والله أعلم.
ثم قد اختلف العلماء في أن الاسراء والمعراج هل كانا في ليلة واحدة أو كل في ليلة على حدة ؟ فمنهم من يزعم أن الاسراء في اليقظة، والمعراج في المنام.
وقد حكى المهلب بن أبى صفرة (1) في شرحه البخاري عن طائفة أنهم ذهبوا إلى أن الاسراء [ وقع ] مرتين، مرة بروحه مناما، ومرة ببدنه وروحه يقظة.
وقد حكاه الحافظ أبو القاسم السهيلي عن شيخه أبى بكر بن العربي الفقيه.
قال السهيلي: وهذا القول يجمع الاحاديث، فإن في حديث شريك عن أنس: وذلك فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا ينام قلبه، وقال في آخره: " ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر " وهذا منام.
ودل غيره على اليقظة.
ومنهم من يدعى تعدد الاسراء في اليقظة أيضا، حتى قال بعضهم: إنها أربع إسراءات.
وزعم بعضهم أن بعضها كان بالمدينة.
وقد حاول الشيخ شهاب الدين أبو شامة رحمه الله أن يوفق بين اختلاف ما وقع
__________
(1) الذى في السهيلي: " ورأيت المهلب في شرح البخاري " وليس هو المهلب بن أبى صفرة الازدي أمير خرسان (*)
فنقول: إن كان إنما حمله على القول بهذه الثلاث اختلاف الروايات، فقد اختلف لفظ الحديث في ذلك على أكثر من هذه الثلاث صفات.
ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر فيما جمعناه مستقصى في كتابنا التفسير عند قوله تعالى " سبحان الذى أسرى بعبده ليلا ".
وإن كان إنما حمله أن التقسيم انحصر في ثلاث صفات بالنسبة إلى بيت المقدس وإلى السموات، فلا يلزم من الحصر العقلي الوقوع كذلك في الخارج إلا بدليل.
والله أعلم.
* * * والعجب أن الامام أبا عبدالله البخاري رحمه الله ذكر الاسراء بعد ذكره موت أبى طالب، فوافق ابن إسحاق في ذكره المعراج في أواخر الامر، وخالفه في ذكره بعد موت أبى طالب.
وابن إسحاق أخر ذكر موت أبى طالب على الاسراء.
فالله أعلم أي ذلك كان.
والمقصود أن البخاري فرق بين الاسراء وبين المعراج، فبوب لكل واحد منهما بابا على حدة.
فقال: " باب حديث الاسراء " وقول الله سبحانه وتعالى " سبحان الذى أسرى
بعبده ليلا " حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، حدثنى
وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث الزهري، عن أبى سلمة، عن جابر به.
ورواه مسلم والنسائي والترمذي من حديث عبدالله بن الفضل، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
* * * ثم قال البخاري: باب حديث المعراج: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسرى به قال: " بينما أنا في الحطيم، وربما قال في الحجر، مضطجعا (3) إذ أتانى آت، فقد، قال (4): وسمعته يقول: فشق، ما بين هذه إلى هذه، فقلت للجارود وهو إلى جنبى، ما يعنى به ؟ قال: من نقرة (5) نحره إلى شعرته، وسمعته يقول من قصه إلى شعرته.
" فاستخرج قلبى، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبى ثم حشى، ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض ".
فقال الجارود: وهو البراق يا أبا حمزة ؟ قال أنس: نعم.
" يضع خطوه عند أقصى طرفه.
فحملت عليه، فانطلق بى جبرائيل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح قيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل.
قيل: ومن معك ؟ قال: محمد.
قيل: وقد أرسل إليه ؟ قال نعم.
قيل: مرحبا به، فنعم المجئ جاء.
__________
(1) البخاري: قمت.
(2) البخاري: أخبرهم.
(3) الاصل: مضجعا.
وما أثبته من البخاري.
(4) الاصل: فقال وسمعته.
ما أثبته من صحيح البخاري 2 / 187 (5) البخاري: ثغرة.
وهى بمعنى نقرة.
(*)
فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح.
ثم صعد بى إلى السماء الثانية، فاستفتح قيل من هذا ؟ قال: جبرائيل.
قيل: من ومعك ؟ قال: محمد.
قيل: وقد أرسل إليه ؟ [ قال: نعم.
] قيل: مرحبا به فنعم المجئ جاء.
ففتح فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة.
قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما.
فسلمت عليهما فردا ثم قالا: مرحبا بالاخ الصالح والنبى الصالح.
ثم صعد بى إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبرائيل قيل: من هذا ؟ قال: حبرائيل.
قال: ومن معك ؟ قال: محمد.
قيل: وقد أرسل إليه ؟ قال: نعم.
قيل: مرحبا به.
فنعم المجئ جاء.
ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه.
فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالاخ الصالح والنبى الصالح.
ثم صعد بى حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح قيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل.
قال: ومن معك ؟ قال: محمد.
قيل: وقد أرسل إليه ؟ قال: نعم.
قيل مرحبا به، فنعم المجئ جاء.
فلما خلصت إذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه.
فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالاخ الصالح والنبى الصالح.
ثم صعد بى حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح قيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل.
قيل: ومن معك ؟ قال: محمد.
قيل: وقد أرسل إليه ؟ قال: نعم.
قيل: مرحبا به، فنعم المجئ جاء.
فلما خلصت إذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه.
فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالاخ الصالح والنبى الصالح.
قيل: ومن معك ؟ قال: محمد.
قيل: وقد أرسل إليه ؟ قال: نعم.
قيل: مرحبا به، فنعم المجئ جاء.
فلما خلصت إذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالاخ الصالح والنبى الصالح.
فلما تجاوزت بكى، فقيل له: ما يبكيك ؟ قال: أبكى لان غلاما بعث بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتى.
ثم صعد بى إلى السماء السابعة، فاستفتح جبرائيل قيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل.
قيل: ومن معك ؟ قال: محمد.
قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم.
قيل: مرحبا به، فنعم المجئ جاء.
فلما خلصت إذا إبراهيم، قال هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، فسلمت فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح.
ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان.
فقلت: ما هذا يا جبرائيل ؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات.
ثم رفع لى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن.
قال: هي الفطرة التى أنت عليها وأمتك.
ثم فرض على الصلوات، خمسون صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى
فقال: بم أمرت ؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم.
قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين
فرجعت فوضع عنى عشرا.
فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عنى عشرا.
فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عنى عشرا.
فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فقال مثله.
فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم.
فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت ؟ فقلت: بخمس صلوات كل يوم.
قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإنى قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لامتك.
قال: سألت ربى حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم.
قال: فلما جاوزت نادانى مناد: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي ".
* * * هكذا روى البخاري هذا الحديث ههنا.
وقد رواه في مواضع أخر من صحيحه، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق، عن قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة.
ورويناه من حديث أنس بن مالك عن أبى بن كعب.
ومن حديث أنس عن أبى ذر.
ومن طرق كثيرة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكرنا ذلك مستقصى بطرقه وألفاظه في التفسير.
ولم يقع في هذا السياق ذكر بيت المقدس، وكأن بعض الرواة يحذف بعض
الخبر للعلم به، أو ينساه أو يذكر ما هو الاهم عنده، أو يبسط تارة فيسوقه كله، وتارة يحذف عن مخاطبه بما هو الانفع عنده.
وذلك أن كل السياقات فيها السلام على الانبياء، وفى كل منها يعرفه بهم، وفى كلها يفرض عليه الصلوات، فكيف يمكن أن يدعى تعدد ذلك ؟ ! هذا في غاية البعد والاستحالة.
والله اعلم.
ثم قال البخاري: حدثنا الحميدى، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: " وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس ".
قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به إلى بيت المقدس.
" والشجرة الملعونة في القرآن " قال: هي شجرة الزقوم.
فصل ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من صبيحة ليلة الاسراء جاءه جبرائيل عند الزوال، فبين له كيفية الصلاة وأوقاتها.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فاجتمعوا، وصلى به جبرائيل في ذلك اليوم إلى الغد والمسلمون يأتمون بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقتدى بجبرائيل، كما جاء في الحديث عن ابن عباس وجابر: " أمنى جبرائيل عند البيت مرتين ".
فبين له الوقتين الاول والآخر، فهما وما بينهما الوقت الموسع، ولم يذكر توسعة في وقت المغرب.
وقد ثبت ذلك في حديث أبى موسى وبريدة وعبد الله بن عمرو، وكلها في صحيح مسلم.
وموضع بسط ذلك في كتابنا " الاحكام " ولله الحمد.
فأما ما ثبت في صحيح البخاري عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة
قالت: " فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر ".
وهذا مشكل من جهة أن عائشة كانت تتم الصلاة في السفر، وكذا عثمان بن عفان، وقد تكلمنا على ذلك عند قوله تعالى: " وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " (1) قال البيهقى: وقد ذهب الحسن البصري إلى أن صلاة الحضر أول ما فرضت أربعا، كما ذكره مرسلا من صلاته عليه السلام صبيحة الاسراء: الظهر أربعا، والعصر أربعا، والمغرب ثلاثا يجهر في الاوليين، والعشاء أربعا يجهر في الاوليين، والصبح ركعتين يجهر فيهما.
قلت: فلعل عائشة أرادت أن الصلاة كانت قبل الاسراء تكون ركعتين ركعتين، ثم لما فرضت الخمس فرضت حضرا على ما هي عليه، ورخص في السفر أن يصلى ركعتين كما كان الامر عليه قديما، وعلى هذا لا يبقى إشكال بالكلية.
والله أعلم.
فصل [ في ] انشقاق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وجعل الله له آية على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الهدى ودين الحق، حيث كان ذلك وقت إشارته الكريمة.
قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: " اقتربت الساعة وانشق القمر، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر " (2).
__________
(1) سورة النساء 101 (2) سورة القمر 1 - 3 (*) (8 - السيرة - 2)
ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان، وقد تقصينا ذلك في كتابنا التفسير، فذكرنا الطرق والالفاظ محررة، ونحن نشيرها هنا إلى أطراف من طرقها ونعزوها إلى الكتب المشهورة بحول الله وقوته.
وذلك مروى عن أنس بن مالك، وجبير بن مطعم، وحذيفة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود رضى الله عنهم أجمعين.
أما أنس فقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر بمكة مرتين.
فقال: " اقتربت الساعة وانشق القمر ".
ورواه مسلم، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق به.
وهذا من مرسلات الصحابة، والظاهر أنه تلقاه عن الجم الغفير من الصحابة، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن الجميع.
وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق شيبان.
زاد البخاري: وسعيد ابن أبى عروبة، وزاد مسلم: وشعبة، ثلاثتهم عن قتادة عن أنس: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما.
لفظ البخاري.
وأما جبير بن مطعم فقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سليمان بن كثير، عن حصين بن عبدالرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم، [ عن أبيه ].
قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فرقة على هذا الجبل،
فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.
تفرد به أحمد.
وهكذا رواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل وغيره، عن حصين به.
وقد رواه البيهقى من طريق إبراهيم بن طهمان وهشيم كلاهما عن حصين بن عبدالرحمن، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه عن جده به، فزاد رجلا في الاسناد.
* * * وأما حذيفة بن اليمان فروى أبو نعيم في " الدلائل " (1) من طريق عن عطاء بن السائب عن أبى عبدالرحمن السلمى.
قال: خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " اقتربت الساعة وانشق القمر " ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق.
فلما كانت الجمعة الثانية انطلقت مع أبى إلى الجمعة، فحمد الله وقال مثله وزاد: ألا وإن السابق من سبق إلى الجمعة.
فلما كنا في الطريق قلت لابي: ما يعنى بقوله - " غدا السباق " قال: من سبق إلى الجنة.
أما ابن عباس فقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير (2)، حدثنا بكر، عن جعفر، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: إن القمر انشق في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) ليس في دلائل النبوة المطبوع.
وفيها روايات أخرى عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس 233 - 236.
(2) الاصل: ابن كثير.
وهو تحريف وما أثبته عن صحيح البخاري 2 / 269 باب التفسير.
(*)
قال: قد مضى ذلك، كان قبل الهجرة، انشق القمر حتى رأوا شقيه.
وهكذا رواه العوفى عن ابن عباس رضى الله عنه وهو من مرسلاته.
وقال الحافظ أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا بكر بن سهيل، حدثنا عبد الغنى بن سعيد، حدثنا موسى بن عبدالرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس.
وعن مقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: " اقتربت الساعة وانشق القمر ".
قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، والعاص بن هشام، والاسود ابن عبد يغوث، والاسود بن المطلب [ بن أسد بن عبدالعزى ] (1)، وزمعة بن الاسود، والنضر بن الحارث، ونظراؤهم [ كثير ] (1).
فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبى قبيس ونصقا على قعيقعان.
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " إن فعلت تؤمنوا ؟ " قالوا: نعم.
وكانت ليلة بدر، فسأل الله عزوجل أن يعطيه ما سألوا، فأمسى القمر قد سلب (2) نصفا على أبى قبيس ونصفا على قعيقعان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادى: يا أبا سلمة بن عبد الاسد والارقم بن الارقم اشهدوا.
ثم قال أبو نعيم: وحدثنا (3) سليمان بن أحمد، حدثنا الحسن بن العباس الرازي، عن الهيثم بن العمان، حدثنا إسماعيل بن زياد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: انتهى أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل من آية
نعرف بها أنك رسول الله.
__________
(1) من دلائل النبوة 234.
(2) دلائل النبوة: قد مثل نصفا.
(3) ليس في دلائل النبوة المطبوع.
(*)
فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالة جبرائيل، فخرجوا ليلة الشق ليلة أربع عشرة، فانشق القمر نصفين، نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا، ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها، ثم أعادوا النظر فنظروا، ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا، فقالوا: يا محمد ما هذا إلا سحر راهب.
فأنزل الله: " اقتربت الساعة وانشق القمر ".
ثم روى الضحاك عن ابن عباس.
قال: جاءت أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أرنا آية حتى نؤمن بها.
فسأل ربه، فأراهم القمر قد انشق بجزئين، أحدهما على الصفا والآخر على المروة، قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب.
فقالوا: هذا سحر مفترى.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عمرو الرزاز، حدثنا محمد بن يحيى القطعي، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس.
قال: كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سحر القمر فنزلت: " اقتربت الساعة وانشق القمر، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ".
وهذا إسناد جيد، وفيه أنه كسف تلك الليلة، فلعله حصل له انشقاق في ليلة كسوفه، ولهذا خفى أمره على كثير من أهل الارض، ومع هذا قد شوهد ذلك في كثير من بقاع
الارض، ويقال: إنه أرخ ذلك في بعض بلاد الهند، وبنى بناء تلك الليلة وأرخ بليلة انشقاق القمر.
قال مسلم: كرواية مجاهد عن أبى معمر عن ابن مسعود.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأما عبدالله بن مسعود فقال الامام أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن أبى معمر، عن ابن مسعود.
قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين حتى نظروا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا.
وهكذا أخرجاه من حديث سفيان، وهو ابن عيينة، به.
ومن حديث الاعمش عن إبراهيم، عن أبى معمر، عن عبدالله بن سمرة، عن ابن مسعود قال: انشق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اشهدوا " وذهبت فرقة نحو الجبل.
لفظ البخاري (1).
ثم قال البخاري: وقال أبو الضحاك، عن مسروق، عن عبدالله بمكة، وتابعه محمد بن مسلم، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن أبى معمر، عن عبدالله رضى الله عنه.
وقد أسند أبو داود الطيالسي حديث أبى الضحى، عن مسروق، عن عبدالله بن مسعود، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبى كبشة.
فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدا لا يسطيع أن يسحر الناس كلهم.
__________
(1) ليس بلفظ البخاري.
(*)
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا هشيم، حدثنا مغيرة، عن أبى الضحى، عن مسروق، عن عبدالله، قال: انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين.
فقال كفار قريش لاهل مكة: هذا سحر سحركم به ابن أبى كبشة، انظروا السفار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به.
قال: فسئل السفار قال، وقدموا من كل وجهة، فقالوا: رأينا.
وهكذا رواه أبو نعيم من حديث جابر، عن الاعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق عن عبدالله به.
وقال الامام أحمد: حدثنا مؤمل، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن إبراهيم، عن الاسود، عن عبدالله، وهو ابن مسعود، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت الجبل بين فرجتى القمر.
وهكذا رواه ابن جرير من حديث أسباط عن سماك به.
وقال الحافظ أبو نعيم: حدثنا أبو بكر الطلحى، حدثنا أبو حصين محمد بن الحسين الوادعى، حدثنا يحيى الحمانى، حدثنا يزيد، عن عطاء، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله.
قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وانشق القمر حتى صار فرقتين، فرقة خلف الجبل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اشهدوا، اشهدوا ".
وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا جعفر بن محمد القلانسى، حدثنا
قال: انشق القمر ونحن بمكة، فلقد رأيت أحد شقيه على الجبل الذى بمنى ونحن بمكة.
وحدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو بكر بن أبى عاصم، حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبدالله، قال: انشق القمر بمكة فرأيته فرقتين.
ثم روى من حديث على بن سعيد بن مسروق، حدثنا موسى بن عمير، عن منصور ابن المعتمر، عن زيد بن وهب، عن عبدالله بن مسعود، قال: رأيت القمر والله منشقا باثنتين بينهما حراء.
وروى أبو نعيم من طريق السدى الصغير، عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس قال: انشق القمر فلقتين، فلقة ذهبت، وفلقة بقيت.
قال ابن مسعود: لقد رأيت جبل حراء بين فلقتى القمر، فذهب فلقة، فتعجب أهل مكة من ذلك، وقالوا: هذا سحر مصنوع سيذهب.
وقال ليث بن أبى سليم، عن مجاهد قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين.
فقال النبي صلى الله عيله وسلم لابي بكر: " فاشهد يا أبا بكر ".
وقال المشركون: سحر القمر حتى انشق.
* * * فهذه طرق متعددة قوية الاسانيد تفيد القطع لمن تأملها وعرف عدالة رجالها.
وما يذكره بعض القصاص من أن القمر سقط إلى الارض حتى دخل في كم النبي
والقمر حين انشق لم يزايل السماء، غير أنه حين أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم انشق عن إشارته فصار فرقتين، فسارت واحدة حتى صارت من وراء حراء، ونظروا إلى الجبل بين هذه وهذه.
كما أخبر بذلك ابن مسعود أنه شاهد ذلك.
وما وقع في رواية أنس في مسند أحمد: " فانشق القمر بمكة مرتين " فيه نظر، والظاهر أنه أراد فرقتين.
والله أعلم.
وقيل: بل هي توفيت قبله.
والمشهور الاول.
وهذان المشفقان، هذا في الظاهر، وهذه في الباطن، هذاك كافر، وهذه مؤمنة صديقة رضى الله عنها وأرضاها.
قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد.
فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الابتلاء يسكن إليها (1)، وبهلك عمه أبى طالب، وكان له عضدا وحرزا في أمره، ومنعة وناصرا على قومه.
وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين.
فلما هلك أبو طالب، نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبى طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على
رأسه ترابا.
فحدثني هشام بن عروة عن أبيه، قال: فدخل رسول الله صلى عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسله وتبكى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ابن هشام: وكانت له وزير صدق على الاسلام يسكن إليها (*)
وذكر ابن إسحاق قبل ذلك: أن أحدهم ربما طرح الاذى في برمته صلى الله عليه وسلم إذا نصبت له.
قال: فكان إذا فعلوا ذلك، كما حدثنى عمر بن عبدالله عن عروة، يخرج بذلك الشئ على العود فيقذفه على بابه ثم يقول " يا بنى عبد مناف أي جوار هذا ؟ ! " ثم يلقيه في الطريق.
* * * قال ابن إسحاق: ولما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريش ثقله، قالت قريش بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبى طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا، فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا.
قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبدالله بن معيد، عن بعض أهله، عن ابن عباس قال: لما مشوا إلى أبى طالب وكلموه، وهم أشراف قومه عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم،.
فقالوا: يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذى بيننا وبين ابن أخيك فادعه فخذ لنا منه
وخذ له منا ليكف عنا ولنكف عنه، وليدعنا وديننا ولندعه ودينه.
فبعث إليه أبو طالب فجاءه فقال: يا بن أخى، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك.
__________
(1) الاصلى: ما نالتنى.
وما أثبته عن ابن هشام.
(*)
فقال أبو جهل: نعم وأبيك وعشر كلمات.
قال: " تقولون لا إله إلا الله.
وتخلعون ما تعبدون من دونه ".
فصفقوا بأيديهم.
ثم قالوا: يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلهآ واحدا ؟ إن أمرك لعجب.
قال: ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه.
ثم تفرقوا.
قال: فقال أبو طالب: والله يا بن أخى ما رأيتك سألتهم شططا.
قال: فطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فجعل يقول له: " أي عم فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة ".
فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بن أخى والله لو لا مخافة السبة عليك وعلى بنى أبيك من بعدى، وأن تظن قريش أنى إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لاسرك بها.
قال فلما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه، فأصغى إليه بأذنه.
قال: فقال: يا بن أخى والله لقد قال أخى الكلمة التى أمرته أن يقولها.
قال: فقال رسول الله صلى عليه وسلم: " لم أسمع ".
قال: وأنزل الله تعالى في أولئك الرهط " ص والقرآن ذى الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق " الآيات.
* * * وقد استدل بعض من ذهب من الشيعة وغيرهم من الغلاة إلى أن أبا طالب مات مسلما بقول العباس [ في ] هذا الحديث، يا بن أخى لقد قال أخى الكلمة التى أمرته أن يقولها.
يعنى لا إله إلا الله.
والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن في السند مبهما لا يعرف حاله وهو قوله " عن بعض أهله " وهذا إبهام في الاسم والحال، ومثله يتوقف فيه لو انفرد.
وقد روى الامام أحمد والنسائي وابن جرير نحوا من هذا السياق من طريق أبى أسامة، عن الاعمش، حدثنا عباد، عن سعيد بن جبير.
فذكره ولم يذكر قول العباس.
ورواه الثوري أيضا، عن الاعمش، عن يحيى بن عمارة الكوفى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
فذكره بغير زيادة قول العباس.
ورواه الترمذي وحسنه، والنسائي وابن جرير أيضا.
ولفظ الحديث من سياق البيهقى، فيما رواه من طريق الثوري، عن الاعمش، عن يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: مرض أبو طالب، فجاءت قريش وجاء النبي صلى الله عليه وسلم [ و ] عند رأس أبى طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كى يمنعه ذاك، وشكوه إلى أبى طالب، فقال: يا بن أخى ما تريد من قومك ؟ فقال: " يا عم إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب، وتؤدى إليهم بها الجزية
العجم، كلمة واحدة ".
قال: فقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا ؟ إن هذا لشئ عجاب.
قال: ونزل فيهم: " ص والقرآن ذى الذكر " الآيات إلى قوله: " إلا اختلاق ".
* * * ثم قد عارضه، أعنى سياق ابن إسحاق، ما هو أصح منه، وهو ما رواه البخاري قائلا: حدثنا محمود، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبيه رضى الله عنه.
أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل.
فقال: " أي عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله ".
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبدالمطلب ؟ ! فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر ما كلمهم به: على ملة عبدالمطلب.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لاستغفرن (1) لك ما لم أنه عنك ".
فنزلت: " ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (2) " ونزلت: " إنك لا تهدى من أحببت " (3) ورواه مسلم، عن إسحاق بن إبراهيم وعبد الله، عن عبد الرزاق.
وأخرجاه أيضا من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه بنحوه.
وقال فيه: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان له بتلك المقالة، حتى قال آخر ما قال: على ملة عبدالمطلب.
وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما لاستغفرن لك ما لم أنه عنك " فأنزل الله
__________
(1) الاصل: لاستغفر.
وهو تحريف.
(2) سورة التوبة 113 (3) سورة لقصص 56.
(*)
ونزل في أبى طالب: " إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ".
هكذا روى الامام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي، من حديث يزيد بن كيسان عن أبى حازم، عن أبى هريرة، قال: لما حضرت وفاة أبى طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا عماه، قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة ".
فقال: لو لا أن تعيرني قريش، يقولون ما حمله عليه إلا فزع الموت، لاقررت بها عينك ولا أقولها إلا لاقر بها عينك.
فأنزل الله عزوجل: " إنك لا تهدى من أحببت، ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ".
وهكذا قال عبدالله بن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبى وقتادة: أنها نزلت في أبى طالب حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: لا إله إلا الله.
فأبى أن يقولها، وقال: هو على ملة الاشياخ.
وكان آخر ما قال: هو على ملة عبدالمطلب.
ويؤكد هذا كله ما قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن عبدالملك بن عمير، حدثنى عبدالله بن الحارث، قال: حدثنا العباس بن عبدالمطلب أنه قال: قلت للنبى صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟
قال: " [ هو ] في ضحضاح من نار، ولو لا أنا لكان في الدرك الاسفل (1) ".
__________
(1) زاد في البخاري: من النار.
(*)
[ و ] أخرجاه في الصحيحين من حديث الليث، حدثنى ابن الهاد، عن عبدالله بن خباب، عن أبى سعيد، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمه فقال: " لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه ".
لفظ البخاري.
وفى رواية " تغلى منه أم دماغه ".
وروى مسلم، عن أبى بكر بن أبى شيبة، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبى عثمان، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أهون أهل النار عذابا أبو طالب، منتعل بنعلين من النار يغلى منهما دماغه ".
وفى مغازى يونس بن بكير " يغلى منهما دماغه حتى يسيل على قدميه " ذكره السهيلي.
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا عمرو، هو ابن اسماعيل بن مجالد، حدثنا أبى، عن مجالد، عن الشعبى، عن جابر، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قيل له: هل نفعت أبا طالب ؟ قال: " أخرجته من النار إلى ضحضاح منها ".
تفرد به البزار.
قال السهيلي: وإنما لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة العباس أخيه أنه قال الكلمة وقال: " لم أسمع " لان العباس كان أذ ذاك كافرا غير مقبول الشهادة.
قلت: وعندي أن الخبر بذلك ما صح لضعف سنده.
كما تقدم.
ومما يدل على ذلك أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن أبى طالب فذكر له ما تقدم.
والله أعلم.
* * * وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن أبى إسحاق، سمعت ناجية بن كعب يقول: سمعت عليا يقول: لما توفى أبى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن عمك قد توفى.
فقال: " اذهب فواره " فقلت: إنه مات مشركا، فقال: " اذهب فواره ولا تحدثن شيئا حتى تأتى ".
ففعلت فأتيته، فأمرني أن أغتسل.
ورواه النسائي عن محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة.
ورواه أبو داود والنسائي من حديث سفيان، عن أبى إسحاق، عن ناجية، عن على: لما مات أبو طالب قلت: يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات، فمن يواريه ؟ قال: " اذهب فوار أباك ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني ".
فأتيته فأمرني فاغتسلت، ثم دعا لى بدعوات ما يسرنى أن لى بهن ما على الارض من شئ.
وقال الحافظ البيهقى: أخبرنا أبو سعد المالينى، حدثنا أبو أحمد بن عدى، حدثنا محمد بن هارون بن حميد، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبى رزمة، حدثنا الفضل، عن إبراهيم بن عبدالرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد من (1) جنازة أبى طالب فقال: وصلتك رحم، وجزيت خيرا يا عم ".
__________
(1) في الوفا لابن الجوزى: عارض جنازة.
وهذا ما يتفق مع قوله بعد: " ولم يقم على قبره ".
(*) (9 - السيرة - 2)
قال: وإبراهيم بن عبدالرحمن هذا هو الخوارزمي تكلموا فيه.
قلت: قد روى عنه غير واحد منهم الفضل بن موسى السينانى (1)، ومحمد بن سلام البيكندى (2).
ومع هذا قال ابن عدى: ليس بمعروف، وأحاديثه عن كل من روى عنه ليست بمستقيمة.
وقد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة والمحاجة والممانعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والدفع عنه وعن أصحابه، وما قاله فيه من الممادح والثناء، وما أظهره له ولاصحابه من المودة والمحبة والشفقة في أشعاره التى أسلفناها، وما تضمنته من العيب والتنقيص لمن خالفه وكذبه، بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التى لا تدانى ولا تسامى، ولا يمكن عربيا مقارنتها ولا معارضتها.
وهو في ذلك كله يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق بار راشد، ولكن مع هذا لم يؤمن قلبه.
وفرق بين علم القلب وتصديقه.
كما قررنا ذلك في شرح كتاب الايمان من صحيح البخاري.
وشاهد ذلك قوله تعالى: " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ".
وقال تعالى في قوم فرعون: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " وقال موسى
__________
(1) كان من أقران ابن المبارك في السن والعلم، ولد سنة 115 ومات سنة 191.
ونسب إلى
سينان إحدى قرى مرو.
(2) نسبة إلى بيكند، بلدة بين بخارى وجيحون.
(*)
وقول بعض السلف في قوله تعالى: " وهم ينهون عنه وينأون عنه " أنها نزلت في أبى طالب حيث كان ينهى الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى هو عما جاء به الرسول من الهدى ودين الحق.
فقد روى عن ابن عباس، والقاسم بن مخيمرة، وحبيب بن أبى ثابت، وعطاء بن دينار، ومحمد بن كعب، وغيرهم، ففيه نظر.
والله أعلم.
والاظهر والله أعلم، الرواية الاخرى عن ابن عباس، وهم ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به.
وبهذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وغير واحد.
وهو اختيار ابن جرير.
وتوجيهه: أن هذا الكلام سيق لتمام ذم المشركين، حيث كانوا يصدون الناس عن اتباعه ولا ينتفعون هم أيضا به.
ولهذا قال: " ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى آذانهم وقرا، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الاولين، وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ".
وهذا اللفظ وهو قوله " وهم " يدل على أن المراد بهذا جماعة، وهم المذكورون في سياق الكلام وقوله: " وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون " يدل على تمام الذم.
وأبو طالب لم يكن بهذه المثابة، بل كان يصد الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال، ونفس ومال.
ولو لا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين، لاستغفرنا لابي طالب وترحمنا عليه ! فصل في موت خديجة بنت خويلد وذكر شئ من فضائلها ومناقبها رضى الله عنها وأرضاها، وجعل جنات الفردوس منقلبها ومثواها.
وقد فعل ذلك لا محالة بخبر الصادق المصدوق، حيث بشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
قال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، حدثنى عقيل، عن ابن شهاب قال: قال عروة بن الزبير: وقد كانت خديجة توفيت قبل أن تفرض الصلاة.
ثم روى من وجه آخر عن الزهري أنه قال: توفيت خديجة بمكة قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقبل أن تفرض الصلاة.
وقال محمد بن إسحاق: ماتت خديجة وأبو طالب في عام واحد.
وقال البيهقى: بلغني أن خديجة توفيت بعد موت أبى طالب بثلاثة أيام.
ذكره عبدالله بن منده في كتاب المعرفة، وشيخنا أبو عبد الله الحافظ.
قال البيهقى: وزعم الواقدي أن خديجة وأبا طالب ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين عام خرجوا من الشعب، وأن خديجة توفيت قبل أبى طالب بخمس وثلاثين ليلة.
قلت: مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الاسراء.
البيهقى وغير واحد، ولكن أخرنا ذلك عن الاسراء لمقصد ستطلع عليه بعد ذلك، فإن الكلام به ينتظم ويتسق الباب.
كما تقف على ذلك إن شاء الله.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان، عن عمارة، عن أبى زرعة، عن أبى هريرة.
قال: أتى جبرائيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
وقد رواه مسلم من حديث محمد بن فضيل به.
وقال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن إسماعيل، قال: قلت لعبد الله بن أبى أوفى: بشر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة ؟ قال: نعم، ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
ورواه البخاري أيضا ومسلم من طرق عن إسماعيل بن أبى خالد به.
قال السهيلي: وإنما بشرها " ببيت في الجنة من قصب "، يعنى قصب اللؤلؤ، لانها حازت قصب السبق إلى الايمان " لا صخب فيه ولا نصب " لانها لم ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم ولم تتعبه يوما من الدهر، فلم تصخب عليه يوما ولا آذته أبدا.
وأخرجاه في الصحيحين، من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: ما غرت على امرأة للنبى صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة - وهلكت قبل أن يتزوجني - لما كنت أسمعه يذكرها.
لفظ البخاري.
وفى لفظ عن عائشة: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وتزوجني بعدها بثلاث سنين، وأمره ربه، أو جبرائيل، أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب.
وفى لفظ له قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة فيقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة ! فيقول: " إنها كانت وكانت، وكان لى منها ولد ".
ثم قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن خليل، أخبرنا على بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة، فارتاع فقال: اللهم هالة !.
[ قالت (1) ] فغرت فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر [ قد (1) ] أبدلك الله خيرا منها.
وهكذا رواه مسلم، عن سويد بن سعيد، عن على بن مسهر به.
وهذا ظاهر في التقرير على أن عائشة خير من خديجة، إما فضلا وإما عشرة، إذ لم ينكر عليها ولا رد عليها ذلك، كما هو ظاهر سياق البخاري رحمه الله.
__________
(1) من البخاري.
(*)
النساء من الغيرة، فقلت: لقد أعقبك الله يا رسول الله من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين.
قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيرا لم أره تغير عند شئ قط إلا عند نزول الوحى أو عند المخيلة حتى يعلم رحمة أو عذابا.
وكذا رواه عن بهز بن أسد، وعثمان بن مسلم، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن عبدالملك بن عمير به.
وزاد بعد قوله: " حمراء الشدقين ": " هلكت في الدهر الاول ".
قال: قالت: فتمعر وجهه تمعرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحى أو عند المخيلة حتى ينظر رحمة أو عذابا.
تفرد به أحمد.
وهذا إسناد جيد.
وقال الامام أحمد أيضا: عن ابن إسحاق، أخبرنا مجالد، عن الشعبى، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها بأحسن الثناء.
قالت: فغرت يوما فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيرا منها.
قال: " ما أبدلني الله خيرا منها، وقد آمنت بى إذ كفر بى الناس، وصدقتني أذ كذبني [ الناس ]، وآستني بمالها أذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء ".
وإسناده لا بأس به.
ومجالد روى له مسلم متابعة، وفيه كلام مشهور.
والله أعلم.
ولعل هذا، أعنى قوله: " ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء " كان قبل أن
يولد إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية، وقبل مقدمها بالكلية وهذا متعين فإن جميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم وكما سيأتي، من خديجة إلا إبراهيم، فمن مارية القبطية المصرية رضى الله عنها.
وقد استدل بهذا الحديث جماعة من أهل العلم على تفضيل خديجة على عائشة رضى الله عنها وأرضاها.
وتكلم آخرون في إسناده.
وتأوله آخرون على أنها كانت خيرا عشرة، وهو محتمل أو ظاهر، وسببه أن عائشة تمت بشبابها وحسنها وجميل عشرتها، وليس مرادها بقولها: " قد أبدلك الله خيرا منها " أنها تزكى نفسها وتفضلها على خديجة، فإن هذا أمر مرجعه إلى الله عز وجل، كما قال: " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى (1) " وقال تعالى: " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم، بل الله يزكى من يشاء (3) " الآية.
* * * وهذه مسألة وقع النزاع فيها بين العلماء قديما وحديثا، وبجانبها طرق يقتصر عليها أهل التشيع وغيرهم، لا يعدلون بخديجة أحدا من النساء: لسلام الرب عليها، وكون ولد النبي صلى الله عليه وسلم جميعهم، إلا إبراهيم، منها، وكونه لم يتزوج عليها حتى ماتت إكراما لها وتقدير إسلامها، وكونها من الصديقات، ولها مقام صدق في أول البعثة، وبذلت نفسها ومالها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة النجم 32.
(2) سورة النساء 49.
(*)
ولكونها أعلم من خديجة، فإنه لم يكن في الامم مثل عائشة في حفظها وعلمها وفصاحتها وعقلها، ولم يكن الرسول يحب أحدا من نسائه كمحبته إياها، ونزلت براءتها من فوق سبع سموات، وروت بعده عنه عليه السلام علما جما كثيرا طيبا مباركا فيه، حتى قد ذكر كثير من الناس الحديث المشهور " خذوا شطر دينكم عن الحميراء ".
* * * الحق أن كلا منهما لها من الفضائل ما لو نظر الناظر فيه لبهره وحيره.
والاحسن التوقف في ذلك إلى الله عزوجل.
ومن ظهر له دليل يقطع به، أو يغلب على ظنه في هذا الباب، فذاك الذى يجب عليه أن يقول بما عنده من العلم.
ومن حصل له توقف في هذه المسألة أو في غيرها، فالطريق الاقوم والمسلك الاسلم أن يقول: الله أعلم.
وقد روى الامام أحمد والبخاري ومسلم الترمذي والنسائي، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبدالله بن جعفر، عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد " أي خير زمانهما.
وروى شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه قرة بن إياس، رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران، وآسية أمرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ".
قالوا: والقدر المشترك بين الثلاث نسوة، آسية ومريم وخديجة، أن كلا منهن
كفلت نبيا مرسلا، وأحسنت الصحبة في كفالتها وصدقته حين بعث.
ومريم كفلت ولدها أتم كفالة وأعظمها وصدقته حين أرسل.
وخديجة رغبت في تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وبذلت في ذلك أموالها، كما تقدم، وصدقته حين نزل عليه الوحى من الله عزوجل.
وقوله: " وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " هو ثابت في الصحيحين من طريق شعبة أيضا، عن عمرو بن مرة، عن مرة الطيب الهمداني، عن أبى موسى الاشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وأن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " والثريد هو الخبر واللحم جميعا، وهو أفخر طعام العرب، كما قال بعض الشعراء: إذا ما الخبز تأدمه بلحم * فذاك أمانة الله الثريد ويحمل قوله: " وفضل عائشة على النساء " أن يكون محفوظا فيعم النساء المذكورات وغيرهن، ويحتمل أن يكون عاما فيما عداهن ويبقى الكلام فيها وفيهن موقوفا يحتمل التسوية بينهن، فيحتاج من رجح واحدة منهن على غيرها إلى دليل من خارج.
والله أعلم.
قال البخاري في باب تزويج عائشة، حدثنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: " أريتك في المنام مرتين، أرى أنك في سرقة (1) من حرير، ويقول (2): هذه امرأتك.
فأكشف عنها فإذا
هي أنت، فأقول إن كان هذا (3) من عند الله يمضه ".
قال البخاري: باب نكاح الابكار.
وقال ابن أبى مليكة: قال ابن عباس لعائشة: لم ينكح النبي صلى الله عليه وسلم بكرا غيرك.
حدثنا إسماعيل بن عبدالله، حدثنى أخى، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت لو نزلت واديا وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرة لم يؤكل منها، في أيها كنت ترتع بعيرك ؟ قال: " في التى لم يرتع منها " تعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرا غيرها.
انفرد به البخاري.
ثم قال: حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
قالت: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أريتك في المنام فيجئ
__________
(1) السرقة: القطعة.
(2) أي جبريل.
وفى رواية: ويقال.
(3) البخاري: إن يك هذا.
(*)
وفى رواية: " أريتك في المنام ثلاث ليال ".
وعند الترمذي أن جبريل جاءه بصورتها في خرقة من حرير خضراء فقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة.
وقال البخاري: [ باب ] تزويج الصغار من الكبار، حدثنا عبدالله بن يوسف، حدثنا الليث عن يزيد، عن عراك، عن عروة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب عائشة إلى أبى بكر، فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك.
فقال: " أنت أخى في دين الله وكتابه، وهى لى حلال ".
هذا الحديث ظاهر سياقه كأنه مرسل، وهو عند البخاري والمحققين متصل، لانه من حديث عروة عن عائشة رضى الله عنها، وهذا من أفراد البخاري رحمه الله.
وقال يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه.
قال: تزوج رسول الله صلى الله عيله وسلم عائشة بعد خديجة بثلاث سنين، وعائشة يومئذ ابنة ست سنين، وبنى بها وهى ابنة تسع، ومات رسول الله صلى عليه وسلم وعائشة ابنة ثمانى عشرة سنة.
وهذا غريب.
وقد روى البخاري عن عبيد بن إسماعيل، عن أبى أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، فلبث سنتين أو قريبا من ذلك، ونكح عائشة وهى بنت ست سنين، ثم بنى بها وهى بنت تسع سنين.
وقوله: " تزوجها وهى ابنة ست سنين، وبنى بها وهى ابنة تسع " ما لا خلاف فيه بين الناس، وقد ثبت في الصحاح وغيرها.
وكان بناؤه بها عليه السلام في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة.
وأما كون تزويجها كان بعد موت خديجة بنحو من ثلاث سنين ففيه نظر.
فإن يعقوب بن سفيان الحافظ قال: حدثنا الحجاج، حدثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفى خديجة قبل مخرجه من مكة وأنا ابنة سبع أو ست سنين، فلما قدمنا المدينة جاءني نسوة وأنا ألعب في أرجوحة وأنا مجممة، فهيأننى وصنعننى ثم أتين بى إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم [ فبنى بى ].
وأنا ابنة تسع سنين.
فقوله في هذا الحديث: " متوفى خديجة ".
يقتضى أنه على أثر ذلك قريبا، اللهم إلا أن يكون قد سقط من النسخة بعد متوفى خديجة، فلا ينفى ما ذكره يونس بن بكير وأبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه.
والله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا فروة بن أبى المغراء، حدثنا على بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
قالت: تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بنى الحارث بن الخزرج، فوعكت فتمزق شعرى وقد وفت لى جميمة، فأتتنى أمي أم رومان وإنى لفى أرجوحة ومعى صواحب لى، فصرخت بى فأتيتها ما أدرى ما تريد منى، فأخذت بيدى حتى أوقفتني على باب الدار، وإنى لانهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئا من ماء فمست به وجهى ورأسي، ثم أدخلتني
قال: فإذا نسوة من الانصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة وعلى خير طائر.
فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني، فلم يرعنى إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، فأسلمننى إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين.
وقال الامام أحمد في مسند عائشة أم المؤمنين: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا بشر، حدثنا محمد بن عمرو [ حدثنا ] أبو سلمة ويحيى، قالا: لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت: يا رسول الله ألا تزوج ؟ قال: من ؟ قالت: إن شئت بكرا، وإن شئت ثيبا.
قال: فمن البكر ؟ قالت أحب خلق الله إليك عائشة ابنة أبى بكر.
قال: ومن الثيب ؟ قالت سودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك.
قال: فاذهبي فاذكريهما على.
فدخلت بيت أبى بكر فقالت: يا أم رومان ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة !
قالت: وما ذاك ؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قالت: انظري أبا بكر حتى يأتي.
فجاء أبو بكر فقلت: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة ! قال: وما ذاك ؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة.
قال: وهل تصلح له ؟ إنما هي ابنة أخيه.
فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له قال: " ارجعي إليه فقولي له: أنا أخوك وأنت أخى في الاسلام وابنتك تصلح لى ".
فرجعت فذكرت ذلك له قال: انتظري، وخرج.
قالت أم رومان: إن مطعم بن عدى قد ذكرها على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعدا قط فأخلفه.
فقالت: يا ابن أبى قحافة لعلك مصبئ صاحبنا تدخله في دينك الذى أنت عليه إن تزوج إليك ؟ ! فقال أبو بكر للمطعم بن عدى أقول هذه تقول ؟ [ قال: ] (1) إنها تقول ذلك.
فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عدته التى وعده.
فرجع فقال لخولة: ادعى لى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدعته فزوجها إياه، وعائشة يومئذ بنت ست سنين.
ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة فقالت: ما أدخل الله عليك من الخير والبركة ؟ ! قالت: وما ذاك ؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك إليه.
قالت: وددت، ادخلي إلى أبى بكر فاذكري ذلك له، وكان شيخا كبيرا قد أدركه السن قد تخلف عن الحج، فدخلت عليه فحييته بتحية الجاهلية، فقال: من هذه ؟ قالت: خولة بنت حكيم.
قال: فما شأنك ؟ قالت: أرسلني محمد بن عبدالله أخطب عليه سودة.
فقال: كفء كريم، ما تقول صاحبتك ؟ قالت: تحب ذلك.
قال ادعيها إلى.
فدعتها
قال: أي بنية، إن هذه تزعم أن محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب قد أرسل يخطبك، وهو كفء كريم، أتحبين أن أزوجك به ؟ قالت: نعم.
قال: ادعيه لى.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه.
فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج، فجاء يحثى على رأسه التراب.
فقال بعد أن أسلم: لعمرك إنى لسفيه يوم أحثى في رأسي التراب أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة ! قالت عائشة: فقدمنا المدينة فنزلنا في بنى الحارث بن الخزرج في السنح.
قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال من الانصار
__________
(1) من المسند 6 / 211 (*)
فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا ما نحرت على جزور، ولا ذبحت على شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دار إلى نسائه.
وأنا يومئذ ابنة تسع سنين.
وهذا السياق كأنه مرسل، وهو متصل.
لما رواه البيهقى من طريق أحمد بن عبد الجبار، حدثنا عبدالله بن إدريس الازدي، عن محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب، قال: قالت عائشة: لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم فقالت: يا رسول الله ألا تزوج ؟ قال: ومن ؟ قالت:
إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا.
قال: من البكر ومن الثيب ؟ قالت: أما البكر فابنة أحب خلق الله إليك، وأما الثيب فسودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك.
قال فاذكريهما على وذكر تمام الحديث نحو ما تقدم.
وهذا يقتضى أن عقده على عائشة كان متقدما على تزويجه بسودة بنت زمعة.
ولكن دخوله على سودة كان بمكة، وأما دخوله على عائشة فتأخر إلى المدينة في السنة الثانية كما تقدم وكما سيأتي.
وقال الامام أحمد: حدثنا أسود، حدثنا شريك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة
قالت: وكانت أول امرأة تزوجها بعدى.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا عبدالحميد، حدثنى شهر، حدثنى عبدالله بن عباس، أن رسول الله صلى عليه وسلم خطب امرأة من قومه يقال لها سودة وكانت مصبية، كان لها خمس صبية أو ست من بعلها مات: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما يمنعك منى ؟ " قالت: والله يا نبى الله ما يمنعنى منك أن لا تكون أحب البرية إلى، ولكني أكرمك أن يمنعوا هؤلاء الصبية عند رأسك بكرة وعشية.
قال: فهل منعك منى غير ذلك ؟ قالت: لا والله.
قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله ! إن خير نساء ركبن أعجاز الابل، صالح ؟ نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على بعل بذات يده.
قلت: وكان زوجها قبله عليه السلام السكران بن عمرو أخو سهيل بن عمرو، وكان ممن أسلم وهاجر إلى الحبشة كما تقدم، ثم رجع إلى مكة فمات بها قبل الهجرة رضى الله عنه.
هذه السياقات كلها دالة على أن العقد على عائشة كان متقدما على العقد بسودة، وهو قول عبدالله بن محمد بن عقيل.
ورواه يونس عن الزهري.
واختار ابن عبد الير أن العقد على سودة قبل عائشة، وحكاه عن قتادة وأبى عبيد.
قال: ورواه عقيل عن الزهري.
(10 - السيرة - 2)
فلما مات اجترأ سفهاء قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونالوا منه ما لم يكونوا يصلون إليه ولا يقدرون عليه.
كما قد رواه البيهقى، عن الحاكم، عن الاصم، حدثنا محمد بن إسحاق الصنعانى، حدثنا يوسف بن بهلول، حدثنا عبدالله بن إدريس، حدثنا محمد بن إسحاق، عمن حدثه، عن عروة بن الزبير، عن عبدالله بن جعفر قال: لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من سفهاء قريش فألقى عليه ترابا، فرجع إلى بيته فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكى، فجعل يقول: " أي بنية لا تبكى، فإن الله مانع أباك ".
ويقول ما بين ذلك: " ما نالت قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب ثم شرعوا ".
وقد رواه زياد البكائى، عن محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه مرسلا.
والله أعلم.
وروى البيهقى أيضا عن الحاكم وغيره، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن
يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما زالت قريش كاعين (1) حتى مات أبو طالب ".
__________
(1) كاعين: جبناء (*)
وقد روى الحافظ أبو الفرج ابن الجوزى بسنده عن ثعلبة بن صقير (1) وحكيم بن حزام، أنهما قالا: لما توفى أبو طالب وخديجة، وكان بينهما خمسة أيام، اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبتان، ولزم بيته وأقل الخروج، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع فيه.
فبلغ ذلك أبا لهب فجاءه فقال: يا محمد امض لما أردت، وما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حيا فاصنعه، لا واللات لا يوصل إليك حتى أموت.
وسب ابن الغيطلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل إليه أبو لهب فنال منه، فولى يصيح: يا معشر قريش صبأ أبو عتبة.
فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبى لهب فقال: ما فارقت دين عبدالمطلب.
ولكني أمنع ابن أخى أن يضام حتى يمضى لما يريد.
فقالوا: لقد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم.
فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أياما يأتي ويذهب لا يعرض له أحد من قريش، وهابوا أبا لهب، إذ جاء عقبة بن أبى معيط وأبو جهل إلى أبى لهب فقالا له: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك ؟ فقال له أبو لهب: يا محمد أين مدخل عبدالمطلب ؟ قال: مع قومه.
فخرج إليها فقال:
قد سألته فقال: مع قومه.
فقالا: يزعم أنه في النار !
__________
(1) الاصل: صعير.
وهو تحريف.
وما أثبته من الوفا لابن الجوزى 210.
(*)
فقال أبو لهب - لعنه الله -: والله لا برحت لك إلا عدوا (1) أبدا وأنت تزعم أن عبدالمطلب في النار.
واشتد عند ذلك أبو لهب وسائر قريش عليه.
* * * قال ابن إسحاق: وكان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته: أبو لهب، والحكم بن أبى العاص بن أمية، وعقبة بن أبى معيط، وعدى بن الحمراء، وابن الاصداء الهذلى.
وكانوا جيرانه، لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبى العاص.
وكان أحدهم، فيما ذكر لى، يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلى، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا يستتر به منهم إذا صلى، فكان إذا طرحوا شيئا من ذلك يحمله على عود ثم يقف به على بابه ثم يقول: يا بنى عبد مناف أي جوار هذا ؟ ثم يلقيه في الطريق.
قلت: وعندي أن غالب ما روى مما تقدم - من طرحهم سلا الجزور بين كتفيه وهو يصلى، كما رواه ابن مسعود، وفيه أن فاطمة جاءت فطرحته عنه وأقبلت عليهم فشتمتهم، ثم لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على سبعة منهم كما تقدم.
وكذلك ما أخبر به عبدالله بن عمرو بن العاص من خنقهم له عليه السلام خنقا شديدا،
__________
(1) ابن الجوزى: لا برحت لك عدوا، وهى كذلك في طبقات ابن سعد (*)
فذكرها ههنا أنسب وأشبه.
فصل في ذهابه عليه السلام إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الله تعالى، وإلى نصرة دينه، فردوا عليه ذلك ولم يقبلوا، فرجع عنهم إلى مكة قال ابن إسحاق: فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاذى ما لم تكن نالته منه في حياة عمه أبى طالب.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى.
فخرج إليهم وحده فحدثني يزيد بن أبى زياد، عن محمد بن كعب القرظى، قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وعمد إلى نفر من ثقيف وهم سادة ثقيف وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة، عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة ابن عوف بن ثقيف.
وعند أحدهم امرأة من قريش من بنى جمح.
فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم لما جاءهم له من نصرته على الاسلام والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.
وقال الآخر: أما وجد الله أحدا أرسله غيرك ؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لانت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام
ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى لى أن أكلمك.
وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه.
فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه.
فعمد إلى ظل حبلة (1) من عنب فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف.
وقد لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما ذكر لى، المرأة التى من بنى جمح، فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك ! فلما اطمأن قال فيما ذكر: " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربى، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمرى ؟ ! إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى، ولكن عافيتك هي أوسع لى.
أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بى غضبك أو تحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة ألا بك ".
قال: فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقى تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس [ وقالا له ] خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه.
__________
الحبلة: الكرمة.
[ * ]
فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فيه قال: " بسم الله " ثم أكل، ثم نظر عداس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن أهل أي بلاد أنت يا عداس وما دينك ؟ قال: نصراني وأنا رجل من أهل نينوى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذلك أخى كان نبيا وأنا نبى.
فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه.
قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك.
فلما جاء عداس قالا له: ويلك يا عداس ! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ؟ قال: يا سيدى ما في الارض شئ خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبى.
قالا له: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.
* * * وقد ذكر موسى بن عقبه نحوا من هذا السياق، إلا أنه لم يذكر الدعاء وزاد: وقعد له أهل الطائف صفين على طريقه، فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموه، فخلص منهم وهما يسيلان الدماء، فعمد إلى ظل نخلة
ثم ذكر قصة عداس النصراني، كنحو ما تقدم.
وقد روى الامام أحمد، عن أبى بكر ابن أبى شيبة، حدثنا مروان بن معاوية الفزارى، عن عبدالله بن عبدالرحمن الطائفي، عن عبدالرحمن بن خالد بن أبى جبل العدواني، عن أبيه، أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصى، حين أتاهم يبتغى عندهم النصر، فسمعته يقول: " والسماء والطارق " حتى ختمها.
قال: فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك، ثم قرأتها في الاسلام.
قال: فدعتنى ثقيف فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرجل ؟ فقرأتها عليهم، فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا، لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه.
وثبت في الصحيحين، من طريق عبدالله بن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة حدثته أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد ؟ قال: " ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهى فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أطلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث لك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم.
ثم نادانى ملك الجبال فسلم على ثم قال: يا محمد قد بعثنى الله، إن الله قد سمع قول
عليهم الاخشبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا ".
فصل وقد ذكر محمد بن اسحاق سماع الجن لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك مرجعه من الطائف حين بات بنخلة وصلى بأصحابه الصبح، فاستمع الجن الذين صرفوا إليه قراءته هنالك.
قال ابن إسحاق: وكانوا سبعة نفر، وأنزل الله تعالى فيهم قوله: " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ".
قلت: وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في التفسير، وتقدم قطعة من ذلك، والله أعلم.
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مرجعه من الطائف في جوار المطعم بن عدى، وازداد قومه عليه حنقا وغيظا وجرأة وتكذيبا وعنادا.
والله المستعان وعليه التكلان.
وقد ذكر الاموى في مغازيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أريقط إلى الاخنس بن شريق، فطلب منه أن يجيره بمكة، فقال: إن حليف قريش لا يجير على صميمها.
ثم بعثه إلى سيهل بن عمرو ليجيره فقال: إن بنى عامر بن لؤى لا تجير على بنى كعب بن لؤى.
فذهب إليه رسول الله صلى عليه وسلم فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج معه هو وبنوه ستة أو سبعة متقلدى السيوف جميعا، فدخلوا المسجد وقال لرسول الله
صلى الله عليه وسلم: طف.
واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف.
فأقبل أبو سفيان إلى مطعم فقال: أمجير أو تابع ؟ قال: لا بل مجير.
قال: إذا لا تخفر.
فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه.
وذهب أبو سفيان إلى مجلسه.
قال: فمكث أياما ثم أذن له في الهجرة.
فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة توفى مطعم بن عدى بعده بيسير، فقال حسان بن ثابت: والله لارثينه.
فقال فيما قال: فلو كان مجد مخلد اليوم واحدا * من الناس نحى مجده اليوم مطعما أجرت رسول الله منهم فأصبحوا * عبادك ما لبى محل وأحرما فلو سئلت عنه معد بأسرها * وقحطان أو باقى بقية جرهما لقالوا: هو الموفى بخفرة جاره * وذمت يوما إذا ما تجشما وما تطلع الشمس المنيرة فوقهم * على مثله فيهم أعز وأكرما إباء إذا يأبى وألين شيمة * وأنوم عن جار إذا الليل أظلما قلت: ولهذا قال النى صلى الله عليه وسلم يوم أسارى بدر: " لو كان المطعم بن عدى حيا ثم سألني في هؤلاء النتنى (1) لوهبتهم له ".
__________
(1) المطبوعة: النقباء.
وهو تحريف شنيع أعان عليه كتابتها في الاصل بالالف بلا نقط والرواية كما في الوفا والمواهب: ثم كلمني في هؤلاء النتنى لاطلقتهم له.
وسماهم نتنى لكفرهم.
كما في النهاية.
(*)
فلم يجبه أحد منهم لما ذخره الله تعالى للانصار من الكرامة العظيمة رضى الله عنهم قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم، إذا كانت، على قبائل العرب يدعوهم إلى الله عزوجل، ويخبرهم أنه نبى مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به.
قال ابن إسحاق: فحدثني من أصحابنا من لا أتهم، عن زيد بن أسلم، عن ربيعة بن عباد الدؤلى (1)، ومن حدثه أبو الزناد عنه، وحدثني حسين بن عبدالله بن عبيد الله بن عباس قال: سمعت ربيعة بن عباد يحدثه أبى، قال: إنى لغلام شاب مع أبى بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: " يا بنى فلان إنى رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الانداد، وأن تؤمنوا بى وتصدقوا بى، وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثنى به ".
__________
(1) ويقال فيه الديلى.
(*)
قال: فقلت لابي: يا أبت من هذا الرجل الذى يتبعه ويرد عليه ما يقول ؟ قال: هذا عمه عبدالعزى بن عبدالمطلب أبو لهب.
وقد روى الامام أحمد هذا الحديث، عن إبراهيم بن أبى العباس، حدثنا عبد الرحمن بن أبى الزناد، عن أبيه أخبرني رجل يقال له ربيعة بن عباد من بنى الديل، وكان جاهليا فأسلم، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذى المجاز وهو يقول: " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضئ الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب.
يتبعه حيث ذهب.
فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب.
ورواه البيهقى، من طريق محمد بن عبدالله الانصاري، عن محمد بن عمرو، عن محمد ابن المنكدر، عن ربيعة الديلى: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذى المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم.
قلت: من هذا ؟ قالوا هذا أبو لهب.
وكذا رواه أبو نعيم في الدلائل من طريق ابن أبى ذئب وسعيد بن سلمة بن أبى الحسام، كلاهما عن محمد بن المنكدر به نحوه.
ثم رواه البيهقى من طريق شعبة، عن الاشعث بن سليم، عن رجل من كنانة
كذا قال في هذا السياق: " أبو جهل " وقد يكون وهما، ويحتمل أن يكون تارة يكون ذا وتارة يكون ذا، وأنهما كانا يتناوبان على إيذائه صلى الله عليه وسلم * * *
قال ابن إسحاق: وحدثني ابن شهاب الزهري أنه عليه السلام أتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح، فدعاهم إلى الله عزوجل وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عبدالرحمن بن [ عبدالله بن ] (1) حصين أنه أتى كلبا في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبدالله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول: " يا بنى عبدالله إن الله قد أحسن اسم أبيكم " فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.
وحدثني بعض أصحابنا عن عبدالله بن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بنى حنيفة في منازلهم، فدعاهم إلى الله وعرض نفسه فلم يك أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم.
وحدثني الزهري أنه أتى بنى عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه.
فقال له رجل منهم يقال له بيحرة (2) بن فراس: والله لو أنى أخذت هذا الفتى
__________
(1) من ابن هشام.
(2) الاصل بحيرة.
وما أثبته من ابن هشام والروض الانف.
(*)
قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الامر لغيرنا ! لا حاجة لنا بأمرك.
فأبوا عليه.
فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كان أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم
أحد بنى عبدالمطلب، يزعم أنه نبى يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا.
قال: فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: يا بنى عامر هل لها من تلاف ؟ هل لذناباها من مطلب ؟ والذى نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلى قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم ! * * * وقال موسى بن عقبة عن الزهري: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤووه ويمنعوه، ويقول: " لا أكره أحدا منكم على شئ، من رضى منكم بالذى أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد أن تحرزوني فيما يراد لى من القتل حتى أبلغ رسالة ربى، وحتى يقضى الله لى ولمن صحبني بما شاء.
فلم يقبله أحد منهم، وما يأتي أحدا من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه !
وقد روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبدالله بن الاجلح ويحيى بن سعيد الاموى، كلاهما عن محمد بن السائب الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس، عن العباس.
قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أرى لى عندك ولا عند أخيك منعة، فهل أنت مخرجى إلى السوق غدا حتى نقر في منازل قبائل الناس " وكانت مجمع العرب.
قال: فقلت: هذه كندة ولفها، وهى أفضل من يحج البيت من اليمن، وهذه منازل بكر بن وائل، وهذه منازل بنى عامر بن صعصعة، فاختر لنفسك.
قال: فبدأ بكندة فأتاهم فقال: ممن القوم ؟ قالوا: من أهل اليمن.
قال: من أي اليمن ؟ قالوا: من كندة قال: من أي كندة ؟ قالوا: من بنى عمرو بن معاوية.
قال: فهل لكم إلى خير ؟ قالوا: وما هو ؟ قال: " تشهدون أن لا إله إلا الله وتقيمون الصلاة وتؤمنون بما جاء من عند الله ".
قال عبدالله بن الاجلح: وحدثني أبى عن أشياخ قومه، أن كندة قالت له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الملك لله يجعله حيث يشاء ".
فقالوا: لا حاجة لنا فيما جئتنا به.
وقال الكلبى: فقالوا: أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا وننابذ العرب، الحق بقومك فلا حاجة لنا بك.
فقال: من أي بكر بن وائل ؟ قالوا: من بنى قيس بن ثعلبة.
قال: كيف العدد ؟ قالوا: كثير مثل الثرى.
قال: فكيف المنعة ؟ قالوا: لا منعة، جاورنا فارس، فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم.
قال: " فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم، وتستنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين، وتكبروه أربعا وثلاثين ؟ ".
قالوا: ومن أنت ؟ قال: أنا رسول الله.
ثم انطلق.
فلما ولى عنهم، قال الكلبى: وكان عمه أبو لهب يتبعه، فيقول للناس لا تقبلوا
قوله.
ثم مر أبو لهب فقالوا: هل تعرف هذا الرجل ؟ قال: نعم، هذا في الذروة منا، فعن أي شأنه تسألون ؟ فأخبروه بما دعاهم إليه وقالوا: زعم أنه رسول الله.
قال: ألا لا ترفعوا برأسه قولا، فإنه مجنون يهذى من أم رأسه.
قالوا: قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر ! * * * قال الكلبى: فأخبرني عبدالرحمن العامري (1)، عن أشياخ من قومه قالوا: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بسوق عكاظ، فقال: ممن القوم ؟ قلنا:
__________
(1) الاصل: المعايرى.
وما أثبته من دلائل النبوة لابي نعيم 243.
(*)
قال: من أي بنى عامر بن صعصعة ؟ قالوا (1): بنو كعب بن ربيعة.
قال كيف المنعة [ فيكم ] (2) ؟ قلنا: لا يرام ما قبلنا، ولا يصطلى بنارنا.
قال: فقال لهم: إنى رسول الله، وآتيكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربى، ولا أكره أحدا منكم على شئ.
قالوا: ومن أي قريش أنت ؟ قال: من بنى عبدالمطلب.
قالوا: فاين أنت من عبد مناف ؟ قال: هم أول من كذبني وطردني.
قالوا: ولكنا لا نطردك ولا نؤمن بك، وسنمنعك حتى تبلغ رسالة ربك.
قال: فنزل إليهم والقوم يتسوقون، إذ أتاهم بيحرة (3) بن فراس القشيرى، فقال: من هذا الرجل أراه عندكم أنكره ؟ قالوا: محمد بن عبدالله القرشى.
قال: فما لكم وله ؟ قالوا: زعم لنا أنه رسول الله فطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه.
قال: ماذا رددتم عليه ؟ قالوا: بالترحيب والسعة، نخرجك إلى بلادنا ونمنعك ما نمنع به أنفسنا.
قال بيحرة (3): ما أعلم أحدا من أهل هذه السوق يرجع بشئ أشد من شئ ترجعون به، بدأتم (4) لتنابذوا النا س وترميكم العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به، لو آنسوا منه خيرا لكانوا أسعد الناس به، أتعمدون إلى زهيق قد طرده قومه وكذبوه فتؤوونه وتنصرونه ؟ فبئس الرأى رأيتم.
__________
(1) الدلائل: قلنا.
(2) من الدلائل.
(3) الاصل: بحيرة.
وما أثبته عن أبن هشام والسهيلى والطبري.
(4) المطبوعة: بدءا ثم.
وهو تحريف وما أثبته من الدلائل.
(*) (11 - السيرة 2)
قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناقته فركبها، فغمز الخبيث بيحرة شاكلتها فقمصت برسول الله صلى الله عليه وسلم فألقته.
وعند بنى عامر يومئذ ضباعة ابنة عامر بن قرط، كانت من النسوة اللاتى أسلمن مع رسول الله بمكة، جاءت زائرة إلى بنى عمها، فقالت: يا آل عامر، ولا عامر لى ! أيصنع هذا برسول الله بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم ! فقام ثلاثة من بنى عمها إلى بيحرة واثنين أعاناه، فأخذ كل رجل منهم رجلا فجلد به الارض ثم جلس على صدره، ثم علوا وجوههم لطما.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم بارك على هؤلاء والعن هؤلاء ".
قال: فأسلم الثلاثة الذين نصروه وقتلوا شهداء، وهم: غطيف (1) وغطفان ابنا سهل، وعروة، أو عذرة بن عبدالله بن سلمة.
رضى الله عنهم.
وقد روى هذا الحديث بتمامه الحافظ سعيد بن يحيى بن سعيد الاموى في مغازيه، عن أبيه به.
وهلك الآخرون وهم، بيحرة بن فراس، وحزن بن عبدالله بن سلمة بن قشير، ومعاوية بن عبادة أحد بنى عقيل، لعنهم الله لعنا كثيرا.
وهذا أثر غريب كتبناه لغرابته.
والله أعلم.
* * *
__________
(1) الدلائل: غطريف (*)
وأغرب من ذلك وأطول ما رواه أبو نعيم والحاكم والبيهقي، والسياق لابي نعيم رحمهم الله، من حديث أبان بن عبدالله البجلى، عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن عباس، حدثنى على بن أبى طالب، قال: لما أمر الله رسوله أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب.
فتقدم أبو بكر رضى الله عنه فسلم، وكان أبو بكر مقدما في كل خير، وكان رجلا نسابة، فقال: ممن القوم ؟ قالوا: من ربيعة.
قال: وأى ربيعة أنتم أمن هامها أم لهازمها ؟ قالوا: بل من هامها العظمى.
قال أبو بكر: فمن أي هامتها العظمى ؟ فقال: ذهل الاكبر.
قال لهم أبو بكر: منكم عوف الذى كان يقال: لا حر بوادي عوف ؟ قالوا: لا.
قال: فمنكم بسطام بن قيس أبو اللواء (1) ومنتهى الاحياء ؟ قالوا: لا.
قال: فمنكم الحوفزان بن شريك قاتل الملوك وسالبها أنفسها ؟ قالوا: لا.
قال: فمنكم جساس بن مرة بن ذهل، حامى الذمار ومانع الجار ؟ قالوا: لا.
قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة ؟ قالوا: لا.
قال: فأنتم أخوال الملوك من كندة ؟ قالوا: لا.
قال: فأنتم أصهار الملوك من لخم ؟ قالوا: لا.
قال لهم أبو بكر رضى الله عنه: فلستم بذهل الاكبر، بل أنتم ذهل الاصغر.
__________
(1) دلائل النبوة لابي نعيم: أبو الملوك.
(*)
فقال الغلام: بخ بخ: أهل السؤدد والرئاسة، قادمة العرب وهاديها (1) فمن أنت من قريش ؟ فقال له: رجل من بنى تيم بن مرة.
فقال له الغلام: أمكنت والله الرامى من سواء الثغرة ! أفمنكم قصى بن كلاب الذى قتل بمكة المتغلبين عليها، وأجلى بقيتهم وجمع قومه من كل أوب حتى أوطنهم مكة، ثم استولى على الدار وأنزل قريشا منازلها، فسمته العرب بذلك مجمعا، وفيه يقول الشاعر: أليس أبوكم كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر.
فقال أبو بكر: لا قال: فمنكم عبد مناف الذى انتهت إليه الوصايا وأبو الغطاريف السادة ؟ فقال أبو بكر: لا.
قال: فمنكم عمرو بن عبد مناف هاشم، الذى هشم الثريد لقومه ولاهل مكة، ففيه يقول الشاعر: عمرو العلا هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف سنوا إليه الرحلتين كليهما * عند الشتاء ورحلة الاصياف
كانت قريش بيضة فتفلقت * فالمح خالصة لعبد مناف
__________
(1) الدلائل: أزمة العرب وهداتها.
(*)
قال: فمنكم عبد المطب شيبة الحمد، وصاحب عير مكة، مطعم طير السماء والوحوش والسباع في الفلا، الذى كأن وجهه قمر يتلالا في الليلة الظلماء ؟ قال: لا.
قال: أفمن أهل الافاضة أنت ؟ قال: لا.
قال: أفمن أهل الحجابة أنت ؟ قال: لا.
قال: أفمن أهل أهل الندوة أنت ؟ قال: لا.
قال: أفمن أهل السقاية أنت ؟ قال: لا.
قال: أفمن أهل الرفادة أنت ؟ قال: لا.
قال: فمن المفيضين أنت ؟ قال: لا.
ثم جذب أبو بكر رضى الله عنه زمام ناقته من يده، فقال له الغلام: صادف در السيل در يدفعه * يهيضه حينا وحينا يرفعه (3) ثم قال: أما والله يا أخا قريش لو ثبت لخبرتك أنك من زمعات قريش ولست من الذوائب.
قال: فأقبل إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم، قال على: فقلت له: يا أبا بكر لقد وقعت من الاعرابي على باقعة (3): فقال: أجل يا أبا الحسن، إنه ليس من طامة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكل بالقول.
__________
(1) الازل: الطيق والشدة.
والاقراف: التهمة.
(2) الدلائل: صادف درء السيل سيلا يدفعه * يهضبه حينا وحينا يصدعه
(3) الباقعة: الرجل الداهية.
(*)
قال على: وكان أبو بكر مقدما في كل خير.
فقال لهم أبو بكر: ممن القوم ؟ قالوا من بنى شيبان بن ثعلبة، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبى أنت وأمى ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم.
وفى رواية: ليس وراء هؤلاء عذر من قومهم، وهؤلاء غرر في قومهم، وهؤلاء غرر الناس.
وكان في القوم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك.
وكان أقرب القوم إلى أبى بكر مفروق بن عمرو، وكان مفروق بن عمرو قد غلب عليهم بيانا ولسانا، وكانت له غديرتان تسقطان على صدره، فكان أدنى القوم مجلسا من أبى بكر.
فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم ؟ فقال له: إنا لنزيد على ألف، ولن تغلب ألف من قلة.
فقال له: فكيف المنعة فيكم ؟ فقال: علينا الجهد ولكل قوم جد.
فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم ؟ فقال مفروق: إنا أشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الاولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة ويديل علينا [ مرة ] (1)، لعلك أخو قريش ؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو هذا.
فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك.
__________
(1) من الدلائل.
(*)
قال له: وإلام ما تدعو أيضا يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم: ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا " إلى قوله " ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ".
فقال له مفروق: وإلام ما تدعو أيضا يا أخا قريش ؟ فو الله ما هذا من كلام أهل الارض، ولو كان من كلامهم لعرفناه.
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى، يعظكم لعلكم تذكرون ".
فقال له مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الاخلاق ومحاسن الاعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.
وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا.
فقال له هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وصدقت قولك، وإنى أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، لم نتفكر في أمرك وننظر في عاقبة ما تدعو إليه، زلة في الرأى، وطيشة في العقل،
__________
(1) سقطت من الاصل، وأثبتها من دلائل النبوة.
(*)
ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر.
وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا.
فقال المثنى: قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش، وأعجبني ما تكلمت به، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة، وتركنا ديننا واتباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا، وإنا إنما نزلنا بين صريين احدهما اليمامة، والآخر السماوة (1).
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما هذان الصريان ؟ فقال له: أما أحدهما فطفوف البر وأرض العرب، وأما الآخر فأرض فارس وأنهار كسرى، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا، ولا نؤوى محدثا، ولعل هذا الامر الذى تدعونا إليه مما تكرهه الملوك، فأما ما كان مما يلى بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان [ مما ] يلى بلاد فارس فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول.
فإن أردت أن ننصرك ونمنعك مما يلى العرب فعلنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق، إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم ويفرشكم بناتهم، أتسبحون الله وتقدسونه ؟ فقال له النعمان بن شريك: اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش ! فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ".
__________
(1) اللسان 19 / 192: " وإنما نزلنا الصريين اليمامة والسمامة هما تثنية صرى.
وهو كل ماء مجتمع " (*)
قال على: ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا على أية أخلاق للعرب كانت في الجاهلية، ما أشرفها ! بها يتحاجزون في الحياة الدنيا.
قال: ثم دفعنا إلى مجلس الاوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم.
قال على: وكانوا صدقاء صبراء، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم من معرفة أبى بكر رضى الله عنه بأنسابهم.
قال: فلم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا حتى خرج إلى أصحابه فقال لهم: " احمدوا الله كثيرا، فقد ظفرت اليوم أبناء ربيعة بأهل فارس، قتلوا ملوكهم واستباحوا عسكرهم وبى نصروا ".
قال: وكانت الوقعة بقراقر إلى جنب ذى قار، وفيها يقول الاعشى: فدى لبنى ذهل بن شيبان ناقتي * وراكبها عند اللقاء وقلت هم ضربوا بالحنو حنو قراقر * مقدمة الهامرز حتى تولت فلله عينا من رأى من فوارس * كذهل بن شيبان بها حين ولت فثاروا وثرنا والمودة بيننا * وكانت علينا غمرة فتجلت هذا حديث غريب جدا، كتبناه لما فيه من دلائل النبوة ومحاسن الاخلاق ومكارم الشيم وفصاحة العرب.
وقد ورد هذا من طريق أخرى، وفيه أنهم لما تحاربوا هم وفارس والتقوا معهم بقراقر، مكان قريب من الفرات، جعلوا شعارهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم فنصروا على فارس بذلك، وقد دخلوا بعد ذلك في الاسلام.
__________
(1) الحنو: كل منعرج وكل شئ فيه اعوجاج.
ويوم الحنو من أيام العرب.
(*)
قال: وقد كنا سمعنا به وبدعائه في المواسم، فوقف علينا يدعونا فلم نستجب له وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسى، فقال لنا: أحلف بالله لو قد صدقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحل به وسط بلادنا لكان الرأى، فأحلف بالله ليظهرن أمره حتى يبلغ كل مبلغ.
فقال القوم: دعنا منك لا تعرضنا لما لا قبل لنا به.
وطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ميسرة، فكلمه، فقال ميسرة: ما أحسن كلامك وأنوره، ولكن قومي يخالفونني، وإنما الرجل بقومه، فإذا لم يعضدوه فالعدى أبعد.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج القوم صادرين إلى أهليهم.
فقال لهم ميسرة: ميلوا نأتى فدك فإن بها يهودا نسائلهم عن هذا الرجل.
فمالوا إلى يهود فأخرجوا سفرا لهم فوضعوه ثم درسوا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي الامي العربي يركب الحمار ويجتزئ بالكسرة، ليس بالطويل ولا بالقصير ولا بالجعد ولا بالسبط، في عينيه حمرة، مشرق اللون.
فإن كان هو الذى دعاكم فأجيبوه وادخلوا في دينه، فإنا نحسده ولا نتبعه، وإنا [ منه ] في مواطن بلاء عظيم ولا يبقى أحد من العرب إلا اتبعه وإلا قاتله فكونوا ممن يتبعه.
فقال ميسرة: يا قوم ألا [ إن ] هذا الامر بين.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا وحج حجة الوداع لقاه ميسرة فعرفه.
فقال: يا رسول الله والله ما زلت حريصا على اتباعك من يوم أنخت بنا حتى كان ما كان، وأبى الله إلا ما ترى من تأخر إسلامى، وقد مات عامة النفر الذين كانوا معى، فأين مدخلهم يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل من مات على غير دين الاسلام فهو في النار.
فقال: الحمد لله الذى أنقذني.
فأسلم وحسن إسلامه، وكان له عند أبى بكر مكان.
وقد استقصى الامام محمد بن عمر الواقدي فقص [ خبر ] القبائل واحدة واحدة فذكر عرضه عليه السلام نفسه على بنى عامر وغسان وبنى فزارة وبنى مرة وبنى حنيفة وبنى سليم وبنى عبس وبنى نضر بن هوازن، وبنى ثعلبة بن عكابة، وكندة وكلب وبنى الحارث بن كعب وبنى عذرة وقيس بن الحطيم وغيرهم.
وسياق أخبارها مطولة، وقد ذكرنا من ذلك طرفا صالحا ولله الحمد والمنة.
وقال الامام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا إسرائيل، عن عثمان، يعنى ابن المغيرة، عن سالم بن أبى الجعد، عن جابر بن عبدالله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف (1)، فيقول: " هل من رجل يحملنى إلى قومه فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربى عزوجل ؟ ".
__________
(1) أي موقف الناس بعرفة.
(*)
قال: فهل عند قومك من منعة ؟ قال: نعم !
ثم إن الرجل خشى أن يخفره قومه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: آتيهم فأخبرهم ثم آتيك من عام قابل.
قال نعم.
فانطلق، وجاء وفد الانصار في رجب.
وقد رواه أهل السنن الاربعة من طرق، عن إسرائيل به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
حديث سويد بن صامت الانصاري وهو سويد بن الصامت بن عطية بن حوط بن حبيب بن عمرو بن عوف بن مالك ابن الاوس وأمه ليلى بنت عمرو النجارية أخت سلمى بنت عمرو أم عبدالمطلب بن هاشم.
فسويد هذا ابن خالة عبدالمطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن إسحاق بن يسار: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره، كلما أجتمع الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الاسلام، ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الهدى والرحمة، ولا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى، وعرض عليه ما عنده.
قال ابن إسحاق: حدثنى عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه.
قالوا: قدم سويد بن الصامت أخو بنى عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا، وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره وشرفه ونسبه، وهو الذى يقول: ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى * مقالته بالغيب ساءك ما يفرى
مقالته كالشهد ما كان شاهدا * وبالغيب مأثور على ثغرة النحر يسرك باديه وتحت أديمه * تميمة غش تبترى عقب الظهر
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذى معك ؟ قال مجلة لقمان.
يعنى حكمة لقمان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها على.
فعرضها عليه، فقال: " إن هذا الكلام حسن، والذى معى أفضل من هذا، قرآن أنزله الله على هو هدى ونور ".
فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الاسلام، فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن.
ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج، فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قتل وهو مسلم.
وكان قتله قبل بعاث.
وقد رواه البيهقى، عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق بأخصر من هذا.
إسلام إياس بن معاذ قال ابن إسحاق: وحدثني الحصين بن عبدالرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن محمود بن لبيد قال: لما قدم أبوالحيسر أنس بن رافع مكة، ومعه فتية من بنى عبد الاشهل، فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج،
ثم ذكر لهم الاسلام وتلا عليهم القرآن.
قال: فقال إياس بن معاذ، وكان غلاما حدثا: يا قوم هذا والله خير مما جئتم له.
فأخذ أبوالحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا.
قال: فصمت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بعاث بين الاوس والخزرج.
قال ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك.
قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضرني من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أنه قد مات مسلما، لقد كان استشعر الاسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع.
قلت: كان يوم بعاث، وبعاث موضع بالمدينة، كانت فيه وقعة عظيمة قتل فيها خلق من أشراف الاوس والخزرج وكبرائهم، ولم يبق من شيوخهم إلا القليل.
وقد روى البخاري في صحيحه، عن عبيد بن إسماعيل، عن أبى أمامة، عن هشام، عن أبيه عن عائشة قالت: كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد افترق ملؤهم وقتل سراتهم.
قال ابن إسحاق: فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذى لقيه فيه النفر من الانصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم.
فبينا هو عند العقبة لقى رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا.
فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه.
قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: " من أنتم ؟.
قالوا: نفر من الخزرج قال: أمن موالى يهود ؟ قالوا: نعم.
قال: أفلا تجلسون أكلمكم ؟.
قالوا: بلى.
فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الاسلام، وتلا عليهم القرآن.
قال: وكان مما صنع الله بهم في الاسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شئ قالوا: إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم.
فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض يا قوم تعلمون والله إنه النبي الذى توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه.
فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الاسلام وقالوا
ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا.
قال ابن إسحاق: وهم فيما ذكر لى ستة نفر كلهم من الخزرج، وهم: أبو أمامة
أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار.
قال أبو نعيم: وقد قيل إنه أول من أسلم من الانصار من الخزرج.
ومن الاوس: أبو الهيثم بن التيهان، وقيل إن أول من أسلم رافع بن مالك، ومعاذ ابن عفراء والله أعلم.
وعوف بن الحارث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار، وهو ابن عفراء، النجاريان، ورافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن زريق الزرقى.
وقطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غنم بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن على بن أسد بن ساردة بن يزيد (1) بن جشم بن الخزرج السلمى، ثم من بنى سواد، وعقبة بن عامر بن نابى بن زيد بن حرام بن كعب بن سلمة السلمى أيضا، ثم من بنى حرام.
وجابر بن عبدالله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد بن عدى ابن غنم بن كعب بن سلمة السلمى أيضا، ثم من بنى عبيد رضى الله عنهم.
وهكذا روى عن الشعبى والزهرى وغيرهما أنهم كانوا ليلتئذ ستة نفر من الخزرج.
وذكر موسى بن عقبة فيما رواه عن الزهري وعروة بن الزبير أن أول اجتماعه عليه السلام بهم كانوا ثمانية وهم: معاذ بن عفراء، وأسعد بن زرارة، ورافع بن مالك،
__________
(1) ابن هشام: تزيد بالتاء.
(*) (12 - السيرة 2)
فأسلموا وواعدوه إلى قابل.
فرجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى الاسلام، وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن عفراء ورافع بن مالك أن ابعث إلينا رجلا يفقهنا.
فبعث إليهم مصعب بن عمير فنزل على أسعد بن زرارة.
وذكر تمام القصة كما سيوردها ابن اسحاق أتم من سياق موسى بن عقبة.
والله أعلم.
* * * قال ابن إسحاق: فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الاسلام، حتى فشا فيهم فلم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله وسلم.
حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الانصار اثنا عشر رجلا وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة المتقدم ذكره، وعوف بن الحارث المتقدم، وأخوه معاذ وهما ابنا عفراء، ورافع بن مالك المتقدم أيضا، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر ابن زريق الزرقى.
قال ابن هشام: وهو أنصارى مهاجري.
وعبادة بن الصامت بن قيس ابن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وحليفهم أبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم البلوى، والعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن يزيد بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج العجلاني، وعقبة بن عامر بن نابى المتقدم، وقطبة بن عامر بن حديدة المتقدم.
ومن الاوس اثنان وهما: عويم بن ساعدة، وأبو الهيثم مالك بن التيهان.
قال ابن هشام التيهان يخفف ويثقل كميت وميت.
قال السهيلي: أبو الهيثم بن التيهان اسمه مالك بن مالك بن عتيك بن عمرو بن عبد الاعلم بن عامر بن زعور بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الاوس.
قال: وقيل إنه إراشى وقيل بلوى.
وهذا لم ينسبه ابن إسحاق ولا ابن هشام.
قال: والهيثم فرخ العقاب، وضرب من النبات.
والمقصود أن هؤلاء الاثنى عشر رجلا شهدوا الموسم عامئذ، وعزموا على الاجتماع برسول الله صلى الله عليه وسلم فلقوه بالعقبة فبايعوه عندها بيعة النساء وهى العقبة الاولى.
وروى أبو نعيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم من قوله في سورة إبراهيم " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا " إلى آخرها.
وقال ابن إسحاق: حدثنى يزيد بن أبى حبيب، عن مرثد بن عبدالله اليزنى، عن عبدالرحمن بن عسيلة الصنابحى، عن عبادة، وهو ابن الصامت، قال: كنت ممن حضر العقبة الاولى، وكنا أثنى عشر رجلا: فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف.
فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر.
وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق الليث بن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب به نحوه.
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق عن الزهري به نحوه.
وقوله: " على بيعة النساء " يعنى على وفق ما نزلت عليه بيعة النساء بعد ذلك عام الحديبية، وكان هذا مما نزل على وفق ما بايع عليه أصحابه ليلة العقبة.
وليس هذا عجيبا، فإن القرآن نزل بموافقة عمر بن الخطاب في غير ما موطن، كما بيناه في سيرته وفى التفسير.
وإن كانت هذه البيعة وقعت عن وحى غير متلو فهو أظهر.
والله أعلم.
* * * قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الاسلام ويفقههم في الدين.
وقد روى البيهقى عن ابن إسحاق قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث مصعبا حين كتبوا إليه أن يبعثه إليهم، وهو الذى ذكره موسى بن عقبة كما تقدم، إلا أنه جعل المرة الثانية هي الاولى.
قال البيهقى: وسياق ابن إسحاق أتم.
وقال ابن إسحاق: فكان عبدالله بن أبى بكر يقول: لا أدرى ما العقبة الاولى.
ثم يقول ابن إسحاق: بلى لعمري قد كانت عقبة وعقبة.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه كان يصلى بهم، وذلك أن الاوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض رضى الله عنهم أجمعين.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن أبى أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبى حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الاذان بها صلى على أبى أمامة.
أسعد بن زرارة.
قال: فمكث حينا على ذلك، لا يسمع لاذان الجمعة إلا صلى عليه واستغفر له.
قال: فقلت في نفسي والله إن هذا بى لعجز، ألا أسأله ؟ فقلت: يا أبت ما لك إذا سمعت الاذان للجمعة صليت على أبى أمامة ؟ فقال: أي بنى كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم النبيت (1) من حرة بنى بياضة في بقيع يقال له: بقيع (2) الخضمات.
قال: قلت: وكم أنتم يومئذ ؟ قال: أربعون رجلا.
وقد روى هذا الحديث أبو داود وابن ماجه من طريق محمد بن إسحاق رحمه الله.
وقد روى الدار قطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير يأمره بإقامة الجمعة، وفى إسناده غرابة والله أعلم.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب، وعبد الله بن أبى بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بنى عبد الاشهل ودار بنى ظفر، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل
__________
(1) ا: هزم الحرة.
وهزم النبيت: جبل على بريد من المدينة.
(2) ابن هشام: نقيع وهى رواية أصوب.
(*)
وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير يومئذ سيدا قومهما من بنى عبد الاشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه.
فلما سمعا به قال سعد لاسيد: لا أبا لك ! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما أن يأتيا دارينا، فإنه لو لا أسعد بن زرارة منى حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما.
قال: فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه، وقد جاءك، فاصدق الله فيه.
قال مصعب: إن يجلس أكلمه.
قال فوقف عليهما متشتما فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة.
وقال موسى بن عقبة: فقال له غلام: أتيتنا في دارنا بهذا الرعيد (1) الغريب الطريد ليتسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه.
قال ابن إسحاق: فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره.
قال: أنصفت.
قال: ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالاسلام وقرأ عليه القرآن.
فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الاسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله.
ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله ! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلى.
__________
(1) الاصل: الوعيد.
(*)
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد ابن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذى ذهب به من عندكم.
فلما وقف على النادى قال له سعد: ما فعلت ؟ قال: كلمت الرجلين، فو الله ما رأيت
بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت.
وقد حدثت أن بنى حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك.
قال: فقام سعد بن معاذ مغضبا مبادرا تخوفا للذى ذكر له من بنى حارثة، وأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا.
ثم خرج إليهما سعد، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف متشتما ثم قال لاسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة والله لو لا ما بينى وبينك من القرابة ما رمت هذا منى، أتغشانا في دارنا بما نكره ؟ قال: وقد قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه [ من ] (1) قومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان قال: فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا رغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره.
قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الاسلام وقرأ عليه القرآن.
__________
(1) سقطت من المطبوعة.
وأثبتها من ا.
(*)
قال: فعرفنا والله في وجهه الاسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتسهله.
ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين.
قالا: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق، ثم نصلى ركعتين.
قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين.
ثم أخذ حربته، فأقبل عائدا إلى نادى قومه ومعه أسيد بن الحضير، فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذى ذهب به من عندكم.
فلما وقف عليهم قال: يا بنى عبد الاشهل كيف تعلمون أمرى فيكم ؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة.
قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم على حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
قال: فو الله ما أمسى في دار بنى عبد الاشهل رجل ولا أمرأة إلا مسلما أو مسلمة.
ورجع سعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الاسلام، حتى لم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون.
إلا ما كان من دار بنى أميه بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف، وتلك أوس، وهم من الاوس بن حارثة.
وذلك أنهم كان فيهم أبو قيس بن الاسلت واسمه صيفي.
وقال الزبير بن بكار: اسمه الحارث.
وقيل عبيد الله.
واسم أبيه الاسلت عامر بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الاوس.
وكذا نسبه الكلبى أيضا وكان شاعرا لهم قائدا يستمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الاسلام حتى كان بعد الخندق.
* * * قال ابن إسحاق فيما تقدم: ولما انتشر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرب وبلغ البلدان ذكر بالمدينة، ولم يكن حى من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين ذكر وقبل أن يذكر، من هذا الحى من الاوس والخزرج وذلك لما كان يسمعون من أحبار يهود.
فلما وقع أمره بالمدينة وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف، قال أبو قيس بن الاسلت أخو بنى واقف.
قال السهيلي: هو أبو قيس صرمة بن أبى أنس، واسم أبى أنس قيس بن صرمة بن مالك بن عدى بن عمرو بن غنم بن عدى بن النجار، قال: وهو الذى أنزل فيه وفى عمر " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم (1) " الآية.
قال ابن إسحاق: وكان يحب قريشا، وكان لهم صهرا، كانت تحته أرنب بنت أسد ابن عبدالعزى بن قصى، وكان يقيم عندهم السنين بامرأته.
قال قصيدة يعظم فيها الحرمة، وينهى قريشا فيها عن الحرب، ويذكر فضلهم وأحلامهم ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه عنهم الفيل وكيده، ويأمرهم بالكف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيا راكبا إما عرضت فبلغن * مغلغلة (1) عنى لؤى بن غالب رسول امرئ قد راعه ذات بينكم * على النأى محزون بذلك ناصب
__________
(1) سورة البقرة 187.
(2) المغلغلة: الرسالة.
(*)
وتستبدلوا بالاتحمية بعدها * شليلا وأصداء ثياب المحارب (4) وبالمسك والكافور غبرا سوابغا * كأن قتيريها عيون الجنادب (5) فإياكم والحرب لا تعلقنكم * وحوضا وخيم الماء مر المشارب تزين للاقوام ثم يرونها * بعاقبة إذ بينت أم صاحب (6) تحرق لا تشوى ضعيفا وتنتحي * ذوى العز منكم بالحتوف الصوائب ألم تعلموا ما كان في حرب داحس * فتعتبروا، أو كان في حرب حاطب وكم ذا أصابت من شريف مسود * طويل العماد ضيفه غير خائب عظيم رماد النار يحمد أمره * وذى شيمة محض كريم المضارب وماء هريق في الضلال كأنما * أذاعت به ريح الصبا والجنائب يخبركم عنها امرؤ حق عالم * بأيامها والعلم علم التجارب
__________
(1) شرجين: فريقين مختلفين.
والارمل: الصوت المختلط والمذكى: موقد النار.
(2) الاشافى: جمع إشفى وهى المخرز (3) الشوازب: الضامرة البطون.
(4) الاتحمية: ثياب رقاق تصنع باليمن.
والشليل: درع قصيرة والاصداء: جمع صداء الحديد.
(5) القتير: حلق الدرع.
والجنادب: الجراد.
(6) أم صاحب: أي عجوزا، كأم صاحب لك.
(*)
لقد علم الاقوم أن سراتكم * على كل حال خير أهل الجباجب (2) وأفضله رأيا وأعلاه سنة * وأقوله للحق وسط المواكب فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا * بأركان هذا البيت بين الاخاشب فعندكم منه بلاء ومصدق * غداة أبى يكسوم هادى الكتائب كتيبته بالسهل تمشى ورجله * على القاذفات في رءوس المناقب فلما أتاكم نصر ذى العرش ردهم * جنود المليك بين ساف وحاصب فولوا سراعا هاربين ولم يؤب * إلى أهله ملحبش غير عصائب فإن تهلكوا نهلك وتهلك مواسم * يعاش بها، قول امرئ غير كاذب * * * وحرب داحس التى (3) ذكرها أبو قيس في شعره كانت في زمن الجاهلية مشهورة وكان سببها فيما ذكره أبو عبيد معمر بن المثنى وغيره: أن فرسا يقال لها داحس كانت لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة الغطفانى، أجراها (4) مع فرس لحذيفة بن بدر بن عمرو
__________
(1) ابن هشام: أجسادا.
(2) الجباجب: المنازل.
(3) الاصل: الذى.
(4) الاصل: أجراه.
وفى ابن هشام بالتذكير في كل المواضع.
(*)
ثم إن أبا جنيدب العبسى لقى عوف بن حذيفة فقتله، ثم لقى رجل من بنى فزارة مالكا فقتله، فشبت الحرب بين بنى عبس وفزارة، فقتل حذيفة بن بدر وأخوه حمل ابن بدر وجماعات آخرون، وقالوا في ذلك أشعارا كثيرة يطول بسطها وذكرها.
قال ابن هشام: وأرسل قيس داحسا والغبراء، وأرسل حذيفة الخطار والحنفاء، والاول أصح.
قال: وأما حرب حاطب [ فيعنى حاطب ] (1) بن الحارث بن قيس بن هيشة بن الحارث بن أمية بن معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس، كان قتل يهوديا جارا للخزرج، فخرج إليه زيد بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كعب بن مالك بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، وهو الذى يقال له ابن فسحم (2) في نفر من بنى الحارث بن الخزرج، فقتلوه فوقعت الحرب بين الاوس والخزرج فاقتتلوا قتالا شديدا وكان الظفر للخزرج، وقتل يومئذ الاسود (3) بن الصامت الاوسي قتله المجذر بن ذياد حليف بنى عوف بن الخزرج، ثم كانت بينهم حروب يطول ذكرها أيضا.
* * * والمقصود أن أبا قيس بن الاسلت مع علمه وفهمه لم ينتفع بذلك حين قدم مصعب بن عمير المدينة ودعا أهلها إلى الاسلام، فأسلم من أهلها بشر كثير.
ولم يبق دار، أي محلة، من دور المدينة إلا وفيها مسلم ومسلمات، غير دار بنى واقف قبيلة أبى قيس، ثبطهم عن الاسلام.
__________
(1) من ابن هشام.
(2) الاصل: قسحم بالقاف.
وما أثبته عن شرح القاموس.
(3) ابن هشام: سويد بن صامت.
(*)
نسوق الهدى ترسف مذعنات * مكشفة المناكب في الجلول وحاصل ما يقول: أنه حائر فيما وقع من الامر الذى قد سمعه من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوقف الواقفى في ذلك مع علمه ومعرفته.
وكان الذى ثبطه عن الاسلام أولا عبدالله بن أبى بن سلول بعدما أخبره أبو قيس أنه الذى بشر [ به ] يهود فمنعه عن الاسلام.
قال ابن إسحاق: ولم يسلم إلى يوم الفتح هو وأخوه وخرج.
وأنكر الزبير بن بكار أن يكون أبو قيس أسلم.
وكذا الواقدي.
قال: كان عزم على الاسلام أول ما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلامه عبدالله بن أبى فحلف لا يسلم إلى حول، فمات في ذى القعدة.
وقد ذكر غيره فيما حكاه ابن الاثير في كتابه [ أسد ] الغابة، أنه لما حضره الموت دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام فسمع يقول: لا إله إلا الله.
وقال الامام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من الانصار، فقال: " يا خال قل لا إله إلا الله " فقال: أخال أم عم ؟ قال: بل خال.
قال: فخير لى أن أقول لا إله إلا الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.
وذكر عكرمة وغيره أنه لما توفى أراد ابنه أن يتزوج امرأته كبيشة بنت معن بن عاصم، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأنزل الله " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء (1) " الآية.
* * * وقال ابن إسحاق وسعيد بن يحيى الاموى في مغازيه: كان أبو قيس هذا ترهب في
الجاهلية ولبس المسوح، وفارق الاوثان، واغتسل الجنابة، وتطهر من الحائض من النساء، وهم بالنصرانية ثم أمسك عنها، ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا لا يدخل عليه فيه حائض ولا جنب، وقال: أعبد إله إبراهيم، حين فارق الاوثان وكرهها.
حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم فحسن إسلامه.
وكان شيخا كبيرا، وكان قوالا بالحق معظما لله في جاهليته، يقول في ذلك أشعارا حسانا، وهو الذى يقول: يقول أبو قيس وأصبح غاديا * ألا ما استطعتم من وصاتى فافعلوا فأوصيكم بالله والبر والتقى * وأعراضكم، والبر بالله أول وإن قومكم سادوا فلا تحسدنهم * وإن كنتم أهل الرياسة فاعدلوا وإن نزلت إحدى الدواهي بقومكم * فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا وإن ناب غرم فادح فارفقوهم * وما حملوكم في الملمات فاحملوا وإن أنتم أمعزتم (2) فتعففوا * وإن كان فضل الخير فيكم فأفضلوا وقال أبو قيس أيضا: سبحوا الله شرق كل صباح * طلعت شمسه وكل هلال
__________
(1) سورة النساء 22.
(2) أمعزتم: أصابتكم شدة.
(*)
يا بنى الارحام لا تقطعوها * وصلوها قصيرة من طوال واتقوا الله في ضعاف اليتامى * ربما يستحل غير الحلال واعلموا أن لليتيم وليا * عالما يهتدى بغير سؤال ثم مال اليتيم لا تأكلوه * إن مال اليتيم يرعاه والى يا بنى التخوم لا تخزلوها * إن خزل التخوم ذو عقال (5) يا بنى الايام لا تأمنوها * واحذروا مكرها ومر الليالى واعلموا أن مرها (6) لنفاد ال * خلق ما كان من جديد وبالى واجمعوا أمركم على البر والتق * وى وترك الخنا أخذ الحلال قال ابن إسحاق: وقال أبو القيس صرمة أيضا يذكر ما أكرمهم الله به من الاسلام، وما خصهم به من نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم: ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتبا وسيأتى ذكرها بتمامها فيما بعد إن شاء الله وبه الثقة.
__________
(1) ابن هشام: لدينا.
(2) الحقاف: جمع حقف: وهو المعوج من الرمل أو المستدير منه.
(3) ابن هشام: إذا ذكرت عضال.
(4) ابن هشام.
ناعم بال.
(5) التخوم: الحدود.
وتخزلوها: تقطعوها والعقال ما يمنع الرجل من المشى.
(6) الاصل: أمرها.
وما أثبته عن أبن هشام.
(*)
فحدثني معبد بن كعب بن مالك، أن أخاه عبدالله بن كعب، وكان من أعلم
الانصار، حدثه أن أباه كعبا حدثه، وكان ممن شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقهنا.
ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال البراء: يا هؤلاء إنى قد رأيت رأيا، والله ما أدرى أتوافقونني عليه أم لا ؟ قلنا: وما ذاك ؟ قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البنية منى يظهر، يعنى الكعبة، وأن أصلى إليها.
قال: فقلنا والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلى إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه.
فقال: إنى لمصل إليها.
قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل.
قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى هو إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة [ قال: وقد كنا عبنا عليه ما صنع وأبى إلا الاقامة على ذلك.
فلما قدمنا
__________
(1) من ابن هشام.
(*)
قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا لا نعرفه ولم نره قبل ذلك، فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هل تعرفانه ؟ فقلنا: لا.
فقال: هل تعرفان العباس بن عبدالمطلب عمه ؟ قال: قلنا: نعم.
وقد كنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرا، قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس.
قال: فدخلنا المسجد، وإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس معه
فسلمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل ؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك.
قال: فو الله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشاعر ؟ قال: نعم ؟ فقال له البراء بن معرور: يا نبى الله، إنى خرجت في سفري هذا قد هداني الله تعالى للاسلام، فرأيت ألا أجعل هذه البنية منى بظهر، فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك، حتى وقع في نفسي من ذلك شئ، فماذا ترى ؟ قال: " قد كنت على قبلة لو صبرت عليها ".
قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى معنا إلى الشام.
__________
(1) من ابن هشام.
(*) (13 - السيرة 2)
* * * قال كعب بن مالك: ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التى واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ومعنا عبدالله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيد من سادتنا أخذناه، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من سادتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا.
ثم دعوناه إلى الاسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة.
قال: فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبا.
وقد روى البخاري، حدثنى إبراهيم، حدثنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم، قال عطاء، قال جابر: أنا وأبى وخالاى (2) من أصحاب العقبة.
قال عبدالله بن محمد: قال ابن عيينة: أحدهما (2) البراء بن معرور.
حدثنا على بن المدينى، حدثنا سفيان، قال كان عمرو يقول: سمعت جابر بن عبدالله يقول: شهد بى خالاى العقبة.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ابن خثيم، عن أبى الزبير عن جابر قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، عكاظ (1) ومجنة، في المواسم، يقول: " من يؤوينى ؟ من ينصرني ؟ حتى أبلغ رسالة ربى وله الجنة " فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن
__________
(1) المسند: بعكاظ.
(2) الاصل: " خالي " و " أحدهم " وما أثبته من صحيح البخاري.
(*)
ويمضى بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالاصابع.
حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الاسلام.
ثم أئتمروا جميعا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف (1) ويطرد في جبال مكة ويخاف ؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال: " تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر
واليسر، وعلى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة، فقمنا إليه [ فبايعناه (2) ] وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو من أصغرهم.
وفى رواية البيهقى: وهو أصغر السبعين إلا أنا، فقال: رويدا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب إليه أكباد الابل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة وقتل خياركم و [ أن (2) ] تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك، فخذوه وأجركم على الله، وأما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة (3) فذروه، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله.
__________
(1) ليست في المسند.
(2) من المسند.
(3) المسند: جبنة.
أي جبنا.
(*)
قال: فقمنا إليه فبايعناه وأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة.
وقد رواه الامام أحمد أيضا والبيهقي من طريق داود بن عبدالرحمن العطار.
زاد البيهقى عن الحاكم، بسنده إلى يحيى بن سليم، كلاهما عن عبدالله بن عثمان بن خثيم، عن أبى إدريس به نحوه.
وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ولم يخرجوه.
وقال البزار: وروى غير واحد عن ابن خثيم، ولا نعلمه يروى عن جابر إلا من هذا الوجه.
وقال الامام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عبدالرحمن بن أبى الزناد، عن موسى بن عبدالله، عن أبى الزبير، عن جابر، قال: كان العباس آخذا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله يواثقنا، فلما فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخذت وأعطيت.
وقال البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، هو الثوري، عن جابر، يعنى الجعفي، عن داود، وهو ابن أبى هند، عن الشعبى، عن جابر، يعنى ابن عبدالله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء من الانصار: " تؤوونى وتمنعوني ؟ " قال: نعم.
قالوا: فما لنا ؟ قال: " الجنة ".
ثم قال: لا نعلمه يروى إلا بهذا الاسناد عن جابر.
* * * ثم قال ابن إسحاق عن معبد، عن عبدالله، عن أبيه كعب بن مالك، قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول
__________
(1) الاصل: أبط.
وهو تحريف.
وما أثبته من المسند.
(*)
وقد صرح ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير عنه بأسمائهم وأنسابهم وما ورد في بعض الاحاديث أنهم كانوا سبعين، والعرب كثيرا ما تحذف الكسر.
وقال عروة بن الزبير وموسى بن عقبة: كانوا سبعين رجلا وأمرأة واحدة.
قال: منهم أربعون من ذوى أسنانهم، وثلاثون من شبابهم.
قال: وأصغرهم أبو مسعود وجابر بن عبدالله.
قال كعب بن مالك: فلما اجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبدالمطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له.
فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبدالمطلب فقال: يا معشر الخزرج - قال: وكانت العرب إنما يسمون هذا الحى من الانصار الخزرج، خزرجها وأوسها - إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزة من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده.
قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
قال: فأخذ البراء بن معرور بيده [ و ] قال: نعم، فو الذى بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا (1)، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب ورثناها كابرا عن كابر.
قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الهيثم بن التيهانى فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها، يعنى اليهود، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم منى، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم ".
قال كعب: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيبا، يكونون على قومهم بما فيهم ".
فأخرجوا منهم اثنى عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس.
قال ابن إسحاق: وهم: أبو أمامة أسعد بن زراة المتقدم، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبى زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج ابن الحارث بن الخزرج، وعبد الله بن رواحة [ بن ثعلبة ] (2) بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، ورافع بن مالك بن العجلان المتقدم، والبراء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدى ابن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن على بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن
__________
(1) أزرنا: نساءنا.
والعرب تكنى بالازار عن المرأة وتكنى به عن النفس أيضا.
(2) من ابن هشام.
(*)
فهؤلاء تسعة من الخزرج.
ومن الاوس ثلاثة وهم: أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الاشهل بن جشم بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الاوس، وسعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النحاط بن كعب بن حارثة ابن غنم بن السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الاوس، ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير (2) بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك ابن الاوس.
* * *
قال ابن هشام: وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان بدل رفاعة هذا، وهو كذلك في رواية يونس عن ابن إسحاق، واختاره السهيلي وابن الاثير في الغابة.
* * * ثم استشهد ابن هشام على ذلك بما رواه عن أبى زيد الانصاري فيما ذكره من شعر كعب بن مالك في ذكر النقباء الاثنى عشر هذه الليلة، ليلة العقبة الثانية، حين قال: أبلغ أبيا أنه فال (3) رأيه * وحان غداة الشعب والحين واقع أبى الله ما منتك نفسك إنه * بمرصاد أمر الناس راء وسامع
__________
(1) في غريب السيرة لابي ذر: ابن أبى حزيمة.
(2) الاستيعاب: ابن زبير.
(3) قال: بطل.
(*)
قال ابن هشام: فذكر فيهم أبا الهيثم بن التيهان، ولم يذكر رفاعة.
قلت: وذكر سعد بن معاذ وليس من النقباء بالكلية في هذه الليلة.
* * * وروى يعقوب بن سفيان، عن يونس بن عبدالاعلى، عن ابن وهب، عن مالك قال: كان الانصار ليلة العقبة سبعين رجلا، وكان نقباؤهم اثنى عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس.
وحدثني شيخ من الانصار أن جبرائيل كان يشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من يجعله نقيبا ليلة العقبة، وكان أسيد بن حضير أحد النقباء تلك الليلة.
__________
(1) خانع: خاضع مقر.
(2) ضروح: مانع.
(*)
وقال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبى بكر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي.
قالوا: نعم.
وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الانصاري أخو بنى سالم بن عوف: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا: نعم قال: إنكم تبايعونه على حرب الاحمر والاسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزى الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الاموال وقتل الاشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة.
قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الاموال وقتل الاشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا ؟ قال: " الجنة ".
قالوا: ابسط يدك.
فبسط يده فبايعوه.
قال عاصم بن عمر بن قتادة: وإنما قال العباس بن عبادة ذلك ليشد العقد في أعناقهم.
وزعم عبدالله بن أبى بكر أنه إنما قال ذلك ليؤخر البيعة تلك الليلة، رجاء أن يحضرها عبدالله بن أبى بن سلول سيد الخزرج، ليكون أقوى لامر القوم.
فالله أعلم أي ذلك كان.
وبنو عبد الاشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان.
قال ابن إسحاق: وحدثني معبد بن كعب، عن أخيه عبدالله، عن أبيه كعب بن مالك قال: فكان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور، ثم بايع القوم.
وقال ابن الاثير في الغابة: وبنو سلمة يزعمون أن أول من بايعه ليلتئذ كعب بن مالك.
وقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عبدالرحمن بن عبدالله ابن كعب، عن أبيه عن كعب بن مالك في حديثه حين تخلف عن غزوة تبوك.
قال: ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الاسلام وما أحب أن لى بها مشهد بدر، وإن كانت بدرا أكثر (1) في الناس منها.
* * * وقال البيهقى: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا عمرو بن السماك، حدثنا حنبل بن إسحاق، حدثنا أبو نعيم، حدثنا زكريا بن أبى زائدة، عن عامر الشعبى قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العباس عمه إلى السبعين من الانصار عند العقبة تحت الشجرة، فقال: ليتكلم متكلمكم ولا يطل الخطبة فإن عليكم من المشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم.
فقال قائلهم، وهو أبو أمامة: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك.
__________
(1) البخاري: بدر أذكر.
وفى المطبوعة: بدر اكثير.
تحريف.
(*)
قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك.
قال: لكم الجنة.
قالوا: فلك ذلك ؟ ثم رواه حنبل عن الامام أحمد، عن يحيى بن زكريا، عن مجالد، عن الشعبى، عن أبى مسعود الانصاري، فذكره قال: وكان أبو مسعود أصغرهم.
وقال أحمد عن يحيى، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، قال: فما سمع الشيب والشبان خطبة مثلها.
قال البيهقى: أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمد بن محمش، أخبرنا محمد بن إبراهيم بن الفضل الفحام، أخبرنا محمد بن يحيى الذهلى، أخبرنا عمرو بن عثمان الرقى، حدثنا زهير، حدثنا عبدالله بن عثمان بن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد الله بن رفاعة، عن
أبيه، قال: قدمت روايا خمر، فأتاها عبادة بن الصامت فخرقها وقال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب مما نمنع به أنفسنا وأرواحنا وأبناءنا ولنا الجنة.
فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التى بايعناه عليها.
وهذا إسناد جيد قوى ولم يخرجوه.
وقد روى يونس عن ابن إسحاق، حدثنى عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت،
* * * قال ابن إسحاق في حديثه عن معبد بن كعب، عن أخيه عبدالله بن كعب بن مالك.
قال: فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب - والجباجب المنازل - هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب (1) ".
قال ابن هشام: ويقال ابن أزيب.
" اتسمع أي عدو الله، أما والله لاتفرغن (2) لك.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفضوا إلى رحالكم.
قال: فقال العباس بن عبادة بن نضلة: يا رسول الله والذى بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم.
قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا فيها حتى أصبحنا.
فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤنا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج
__________
(1) الاصل: أزبب، وما أثبته من ابن هشام.
(2) ابن هشام: لافرغن.
(*)
قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون ما كان من هذا شئ وما علمناه.
قال: وصدقوا، لم يعلموا، قال وبعضنا ينظر إلى بعض.
قال: ثم قام القوم، وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومى وعليه نعلان له جديدان.
قال: فقلت له كلمة، كأنى أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من سادتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش ؟ قال: فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلى.
قال والله لتنتعلنهما.
قال يقول أبو جابر: مه أحفظت والله الفتى فاردد إليه نعليه.
قال قلت: والله لا أردهما، فأل والله صالح، لئن صدق الفأل لاسلبنه ! قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبى بكر أنهم أتوا عبدالله بن أبى بن سلول
فقالوا مثل ما ذكر كعب من القول فقال لهم: إن هذا الامر جسيم ما كان قومي ليتفرقوا (1) على مثل هذا، وما علمته كان.
قال فانصرفوا عنه.
قال: ونفر الناس من منى، فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان، فخرجوا في طلب القوم.
__________
(1) ابن هشام: ليتفوتوا على بمثل هذا.
(*)
فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد بن عبادة فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع (1) رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته، وكان ذا شعر كثير.
قال سعد: فو الله إنى لفى أيديهم إذ طلع على نفر من قريش فيهم رجل وضئ أبيض شعشاع حلو من الرجال، فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا.
فلما دنا منى رفع يده فلكمنى لكمة شديدة، فقلت في نفسي: لا والله ما عندهم بعد هذا من خير !.
فو الله إنى لفى أيديهم يسحبونني إذ أوى لى رجل ممن معهم، قال: ويحك ! أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد ؟ قال: قلت: بلى والله، لقد كنت أجير لجبير بن مطعم تجاره وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي، وللحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس.
فقال: ويحك ! فاهتف باسم الرجلين واذكر ما بينك وبينهما.
قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلا من الخزرج الآن ليضرب بالابطح ليهتف بكما.
قالا: ومن هو ؟ قال:
سعد بن عبادة.
قالا: صدق والله، إن كان ليجير لنا تجارنا ويمنعهم أن يظلموا ببلده.
قال: فجاءا فخلصا سعدا من أيديهم، فانطلق.
وكان الذى لكم سعدا سهيل ابن عمرو.
__________
(1) النسع: الشراك الذى يشد به الرحل.
(*)
وروى البيهقى بسنده عن عيسى بن أبى عيسى بن جبير قال: سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبى قبيس: فإن يسلم السعدان يصبح محمد * بمكة لا يخشى حلاف المخالف فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السعدان ؟ أسعد بن بكر أم سعد بن هذيم ؟.
فلما كانت الليلة الثانية سمعوا قائلا يقول: أيا سعد سعد الاوس كن أنت ناصرا * ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف أجيبا إلى داعى الهدى وتمنيا * على الله في الفردوس منية عارف فإن ثواب الله للطالب الهدى * جنان من الفردوس ذات رفارف فلما أصبحوا قال أبو سفيان: هو والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.
{ فصل } قال ابن إسحاق: فلما رجع الانصار الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الثانية إلى المدينة أظهروا الاسلام بها.
وفى قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك، منهم عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة.
وكان ابنه معاذ بن عمرو ممن شهد العقبة، وكان عمرو بن الجموح من سادات بنى
سلمة وأشرافهم، وكان قد اتخذ صنما من خشب في داره يقال له مناة، كما كانت الاشراف يصنعون، يتخذه إلها يعظمه ويظهره، فلما أسلم فتيان بنى سلمة، ابنه معاذ، ومعاذ بن جبل كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه فيطرحونه في بعض
فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه ففعلوا مثل ذلك، فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الاذى فيغسله ويطيبه ويطهره، ثم يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك، فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما فغسله وطهره وطيبه.
ثم جاء بسيفه فعلقه عيله ثم قال له: إنى والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خير فامتنع، هذا السيف معك.
فلما أمسى ونام عمرو وعدوا عليه فأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل ثم ألقوه في بئر من آبار بنى سلمة فيها عذر من عذر الناس، وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذى كان به، فخرج يتبعه حتى إذا وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت، فلما رآه أبصر شأنه وكلمه من أسلم من قومه فأسلم برحمة الله وحسن إسلامه، فقال حين أسلم، وعرف من الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره، ويشكر الله الذى أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة ويقول: والله لو كنت إلها لم تكن * أنت وكلب وسط بئر في قرن أف لملقاك إلها مستدن * الآن فتشناك عن سوء الغبن الحمد لله العلى ذى المنن * الواهب الرزاق ديان الدين هو الذى أنقذني من قبل أن * أكون في ظلمة قبر مرتهن
ومن الخزرج اثنان وستون رجلا: أبو أيوب خالد بن زيد، وشهد بدرا وما بعدها ومات بأرض الروم زمن معاوية شهيدا، ومعاذ بن الحارث، وأخواه عوف ومعوذوهم بنو عفراء بدريون، وعمارة بن حزم شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة، وأسعد بن زرارة أبو أمامة أحد النقباء، مات قبل بدر، وسهل بن عتيك، بدرى، وأوس بن ثابت بن المندر بدرى، وأبو طلحة زيد بن سهل، بدرى، وقيس بن أبى صعصعة عمرو بن زيد بن عوف
__________
(1) الاصل: دينار وهو خطأ.
والتصويب من الكنى والاسماء للدولابي.
وأسمه هانئ بن نيار ابن عمرو بن عبيد بن كلاب.
(*) (14 - السيرة 2)
بدرا وقتل يوم أحد.
وعبد الله بن رواحة أحد النقباء، شهد بدرا وأحدا والخندق، وقتل يوم مؤتة أميرا، وبشير بن سعد، بدرى، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الذى أرى النداء، وهو بدرى.
وخلاد بن سويد بدرى أحدى خندقي، وقتل يوم بنى قريظة شهيدا، طرحت عليه رحى فشدخته، فيقال إن رسول الله صلى الله عيله وسلم قال: " إن له لاجر شهيدين ".
وأبو مسعود عقبة بن عمرو البدرى.
قال ابن إسحاق: وهو أحدث من شهد العقبة سنا ولم يشهد بدرا.
وزياد بن لبيد، بدرى، وفروة بن عمرو بن وذفة (1) وخالد بن قيس بن مالك بدرى، ورافع بن مالك أحد النقباء، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق، وهو الذى يقال له مهاجري أنصارى، لانه أقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة حتى هاجر منها، وهو بدرى قتل يوم أحد، وعبادة بن قيس بن عامر بن خالد بن عامر بن زريق بدرى، وأخوه الحارث بن قيس بن عامر بدرى أيضا.
والبراء بن معرور أحد النقباء وأول من بايع فيما تزعم بنو سلمة، وقد مات قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأوصى له بثلث ماله فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم على ورثته.
__________
(1) الاصل: ودفة.
وهى رواية.
وما أثبته من الاشتقاق لابن دريد 461 قال: والوذفة زعموا الروضة: قال ابن هشام ويقال: ودفة.
(*)
ابن صخر بدرى، والطفيل بن النعمان بن خنساء بدرى، قتل يوم الخندق، ومعقل بن المنذر بن سرح بدرى، وأخوه يزيد بن سنان المنذر بدرى، ومسعود بن زيد بن سبيع، والضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بدرى، ويزيد بن خذام (1) بن سبيع، وجبار بن صخر [ بن أمية ] (2) بن خنساء بن سنان بن عبيد بدرى، والطفيل بن مالك بن خنساء بدرى.
وكعب بن مالك، وسليم بن عامر بن حديدة بدرى، وقطبة بن عامر بن حديدة بدرى، وأخوه أبو المنذر يزيد بدرى أيضا، وأبو اليسر كعب بن عمرو بدرى، وصيفى ابن سواد بن عباد.
وثعلبة بن غنمة بن عدى بن نابى، بدرى واستشهد بالخندق، وأخوه عمرو بن غنمة بن عدى، وعبس بن عامر بن عدى، بدرى، وخالد بن عمرو بن عدى بن نابى، وعبد الله بن أنيس حليف لهم من قضاعة.
وعبد الله بن عمرو بن حرام أحد النقباء، بدرى واستشهد يوم أحد، وابنه جابر ابن عبدالله، ومعاذ بن عمرو بن الجموح بدرى، وثابت بن الجذع، بدرى وقتل شهيدا بالطائف، وعمير بن الحارث بن ثعلبة بدرى، وخديج بن سلامة حليف لهم (3) من بلى، ومعاذ بن جبل شهد بدرا وما بعدها ومات بطاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب.
وعبادة بن الصامت أحد النقباء شهد بدرا وما بعدها، والعباس بن عبادة بن نضلة، وقد أقام بمكة حتى هاجر منها، فكان يقال له مهاجري أنصارى أيضا، وقتل يوم أحد
__________
(1) الاستيعاب: ابن حرام.
(2) من ابن هشام.
(3) أي لبنى حرام بن كعب.
(*)
ابن وهب بن كلدة حليف لهم (3) بدرى وكان ممن خرج إلى مكة فأقام بها حتى هاجر منها، فهو ممن يقال له مهاجري أنصارى أيضا، وسعد بن عبادة بن دليم أحد النقباء، والمنذر بن عمرو نقيب بدرى أحدى وقتل يوم بئر معونة أميرا وهو الذى يقال له: أعتق ليموت.
وأما المرأتان فأم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو ابن غنم بن مازن بن النجار، المازنية النجارية.
قال ابن إسحاق: وقد كانت شهدت الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معها أختها وزوجها زيد بن عاصم بن كعب، وابناها حبيب (4) وعبد الله.
وابنها حبيب (5) هذا هو الذى قتله مسيلمة الكذاب حين جعل يقول له: أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ فيقول: نعم.
فيقول: أتشهد أنى رسول الله ؟ فيقول: لا أسمع.
فجعل يقطعه عضوا عضوا حتى مات في يديه، لا يزيده على ذلك، فكانت أم عمارة ممن خرج إلى اليمامة مع المسلمين حين قتل مسيلمة، ورجعت وبها اثنا عشر جرحا من بين طعنة وضربة.
رضى الله عنها.
والاخرى أم منيع أسماء ابنة عمرو بن عدى بن نابى بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة.
رضى الله عنها.
__________
(1) من ابن هشام.
(2) الاصل: كندة والتصويب من ابن هشام.
(3) أي لبنى سالم بن عنم (4) كذا ضبطه الزرقائى بفتح النون.
(5) الاصل خبيب وما أثبته عن ابن هشام.
(*)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق