، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا حصين بن حذيفة بن صيفي بن صهيب، حدثنى أبى وعمومتي، عن سعيد بن المسيب، عن صهيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهرانى حرتين، فإما أن تكون هجر أو تكون يثرب ".
قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر، وكنت قد هممت معه بالخروج فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتى تلك أقوم لا أقعد، فقالوا: قد شغله الله عنكم ببطنه.
ولم أكن شاكيا، فناموا.
فخرجت ولحقني منهم ناس بعد ما سرت يريدون ليردوني، فقلت لهم: إن أعطيتكم أواقى من ذهب وتخلون سبيلى وتوفون لى ؟ ففعلوا فتبعتهم إلى مكة.
فقلت: احفروا تحت أسكفة الباب فإن بها أواقى، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين.
وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء قبل أن يتحول منها،
فلما رأني قال: " يا أبا يحيى ربح البيع " فقلت: يا رسول الله ما سبقني إليك أحد وما أخبرك إلا جبرائيل عليه السلام.
* * * قال ابن إسحاق: ونزل حمزة بن عبدالمطلب وزيد بن حارثة وأبو مرثد كناز بن الحصين وابنه مرثد الغنويان حليفا حمزة، وأنسة وأبو كبشة موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم أخى بنى عمرو بن عوف بقباء، وقيل على سعد بن خيثمة وقيل بل نزل حمزة على أسعد بن زرارة.
والله أعلم.
قال: ونزل عبيدة بن الحارث وأخواه الطفيل وحصين، ومسطح بن أثاثة وسويبط ابن سعد بن حريملة أخو بنى عبد الدار، وطليب بن عمير أخو بنى عبد بن قصى، وخباب مولى عتبة بن غزوان على عبدالله بن سلمة أخى بلعجلان بقباء (1)، ونزل عبدالرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع، ونزل الزبير بن العوام وأبو سبرة بن أبى رهم على منذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بالعصبة دار بنى جحجبى، ونزل مصعب بن عمير على سعد بن معاذ، ونزل أبو حذيفة بن عتبة وسالم مولاه على سلمة.
قال ابن إسحاق: وقال الاموى: على خبيب بن إساف أخى بنى حارثة.
ونزل عتبة بن غزوان على عباد بن بشر بن وقش في بنى عبد الاشهل، ونزل عثمان بن عفان على أوس ابن ثابت بن المنذر أخى حسان بن ثابت في دار بنى النجار.
__________
(1) ابن هشام: أخى بلحارث بن الخزرج.
(*)
قال ابن إسحاق: ونزل العزاب من المهاجرين على سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا.
والله أعلم أي ذلك كان.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنى أحمد بن أبى بكر بن الحارث بن زرارة ابن مصعب بن عبدالرحمن بن عوف، حدثنا عبد العزيز بن محمد بن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال: قدمنا [ من ] مكة فنزلنا العصبة (1)، عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبى حذيفة، فكان يؤمهم سالم مولى أبى حذيفة لانه كان أكثرهم قرآنا.
__________
(1) العصبة: موضع بقباء.
(*) (15 - السيرة 2)
فصل في سبب هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة قال الله تعالى " وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطنا نصيرا ".
أرشده الله وألهمه أن يدعو بهذا الدعاء، أن يجعل له مما هو فيه فرجا قريبا ومخرجا عاجلا، فأذن له تعالى في الهجرة إلى المدينة النبوية، حيث الانصار والاحباب، فصارت له دارا وقرارا، وأهلها له أنصارا.
قال أحمد بن حنبل وعثمان بن أبى شيبة، عن جرير، عن قابوس بن أبى ظبيان (1)، عن أبيه، عن أبن عباس، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأمر بالهجرة وأنزل عليه: " وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق، واجعل لى من لدنك سلطنا نصيرا ".
وقال قتادة: " أدخلني مدخل صدق " المدينة " وأخرجنى مخرج صدق " الهجرة من مكة " واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا " كتاب الله وفرائضه وحدوده.
* * * قال ابن إسحاق: وأقام رسول الله بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة.
__________
(1) ح: قابوس بن أبى طهمان.
(*)
ولم يتخلف معه بمكة إلا من حبس أو فتن، إلا على بن أبى طالب وأبو بكر بن أبى قحافة رضى الله عنهما.
وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فيقول له " لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا " فيطمع أبو بكر أن يكونه.
فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة.
فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم.
فاجتمعوا له في دار الندوة، وهى دار قصى بن كلاب التى كانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها، يتشاورون فيما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين خافوه.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم من أصحابنا، عن عبدالله بن أبى نجيح، عن مجاهد بن جبر، عن عبدالله بن عباس، وغيره ممن لا أتهم، عن عبدالله عباس، قال: لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، غدوا في اليوم الذى اتعدوا له، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة، فاعترضهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ جليل عليه بت له (1) فوقف على باب الدار، فلما رأوه واقفا على بابها قالوا: من الشيخ ؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمع بالذى اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا.
قالوا: أجل فادخل.
__________
(1) البت: الكساء الغليظ.
وفى المطبوعة: بتلة، وهو خطأ.
(*)
فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش: عتبة وشيبة، وأبو سفيان، وطعيمة ابن عدى، وجبير بن مطعم بن عدى، والحارث بن عامر بن نوفل، والنضر بن الحارث، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الاسود، وحكيم بن حزام، وأبو جهل ابن هشام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف، ومن كان منهم، وغيرهم ممن لا يعد من قريش.
فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإننا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا.
قال: فتشاوروا، ثم قال قائل منهم، قيل إنه أبوالبخترى بن هشام: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله، زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم.
فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأى، والله لئن حبستموه كما يقولون
ليخرجن أمره من وراء الباب هذا الذى أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلاوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأى.
فتشاوروا، ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فأذا خرج عنا فو الله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.
قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأى، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به ؟ ! والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حى من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم
إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا فيه رأيا غير هذا.
فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لى فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد.
قالوا: وما هو يا أبا الحكم ؟ قال: أرى أن نأخذ من كان قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطى كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعها، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم.
قال: يقول الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأى ولا رأى غيره.
فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.
فأتى جبرائيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذى كنت تبيت عليه.
قال: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلى بن أبى طالب: نم على فراشي وتسج ببردى هذا الحضرمي الاخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شئ تكرهه منهم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.
وهذه القصة التى ذكرها ابن إسحاق قد رواها الواقدي بأسانيده، عن عائشة وابن عباس وعلى وسراقة بن مالك بن جعشم وغيرهم، دخل حديث بعضهم في بعض، فذكر نحو ما تقدم.
* * *
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن أبى زياد، عن محمد بن كعب القرظى، قال: لما اجتمعوا له، وفيهم أبو جهل قال وهم على بابه: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الاردن، وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح، ثم بعثتم بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.
قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال: " نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم ".
وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات: " يس.
والقرآن الحكيم.
إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم " إلى قوله: " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا.
ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب.
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون ههنا ؟ قالوا: محمدا.
فقال: خيبكم الله !
قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا، وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم ؟ ! قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام على عن الفراش فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذى كان حدثنا.
قال ابن إسحاق: فكان مما أنزل الله في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له قوله تعال: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين " (1) وقوله " أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإنى معكم من المتربصين " (2).
قال ابن إسحاق: فأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم عند ذلك بالهجرة.
__________
(1) سورة الانفال 30.
(3) سورة الطور 31.
(*)
باب هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضى الله عنه وذلك أول التاريخ الاسلامي، كما اتفق عليه الصحابة في الدولة العمرية.
كما بيناه في سيرة عمر، رضى الله عنه وعنهم أجمعين.
قال البخاري: حدثنا مطر بن الفضل، حدثنا روح، حدثنا هشام، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم لاربعين سنة، فمكث فيها ثلاث عشرة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث
وستين سنة.
وقد كانت هجرته عليه السلام في شهر ربيع الاول، سنة ثلاث عشرة من بعثته عليه السلام، و ذلك في يوم الاثنين.
كما رواه الامام أحمد عن ابن عباس، أنه قال: ولد نبيكم يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفى يوم الاثنين.
* * * قال محمد بن إسحاق: وكان أبو بكر حين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فقال له: لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا، قد طمع بأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعنى نفسه.
فابتاع راحلتين فحبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك.
قال الواقدي: اشتراهما بثمانمائة درهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين، أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبى بكر أحد طرفي النهار إما بكرة، وإما عشية.
حتى إذا كان اليوم الذى أذن الله فيه رسول الله صلى عليه وسلم في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهرى قومه أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها.
قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة إلا لامر حدث.
قالت: فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم
وليس عند رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم أحد إلا أنا وأختى أسماء بنت أبى بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخرج عنى من عندك " قال: يا رسول الله إنما هما ابنتاى، وما ذاك فداك أبى وأمى ؟ قال: إن الله قد أذن لى في الخروج والهجرة.
قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله ؟ قال: الصحبة.
قالت: فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكى من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكى ! ثم قال: يا نبى الله إن هاتين راحلتين كنت أعددتهما لهذا.
__________
(1) ابن هشام: وليس عند أبى بكر.
(*)
فاستأجرا عبدالله بن أرقط (1) قال ابن هشام: ويقال عبدالله بن أريقط.
رجلا من بنى الديل بن بكر، وكانت أمه من بنى سهم بن عمرو، وكان مشركا، يدلهما على الطريق، ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.
قال ابن إسحاق: ولم يعلم، فيما بلغني، بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا على بن أبى طالب وأبو بكر الصديق وآل أبى بكر.
أما على فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخلف حتى يؤدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التى كانت عنده للناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بمكة أحد عنده شئ يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته.
قال ابن إسحاق: فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ الخروج ] (2) أتى أبا بكر ابن أبى قحافة، فخرجا من خوخة لابي بكر في ظهر بيته.
وقد روى أبو نعيم من طريق إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، قال: بلغني
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرا إلى الله يريد المدينة قال.
" الحمد الله الذى خلقني ولم أك شيئا، اللهم أعنى على هول الدنيا، وبوائق الدهر، ومصائب الليالى والايام.
اللهم اصحبني في سفري، واخلفني في أهلى، وبارك لى فيما رزقتني، ولك فذللنى، وعلى صالح خلقي فقومني، وإليك رب فحببني، وإلى الناس فلا تكلني.
رب المستضعفين وأنت ربى، أعوذ بوجهك الكريم الذى أشرقت له السموات
__________
(1) الاصل: أرقد: وما أثبته عن ابن هشام.
(2) من ابن هشام.
(*)
والارض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الاولين والآخرين، أن تحل على غضبك، أو تنزل بى سخطك، أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك وجميع سخطك.
لك العتبى (1) عندي خير ما استطعت، لا حول ولا قوة إلا بك ".
* * * قال ابن إسحاق: ثم عمدا إلى غار بثور، جبل بأسفل مكة، فدخلاه.
وأمر أبو بكر الصديق ابنه عبدالله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر.
وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار.
فكان عبدالله بن أبى بكر يكون في قريش نهاره معهم، يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر.
وكان عامر بن فهيرة يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبى بكر فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبدالله بن أبى بكر من عندهما إلى مكة أتبع عامر ابن فهيرة أثره بالغنم يعفى عليه.
وسيأتى في سياق البخاري ما يشهد لهذا.
وقد حكى ابن جرير عن بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق الصديق في الذهاب إلى غار ثور، وأمر عليا أن يدله على مسيره ليلحقه، فلحقه في أثناء الطريق.
__________
(1) الاصل: العقبى (*)
وهذا غريب جدا وخلاف المشهور من أنهما خرجا معا.
* * * قال ابن إسحاق: وكانت أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنها تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما.
قالت أسماء: ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب ابى بكر فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا ابنة أبى بكر ؟ قالت: قلت: لا أدرى والله أين أبى.
قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشا خبيثا، فلطم خدى لطمة طرح منها قرطي، ثم انصرفوا.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، أن أباه حدثه، عن جدته أسماء قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله معه، خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم، فانطلق بها معه.
قالت: فدخل علينا جدى أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إنى لاراه قد فجعكم بماله مع نفسه.
قالت: قلت: كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا.
قالت: وأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذى كان أبى يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال.
قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس، إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفى هذا بلاغ لكم.
ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك ! * * * وقال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن الحسن بن أبى الحسن البصري.
قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلا، فدخل أبو بكر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمس الغار لينظر أفيه سبع أو حية، بقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه.
وهذا فيه انقطاع من طرفيه.
وقد قال أبو القاسم البغوي: حدثنا داود بن عمرو الضبى، حدثنا نافع بن عمر الجمحى، عن ابن أبى مليكة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج هو وأبو بكر إلى ثور، فجعل أبو بكر يكون أمام النبي صلى الله عليه وسلم مرة، وخلفه مرة.
فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك، وإذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك.
حتى إذا انتهى إلى الغار من ثور، قال أبو بكر: كما أنت حتى أدخل يدى فأحسه وأقصه، فإن كانت فيه دابة أصابتني قبلك.
قال نافع: فبلغني أنه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوفا أن يخرج منه دابة أو شئ يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا مرسل.
وقد ذكرنا له شواهد أخر في سيرة الصديق رضى الله عنه.
* * * وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق، أنبأنا موسى بن الحسن، حدثنا عباد، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا السرى بن يحيى، حدثنا محمد بن سيرين، قال: ذكر رجال على عهد عمر، فكأنهم فضلوا عمر على أبى بكر، فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلة من أبى بكر خير من آل عمر، وليوم من أبى بكر خير من آل عمر ! لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل
يمشى ساعة بين يديه وساعة خلفه.
حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا بكر ما لك تمشى ساعة خلفي وساعة بين يدى ؟ فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك.
فقال: يا أبا بكر لو كان شئ لاحببت أن يكون بك دوني ؟ قال: نعم والذى بعثك بالحق.
فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فدخل فاستبرأه، حتى إذا كان ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ.
فدخل فاستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله.
فنزل.
ثم قال عمر: والذى نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر.
وقد رواه البيهقى من وجه آخر عن عمر وفيه: أن أبا بكر جعل يمشى بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة وخلفه أخرى، وعن يمينه وعن شماله.
وفيه أنه لما حفيت رجلا رسول الله صلى الله عليه وسلم حمله الصديق على كاهله، وأنه لما دخل الغار سدد تلك الاجحرة كلها وبقى منها جحر واحد، فألقمه كعبه، فجعلت الافاعى تنهشه ودموعه تسيل.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تخزن إن الله معنا ".
وفى هذا السياق غرابة ونكارة.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبى عمرو.
قالا: حدثنا أبو العباس الاصم، حدثنا عباس الدوري، حدثنا أسود بن عامر شاذان، حدثنا إسرائيل، عن الاسود، عن جندب بن عبدالله، قال: كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، فأصاب يده حجر فقال: إن أنت إلا إصبع دميت * وفى سبيل الله ما لقيت
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرني عثمان الجزرى، أن مقسما مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله تعالى " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك " قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: بل اقتلوه.
وقال بعضهم: بل أخرجوه.
فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات على على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما أصبحوا ثاروا عليه، فلما رأوا عليا رد الله عليهم مكرهم.
فقالوا: أين صاحبك هذا ؟ فقال: لا أدرى.
فاقتفوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ها هنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال.
وهذا إسناد حسن، وهو من أجود ما روى في قصة نسج العنكبوت على فم الغار، وذلك من حماية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
[ وقال الحافظ (1) أبو بكر أحمد بن على بن سعيد القاضى في مسند أبى بكر، حدثنا
بشار الخفاف، حدثنا جعفر وسليمان (2)، حدثنا أبوعمران الجونى، حدثنا المعلى بن زياد، عن الحسن البصري، قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار، وجاءت قريش يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوا على باب الغار نسج العنكبوت قالوا: لم يدخل أحد.
__________
(1) سقط هذا الخبر من (ا) (2) كذا ولعله جعفر بن سليمان الضبعى.
(*)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلى وأبو بكر يرتقب، فقال أبو بكر للنبى صلى الله عليه وسلم: هؤلاء قومك يطلبونك، أما والله ما على نفسي أئل (1) ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر لا تخف إن الله معنا ".
وهذا مرسل عن الحسن، وهو حسن بحاله من الشاهد.
وفيه زيادة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الغار.
وقد كان عليه السلام إذا أحزنه أمر صلى.
وروى هذا الرجل، أعنى أبا بكر أحمد بن على القاضى، [ عن ] عمرو الناقد، عن خلف بن تميم، عن موسى بن مطير، عن أبيه، عن أبى هريرة، أن أبا بكر قال لابنه: يا بنى إذا حدث في الناس حدث فأت الغار الذى اختبأت فيه أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فكن فيه، فإنه سيأتيك رزقك فيه بكرة وعشيا ] (2).
وقد نظم بعضهم هذا في شعره حيث يقول: نسج داود ما حمى صاحب الغا * ر وكان الفخار للعنكبوت وقد ورد أن حمامتين عششتا على بابه أيضا، وقد نظم ذلك الصرصرى في شعره حيث يقول: فغمى عليه العنكبوت بنسجه * وظل على الباب الحمام يبيض
والحديث بذلك رواه الحافظ ابن عساكر، من طريق يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا عمرو بن على، حدثنا عون بن عمرو أبو عمرو القيسي، ويلقب بعوين (3)، حدثنى أبو مصعب المكى، قال: أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك،
__________
(1) أئل: أحزن.
(2) إلى هنا من (ا).
(3) الاصل: عوين.
(*)
يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله شجرة فخرجت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم تستره، وأن الله بعث العنكبوت فنسجت ما بينهما فسترت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الله حمامتين وحشيتين فأقبلتا تدفان (1) حتى وقعتا بين العنكبوت وبين الشجرة، وأقبلت فتيان قريش من كل بطن منهم رجل، معهم عصيهم وقسيهم وهراواتهم، حتى إذا كانوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر مائتي ذراع قال الدليل، وهو سراقة بن مالك بن جعشم المدلجى: هذا الحجر ثم لا أدرى أين وضع رجله.
فقال الفتيان: أنت لم تخطئ منذ الليلة.
حتى إذا أصبحوا (3) قال: انظروا في الغار، فاستبقه القوم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم قدر خمسين ذراعا، فإذا الحمامتان، فرجع (3) فقالوا: ما ردك أن تنظر في الغار ؟ قال: رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار، فعرفت أن ليس فيه أحد.
فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فعرف أن الله قد درأ عنهما بهما، فسمت عليهما، أي برك عليهما، وأحدرهما الله إلى الحرم فأفرخا كما ترى.
وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه، قد رواه الحافظ أبو نعيم من حديث مسلم بن إبراهيم وغيره، عن عون بن عمرو، وهو الملقب بعوين، بإسناده مثله.
وفيه أن جميع حمام مكة من نسل تيك الحمامتين.
وفى هذا الحديث أن القائف الذى اقتفى لهم الاثر سراقة بن مالك المدلجى.
وقد روى الواقدي عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه أن الذى اقتفى لهم الاثر
كرز بن علقمة.
__________
(1) الدفيف من الطائر: مره فوق الارض أو أن يحرك جناحاه ورجلاه فريق الارض.
(2) الاصل: أصبحن.
وهو تحريف.
(3) الاصل: ترجع.
وهو تحريف.
(*) (16 - السيرة - 2)
قلت: ويحتمل أن يكونا جميعا اقتفيا الاثر.
والله أعلم.
* * * وقد قال الله تعالى: " إلا تنصروه فقد نصره الله، إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما في الغار، إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا.
فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم (1) ".
يقول تعالى مؤنبا لمن تخلف عن الجهاد مع الرسول: " إلا تنصروه " أنتم فإن الله ناصره ومؤيده ومظفره، كما نصره " إذ أخرجه الذين كفروا " من أهل مكة هاربا ليس معه غير صاحبه وصديقه أبى بكر ليس غيره.
ولهذا قال " ثانى اثنين إذ هما في الغار " أي وقد لجآ إلى الغار فأقاما فيه ثلاثة أيام ليسكن الطلب عنهما.
وذلك لان المشركين حين فقدوهما كما تقدم ذهبوا في طلبهما كل مذهب من سائر الجهات، وجعلوا لمن ردهما، أو أحدهما مائة من الابل، واقتصوا آثارهما حتى اختلط عليهم، وكان الذى يقتص الاثر لقريش سراقة بن مالك بن جعشم كما تقدم، فصعدوا الجبل الذى هما فيه، وجعلوا يمرون على باب الغار، فتحاذي أرجلهم لباب الغار ولا يرونهما، حفظا من الله لهما.
كما قال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام، أنبأنا ثابت، عن أنس بن مالك،
أن أبا بكر حدثه، قال: قلت للنبى صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لابصرنا تحت قدميه.
__________
(1) سورة التوبة: 40.
(*)
فقال: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ".
وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث همام به.
وقد ذكر بعض أهل السير أن أبا بكر لما قال ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو جاءونا من ها هنا لذهبنا من هنا.
فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر.
وإذا البحر قد اتصل به، وسفينة مشدودة إلى جانبه.
وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة، ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوى ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا، ولكن ما صح أو حسن سنده قلنا به.
والله أعلم.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الفضل بن سهل، حدثنا خلف بن تميم، حدثنا موسى بن مطير القرشى، عن أبيه، عن أبى هريرة أن أبا بكر قال لابنه: يا بنى إن حدث في الناس حدث فأت الغار الذى رأيتنى أختبأت فيه أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فكن فيه، فإنه سيأتيك فيه رزقك غدوة وعشية.
ثم قال البزار: لا نعلم يرويه غير خلف بن تميم.
قالت: وموسى بن مطير هذا ضعيف متروك، وكذبه يحيى بن معين فلا يقبل حديثه.
* * * وقد ذكر يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، أن الصديق قال في دخولهما
الغار، وسيرهما بعد ذلك، وما كان من قصة سراقة كما سيأتي، شعرا فمنه قوله:
قال النبي، ولم أجزع يوقرني * ونحن في سدف (1) من ظلمة الغار لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا * وقد توكل لى منه بإظهار وقد روى أبو نعيم هذه القصيدة من طريق زياد، عن محمد بن إسحاق فذكرها مطول جدا وذكر معها قصيدة أخرى والله أعلم.
وقد روى ابن لهيعة، عن أبى الاسود، عن عروة بن الزبير، قال: فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحج، يعنى الذى بايع فيه الانصار، بقية ذى الحجة والمحرم وصفر.
ثم إن مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يحبسوه، أو يخرجوه، فأطلعه الله على ذلك فأنزل عليه: " وإذ يمكر بك الذين كفروا (2) الآية.
فأمر عليا فنام على فراشه، وذهب هو وأبو بكر، فلما أصبحوا ذهبوا في طلبهما في كل وجه يطلبونهما.
وهكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه، وأن خروجه هو وأبو بكر إلى الغار كان ليلا.
وقد تقدم عن الحسن البصري فيما ذكره ابن هشام التصريح بذلك أيضا.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبوى قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة.
__________
(1) ابن هشام: سدفة.
(2) سورة الانفال 30.
(*)
فذكرت ما كان من رده لابي بكر إلى مكة وجواره له.
كما قدمناه عند هجرة الحبشة إلى قوله: فقال أبو بكر: فإنى أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله.
قالت: والنبى صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: " إنى أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين " وهما الحرتان.
فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع بعض من كان هاجر قبل الحبشة إلى المدينة.
وتجهز أبو بكر مهاجرا قبل المدينة.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على رسلك فإنى أرجو أن يؤذن لى " فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبى أنت وأمى ؟ قال: نعم.
فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر، وهو الخبط، أربعة أشهر، وذكر بعضهم أنه علفهما ستة أشهر.
قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبى بكر في حر الظهيرة، فقال قائل لابي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبى أمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر ! قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخرج من عندك.
فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبى أنت يا رسول الله.
قال: فإنه قد أذن لى في الخروج.
فقال أبو بكر: الصحبة بأبى أنت أمي ! قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم.
قال أبو بكر: فخذ أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن.
قالت عائشة: فجهزناهما أحث (1) الجهاز، فصنعنا لهما سفرة (2) في جراب، فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها به على فم الجراب، فلذلك سميت ذات النطاقين.
قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبدالله بن أبى بكر، وهو غلام شاب ثقف لقن (3)، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت، لا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبى بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما (4)، حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالى الثلاث.
واستأجر رسول الله صلى الله عيله وسلم وأبو بكر رجلا من بنى الديل، وهو من بنى عبد بن عدى، هاديا خريتا.
والخريت: الماهر بالهداية.
قد غمس (5) حلفا في آل العاص بن وائل السهمى، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ليال.
وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل.
قال ابن شهاب: فأخبرني عبدالرحمن بن مالك المدلجى وهو ابن أخى سراقة، أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول: جاءنا رسل كفار قريش
__________
(1) أحث الجهاز: أسرعه.
وتروى: أحب الجهاز.
(2) سفرة: زادا.
(3) ثقف: حاذق.
ولقن: سريع الفهم.
(4) الاصل: ورضيعهما.
وما أثبته من البخاري.
والرضيف: اللبن يغلى بالرضفة (5) غمس حلفا: عقده.
وكانوا يغمسون أيديهم في جفنة توكيدا للحلف.
(*)
يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره.
فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بنى مدلج، إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس.
فقال: يا سراقة إنى رأيت آنفا أسودة (1) بالساحل أراها محمدا وأصحابه.
قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا.
ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهى من وراء أكمة فتحبسها على، وأخذت رمحي فخرجت من ظهر البيت فخططت بزجه (2) الارض وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسى فركبتها فدفعتها تقرب (3) بى حتى دنوت منهم، فعثرت بى فرسى فخررت عنها، فقمت فأهويت يدى إلى كنانتي فاستخرجت منها الازلام، فاستقسمت بها أضرهم أم لا ؟ فخرج الذى أكره.
فركبت فرسى وعصيت الازلام.
فجعل فرسى يقرب بى، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتف وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسى في الارض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها فأهويت، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لاثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت الازلام فخرج الذى أكره.
__________
(1) الاسودة: يكنى بها عن الشخص.
(2) الزج: حديدة تجعل في طرف الرمح.
(3) الاصل: ففرت.
وما أثبته من البخاري.
(*)
فناديتهم بالامان، فوقفوا فركبت فرسى حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآنى (1) ولم يسألانى إلا أن قالا: أخف عنا.
فسألته أن يكتب لى كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب لى رقعة من أدم.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * * وقد روى محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبدالرحمن بن مالك بن جعشم، عن أبيه، عن عمه سراقة فذكر هذه القصة، إلا أنه ذكر أنه استقسم بالازلام أول ما خرج من منزله فخرج السهم الذى يكره: لا يضره، وذكر أنه عثر به فرسه أربع مرات، وكل ذلك يستقسم بالازلام ويخرج الذى يكره: لا يضره.
حتى ناداهم بالامان.
وسأل أن يكتب له كتابا يكون أمارة ما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فكتب لى كتابا في عظم، أو رقعة أو خرقة، وذكر أنه جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة مرجعه من الطائف، فقال له " يوم وفاء وبر، ادنه " فدنوت منه وأسلمت.
قال ابن هشام: هو عبدالرحمن بن الحارث بن مالك بن جعشم.
وهذا الذى قاله جيد.
ولما رجع سراقة جعل لا يلقى أحد من الطلب إلا رده وقال: كفيتم هذا الوجه.
__________
(1) الاصل: فلم يردانى وهو تصحيف وما أثبته من صحيح البخاري.
(*)
فلما ظهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى المدينة، جعل سراقة يقص على الناس ما رأى وما شاهد من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما كان من قصة جواده، واشتهر هذا عنه، فخاف رؤساء قريش معرته، وخشوا أن يكون ذلك سببا لاسلام كثير منهم، وكان سراقة أمير بنى مدلج ورئيسهم، فكتب أبو جهل، لعنه الله، إليهم: بنى مدلج إنى أخاف سفيهكم * سراقة مستغو لنصر محمد عليكم به ألا يفرق جمعكم * فيصبح شتى بعد عز وسؤدد قال: فقال سراقة بن مالك يجيب أبا جهل في قوله هذا: أبا حكم والله لو كنت شاهدا * لامر جوادي إذ تسوخ قوائمه عجبت ولم تشكك بأن محمدا * رسول وبرهان فمن ذا يقاومه (1) عليك فكف القوم عنه فإننى * أخال لنا يوما ستبدو معالمه بأمر تود النصر فيه فإنهم * وإن جميع الناس طرا مسالمه وذكر هذا الشعر الاموى في مغازيه بسنده عن أبى إسحاق، وقد رواه أبو نعيم بسنده من طريق زياد عن ابن إسحاق، وزاد في شعر أبى جهل أبياتا تتضمن كفرا بليغا * * * وقال البخاري بسنده إلى ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقى الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض.
__________
(1) ا: نبى وبرهان فمن ذا يكلمه.
(*)
وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا دون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة.
فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود إلى أطم (1) من آطامهم لامر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين (2) يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذى تنتظرون.
فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، يعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بنى عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الاول.
فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الانصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيى أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك.
فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنى عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذى أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ركب راحلته وسار يمشى معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلى فيه يومئذ رجال من المسلمين.
وكان مربدا للتمر * (هاش) * (1) الاطم: الحصن.
(2) مبيضين: عليهم الثياب البيض التى كساها إياهم الزبير وطلحة.
وقال ابن التين: يحتمل أن معناها مستعجلين، قال ابن فارس: يقال: بائض أي مستعجل شرح المواهب 1 / 350.
(*)
لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: " هذا إن شاء الله المنزل ".
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا،
فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما.
ثم بناه مسجدا.
فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه، وهو يقول حين ينقل اللبن: هذا الحمال لا حمال خيبر * هذا أبر ربنا وأطهر ويقول لا هم إن الاجر أجر الآخرة * فارحم الانصار والمهاجرة فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لى.
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الاحاديث أن رسول صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الابيات.
هذا لفظ البخاري، وقد تفرد بروايته دون مسلم، وله شواهد من وجوه أخر، وليس فيه قصة أم معبد الخزاعية.
ولنذكرها هنا ما يناسب ذلك مرتبا أولا فأولا.
* * * قال الامام أحمد: حدثنا عمرو بن محمد أبو سعيد العنقزى (1)، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: اشترى أبو بكر من عازب سرجا بثلاثة عشر درهما، فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فليحمله إلى
__________
(1) نسب إلى العنقز وهو الريحان، كان يبيعه أو يزرعه، مات سنة 199 يروى عن إسرائيل والثوري.
اللباب 2 / 156.
(*)
منزلي.
فقال: لا حتى تحدثنا كيف صنعت حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت معه.
فقال أبو بكر: خرجنا فأدلجنا فأحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم
الظهيرة، فضربت بصرى هل أرى ظلا نأوى إليه، فإذا أنا بصخرة فأهويت إليها فإذا بقية ظلها فسويته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرشت له فروة وقلت: اضطجع يا رسول الله فاضطجع.
ثم خرجت أنظر هل أرى أحدا من الطلب، فإذا أنا براعى غنم، فقلت: لمن أنت يا غلام ؟ فقال: لرجل من قريش.
فسماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن ؟ قال: نعم ! قلت: هل أنت حالب لى ؟ قال نعم.
فأمرته فاعتقل شاة منها ثم أمرته فنفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته فنفض كفيه من الغبار، ومعى إداوة على فمها خرقة فحلب لى كثبة (1) من اللبن، فصببت على القدح حتى برد أسفله، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيته وقد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله.
فشرب حتى رضيت، ثم قلت: هل آن الرحيل ؟ فارتحلنا والقوم يطلبوننا.
فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا ؟ قال: " لا تحزن إن الله معنا ".
حتى إذا دنا فكان بيننا وبينه قدر رمح، أو رمحين أو قال رمحين أو ثلاثة، قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا ! وبكيت، قال: لم تبكى ؟ قلت: أما والله ما على نفسي أبكى، ولكن أبكى عليك.
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم اكفناه بما شئت " فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد، ووثب عنها وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك
__________
(1) الكثبة: القليل من اللبن.
(*)
فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فو الله لاعمين على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بإبلى وغنمى بموضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حاجة لى فيها " ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنطلق ورجع إلى أصحابه.
ومضى رسول الله صلى عليه وسلم وأنا معه، حتى قدمنا المدينة وتلقاه الناس، فخرجوا في الطرق [ و ] على الاناجير (1)، واشتد الخدم والصبيان في الطريق يقولون: الله أكبر جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء محمد.
قال: وتنازع القوم أيهم ينزل عليه، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنزل الليلة على بنى النجار أخوال عبدالمطلب لاكرمهم بذلك " فلما أصبح غدا حيث أمر.
قال البراء: أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير أخو بنى عبد الدار، ثم قدم علينا ابن أم مكتوم الاعمى أحد بنى فهر، ثم قدم علينا عمر بن الخطاب في عشرين راكبا، فقلنا: ما فعل رسول الله ؟ قال: هو على أثرى.
ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه.
قال البراء: ولم يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأت سورا من المفصل.
أخرجاه في الصحيحين من حديث إسرائيل بدون قول البراء: أول من قدم علينا.
إلخ.
فقد انفرد به مسلم فرواه من طريق إسرائيل به.
* * *
__________
(1) الاناجير: السطوح.
(*)
وقال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثا ومعه أبو بكر، وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن رده عليهم، فلما مضت الثلاث وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذى استأجراه ببعيريهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت
أبى بكر بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام، فتحل نطاقها فتجعله عصاما ثم علقتها به.
فكان يقال لها: ذات النطاقين لذلك.
قال ابن إسحاق: فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم له أفضلهما ثم قال: اركب فداك أبى وأمى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنى لا أركب بعيرا ليس لى " قال: فهى لك يا رسول الله بأبى أنت وأمى.
قال: لا ولكن ما الثمن الذى ابتعتها به ؟ قال: كذا وكذا.
قال: أخذتها بذلك.
قال: هي لك يا رسول الله.
وروى الواقدي بأسانيده أنه عليه السلام أخذ القصواء، قال: وكان أبو بكر اشتراهما بثمانمائة درهم.
وروى ابن عساكر من طريق أبى أسامة عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: وهى الجدعاء.
وهكذا حكى السهيلي عن ابن إسحاق أنها الجدعاء والله أعلم.
* * * قال ابن إسحاق: فركبا وانطلقا، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه ليخدمهما في الطريق.
فحدثت عن أسماء أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش منهم أبو جهل، فذكر ضربه لها على خدها لطمة طرح منها قرطها من أذنها كما تقدم.
قالت: فمكثنا ثلاث ليال ما ندرى أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، وإن الناس ليتبغونه يسمعون صوته وما يرونه، حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر ثم تروحا * فأفلح من أمسى رفيق محمد ليهن بنى كعب مكان فتاتهم * ومقعدها للمؤمنين بمرصد قالت أسماء: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهه إلى المدينة.
قال ابن إسحاق: وكانوا أربعة، رسول الله صلى الله عيله وسلم، وأبو بكر، وعامر ابن فهيرة مولى أبى بكر، وعبد الله بن أرقط (1) كذا يقول ابن إسحاق، والمشهور عبدالله بن أريقط الديلى.
وكان إذ ذاك مشركا.
* * * قال ابن إسحاق: ولما خرج بهما دليلهما عبدالله بن أرقط (1) سلك بهما أسفل مكة ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان، ثم سلك بهما على أسفل أمج، ثم استجاز بهما حتى عارض الطريق بعد أن أجاز قديدا، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرار (2) ثم أجاز بهما ثنية المرة، ثم سلك بهما لقفا، ثم أجاز بهما مدلجة لقف، ثم استبطن بهما مدلجة مجاج ثم سلك بهما مرجح مجاج، ثم تبطن بهما مرجح من ذى العضوين، ثم بطن ذى كشر (3)، ثم أخذ بهما على الجداجد، ثم على الاجرد، ثم سلك بهما ذا سلم من بطن أعداء مدلجة
__________
(1) الاصل: أرقد.
وهو تحريف والتصويب من ابن هشام.
(2) الخرار: واد أو ماء بالمدينة.
(3) الاصل: كشد، وما أثبته من معجم البلدان.
(*)
تعهن، ثم على العبابيد، ثم أجاز بهما القاحة ثم هبط بهما العرج وقد أبطأ عليهم بعض ظهرهم، فحمل رسول صلى الله عليه وسلم رجل من أسلم يقال له أوس بن حجر على جمل يقال له ابن الرداء، إلى المدينة وبعث معه غلاما يقال له مسعود بن هنيدة، ثم خرج
بهما [ دليلهما من العرج، فسلك بها ثنية العائر عن يمين ركوبة، ويقال ثنية الغائر فيما قال ابن هشام، حتى هبط بهما بطن رئم، ثم قدم بهما (2) ] قباء على بنى عمرو بن عوف، لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل.
وقد روى أبو نعيم من طريق الواقدي نحوا من ذكر هذه المنازل، وخالفه في بعضها والله أعلم.
قال أبو نعيم: حدثنا أبو حامد بن جبلة، حدثنا محمد بن إسحاق، عن السراج، حدثنا محمد بن عبادة بن موسى العجلى، حدثنى أخى موسى بن عبادة، حدثنى عبدالله بن سيار، حدثنى إياس بن مالك بن الاوس الاسلمي، عن أبيه، قال: لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مروا بإبل لنا بالجحفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لمن هذه الابل ؟ فقالوا: لرجل من أسلم.
فالتفت إلى أبى بكر فقال: سلمت إن شاء الله.
فقال: ما اسمك ؟ قال: مسعود.
فالتفت إلى أبى بكر فقال: سعدت إن شاء الله.
قال: فأتاه أبى فحمله على جمل يقال له ابن الرداء.
قلت: وقد تقدم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين.
__________
(1) تعهن: عين على ثلاثة أميال من السقيا بين مكة والمدينة.
(2) سقطت من ا.
(*)
والظاهر أن بين خروجه عليه السلام من مكة ودخوله المدينة خمسة عشر يوما، لانه أقام بغار ثور ثلاثة أيام، ثم سلك طريق الساحل وهى أبعد من الطريق الجادة.
واجتاز في مروره على أم معبد بنت كعب من بنى كعب بن خزاعة.
قال ابن هشام: وقال يونس عن ابن إسحاق: اسمها عاتكة بنت خلف بن معبد ابن ربيعة بن أصرم.
وقال الاموى: هي عاتكة بنت تبيع حليف بنى منقذ بن ربيعة بن أصرم بن صنبيس (1) بن حرام بن خيسة بن كعب بن عمرو.
ولهذه المرأة من الولد معبد ونضرة وحنيدة بنو أبى معبد، واسمه أكثم بن عبدالعزى ابن معبد بن ربيعه بن أصرم بن صنبيس.
وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا.
* * * وهذه قصة أم معبد الخزاعية: قال يونس عن ابن إسحاق: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيمة أم معبد واسمها عاتكة بنت خلف بن معبد بن ربيعة بن أصرم، فأرادوا القرى فقالت: والله ما عندنا طعام ولا لنا منحة ولا لنا شاة إلا حائل.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله وحلب في العس حتى أرغى وقال: اشربي يا أم معبد.
فقالت: اشرب فأنت أحق به.
فرده عليها فشربت، ثم دعا بحائل أخرى ففعل مثل ذلك بها فشربه، ثم دعا بحائل
__________
(1) في الاصابة: خبيس.
(*) (17 - السيرة 2)
أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى دليله، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامرا، ثم تروح.
وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد فسألوا عنه، فقالوا: أرأيت محمدا من حليته كذا وكذا ؟ فوصفوه لها.
فقالت: ما أدرى ما تقولون، قدمنا فتى حالب الحائل.
قالت قريش: فذاك الذى نريد.
وقال الحافظ أبو بكر البزار، حدثنا محمد بن معمر، حدثنا يعقوب بن محمد، حدثنا عبدالرحمن بن عقبة بن عبدالرحمن بن جابر بن عبدالله، حدثنا أبى، عن أبيه، عن جابر قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مهاجرين فدخلا الغار، إذا في الغار جحر فألقمه أبو بكر عقبه حتى أصبح، مخافة أن يخرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شئ.
فأقاما في الغار ثلاث ليال ثم خرجا حتى نزل بخيمات أم معبد، فأرسلت إليه أم معبد: إنى أرى وجوها حسانا، وإن الحى أقوى على كرامتكم منى.
فلما أمسوا عندها بعثت مع ابن لها صغير بشفرة وشاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اردد الشفرة وهات لنا فرقا " يعنى القدح.
فأرسلت إليه أن لا لبن فيها ولا ولد.
قال: هات لنا فرقا فجاءت بفرق فضرب ظهرها فاجترت ودرت فحلب فملا القدح فشرب وسقى أبا بكر، ثم حلب فبعث فيه إلى أم معبد.
ثم قال البزار: لا نعلمه يروى إلا بهذا الاسناد، وعبد الرحمن بن عقبة لا نعلم أحدا حدث عنه إلا يعقوب بن محمد، وإن كان معروفا في النسب.
وروى الحافظ البيهقى من حديث يحيى بن زكريا بن أبى زائدة، حدثنا محمد بن
عبدالرحمن بن أبى ليلى، حدثنا عبدالرحمن بن الاصبهاني، سمعت عبدالرحمن بن أبى ليلى، عن أبى بكر الصديق قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فانتهينا إلى حى من أحياء العرب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت منتحيا فقصد إليه، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة فقالت: يا عبدالله إنما أنا امرأة وليس معى أحد، فعليكما بعظيم الحى إن أردتم القرى.
قال: فلم يجبها وذلك عند المساء، فجاء ابن
لها بأعنز يسوقها، فقالت: يا بنى انطلق بهذه العنز والشفرة إلى هذين الرجلين فقل لهما تقول لكما أمي اذبحا هذه وكلا وأطعمانا.
فلما جاء قال له النبي صلى الله عليه وسلم: انطلق بالشفرة وجئنى بالقدح.
قال: إنها قد عزبت وليس بها لبن، قال: انطلق، فجاء بقدح فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها ثم حلب حتى ملا القدح، ثم قال: انطلق به إلى أمك.
فشربت حتى رويت، ثم جاء به فقال: انطلق بهذه وجئنى بأخرى.
ففعل بها كذلك ثم سقى أبا بكر، ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك، ثم شرب النبي صلى الله عليه وسلم.
فبتنا ليلتنا، ثم انطلقنا.
فكانت تسميه المبارك.
وكثرت غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة، فمر أبو بكر فرأى ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذى كان مع المبارك.
فقامت إليه فقالت: يا عبدالله من الرجل الذى كان معك ؟ قال: أو ما تدرين من هو ؟ قالت: لا.
قال: هو نبى الله.
قالت فأدخلني عليه.
قال: فأدخلها فأطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها.
زاد ابن عبدان في روايته: - قالت: فدلني عليه، فانطلقت معى، وأهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من أقط ومتاع الاعراب.
قال: فكساها وأعطاها.
قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت.
إسناد حسن.
وقال البيهقى: هذه القصة شبيهة بقصة أم معبد، والظاهر أنها هي.
والله أعلم * * * وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضى، قالا: حدثنا أبو العباس الاصم، حدثنا الحسن بن مكرم، حدثنى أبو أحمد بشر بن محمد
السكرى، حدثنا عبد الملك بن وهب المذحجي، حدثنا أبجر بن الصباح، عن أبى معبد الخزاعى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر ودليلهم عبدالله بن أريقط الليثى، فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية.
وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبى وتجلس بفناء الخيمة فتطعم وتسقى، فسألوها هل عندها لحم أو لبن يشترونه منها ؟ فلم يجدوا عندها شيئا من ذلك، وقالت: لو كان عندنا شئ ما أعوزكم القرى، وإذا القوم مرملون مسنتون.
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا شاة في كسر (1) خيمتها فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ فقالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم.
قال: فهل بها من لبن ؟ قالت: هي أجهد من ذلك.
قال: تأذنين لى أن أحلبها ؟ قالت: إن كان بها حلب فاحلبها.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسحها وذكر اسم الله ومسح ضرعها وذكر اسم الله، ودعا بإناء لها يربض الرهط (2) فتفاجت (3) واجترت فحلب فيه ثجا
__________
(1) كسر الخيمة: جانبها.
(2) يربض الرهط: يشبعهم حتى يربضوا.
(3) تفاجت: فرجت ما بين رجليها.
(*)
حتى ملاه، فسقاها وسقى أصحابه فشربوا عللا بعد نهل، حتى إذا رووا شرب آخرهم وقال: ساقى القوم آخرهم.
ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء، فغادره عندها.
ثم ارتحلوا.
قال: فقل ما لبث ان جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا لا نقى بهن (1) مخهن قليل، فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين هذا اللبن يا أم معبد، ولا حلوبة في البيت والشاء عازب ؟ !
فقالت: لا والله إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت.
فقال: صفيه لى، فو الله إنى لاراه صاحب قريش الذى تطلب.
فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة حسن الخلق مليح الوجه لم تعبه ثجلة (2) ولم تزر به صعلة (2)، قسيم وسيم، في عينيه دعج، وفى أشفاره وطف (3)، وفى صوته صحل، أحول أكحل أزج أقرن في عنقه سطع (4) وفى لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنأه (5) عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدا، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا لامره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.
فقال - يعنى بعلها -: هذا والله صاحب قريش الذى تطلب، ولو صادفته لالتمست أن أصحبه، ولاجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
__________
(1) يتساوكن: يتمايلن.
والنقى: المخ.
(2) الثجلة: عظم البطن.
والصعلة: صغر الرأس.
(3) وطف: طول.
(4) سطع: طول.
(5) الاصل: تنساه.
وهو تحريف.
وما أثبته عن الوفا لابن الجوزى والمواهب والدلائل لابي نعيم.
ومعنى تشنأه: تبغضه.
(*)
قال: وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والارض يسمعونه ولا يرون من يقول، وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر وارتحلا به * فأفلح من أمسى رفيق محمد فيا لقصى ما زوى الله عنكم * به من فعال لا تجازى وسؤدد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها * فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت * له بصريح، ضرة الشاة (1) مزبد فغادره رهنا لديها لحالب * يدر لها في مصدر ثم مورد قال: وأصبح الناس، يعنى بمكة، وقد فقدوا نبيهم، فأخذوا على خيمتي أم معبد حتى لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وأجابه حسان بن ثابت: لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم * وقد سر (2) من يسرى إليهم ويغتدى ترحل عن قوم فزالت عقولهم * وحل على قوم بنور مجدد وهل يستوى ضلال قوم تسفهوا * عمى وهداة يهتدون بمهتد نبى يرى ما لا يرى الناس حوله * ويتلو كتاب الله في كل مشهد وإن قال في يوم مقالة غائب * فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد ليهن أبا بكر سعادة جده * بصحبته من يسعد الله يسعد ويهن بنى كعب مكان فتاتهم * ومقعدها للمسلمين بمرصد قال - يعنى عبدالملك بن وهب -: فبلغني أن أبا معبد أسلم وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) الضرة: أصل الضرع.
(2) الوفا ودلائل أبى نعيم: وقدس.
(*)
وهكذا روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبدالملك بن وهب المذحجي، فذكر مثله سواء.
وزاد في آخره: قال عبدالملك: بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت ولحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم رواه أبو نعيم من طرق، عن بكر بن محرز الكلبى الخزاعى، عن أبيه محرز ابن مهدى، عن حرام بن هشام بن حبيش بن خالد، عن أبيه، عن جده حبيش بن خالد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
أخرج من مكة خرج منها مهاجرا هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهما عبدالله بن أريقط الليثى، فمروا بخيمة أم معبد، وكانت امرأة برزة جلدة تحتبى بفناء القبة، وذكر مثل ما تقدم سواء.
قال.
وحدثناه، فيما أظن، محمد بن أحمد بن على بن مخلد، حدثنا محمد بن يونس ابن موسى، يعنى الكديمى، حدثنا عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز مولى العباس بن عبدالمطلب، حدثنا محمد بن سليمان بن سليط الانصاري، حدثنى أبى، عن أبيه سليط البدرى، قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ومعه أبو بكر وعامر أبن فهيرة وابن أريقط يدلهم على الطريق، مر بأم معبد الخزاعية وهى لا تعرفه فقال لهم: يا أم معبد هل عندك من لبن ؟ قالت: لا والله إن الغنم لعازبة.
قال: فما هذه الشاة ؟ قالت: خلفها الجهد عن الغنم ؟ ثم ذكر تمام الحديث كنحو ما تقدم.
* * * ثم قال البيهقى: يحتمل أن هذه القصص كلها واحدة.
ثم ذكر قصة شبيهة بقصة شاة أم معبد الخزاعية فقال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، إملاء، حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب، أخبرنا محمد بن غالب، حدثنا
أبو الوليد، حدثنا عبدالله بن إياد بن لقيط، حدثنا إياد بن لقيط، عن قيس بن النعمان، قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفين، مروا بعبد يرعى غنما فاستسقياه اللبن فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ها هنا عناقا (2) حملت أول الشتاء، وقد أخدجت (2) وما بقى لها من لبن.
فقال: ادع بها.
فدعا بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر ثم حلب فسقى الراعى، ثم حلب فشرب.
فقال الراعى: بالله من أنت ؟ فو الله ما رأيت مثلك قط.
قال: أو تراك تكتم على
حتى أخبرك ؟ قال: نعم.
قال: فإنى محمد رسول الله.
فقال: أنت الذى تزعم قريش أنه صابئ ؟ قال: إنهم ليقولون ذلك.
قال: فإنى أشهد أنك نبى، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا فعل ما فعلت إلا نبى، وأنا متبعك.
قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، فإذا بلغك أنى قد ظهرت فأتنا.
ورواه أبو يعلى الموصلي، عن جعفر بن حميد الكوفى، عن عبدالله بن إياد ابن لقيط به.
* * * وقد ذكر أبو نعيم ها هنا قصة عبدالله بن مسعود فقال: حدثنا عبدالله بن جعفر، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبدالله بن مسعود.
قال: كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن معيط بمكة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وقد فرا من المشركين، فقالا: يا غلام
__________
(1) العناق: الانثى من ولد المعز.
(2) أخدجت: جاءت بولدها ناقص الخلق.
(*)
عندك لبن تسقينا ؟.
فقلت: إنى مؤتمن ولست بساقيكما، فقالا: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد ؟ قلت: نعم.
فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع فدعا، فحفل الضرع وجاء أبو بكر بصخرة متقعرة فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر وسقيانى، ثم قال للضرع: اقلص فقلص.
فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: علمني من هذا القول الطيب، يعنى القرآن.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك غلام معلم " فأخذت
من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد.
فقوله في هذا السياق: " وقد فرا من المشركين " ليس المراد منه وقت الهجرة، إنما ذلك في بعض الاحوال قبل الهجرة.
فإن ابن مسعود ممن أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة ورجع إلى مكة كما تقدم، وقصته هذه صحيحة ثابتة في الصحاح وغيرها.
والله أعلم.
* * * وقال الامام أحمد (1): حدثنا عبدالله بن مصعب بن عبدالله، هو الزبير، حدثنى أبى، عن فائد مولى عبادل، قال: خرجت مع إبراهيم بن عبدالرحمن بن سعد، حتى إذا كنا بالعرج أتى ابن سعد، وسعد وهو الذى دل رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق ركوبة (2) فقال إبراهيم: ما حدثك أبوك ؟ قال ابن سعد: حدثنى أبى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم ومعه أبو بكر، وكانت لابي بكر عندنا بنت
__________
(1) سقط هذا الخبر من (ا).
(2) الاصل ركونة.
وهو تحريف.
وهى ثنية بين مكة والمدينة عند العرج.
(*)
مسترضعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الاختصار في الطريق إلى المدينة، فقال له سعد: هذا الغامر من ركوبة، وبه لصان من أسلم يقال لهما المهانان.
فإن شئت أخذنا عليهما.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " خذ بنا عليهما ".
قال سعد: فخرجنا حتى إذ أشرفنا إذا أحدهما يقول لصاحبه: هذا اليماني.
فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهما الاسلام فأسلما، ثم سألهما عن أسمائهما فقالا: نحن المهانان.
فقال: " بل أنتما المكرمان " وأمرهما أن يقدما عليه المدينة، فخرجنا حتى إذا أتينا ظاهر قباء فتلقاه بنو عمرو بن عوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أين أبو أمامة أسعد بن زرارة ؟ " فقال سعد بن خيثمة: إنه أصاب قبلى
يا رسول الله أفلا أخبره ذلك ؟ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا طلع على النخل فإذا الشرب مملوء، فالتفت رسول الله إلى أبى بكر فقال: يا أبا بكر هذا المنزل.
رأيتنى أنزل إلى حياض كحياض بنى مدلج.
انفرد به أحمد.
فصل في دخوله عليه السلام المدينة، وأين استقر منزله بها وما يتعلق به قد تقدم فيما رواه البخاري، عن الزهري، عن عروة، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة عند الظهيرة.
قلت: ولعل ذلك كان بعد الزوال، لما ثبت في الصحيحين من حديث إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن البراء بن عازب، عن أبى بكر في حديث الهجرة قال: فقدمنا ليلا فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنزل على بنى النجار أخوال عبدالمطلب أكرمهم بذلك ".
وهذا والله أعلم إما أن يكون يوم قدومه إلى قباء، فيكون حال وصوله إلى قرب المدينة كان في حر الظهيرة وأقام تحت تلك النخلة، ثم سار بالمسلمين فنزل قباء وذلك ليلا، وأنه أطلق على ما بعد الزوال ليلا، فإن العشى من الزوال.
وإما أن يكون المراد بذلك لما رحل من قباء، كما سيأتي، فسار فما انتهى إلى بنى النجار إلا عشاء.
كما سيأتي بيانه.
والله أعلم.
وذكر البخاري عن الزهري، عن عروة، أنه نزل في بنى عمرو بن عوف بقباء، وأقام فيهم بضع عشرة ليلة، وأسس مسجد قباء في تلك الايام.
ثم ركب ومعه الناس حتى بركت به راحلته في مكان مسجده، وكان مربدا
لغلامين يتيمين وهما سهل وسهيل، فابتاعه منهما واتخذه مسجدا.
وذلك في دار بنى النجار رضى الله عنهم.
* * * وقال محمد بن إسحاق، حدثنى محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عبدالرحمن بن عويم بن ساعدة، قال: حدثنى رجال من قومي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: لما بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وتوكفنا قدومه، كنا نخرج إذا صلينا الصبج إلى ظاهر حرتنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فو الله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلا دخلنا، وذلك في أيام حارة.
حتى إذا كان اليوم الذى قدم فيه رسول الله جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت فكان أول من رآه رجل من اليهود، فصرخ بأعلى صوته: يا بنى قيلة هذا جدكم قد جاء.
فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل نخلة ومعه أبو بكر في مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وركبه الناس، وما يعرفونه من أبى بكر، حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك.
وقد تقدم مثل ذلك في سياق البخاري، وكذ ذكر موسى بن عقبة في مغازيه.
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا سليمان، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: إنى لا سعى في الغلمان يقولون: جاء محمد.
فأسعى ولا أرى شيئا، ثم يقولون: جاء محمد.
فأسعى ولا أرى شيئا.
قال: حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر، فكمنا في بعض خراب المدينة، ثم بعثا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما الانصار فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الانصار حتى انتهوا إليهما، فقالت الانصار: انطلقا آمنين مطاعين.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو ؟ أيهم هو ؟ فما رأينا منظرا شبيها به.
قال أنس: فلقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قبض فلم أر يومين شبيها بهما.
ورواه البيهقى عن الحاكم، عن الاصم، عن محمد بن إسحاق الصنعانى، عن أبى النضر هاشم بن القاسم، عن سليمان بى المغيرة، عن ثابت، عن أنس بنحوه، أو مثله.
وفى الصحيحين من طريق إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن البراء، عن أبى بكر في حديث الهجرة قال: وخرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت، والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء محمد، الله أكبر جاء محمد، الله أكبر جاء رسول الله.
فلما أصبح انطلق وذهب حيث أمر.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عمرو الاديب، أخبرنا أبو بكر الاسماعيلي، سمعت أبا خليفة يقول: سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان يقلن: طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع * * * قال محمد بن إسحاق: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يذكرون يعنى حين نزل، بقباء على كلثوم بن الهدم أخى بنى عمرو بن عوف ثم أحد بنى عبيد، ويقال: بل نزل على سعد بن خيثمة.
ويقول من يذكر أنه نزل على كلثوم بن الهدم: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من منزل كلثوم بن الهدم جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا لا أهل له، وكان يقال لبيته بيت العزاب.
والله أعلم.
ونزل أبو بكر رضى الله عنه على خبيب بن إساف، أحد بنى الحارث بن الخزرج بالسنح، وقيل: على خارجة بن زيد بن أبى زهير أخى بنى الحارث بن الخزرج.
قال ابن إسحاق: وأقام على بن أبى طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها، حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التى كانت عنده.
ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل معه على كلثوم بن الهدم، فكأن على بن أبى طالب إنما كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين.
يقول: كانت بقباء امرأة لا زوج لها مسلمة، فرأيت إنسانا يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها فتخرج إليه، فيعطيها شيئا معه فتأخذه، فاستربت بشأنه فقلت لها: يا أمة الله، من هذا الذى يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أدرى ما هو، وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك ؟.
قالت: هذا سهل بن حنيف، وقد عرف أنى امرأة لا أحد لى، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءني بها فقال: احتطبي بهذا.
فكان على رضى الله عنه يأثر ذلك من شأن سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق.
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء في بنى عمرو بن عوف يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الاربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجده.
ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة، وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك.
وقال عبدالله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق قال: وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه عليه السلام أقام فيهم ثمانى عشرة ليلة.
قلت: وقد تقدم فيما رواه البخاري من طريق الزهري، عن عروة، أنه عليه السلام أقام فيهم بضع عشرة ليلة.
وحكى موسى بن عقبة عن مجمع بن يزيد بن حارثة أنه قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، يعنى في بنى عمرو بن عوف بقباء، اثنتين وعشرين ليلة.
وقال الواقدي: ويقال أقام فيهم أربع عشرة ليلة.
* * * قال ابن إسحاق: فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة في بنى سالم بن عوف، فصلاها في المسجد الذى في بطن الوادي، وادى رانوناء، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة.
فأتاه عتبان بن مالك وعباس بن عبادة بن نضلة في رجال من بنى سالم، فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة قال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة.
لناقته فخلوا سبيلها.
فانطلقت حتى إذا وازت دار بنى بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو، رجال من بنى بياضة، فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة.
قال: " خلوا سبيلها فإنها مأمورة " فخلوا سبيلها.
فانطلقت حتى إذا مرت بدار بنى ساعدة اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، في رجال من بنى ساعدة، فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا في العدد والمنعة.
قال: " خلوا سبيلها فإنها مأمورة " فخلوا سبيلها.
فانطلقت حتى إذا وازت (1) دار بنى الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة في رجال من بنى الحارث بن الخزرج فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة.
قال: " خلوا سبيلها فإنها مامورة " فخلوا سبيلها.
فانطلقت حتى إذا مرت بدار عدى بن النجار، وهم أخواله، دنيا، أم عبدالمطلب سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم، اعترضه سليط بن قيس، وأبو سليط أسيرة بن [ أبى ] (2) خارجة في رجال من بنى عدى بن النجار فقالوا: يا رسول الله هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدة والمنعة.
قال: " خلوا سبيلها فإنها مأمورة " فخلوا سبيلها.
فانطلقت، حتى إذا أتت دار بنى مالك بن النجار بركت على باب مسجده عليه السلام اليوم، وكان يومئذ مربدا لغلامين يتيمين من بنى مالك بن النجار، وهما سهل وسهيل ابنا عمرو، وكانا في حجر معاذ بن عفراء.
قلت: وقد تقدم في رواية البخاري من طريق الزهري، عن عروة أنهما كانا في حجر أسعد بن زرارة.
والله أعلم.
* * * وذكر موسى بن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في طريقه بعبد الله
__________
(1) ا: دارت وفى ابن هشام وازنت (2) من ابن هشام.
(*)
ابن أبى بن سلول وهو في بيت، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يدعوه إلى المنزل، وهو يومئذ سيد الخزرج في أنفسهم، فقال عبدالله: انظر الذين دعوك فانزل عليهم.
فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر من الانصار، فقال سعد بن عبادة يعتذر عنه: لقد من الله علينا بك يا رسول الله وإنا نريد أن نعقد على رأسه التاج ونملكه علينا.
قال موسى بن عقبة: وكانت الانصار قد اجتمعوا قبل أن يركب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بنى عمرو بن عوف، فمشوا حول ناقته، لا يزال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة شحا على كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له.
وكلما مر بدار من دور الانصار دعوه إلى المنزل فيقول صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها مأمورة، فإنما أنزل حيث أنزلنى الله.
فلما انتهت إلى دار أبى أيوب بركت به على الباب، فنزل فدخل بيت أبى أيوب حتى ابتنى مسجده ومساكنه.
قال ابن إسحاق: لما بركت الناقة برسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل عنها، حتى وثبت فسارت غير بعيد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت خلفها فرچعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه، ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها.
فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد، رحله فوضعه في بيته، ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسأل عن المربد لمن هو ؟ فقال له معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لسهل وسهيل (18 - السيرة 2)
ابني عمرو وهما يتيمان لى، وسأرضيهما منه فاتخذه مسجدا.
فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار أبى ايوب حتى بنى مسجده ومساكنه فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من المهاجرين والانصار.
وستأتى قصة بناء المسجد قريبا إن شاء الله.
* * * وقال البيهقى في الدلائل: وقال أبو عبد الله: أخبرنا أبو الحسن على بن عمرو الحافظ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن مخلد الدوري، حدثنا محمد بن سليمان بن إسماعيل بن أبى الورد، حدثنا إبراهيم بن صرمة، حدثنا يحيى بن سعيد، عن إسحاق بن عبدالله بن أبى طلحة، عن أنس، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما دخلنا جاء الانصار برجالها ونسائها فقالوا: إلينا يا رسول الله.
فقال " دعوا الناقة فإنها مأمورة ".
فبركت على باب أبى أيوب فخرجت جوار من بنى النجار يضربن بالدفوف وهن يقلن.
نحن جوار من بنى النجار * يا حبذا محمد من جار فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أتحبونني ؟ " فقالوا: إى والله يا رسول الله.
فقال: " وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم ".
هذا حديث غريب من هذا الوجه لم يروه أحد من أصحاب السنن، وقد خرجه الحاكم في مستدركه كما يروى.
ثم قال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمى، أخبرنا أبو القاسم عبدالرحمن بن سليمان النحاس المقرئ ببغداد، حدثنا عمر بن الحسن الحلبي، حدثنا أبو خيثمة المصيصى، حدثنا عيسى بن يونس، عن عوف الاعرابي، عن ثمامة، عن أنس.
قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بحى من بنى النجار، وإذا جوار يضربن بالدفوف يقلن: نحن جوار من بنى النجار * يا حبذا محمد من جار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يعلم الله أن قلبى يحبكم ".
ورواه ابن ماجه، عن هشام بن عمار، عن عيسى بن يونس به.
وفى صحيح البخاري عن معمر، عن عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان مقبلين، حسبت أنه قال من عرس، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ممثلا فقال: " اللهم أنتم من أحب الناس إلى " قالها ثلاث مرات.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنى أبى، حدثنى عبد العزيز ابن صهيب، حدثنا أنس بن مالك.
قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف.
قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذى بين يديك ؟ فيقول: هذا الرجل يهدينى السبيل.
فيحسب الحاسب أنما يهديه الطريق، وإنما يعنى سبيل الخير.
فالتفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحقهم فقال: يا نبى الله هذا فارس قد لحق بنا، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " اللهم اصرعه " فصرعته فرسه ثم قامت تحمحم، ثم قال: مرنى يا نبى الله بما شئت.
فقال: " قف مكانك ولا تتركن أحدا يلحق بنا ".
قال: فكان أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر النهار مسلحة (1) له.
قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم جانب الحرة، ثم بعث إلى الانصار فجاءوا فسلموا عليهما وقالوا: اركبا آمنين مطاعين.
فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وحفوا حولهما بالسلاح.
وقيل في المدينة: جاء نبى الله صلى الله عليه وسلم.
فاستشرفوا نبى الله ينظرون إليه ويقولون: جاء نبى الله.
قال: فأقبل يسير حتى نزل إلى جانب دار ابى أيوب.
قال: فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبدالله بن سلام، وهو في نخل لاهله يحترف.
لهم، فعجل أن يضع الذى يحترف فيها، فجاء وهى معه، وسمع من نبى الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى أهله.
وقال نبى الله: أي بيوت أهلنا أقرب ؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبى الله، هذه دارى وهذا بابى.
قال: فانطلق فهيى لنا مقيلا.
فذهب فهيأ ثم جاء.
فقال: يا رسول الله قد هيأت مقيلا، قوما على بركة الله فقيلا.
فلما جاء نبى الله صلى الله عليه وسلم جاء عبدالله بن سلام فقال: أشهد أنك نبى الله حقا، وأنك جئت بحق ولقد علمت يهود أنى سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم فادعهم فسلهم.
فدخلوا عليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله، فو الله الذى لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنى رسول الله حقا، وأنى جئت بحق أسلموا ".
__________
(1) المسلحة: قوم ذوو سلاح، وتطلق أيضا على الثغر والمرقب.
والمراد أنه كان مدافعا عن الرسول (*)
فقالوا: ما نعلمه، ثلاثا.
وكذا رواه البخاري منفردا به، عن محمد غير منسوب، عن عبد الصمد به.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبى حبيب، عن مرثد بن عبدالله اليزنى، عن أبى رهم السماعي، حدثنى أبو أيوب، قال لما نزل على رسول الله صلى عليه وسلم في بيتى نزل في السفل، وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت له: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، إنى أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو وننزل نحن فنكون في السفل.
فقال: " يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن أكون في سفل البيت ".
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن.
فلقد انكسر حب لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها، ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شئ فيؤذيه.
قال: وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث إليه، فإذا رد علينا فضلة تيممت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغى بذلك البركة، حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلا أو ثوما، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أر ليده فيه أثرا، قال: فجئته فزعا فقلت: يا رسول الله بأبى أنت وأمى رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك ؟ فقال " إنى وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجي، فأما أنتم فكلوه " قال: فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة بعد.
وكذلك رواه البيهقى، من طريق الليث بن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب،
عن أبى الحسن، أو أبى الخير، مرثد بن عبدالله اليزنى، عن أبى رهم، عن أبى أيوب فذكره.
ورواه أبو بكر بن أبى شيبة، عن يونس بن محمد المؤدب، عن الليث.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو عمرو الحيرى، حدثنا عبدالله ابن محمد، حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي، حدثنا أبو النعمان، حدثنا ثابت بن يزيد، حدثنا عاصم الاحول، عن عبدالله بن الحارث، عن أفلح مولى أبى أيوب، عن أبى أيوب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه فنزل في السفل وأبو أيوب في العلو، فاننتبه أبو أيوب فقال: نمشي فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فتنحوا فباتوا في جانب، ثم قال للنبى صلى الله عليه وسلم، يعنى في ذلك، فقال: " السفل أرفق بنا " فقال: لا أعلو سقيفة أنت تحتها، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم في العلو، وأبو أيوب في السفل.
فكان يصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما، فإذا جئ به سأل عن موضع أصابعه فيتبع موضع أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصنع له طعاما فيه ثوم، فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: لم يأكل.
ففزع وصعد إليه فقال: أحرام ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ولكني أكرهه " قال فإنى أكره ما تكره، أو ما كرهت.
قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه الملك.
رواه مسلم عن أحمد بن سعيد به.
وثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك، قال: جئ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر (1)، وفى رواية بقدر، فيه خضروات من بقول، قال: فسأل فأخبر بما فيها، فلما رآها كره أكلها، قال: " كل فإنى أناجي من لا تناجى ".
__________
(1) ببدر: بطبق مستدير يشبه البدر.
(*)
وقد روى الواقدي أن أسعد بن زرارة لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار أبى أيوب أخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده.
وروى عن زيد بن ثابت أنه قال: أول هدية أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل دار أبى أيوب، أنا جئت بها، قصعة فيها خبز مثرود بلبن وسمن، فقلت: أرسلت بهذه القصعة أمي.
فقال: " بارك الله فيك " ودعا أصحابه فأكلوا، ثم جاءت قصعة سعد بن عبادة ثريد وعراق لحم.
وما كانت من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة والاربعة يحملون الطعام يتناوبون، وكان مقامه في دار أبى أيوب سبعة أشهر.
قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل في دار أبى أيوب مولاه زيد بن حارثة وأبا رافع، ومعهما بعيران وخمسمائة درهم، ليجيئا بفاطمة وأم كلثوم ابنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة زوجته، وأسامة بن زيد، وكانت رقية قد هاجرت مع زوجها عثمان، وزينب عند زوجها بمكة أبى العاص بن الربيع، وجاءت معهم أم أيمن امرأة زيد بن حارثة وخرج معهم عبدالله بن أبى بكر بعيال أبى بكر وفيهم عائشة أم المؤمنين ولم يدخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * * وقال البيهقى: أخبرنا على بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا خلف بن عمرو العكبرى، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا عطاف بن خالد، حدثنا صديق بن موسى، عن عبدالله بن الزبير، أن رسول صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فاستناخت به راحلته بين دار جعفر بن محمد بن على وبين دار الحسن ابن زيد، فأتاه الناس فقالوا: يا رسول الله المنزل.
فانبعثت به راحلته فقال: " دعوها فإنها مأمورة ".
ثم خرجت به حتى جاءت موضع المنبر، فاستناخت ثم تحللت، وثم عريش كانوا يعرشونه ويعمرونه ويتبردون فيه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته فيه
فآوى إلى الظل فأتاه أبو أيوب فقال: يا رسول الله إن منزلي أقرب المنازل إليك فأنقل رحلك إلى ؟ قال: نعم.
فذهب برحله إلى المنزل، ثم أتاه رجل فقال يا رسول الله أين تحل ؟ قال: " إن الرجل مع رحله حيث كان " وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش اثنتى عشرة ليلة حتى بنى المسجد.
وهذه منقبة عظيمة لابي أيوب خالد بن زيد رضى الله عنه، حيث نزل في داره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روينا من طريق يزيد بن أبى حبيب عن محمد بن على بن عبدالله بن عباس رضى الله عنه، أنه لما قدم أبو أيوب البصرة، وكان ابن عباس نائبا عليها من جهة على ابن أبى طالب رضى الله عنه، فخرج له ابن عباس عن داره حتى أنزله فيها كما أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، وملكه كل ما أغلق عليها بابها.
ولما أراد الانصراف أعطاه ابن عباس عشرين ألفا، وأربعين عبدا.
وقد صارت دار أبى ايوب بعده إلى مولاه أفلح، فاشتراها منه المغيرة بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام بألف دينار وأصلح ما وهى من بنيانها، ووهبها لاهل بيت فقراء من أهل المدينة.
وكذلك نزوله عليه السلام في دار بنى النجار واختيار الله له ذلك منقبة عظيمة، وقد كان في المدينة دور كثيرة تبلغ تسعا، كل دار محلة مستقلة بمساكنها ونخيلها وزروعها وأهلها، كل قبيلة من قبائلهم قد اجتمعوا في محلتهم وهى كالقرى المتلاصقة، فاختار الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم دار بنى مالك بن النجار.
* * *
وقد ثبت في الصحيحين من حديث شعبة، سمعت قتادة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير دور الانصار بنو النجار، ثم بنو عبد الاشهل،
ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفى كل دور الانصار خير ".
فقال سعد بن عبادة: ما أرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا قد فضل علينا.
فقيل: قد فضلكم على كثير.
هذا لفظ البخاري.
وكذلك رواه البخاري ومسلم من حديث أنس وأبى سلمة، عن أبى أسيد مالك بن ربيعة، ومن حديث عبادة بن سهل عن أبى حميد، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله سواء.
زاد في حديث أبى حميد: فقال أبو أسيد لسعد بن عبادة: ألم تر أن النبي صلى الله عليه وسلم خير الانصار فجعلنا آخرا، فأدرك سعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله خيرت دور الانصار فجعلتنا آخرا ؟ قال: " أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الاخيار ".
[ و ] قد ثبت لجميع من أسلم من أهل المدينة وهم الانصار الشرف والرفعة في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: " والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (1) " وقال تعالى: " والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (2) ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو لا الهجرة لكنت امرءا من الانصار، ولو
__________
(1) سورة التوبة 100.
(2) سورة الحشر 90.
(*)
سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادى الانصار وشعبهم، الانصار شعار والناس دثار ".
وقال: " الانصار كرشى وعيبتى ".
وقال: " أنا سلم لم سالمهم وحرب لم حاربهم ".
وقال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا شعبة، حدثنى عدى بن ثابت، قال: سمعت البراء بن عازب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الانصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله ".
وقد أخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث شعبة به.
وقال البخاري أيضا: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن عبدالرحمن بن عبد الله بن جبير، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " آية الايمان حب الانصار، وآية النفاق بغض الانصار ".
ورواه البخاري أيضا عن أبى الوليد [ و ] الطيالسي ومسلم من حديث خالد بن الحارث وعبد الرحمن بن مهدى، أربعتهم عن شعبة به.
و الآيات والاحاديث في فضائل الانصار كثيرة جدا.
وما أحسن ما قال أبو قيس صرمة بن أبى أنس المتقدم ذكره، أحد شعراء الانصار، في قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ونصرهم إياه ومواساتهم له ولاصحابه، رضى الله عنهم أجمعين.
قال ابن إسحاق: وقال أبو قيس صرمة بن أبى أنس أيضا يذكر ما أكرمهم الله به من الاسلام وما خصهم به من رسوله عليه السلام: ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه * فلم ير من يؤوى ولم ير داعيا فلما أتانا واطمأنت به النوى (1) * وأصبح مسرورا بطيبة راضيا وألفى صديقا واطمأنت به النوى * وكان له عونا من الله باديا يقص لنا ما قال نوح لقومه * وما قال موسى إذ أجاب المناديا
فأصبح لا يخشى من الناس واحدا * قريبا ولا يخشى من الناس نائيا (2) بذلنا له الاموال من جل (3) مالنا * وأنفسنا عند الوغى والتآسيا نعادي الذى عادى من الناس كلهم * جميعا ولو كان الحبيب المواسيا ونعلم أن الله لا شئ غيره * وأن كتاب الله أصبح هاديا (4) أقول إذا صليت في كل بيعة * حنانيك لا تظهر علينا الاعاديا أقول إذا جاوزت أرضا مخيفة * تباركت أسم الله أنت المواليا فطأ معرضا إن الحتوف كثيرة * وإنك لا تبقى لنفسك باقيا فو الله ما يدرى الفتى كيف سعيه * إذا هو لم يجعل له الله واقيا ولا تحفل النخل المعيمة (5) ربها * إذا أصبحت ريا وأصبح ثاويا ذكرها ابن إسحاق وغيره، ورواها عبدالله بن الزبير الحميدى وغيره، عن سفيان ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن عجوز من الانصار قالت: رأيت عبد الله بن عباس يختلف إلى صرمة بن قيس يروى هذه الابيات.
رواه البيهقى.
__________
(1) ابن هشام: فلما أتانا أظهر الله دينه.
(2) ح: باغيا.
(3) ابن هشام: حل.
(4) ابن هشام: ونعلم أن الله أفضل هاديا.
(5) المعيمة: العطشى.
والاصل: المقيمة، وما أثبته عن ابن هشام.
(*)
فصل وقد شرفت المدينة أيضا بهجرته عليه السلام إليها وصارت كهفا لاولياء الله وعباده الصالحين ومعقلا وحصنا منيعا للمسلمين، ودار هدى للعالمين.
والاحاديث في فضلها كثيرة جدا لها موضع آخر نوردها فيه.
إن شاء الله.
وقد ثبت في الصحيحين من طريق حبيب بن يساف، عن جعفر بن عاصم، عن
أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الايمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ".
ورواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع، عن شبابة، عن عاصم بن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وفى الصحيحين أيضا من حديث مالك، عن يحيى بن سعيد، أنه سمع أبا الحباب سعيد بن يسار، سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهى المدينة، تنقى الناس كما ينقى الكير خبث الحديد (1) ".
وقد انفرد الامام مالك عن بقية الائمة الاربعة بتفضيلها على مكة.
وقد قال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الوليد وأبو بكر بن عبدالله، قالا حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا أبو موسى الانصاري، حدثنا سعيد بن سعيد، حدثنى أخى، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلى فأسكني أحب البلاد إليك " فأسكنه الله المدينة.
وهذا حديث غريب جدا.
والمشهور عن الجمهور أن مكة أفضل من المدينة إلا المكان الذى ضم جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد استدل الجمهور على ذلك بأدلة يطول ذكرها ها هنا، ومحلها ذكرناها في كتاب المناسك من الاحكام إن شاء الله تعالى.
وأشهر دليل لهم في ذلك ما قال الامام أحمد: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرنا أبو سلمة بن عبدالرحمن، أن عبدالله بن عدى بن الحمراء أخبره، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحزورة في سوق مكة يقول: " والله إنك
لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى، ولو لا أنى أخرجت منك ما خرجت ".
وكذا رواه أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن كيسان عن الزهري به.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، من حديث الليث، عن عقيل عن الزهري به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد رواه يونس عن الزهري به.
ورواه محمد بن عمرو عن أبى سلمة بن عبدالرحمن، عن أبى هريرة.
وحديث الزهري عندي أصح.
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن أبى سلمة بن عبدالرحمن، عن أبى هريرة، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحزورة فقال: " علمت أنك خير أرض الله وأحب الارض إلى الله، ولو لا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت " وكذا رواه النسائي من حديث معمر به.
قال الحافظ البيهقى: وهذا وهم من معمر.
وقد رواه بعضهم عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، وهو أيضا وهم، والصحيح رواية الجماعة.
وقال أحمد أيضا: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا رباح، عن معمر، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبى سلمة، عن بعضهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في سوق الحزورة: " والله إنك لخير أرض الله وأحب الارض إلى الله، ولو لا أنى أخرجت منك ما خرجت ".
ورواه الطبراني، عن أحمد بن خليد الحلبي، عن الحميدى، عن ابن أخى الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن عبدالله بن عدى بن الحمراء به.
فهذه طرق هذا الحديث، وأصحها ما تقدم.
والله أعلم.
وقائع السنة الاولى من الهجرة ذكر ما وقع في السنة الاولى من الهجرة النبوية من الحوادث والوقائع العظيمة اتفق الصحابة رضى الله عنهم في سنة ست عشرة، وقيل سنة سبع عشرة، أو ثمانى عشرة، في الدولة العمرية على جعل ابتداء التاريخ الاسلامي من سنة الهجرة.
وذلك أن أمير المومنين عمر رضى الله عنه رفع إليه صك، أي حجة، لرجل على آخر، وفيه أنه يحل عليه في شعبان، فقال عمر: أي شعبان ؟ أشعبان هذه السنة التى نحن فيها أو السنة الماضية، أو الآتية ؟ ثم جمع الصحابة فاستشارهم في وضع تاريخ يتعرفون به حلول الديون وغير ذلك.
فقال قائل: أرخوا كتأريخ الفرس.
فكره ذلك.
وكانت الفرس يؤرخون بملوكهم واحدا بعد واحد.
وقال قائل: أرخوا بتأريخ الروم.
وكانوا يؤرخون بملك اسكندر بن فلبس المقدونى.
فكره ذلك.
وقال آخرون: أرخوا بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل بمبعثه.
وقال آخرون: بل بهجرته.
وقال آخرون: بل بوفاته عليه السلام.
فمال عمر رضى الله عنه إلى التأريخ بالهجرة لظهوره واشتهاره، واتفقوا معه على ذلك.
وقال البخاري في صحيحه: التاريخ ومتى أرخوا التاريخ: حدثنا عبدالله بن مسلم،
حدثنا عبد العزيز، عن أبيه، عن سهل بن سعد، قال: ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما عدوا إلا من مقدمه المدينة.
وقال الواقدي: حدثنا ابن أبى الزناد عن أبيه.
قال: استشار عمر في التاريخ فأجمعوا على الهجرة.
وقال أبو داود الطيالسي عن قرة (1) بن خالد السدوسى، عن محمد بن سيرين، قال: قام رجل إلى عمر فقال أرخوا.
فقال: ما أرخوا ؟ فقال: شئ تفعله الاعاجم يكتبون في شهر كذا من سنة كذا.
فقال عمر: حسن فأرخوا.
فقالوا: من أي السنين نبدأ ؟ فقالوا: من مبعثه، وقالوا: من وفاته، ثم أجمعوا على الهجرة، ثم قالوا وأى الشهور نبدأ ؟ قالوا: رمضان، ثم قالوا: المحرم، فهو مصرف الناس من حجهم، وهو شهر حرام فاجتمعوا على المحرم.
وقال ابن جرير: حدثنا قتيبة، حدثنا نوح بن قيس الطائى، عن عثمان بن محصن، أن ابن عباس كان يقول في قوله تعالى: " والفجر وليال عشر ".
هو المحرم فجر السنة.
وروى عن عبيد بن عمير قال: إن المحرم شهر الله، وهو رأس السنة يكسى [ فيه ] البيت، ويؤرخ به الناس، ويضرب فيه الورق.
قال أحمد: حدثنا روح بن عبادة، حدثنا زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، قال: إن أول من ورخ الكتب يعلى بن أمية باليمن، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة في ربيع الاول، وإن الناس أرخوا لاول السنة.
__________
(1) الاصل: فروة.
وهو تحريف.
(*)
وروى محمد بن إسحاق عن الزهري وعن محمد بن صالح، عن الشعبى أنهما قالا: أرخ
بنو إسماعيل من نار إبراهيم، ثم أرخوا من بنيان إبراهيم واسماعيل البيت، ثم أرخوا من موت كعب بن لؤى، ثم أرخوا من الفيل، ثم أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة، وذلك سنة سبع عشرة، أو ثمانى عشرة.
وقد ذكرنا هذا الفصل محررا بأسانيده وطرقه في السيرة العمرية ولله الحمد.
والمقصود أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الاسلامي من سنة الهجرة، وجعلوا أولها من المحرم فيما اشتهر عنهم.
وهذا هو قول جمهور الائمة.
وحكى السهيلي وغيره عن الامام مالك أنه قال: أول السنة الاسلامية ربيع الاول، لانه الشهر الذى هاجر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ وقد استدل السهيلي على ذلك في موضع آخر بقوله تعالى: " لمسجد أسس على التقوى من أول يوم " أي من أول يوم حلول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهو أول يوم من التاريخ كما اتفق الصحابة على أول سنى التاريخ عام الهجرة ] (1).
ولا شك أن هذا الذى قاله الامام مالك رحمه الله مناسب، ولكن العمل على خلافه، وذلك لان أول شهور العرب المحرم، فجعلوا السنة الاولى سنة الهجرة.
وجعلوا أولها المحرم كما هو المعروف، لئلا يختلط النظام.
والله أعلم.
* * * فنقول وبالله المستعان: استهلت سنة الهجرة المباركة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بمكة، وقد بايع الانصار بيعة العقبة الثانية كما قدمنا في أوسط أيام التشريق، وهى ليلة الثاني عشر من ذى الحجة قبل سنة الهجرة.
ثم رجع الانصار وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين في الهجرة إلى المدينة
__________
(1) سقطت من ح.
(*) (19 - السيرة - 2)
فهاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة حتى لم يبق بمكة من يمكنه الخروج إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه في الطريق كما قدمنا، ثم خرجا على الوجه الذى تقدم بسطه، وتأخر على بن أبى طالب بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأمره ليؤدي ما كان عنده عليه السلام من الودائع، ثم لحقهم بقباء، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين قريبا من الزوال وقد اشتد الضحاء.
قال الواقدي وغيره: وذلك لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول.
وحكاه ابن إسحاق، إلا أنه لم يعرج عليه، ورجح أنه لثنتى عشرة ليلة خلت منه.
وهذا هو المشهور الذى عليه الجمهور.
وقد كانت مدة إقامته عليه السلام بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة في أصح الاقوال.
وهو رواية حماد بن سلمة، عن أبى حمزة الضبى عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة.
وهكذا روى ابن جرير عن محمد بن معمر، عن روح بن عبادة، عن زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة.
وتقدم أن ابن عباس كتب أبيات صرمة بن أبى أنس بن قيس: ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا وقال الواقدي: عن إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه استشهد بقول صرمة: ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا
وهكذا رواه ابن جرير، عن الحارث، عن محمد بن سعد، عن الواقدي، خمس
عشرة حجة، وهو قول غريب جدا.
وأغرب منه ما قال ابن جرير: حدثت عن روح بن عبادة، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانى سنين بمكة، وعشرا بالمدينة.
وكان الحسن يقول: عشرا بمكة، وعشرا بالمدينة.
وهذا القول الآخر الذى ذهب إليه الحسن البصري من أنه أقام بمكة عشر سنين ذهب إليه أنس بن مالك وعائشة وسعيد بن المسيب وعمرو بن دينار، فيما رواه ابن جرير عنهم.
وهو رواية عن ابن عباس رواها أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد، عن هشام عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة عشرا.
وقد قدمنا عن الشعبى أنه قال: قرن إسرافيل برسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين يلقى إليه الكلمة والشئ.
وفى رواية يسمع حسه ولا يرى شخصه، ثم كان بعد ذلك جبريل.
وقد حكى الواقدي عن بعض مشايخه أنه أنكر قول الشعبى هذا.
وحاول ابن جرير أن يجمع بين قول من قال: إنه عليه السلام أقام بمكة عشرا، وقول من قال: ثلاث عشرة.
بهذا الذى ذكره الشعبى.
والله أعلم.
فصل ولما حل الركاب النبوى بالمدينة، وكان أول نزوله بها في دار بنى عمرو بن عوف، وهى قباء كما تقدم، فأقام بها أكثر ما قيل، ثنتين وعشرين ليلة.
وقيل ثمانى عشرة ليلة.
وقيل بضع عشرة ليلة وقال موسى بن عقبة: ثلاث ليال.
والاشهر ما ذكره ابن إسحاق وغيره أنه عليه السلام أقام فيهم بقباء من يوم الاثنين إلى يوم الجمعة.
وقد أسس في هذه المدة المختلف في مقدارها، على ما ذكرناه، مسجد قباء.
وقد ادعى السهيلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسسه في أول يوم قدم إلى قباء، وحمل على ذلك قوله تعالى " لمسجد أسس على التقوى من أول يوم " ورد قول من أعربها: من تأسيس أول يوم.
وهو مسجد شريف فاضل، نزل فيه قوله تعالى: " لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين " (1) كما تكلمنا على تقرير ذلك في التفسير.
وذكرنا الحديث الذى في صحيح مسلم أنه مسجد المدينة والجواب عنه.
وذكرنا الحديث الذى رواه الامام أحمد: حدثنا حسن بن محمد حدثنا أبو إدريس، حدثنا شرحبيل، عن عويم بن ساعدة، أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: " إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذى تطهرون به ؟ " قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئا، إلا أنه كان
__________
(1) سورة التوبة 108.
(*)
لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا.
وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وله شواهد أخر.
وروى عن خزيمة بن ثابت ومحمد بن عبدالله بن سلام وابن عباس.
وقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث يونس بن الحارث، عن إبراهيم بن أبى ميمونة، عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء " فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ".
قال: كانوا
يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية.
ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه.
قلت: ويونس بن الحارث هذا ضعيف.
والله أعلم.
وممن قال بأنه المسجد الذى أسس على التقوى ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، ورواه على بن أبى طلحة، عن ابن عباس، وحكى عن الشعبى والحسن البصري وقتادة وسعيد بن جبير وعطية العوفى، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يزوره فيما بعد ويصلى فيه، وكان يأتي قباء كل سبت تارة راكبا وتارة ماشيا.
وفى الحديث: " صلاة في مسجد قباء كعمرة ".
وقد ورد في حديث أن جبرائيل عليه السلام هو الذى أشار للنبى صلى الله عليه وسلم إلى موضع قبلة مسجد قباء.
فكان هذا المسجد أول مسجد بنى في الاسلام بالمدينة، بل أول مسجد جعل لعموم الناس في هذه الملة.
واحترزنا بهذا عن المسجد الذى بناه الصديق بمكة عند باب داره يتعبد فيه ويصلى، لان ذاك كان لخاصة نفسه لم يكن للناس عامة، والله أعلم.
وقد تقدم إسلام سلمان في البشارات، [ و ] أن سلمان الفارسى لما سمع بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ إلى المدينة ذهب إليه وأخذ معه شيئا فوضعه بين يديه وهو بقباء [ و ] قال: هذا صدقة.
فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأكله، وأمر أصحابه فأكلوا منه، ثم جاء مرة أخرى ومعه شئ فوضعه وقال هذه هدية فأكل منه وأمر أصحابه فأكلوا.
تقدم الحديث بطوله ] (1).
فصل
في إسلام عبدالله بن سلام رضى الله عنه قال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن زرارة، عن عبدالله ابن سلام، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل (2) الناس، فكنت فيمن انجفل، فلما تبينت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فكان أول شئ سمعته يقول: " أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام ".
ورواه الترمذي وابن ماجه من طرق، عن عوف الاعرابي، عن زرارة بن أبى أوفى به عنه.
وقال الترمذي: صحيح.
ومقتضى هذا السياق يقتضى أنه سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ورآه أول قدومه حين أناخ بقباء في بنى عمرو بن عوف.
وتقدم في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس، أنه اجتمع به حين أناخ عند دار
__________
(1) سقط من ح.
(2) انجفل الناس: انقلعوا فمضوا.
(*)
أبى أيوب عند ارتحاله من قباء إلى دار بنى النجار كما تقدم، فلعله رآه أول ما رآه بقباء، واجتمع به بعد ما صار إلى دار بنى النجار.
والله أعلم.
وفى سياق البخاري من طريق عبد العزيز عن أنس قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم جاء عبدالله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بحق، وقد علمت يهود أنى سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فسلهم عنى قبل أن يعلموا أنى قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أنى قد أسلمت قالوا في ما ليس في.
فأرسل نبى الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فدخلوا عليه، فقال لهم: " يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله، فو الله الذى لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنى رسول الله حقا وأنى جئتكم بحق فأسلموا " قالوا: ما نعلمه.
قالوا: [ ذلك ] للنبى صلى الله عليه وسلم
قالها ثلاث مرار.
قال: " فأى رجل فيكم عبدالله (1) بن سلام ؟ قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا.
قال: أفرأيتم إن أسلم ؟ قالوا: حاش لله، ما كان ليسلم.
قال: " يا بن سلام اخرج عليهم ".
فخرج فقال: يا معشر يهود اتقوا الله، فو الله الذى لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بالحق.
فقالوا: كذبت.
فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا لفظه.
وفى رواية: فلما خرج عليهم شهد شهادة الحق قالوا شرنا وابن شرنا، وتنقصوه فقال: يا رسول الله هذا الذى كنت أخاف.
__________
(1) ابن هشام: الحصين بن سلام.
(*)
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا الاصم، حدثنا محمد بن إسحاق الصنعانى، حدثنا عبدالله بن أبى بكر، حدثنا حميد عن أنس، قال: سمع عبدالله بن سلام بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في أرض له، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبى، ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ وما بال الولد [ ينزع ] إلى أبيه أو إلى أمه.
قال: أخبرني بهن جبريل آنفا.
قال: جبريل ! قال: نعم.
قال: عدو اليهود من الملائكة.
ثم قرأ (1): " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ".
قال: " أما أول أشراط الساعة فنار تخرج على الناس من المشرق تسوقهم إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت (2)، وأما الولد فإذا سبق
ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد ".
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.
يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامى قبل أن تسألهم عنى بهتونى.
فجاءت اليهود.
فقال: أي رجل عبدالله فيكم ؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا.
قال: أرأيتم إن أسلم ؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك.
فخرج عبدالله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
قالوا شرنا وابن شرنا وانتقصوه.
قال: هذا الذى كنت أخاف يا رسول الله.
__________
(1) أي الرسول صلوات الله عليه.
(2) قال القسطلائى: هي القطعة المنفردة المتعلقة بالكبد، وهى أهنأ طعام وأمرؤه.
(*)
ورواه البخاري عن عبد بن حميد (1) عن عبدالله بن أبى بكر به.
ورواه عن حامد بن عمر عن بشر بن المفضل عن حميد به.
* * * قال محمد بن إسحاق: حدثنى عبدالله بن أبى بكر، عن يحيى بن عبدالله، عن رجل من آل عبدالله بن سلام، قال: كان من حديث عبدالله بن سلام حين أسلم وكان حبرا عالما، قال: لما سمعت برسول الله وعرفت صفته واسمه وهيئته و [ زمانه ] الذى كنا نتوكف (2) له، فكنت بقباء مسرا بذلك (3) صامتا عليه، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، المدينة.
فلما قدم نزل بقباء في بنى عمرو بن عوف، فأقبل (4) رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لى أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة.
فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت عمتى حين
سمعت تكبيري: لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت.
قال: قلت لها: أي عمة، والله هو أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بعث بما بعث به.
قال: فقالت له: يا ابن أخى أهو الذى كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة ؟ قال: قلت لها نعم.
قالت: فذاك إذا.
قال: فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتى فأمرتهم فأسلموا، وكتمت إسلامى من اليهود وقلت: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت (5) وإنى أحب أن تدخلني في بعض بيوتك فتغيبني عنهم، ثم تسألهم عنى فيخبروك
__________
(1) الاصل: عبد بن منير وهو خطأ.
(2) نتوكف: نترقب وننتظر.
وفى الاصل: نتوقف مصحفة.
وهو تحريف: وما أثبته عن ابن هشام.
(3) ابن هشام: فكنت مسرا لذلك صامتا عليه.
(4) ابن هشام: فلما نزل بقباء على بنى عمرو بن عوف أقبل.
(5) البهت: جمع بهيت، كقضب وقضيب.
والبهيت هو الذى يبهت القول ويختلقه.
(*)
كيف أنا فيهم، قبل أن يعلموا بإسلامى، فإنهم إن يعلموا بذلك بهتونى وعابوني.
وذكر نحو ما تقدم.
قال: فأظهرت إسلامى وإسلام أهل بيتى، وأسلمت عمتى خالدة بنت الحارث.
وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق: حدثنى عبدالله بن أبى بكر، حدثنى محدث عن صفية بنت حيى قالت: لم يكن أحد من ولد أبى وعمى أحب إليهما منى، لم ألقهما في ولد لهما قط أهش إليهما إلا أخذانى دونه، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء، قرية بنى عمرو بن عوف، غدا إليه أبى وعمى أبو ياسر بن أخطب مغلسين، فو الله ما جاءانا إلا مع مغيب الشمس، فجاءانا فاترين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فو الله ما نظر إلى واحد
منهما، فسمعت عمى أبا ياسر يقول لابي: أهو هو ؟ قال: نعم والله ! قال: تعرفه بنعته وصفته ؟ قال: نعم والله.
قال: فماذا في نفسك منه ؟ قال: عداوته والله ما بقيت ! وذكر موسى بن عقبة عن الزهري أن أبا ياسر بن أخطب حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذهب إليه وسمع منه وحادثه ثم رجع إلى قومه فقال: يا قوم أطيعون، فإن الله قد جاءكم بالذى كنتم تنتظرون، فاتبعوه ولا تخالفوه.
فانطلق أخوه حيى بن أخطب، وهو يومئذ سيد اليهود، وهما من بنى النضير، فجلس إلى رسول الله وسمع منه، ثم رجع إلى قومه، وكان فيهم مطاعا، فقال: أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا أبدا.
فقال له أخوه أبو ياسر: يا ابن أم أطعنى في هذا الامر واعصني فيما شئت بعده لا تهلك.
قال: لا والله لا أطيعك أبدا، واستحوذ عليه الشيطان واتبعه قومه على رأيه.
قلت: أما أبو ياسر واسمه حيى بن أخطب فلا أدرى ما آل إليه أمره، وأما حيى ابن أخطب والد صفية بنت حيى فشرب عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يزل ذلك دأبه لعنه الله حتى قتل صبرا بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قتل مقاتلة بنى قريظة.
كما سيأتي إن شاء الله.
فصل ولما ارتحل عليه السلام من قباء وهو راكب ناقته القصواء، وذلك يوم الجمعة، أدركه وقت الزوال وهو في دار بنى سالم بن عوف، فصلى بالمسلمين الجمعة هنالك، في واد يقال له وادى رانواناء.
فكانت أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين بالمدينة، أو مطلقا، لانه، والله أعلم، لم يكن يتمكن هو وأصحابه بمكة من الاجتماع حتى
يقيموا بها جمعة ذات خطبة وإعلان بمواعظة، وما ذاك إلا لشدة مخالفة المشركين له، وأذيتهم إياه.
ذكر خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ قال ابن جرير: حدثنى يونس بن عبدالاعلى، أخبرنا ابن وهب، عن سعيد بن عبدالرحمن الجمحى، أنه بلغه عن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة في بنى سالم بن عمرو بن عوف رضى الله عنهم: " الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة على
فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان: ودنو من الساعة، وقرب من الاجل.
من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا.
وأوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله.
فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة ولا أفضل من ذلك ذكرى، وإنه تقوى لمن عمل به على وجل ومخافة، وعون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة.
ومن يصلح الذى بينه وبين الله من أمر السر والعلانية لا ينوى بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد.
والذى صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك فإنه يقول تعالى: " ما يبدل
القول لدى وما أنا بظلام للعبيد ".
واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية فإنه " من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا " " ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما " وإن تقوى الله توقى مقته، وتوقى عقوبته، وتوقى سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضى الرب، وترفع الدرجة.
خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه
وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حى عن بينة، ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفه ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضى على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
هكذا أوردها ابن جرير وفى السند إرسال.
وقال البيهقى: باب أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة: أخبرنا أبو عبدالله الحافظ، أخبرنا أبو العباس الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثنى المغيرة بن عثمان بن محمد بن عثمان والاخنس بن شريق، عن أبى سلمة بن عبدالرحمن بن عوف، قال: كانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال " أما بعد أيها الناس فقدموا لانفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه، ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك
رسولي فبلغك، وآتيتك مالا وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك ؟ فينظر يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم ينظر قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن أستطاع أن يقى وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
والسلام على رسول الله (1) ورحمة الله وبركاته ".
ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال: " إن الحمد لله أحمده
__________
(1) ابن هشام: والسلام عليكم وعلى رسول الله.
(*)
وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له.
وأشهد أن لا إله إلا الله [ وحده لا شريك له ] (1)، إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه وأدخله في الاسلام بعد الكفر واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا من أحب الله، أحبوا الله من كل قلوبكم [ ولا تملوا كلام الله وذكره ولا تقسى عنه قلوبكم (1) ] فإنه من [ كل ما يخلق الله ] (1) يختار الله ويصطفى، فقد سماه خيرته من الاعمال وخيرته من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتى الناس من الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن ينكث عهده.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ".
وهذه الطريق أيضا مرسلة، إلا أنها مقوية لما قبلها، وإن اختلفت الالفاظ.
فصل في بناء مسجده الشريف في مدة مقامه عليه السلام بدار أبى أيوب رضى الله عنه وقد اختلف في مدة مقامه بها، فقال الواقدي: سبعة أشهر، وقال غيره أقل من
شهر.
والله أعلم.
قال البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الصمد، قال سمعت أبى يحدث فقال حدثنا أبوالتياح يزيد بن حميد الضبى، حدثنا أنس بن مالك، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل في علو المدينة في حى يقال لهم بنو عمرو بن
__________
(1) من ابن هشام.
(*)
عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى ملا بنى النجار فجاءوا متقلدى سيوفهم قال: وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه، وملا بنى النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبى أيوب.
قال: فكان يصلى حيث أدركته الصلاة، ويصلى في مرابض الغنم.
قال: ثم إنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملا بنى النجار فجاءوا فقال: يا بنى النجار ثامنونى بحائطكم هذا.
فقالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عزوجل.
قال: فكان فيه ما أقول لكم: كانت فيه قبور المشركين، وكانت فيه خرب (1)، وكان فيه نخل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع.
قال: فصفوا النحل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه حجارة، قال: فجعلوا ينقلون ذلك الصخر وثم يرتجزون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم يقول: اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فانصر الانصار والمهاجرة.
وقد رواه البخاري في مواضع أخر ومسلم من حديث أبى عبد الصمد وعبد الوارث ابن سعيد.
وقد تقدم في صحيح البخاري عن الزهري، عن عروة، أن المسجد الذى كان مربدا - وهو بيدر التمر - ليتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة وهما سهل وسهيل، فساومهما
فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله.
فأبى حتى ابتاعه منهما وبناه مسجدا.
قال: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو ينقل معهم التراب:
__________
(1) الخرب: جمع خربة ككلمة وكلم.
(*)
هذا الحمال لا حمال خيبر * هذا أبر ربنا وأطهر ويقول: لا هم إن الاجر أجر الآخره * فارحم الانصار والمهاجره.
وذكر موسى بن عقبة أن أسعد بن زرارة عوضهما منه نخلا له في بياضة قال: وقيل ابتاعه منهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: وذكر محمد بن إسحاق أن المربد كان لغلامين يتيمين في حجر معاذ بن عفراء، وهما سهل وسهيل ابنا عمرو.
فالله أعلم.
* * * وروى البيهقى من طريق أبى بكر بن أبى الدنيا، حدثنا الحسن بن حماد الضبى، حدثنا عبدالرحيم بن سليمان، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد أعانه عليه أصحابه وهو معهم يتناول اللبن حتى اغبر صدره، فقال: ابنوه عريشا كعريش موسى.
فقلت للحسن: ما عريش موسى ؟ قال: إذا رفع يديه بلغ العريش، يعنى السقف.
وهذا مرسل وروى من حديث حماد بن سلمة، عن أبى سنان، عن يعلى بن شداد بن أوس، عن عبادة، أن الانصار جمعوا مالا فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ابن هذا المسجد وزينه، إلى متى نصلى تحت هذا الجريد ؟ فقال: ما بى رغبة عن أخى موسى، عريش كعريش موسى.
وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا عبدالله بن موسى، عن سنان، عن فراس، عن عطية العوفى، عن ابن عمر، أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كانت
سواريه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جذوع النخل، أعلاه مظلل بجريد النخل، ثم إنها تخربت في خلافة أبى بكر، فبناها بجذوع وبجريد النخل، ثم إنها تخربت في خلافة عثمان فبناها بالآجر، فما زالت ثابتة حتى الآن.
وهذا غريب.
وقد قال أبو داود أيضا: حدثنا مجاهد بن موسى، حدثنى يعقوب بن إبراهيم، حدثنى أبى، عن أبى صالح، حدثنا نافع، عن ابن عمر، أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النحل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا، وغيره عثمان رضى الله عنه وزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة (1) وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج (2).
وهكذا رواه البخاري عن على بن المدينى، عن يعقوب بن إبراهيم به.
قلت: زاده عثمان بن عفان رضى الله عنه متأولا قوله صلى الله عليه وسلم: " من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ".
ووافقه الصحابة الموجودون على ذلك ولم يغيروه بعده، فيستدل بذلك على الراجح من قول العلماء أن حكم الزيادة حكم المزيد، فتدخل الزيادة في حكم سائر المسجد من تضعيف الصلاة فيه وشد الرحال إليه.
وقد زيد في زمان الوليد بن عبدالملك بانى جامع دمشق، زاده له بأمره عمر بن
__________
(1) القصة: الجص.
(2) في ا: بالسلاح وهو تصحيف.
والساج: اسم لنوع من الشجر.
(*) (20 - السيرة 2)
عبد العزيز حين كان نائبه على المدينة، وأدخل الحجرة النبوية فيه.
ثم زيد زيادة كثيرة فيما بعد، وزيد من جهة القبلة حتى صارت الروضة والمنبر بعد الصفوف المقدمة كما هو المشاهد اليوم.
* * * قال ابن إسحاق: ونزل رسول الله على أبى أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه وعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرغب المسلمين في العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والانصار ودأبوا فيه، فقال قائل من المسلمين: لئن قعدنا والنبى يعمل * لذاك منا العمل المضلل وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون: لا عيش إلا عيش الآخره * اللهم ارحم الانصار والمهاجره فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم ارحم المهاجرين والانصار ".
قال: فدخل عمار بن ياسر، وقد أثقلوه باللبن فقال: يا رسول الله قتلوني يحملون على ما لا يحملون.
قالت: أم سلمة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض وفرته بيده، وكان رجلا جعدا، وهو يقول: " ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك، إنما تقتلك الفئة الباغية ".
وهذا منقطع من هذا الوجه، بل هو معضل بين محمد بن إسحاق وبين أم سلمة،
وقد وصله مسلم في صحيحه من حديث شعبة، عن خالد الحذاء، عن سعيد والحسن، يعنى ابني أبى الحسن البصري، عن أمهما خيرة مولاة أم سلمة، عن أم سلمة قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تقتل عمارا الفئة الباغية " ورواه من حديث ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار، وهو ينقل الحجارة: " ويح لك يا ابن سمية ! تقتلك الفئة الباغية ".
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الحسن يحدث عن أمه، عن أم سلمة، قالت: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد، جعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحمل كل واحد لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين، لبنة عنه ولبنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ظهره وقال: " ابن سمية، للناس أجر ولك أجران، وآخر زادك شربة من لبن وتقتلك الفئة الباغية ".
وهذا إسناد على شرط الصحيحين.
وقد أورد البيهقى وغيره من طريق جماعة، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن أبى سعيد الخدرى، قال: كنا نحمل في بناء المسجد لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين لبنتين.
فرآه النبي صلى الله عليه سلم فجعل ينفض التراب عنه ويقول: " ويح عمار ! تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " قال يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن.
لكن روى هذا الحديث الامام البخاري عن مسدد، عن عبد العزيز بن المختار، عن خالد الحذاء، وعن إبراهيم بن موسى، عن عبد الوهاب الثقفى، عن خالد الحذاء به، إلا أنه لم يذكر قوله: " تقتلك الفئة الباغية ".
قال البيهقى: وكأنه إنما تركها لما رواه مسلم من طريق، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد [ قال: أخبرني من هو خير منى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار حين
جعل يحفر الخندق، جعل يمسح رأسه ويقول: " بؤس ابن سمية ! تقتله فئة باغية ".
وقد رواه مسلم أيضا من حديث شعبة، عن أبى مسلم، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد (1) ] قال: حدثنى من هو خير منى، أبو قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار بن ياسر " بؤسا لك يا بن سمية تقتلك الفئة الباغية ".
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا وهيب، عن داود بن أبى هند، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حفر الخندق كان الناس يحملون لبنة لبنة، وعمار ناقه من وجع كان به، فجعل يحمل لبنتين لبنتين.
قال أبو سعيد: فحدثني بعض أصحابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفض التراب عن رأسه ويقول: " ويحك ابن سمية تقتلك الفئة الباغية ".
قال البيهقى: فقد فرق بين ما سمعه بنفسه وما سمعه من أصحابه.
قال: ويشبه أن يكون قوله: " الخندق " وهما، أو أنه قال له ذلك في بناء المسجد وفى حفر الخندق.
والله أعلم.
قلت: حمل اللبن في حفر الخندق لا معنى له، والظاهر أنه اشتبه على الناقل.
والله أعلم.
وهذا الحديث من دلائل النبوة، حيث أخبر صلوات الله وسلامه عليه عن عمار أنه تقتله الفئة الباغية.
وقد قتله أهل الشام في وقعة صفين، وعمار مع على وأهل العراق.
وقد كان على أحق بالامر من معاوية، ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم، كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشيعة وغيرهم، لانهم وإن كانوا بغاة في نفس الامر فإنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال، وليس كل مجتهد مصيبا، بل
المصيب له أجران والمخطئ له أجر.
__________
(1) سقط من ا.
(*)
ومن زاد في هذا الحديث بعد: " تقتلك الفئة الباغية ": " لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة " فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يقلها إذ لم تنقل من طريق تقبل والله أعلم.
وأما قوله: " يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " فإن عمارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الالفة واجتماع الكلمة، وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالامر دون من هو أحق به، وأن يكون الناس أوزاعا على كل قطر إمام برأسه، وهذا يؤدى إلى افتراق الكلمة واختلاف الامة، فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم، وإن كانوا لا يقصدونه.
والله أعلم.
والمقصود ها هنا إنما هو قصة بناء المسجد النبوى، على بانيه أفضل الصلاة والتسليم.
* * * وقد قال الحافظ البيهقى في الدلائل: حدثنا أبو عبد الله الحافظ إملاء، حدثنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا عبيد بن شريك، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبدالله بن المبارك، أخبرنا حشرج بن نباتة، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جاء أبو بكر بحجر فوضعه، ثم جاء عمر بحجر فوضعه، ثم جاء عثمان بحجر فوضعه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هؤلاء ولاة الامر بعدى ".
ثم رواه من حديث يحيى بن عبدالحميد الحمانى، عن حشرج عن سعيد، عن سفينة.
قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وضع حجرا.
ثم قال " ليضع أبو بكر حجرا إلى جنب حجري، ثم ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبى بكر، ثم
ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هؤلاء الخلفاء من بعدى ".
وهذا الحديث بهذا السياق غريب جدا.
والمعروف ما رواه الامام أحمد، عن أبى النضر، عن حشرج بن نباتة العبسى، وعن بهز وزيد بن الحباب وعبد الصمد وحماد بن سلمة، كلاهما عن سعيد بن جمهان، عن سفينة قال سمعت رسول الله يقول: " الخلافة ثلاثون عاما، ثم يكون من بعد ذلك الملك " ثم قال سفينة: أمسك، خلافة أبى بكر سنتين، وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان اثنتا عشرة سنة، وخلافة على ست سنين.
هذا لفظ أحمد.
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق، عن سعيد بن جمهان، وقال الترمذي حسن لا نعرفه إلا من حديثه ولفظه " الخلافة بعدى ثلاثون سنة ثم يكون ملكا عضوضا " وذكر بقيته.
* * * قلت: ولم يكن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بنى منبر يخطب الناس عليه، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وهو مستند إلى جذع عند مصلاه في الحائط القبلى، فلما اتخذ له عليه السلام المنبر، كما سيأتي بيانه في موضعه، وعدل إليه ليخطب عليه، فلما جاوز ذلك الجذع خار ذلك الجذع وحن حنين النوق العشار، لما كان يسمع من خطب الرسول عليه السلام عنده، فرجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم فاحتضنه حتى سكن كما يسكن المولود الذى يسكت، كما سيأتي تفصيل ذلك من طرق عن سهل بن سعد الساعدي وجابر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك وأم سلمة رضى الله عنهم.
وما أحسن ما قال الحسن البصري بعد ما روى هذا الحديث، عن أنس بن مالك: يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا إليه، أو ليس الرجال الذين يرجون لقاءه أحق أن يشتاقوا إليه ؟ !
تنبيه على فضل هذا المسجد الشريف والمحل المنيف قال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن أنيس بن أبى يحيى، حدثنى أبى، قال: سمعت أبا سعيد الخدرى قال: اختلف رجلان، رجل من بنى خدرة ورجل من بنى عمرو بن عوف، في المسجد الذى أسس على التقوى، فقال الخدرى: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال العمرى: هو مسجد قباء.
فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال: " هو هذا المسجد " لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال: " في ذلك خير كثير " يعنى مسجد قباء.
ورواه الترمذي عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن أنيس بن أبى يحيى الاسلمي به وقال: حسن صحيح.
وروى الامام أحمد، عن إسحاق بن عيسى، عن الليث بن سعد والترمذي والنسائي جميعا، عن قتيبة، عن الليث عن عمران بن أبى أنس، عن عبدالرحمن بن أبى سعيد، عن أبيه، قال: تمارى رجلان في المسجد الذى أسس على التقوى، وذكر نحو ما تقدم.
وفى صحيح مسلم من حديث حميد الخراط، عن أبى سلمة بن عبدالرحمن أنه سأل عبدالرحمن ابن أبى سعيد، كيف سمعت أباك في المسجد الذى أسس على التقوى ؟ قال أبى: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن المسجد الذى أسس على التقوى فأخذ كفا من حصباء فضرب به الارض ثم قال: " هو مسجدكم هذا ".
وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا ربيعة بن عثمان التميمي، عن عمران بن أبى أنس، عن سهل بن سعد، قال: اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم في المسجد الذى أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الآخر: هو مسجد قباء.
فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه فقال: " هو مسجدي هذا ".
وقال الامام أحمد حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبدالله بن عامر الاسلمي، عن عمر لن بن أبى أنس، عن سهل بن سعد، عن أبى بن كعب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المسجد الذى أسس على التقوى مسجدي هذا ".
فهذه طرق متعددة لعلها تقرب من إفادة القطع بأنه مسجد الرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإلى هذا ذهب عمر، وابنه عبدالله، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، واختاره ابن جرير.
وقال آخرون: لا منافاة بين نزول الآية في مسجد قباء كما تقدم بيانه، وبين هذه الاحاديث، لان هذا المسجد أولى بهذه الصفة من ذلك، لان هذا أحد المساجد الثلاثة التى تشد الرحال إليها، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا والمسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس ".
وفى صحيح مسلم عن أبى سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " وذكرها.
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ".
وفى مسند أحمد بإسناد حسن زياد حسنة وهى قوله " فإن ذلك أفضل ".
وفى الصحيحين من حديث يحيى القطان، عن حبيب، عن حفص بن عاصم، عن
أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة، ومنبرى على حوضى ".
والاحاديث في فضائل هذا المسجد الشريف كثيرة جدا وسنوردها في كتاب المناسك من كتاب الاحكام الكبير إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وقد ذهب الامام مالك وأصحابه إلى أن مسجد المدينة أفضل من المسجد الحرام، لان ذاك بناه إبراهيم، وهذا بناه محمدا صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم عليه السلام.
وقد ذهب الجمهور إلى خلاف ذلك، وقرروا أن المسجد الحرام أفضل، لانه في بلد حرمه الله يوم خلق السموات والارض، وحرمه إبراهيم الخليل عليه السلام، ومحمد خاتم المرسلين، فاجتمع فيه من الصفات ما ليس في غيره، وبسط هذه المسألة موضع آخر وبالله المستعان.
فصل وبنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حول مسجده الشريف حجرا لتكون مساكن له ولاهله، وكانت مساكن قصيرة البناء قريبة الفناء قال الحسن بن أبى الحسن البصري، وكان غلاما مع أمه خيرة مولاة أم سلمة، لقد كنت أنال أطول سقف في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم بيدى.
قلت: إلا أنه قد كان الحسن البصري شكلا ضخما طوالا.
رحمه الله.
وقال السهيلي في الروض: كانت مساكنه عليه السلام مبنية من جريد عليه طين، بعضها من حجارة مرضومة، وسقوفها كلها من جريد.
وقد حكى عن الحسن البصري ما تقدم.
وكانت حجره من شعر مربوطة بخشب من عرعر.
قال: وفى تاريخ البخاري أن بابه عليه السلام كان يقرع بالاظافير، فدل على أنه لم يكن لابوابه حلق.
قال: وقد أضيفت الحجر كلها بعد موت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد.
* * * قال الواقدي وابن جرير وغيرهما: ولما رجع عبدالله بن أريقط الديلى إلى مكة بعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر زيد بن حارثة وأبا رافع موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتوا بأهاليهم من مكة، وبعثا معهم بحملين وخمسمائة درهم ليشتروا بها إبلا من قديد، فذهبوا فجاءوا ببنتى النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وأم كلثوم وزوجتيه سودة وعائشة، وأمها أم رومان، وأهل النبي صلى الله عليه وسلم وآل أبى بكر صحبة عبدالله بن أبى بكر، وقد شرد بعائشة وأمها أم رومان الجمل في أثناء الطريق، فجعلت أم رومان تقول: وا عروساه، وا بنتاه.
قالت عائشة: فسمعت قائلا يقول: أرسلي خطامه، فأرسلت خطامه فوقف بإذن الله وسلمنا الله عزوجل.
فتقدموا فنزلوا بالسنح، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة في شوال بعد ثمانية أشهر كما سيأتي.
وقدمت معهم أسماء بنت أبى بكر امرأة الزبير بن العوام وهى حامل متم بعبد الله بن الزبير كما سيأتي بيانه في موضعه من آخر هذه السنة.
فصل فيما أصاب المهاجرين من حمى المدينة رضى الله عنهم أجمعين وقد سلم الرسول منها بحول الله وقوته ودعا ربه
فأزاحها الله عن مدينته قال البخاري: حدثنا عبدالله بن وهب بن يوسف، حدثنا مالك بن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، قالت فدخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدك ؟ ويا بلال كيف تجدك ؟ قالت وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة * بواد وحولي إذخر وجليل (1) وهل أردن يوما مياه مجنة * وهل يبدون لى شامة وطفيل قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة (2) ".
ورواه مسلم عن أبى بكر بن أبى شيبة عن هشام مختصرا.
وفى رواية البخاري له عن أبى أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، فذكره وزاد بعد شعر بلال.
ثم يقول: اللهم العن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا إلى أرض الوباء.
__________
(1) الاذخر: الحشيش الاخضر، أو حشيش طيب الرائحة.
والجليل: نبت ضعيف.
(2) الجحفة: قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلا من مكة.
وكان بها حينئذ يهود.
(*)
فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد اللهم بارك لنا في صاعها وفى مدها، وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة ".
قالت: وقدمنا المدينة وهى أوبأ أرض الله، وكان بطحان يجرى نجلا، يعنى
ماء آجنا.
وقال زياد عن محمد بن إسحاق: حدثنى هشام بن عروة وعمر بن عبدالله بن عروة ابن الزبير، عن عائشة قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهى أوبأ أرض الله من الحمى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم وصرف الله ذلك عن نبيه، قالت: فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال موليا أبى بكر في بيت واحد فأصابتهم الحمى، فدخلت عليهم أدعوهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك، فدنوت من أبى بكر فقلت: كيف تجدك يا أبت ؟ فقال: كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله قالت: فقلت: والله ما يدرى أبى ما يقول.
قالت: ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك يا عامر ؟ قال: لقد وجدت الموت قبل ذوقه * إن الجبان حتفه من فوقه كل امرئ مجاهد بطوقه * كالثور يحمى جلده بروقه قال: فقلت: والله ما يدرى ما يقول، قالت: وكان بلال إذا أدركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته فقال: ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة * بفخ وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة * وهل يبدون لى شامة وطفيل
قالت عائشة: فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم وقلت: إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى فقال: " اللهم حبب إلينا المدينة، كما حببت إلينا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل وباءها إلى مهيعة " ومهيعة هي الجحفة.
وقال الامام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا ليث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى بكر بن إسحاق بن يسار، عن عبدالله بن عروة، عن عروة، عن عائشة، قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة اشتكى أبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر وبلال، فاستأذنت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم فأذن لها، فقالت لابي بكر: كيف تجدك ؟ فقال: كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله وسألت عامرا فقال: إنى وجدت الموت قبل ذوقه * إن الجبان حتفه من فوقه وسألت بلالا فقال: يا ليت شعرى هل أبيتن ليلة * بفخ وحولي إذخر وجليل فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فنظر إلى السماء وقال: " اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعها وفى مدها، وانقل وباءها إلى مهيعة " وهى الجحفة فيما زعموا.
وكذا رواه النسائي عن قتيبة، عن الليث به.
ورواه الامام أحمد، من طريق عبدالرحمن ابن الحارث عنها، مثله.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبى عمرو، قالا: حدثنا
أبو العباس الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهى أوبأ أرض الله، وواديها بطحان نجل.
قال هشام: وكان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان إذا كان الوادي وبيئا فأشرف عليها الانسان قيل له أن ينهق نهيق الحمار، فإذا فعل ذلك لم يضره وباء ذلك الوادي.
وقد قال الشاعر حين أشرف على المدينة: لعمري لئن عبرت من خيفة الردى * نهيق الحمار إننى لجزوع وروى البخاري من حديث موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة، وهى الجحفة.
فأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة، وهى الجحفة ".
هذا لفظ البخاري ولم يخرجه مسلم ورواه الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه من حديث موسى بن عقبة.
وقد روى حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن عائشة، قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهى وبيئة، فذكر الحديث بطوله إلى قوله: " وانقل حماها إلى الجحفة ".
قال هشام: فكان المولود يولد بالجحفة فلا يبلغ الحلم حتى تصرعه الحمى.
ورواه اليهقى في دلائل النبوة.
وقال يونس عن ابن إسحاق: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهى وبيئة، فأصاب أصحابه بها بلاء وسقم حتى أجهدهم ذلك، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه صبيحة رابعة، يعنى مكة، عام عمرة القضاء، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنهم حمى يثرب، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الاشواط كلها إلا الابقاء عليهم.
قلت: وعمرة القضاء كانت في سنة سبع في ذى القعدة، فإما أن يكون تأخر دعاؤه عليه السلام بنقل الوباء إلى قريب من ذلك، أو أنه رفع وبقى آثار منه قليل، أو أنهم
بقوا في خمار ما كان أصابهم من ذلك إلى تلك المدة.
والله أعلم.
وقال زياد عن ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه أصابتهم حمى المدينة حتى جهدو مرضا، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم، حتى كانوا وما يصلون إلا وهم قعود.
قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصلون كذلك فقال لهم: " اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم " فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسقم، التماس الفضل ! فصل في عقده عليه السلام الالفة بين المهاجرين والانصار بالكتاب الذى أمر به فكتب بينهم والمؤاخاة التى أمرهم بها وقررهم عليها، وموادعته اليهود الذين كانوا بالمدينة وكان بها من أحياء اليهود بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة.
وكان نزولهم بالحجاز قبل الانصار أيام بختنصر حين دوخ بلاد المقدس.
فيما ذكره الطبري.
ثم لما كان سيل العرم وتفرقت شذر مذر، نزل الاوس والخزرج المدينة عند اليهود، فحالفوهم وصاروا يتشبهون بهم لما يرون لهم عليهم من الفضل في العلم المأثور عن الانبياء.
لكن من الله على هؤلاء الذين كانوا مشركين بالهدى والاسلام، وخذل أولئك لحسدهم وبغيهم واستكبارهم عن اتباع الحق.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا عاصم الاحول، عن أنس بن مالك، قال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والانصار
في دار أنس بن مالك.
وقد رواه الامام أحمد أيضا والبخاري ومسلم وأبو داود من طرق متعددة، عن عاصم بن سليمان الاحول، عن أنس بن مالك، قال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والانصار في دارى.
وقال الامام أحمد: حدثنا نصر بن باب، عن حجاج، هو ابن أرطاة، قال: وحدثنا سريج، حدثنا عباد، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والانصار أن يعقلوا معاقلهم، وأن يفدوا عانيهم بالمعروف والاصلاح بين المسلمين.
قال أحمد: وحدثنا سريج، حدثنا عباد، عن حجاج، عن الحكم، عن قاسم، عن ابن عباس مثله.
تفرد به الامام أحمد.
وفى صحيح مسلم عن جابر: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقولة.
وقال محمد بن إسحاق: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والانصار وادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط
لهم: بسم الله الرحمن الرحيم " هذا كتاب من محمد النبي الامي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم (1) يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسظ، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
ثم ذكر كل بطن من بطون الانصار وأهل كل دار: بنى ساعدة، وبنى جشم، وبنى النجار، وبنى عمرو بن عوف، وبنى النبيت.
إلى أن قال: وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا (2) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء [ أ ] وعقل، ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (3) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعهم، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضعم موالى بعض دون الناس.
وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والاسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا.
وإن المؤمنين يبئ (4) بعضهم بعضا بما نال دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين
__________
(1) ربعتهم: حالحم التى أتى الاسلام وهم عليها.
(2) قال ابن هشام: المفرح المثقل بالدين والكثير العيال.
قال الشاعر: إذا أنت لم تبرح تؤدى أمانة * وتحمل أخرى أفرحتك الودائع (3) الدسيعة: العظيمة.
وفى الاصل.
دسيسة.
وهو تحريف.
(4) يبئ: يمنع.
(*) (21 - السيرة - 2)
المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن، وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلى أن يرضى ولى المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه
صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شئ فإن مرده إلى الله عزوجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (1) إلا نفسه وأهل بيته.
وإن ليهود بنى النجار وبنى الحارث وبنى ساعدة وبنى جشم وبنى الاوس وبنى ثعلبة وجفنة وبنى الشطيبة (2) مثل ما ليهود بنى عوف، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، ولا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه [ فتك وأهل بيته ] (3) إلا من ظلم، وإن الله على أبر (4) هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الاثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن يثرب حرام جوفها (5) لاهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى
__________
(1) يوتغ: يهلك (2) الاصل: الشطنة وهو تحريف، وما أثبته عن ابن هشام.
(3) من ابن هشام (4) الاصل: أثر.
وهو تحريف.
(5) الاصل: حرفها.
وما أثبته عن ابن هشام (*)
الله وإلى محمد رسول الله، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه
فإنهم يصالحونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذى قبلهم.
وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى ".
كذا أورده ابن إسحاق بنحوه.
وقد تكلم عليه أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتاب الغريب وغيره بما يطول.
فصل في مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والانصار ليرتفق المهاجرى بالانصارى كما قال تعالى: " والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " (1) وقال تعالى: " والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا " (2).
قال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا أبو أسامة، عن إدريس، عن طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس " ولكل جعلنا موالى " قال: ورثة " والذين عاقدت أيمانكم " كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجرى الانصار دون ذوى رحمه للاخوة التى آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت " ولكل جعلنا موالى " نسخت ثم قال: " والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " من (3) النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له.
وقال الامام أحمد: قرئ على سفيان: سعمت عاصما عن أنس قال: حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاحرين والانصار في دارنا.
قال سفيان: كأنه يقول آخى.
* * * وقال محمد بن إسحاق: وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والانصار، فقال: - فيما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل - " تأخوا في الله أخوين أخوين ".
__________
(1) سورة الحشر 9.
(2) سورة النساء 33 والقراء.
(3) البخاري: إلا النصر.
(*)



 
روابط عرض كتاب السيرة النبوية لابن كثير
ترجمة ابن كثير الحافظ
1.السيرة النبوية لابن كثير ج1 /1.
2.السيرة النبوية لابن كثير ج1 /2.
3.ج1/ 3 السيرة النبوية لابن كثير الحافظ.
4.السيرة النبوية لابن كثير ج1//4
5.السيرة النبوية لاب كثير ج2//1..
6.السيرة النبوية لاب كثير ج2//2..
7.السيرة النبوية لابن كثير ج2//3.
8.السيرة النبوية لابن كثير ج2//4.
9.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /1 .
10.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /2 .
11.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /3 .
12.السيرة النبوية لابن كثير ج3 /4 .
13..السيرة النبوية لابن كثير ج4 ا ج4//1.
14.السيرة النبوية لابن كثير ج4 ا ج4//2.
15.السيرة النبوية لابن كثير 4//3.ذكر خروجه عليه ال...
ص16.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص17.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص18.بالمدونة كتاب السيرة النبوية لابن كثير بترقيم...
ص19.السيرة النبوية لابن كثير الجزء السادس -ج6//1
ص20. ج6//2 السيرة النبوية لابن كثير
ص21.ج6//3 السيرة النبوية لابن كثير
ص22.ج6//4 السيرة النبوية لابن هشام الحافظ
الروابط الي الجزء 6
ص23.السيرة النبوية لابن كثير الجزء 7 بتصنيف الشاملة...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق