الأحد، 10 يونيو 2018

84. فصل أول ما يقضي الله فيه الدماء

84. فصل أول ما يقضي الله فيه الدماء
قَالَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ : " ثُمَّ يَقْضِي اللَّهُ بَيْنَ الْعِبَادِ ، فَيَكُونُ أَوَّلَ مَا يَقْضِي فِيهِ الدِّمَاءُ " . وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَهُوَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْبَهَائِمِ ، يَشْرَعُ فِي الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [ يُونُسَ : 47 ] .

وَيَكُونُ أَوَّلَ الْأُمَمِ يَقْضِي بَيْنَهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ ; لِشَرَفِ نَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضْلِهَا ، كَمَا أَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ يَجُوزُ عَلَى الصِّرَاطِ ، وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ، كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ هَمَّامٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . وَفِي رِوَايَةٍ : " الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ " .

وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيِّ ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " نَحْنُ آخِرُ الْأُمَمِ ، وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ ، يُقَالُ : أَيْنَ [ ص: 18 ] الْأُمَّةُ الْأُمِّيَّةُ وَنَبِيُّهَا ؟ فَنَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ " .

------------------------- 

83.فصل أول ما يقضي الله تعالى بينهم من المخلوقات الحيوانات

83. فصل أول ما يقضي الله تعالى بينهم من المخلوقات الحيوانات
فصل: أَوَّلُ مَا يَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْحَيَوَانَاتُ )

فَأَوَّلُ مَا يَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْحَيَوَانَاتُ ، قَبْلَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ، وَهُمَا الثَّقَلَانِ ; فَالْإِنْسُ ثَقَلٌ وَالْجِنُّ ثَقَلٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى حَشْرِ الْحَيَوَانَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [ الْأَنْعَامِ : 38 ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [ التَّكْوِيرُ : 5 ] .

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ : حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَأَبُو يَحْيَى الْبَزَّازُ ، قَالَا : حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ نُصَيْرٍ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ مُرَاجِمٍ ، مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ الْجَمَّاءَ لَتُقَصُّ مِنَ الْقَرْنَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، عَنْ شُعْبَةَ : سَمِعْتُ الْعَلَاءَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ ص: 12 ] " لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ تَنْطَحُهَا " . وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ .

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ ، عَنْ وَاصِلٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " يُقْتَصُّ لِلْخَلْقِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ، حَتَّى لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ ، وَحَتَّى لِلذَّرَّةِ مِنَ الذَّرَّةِ " . تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ .

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ : وَجَدْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ أَبِي بِخَطِّ يَدِهِ : حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَرْوَانَ ، عَنِ الْهُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا وَشَاتَانِ تَعْتَلِفَانِ ، فَنَطَحَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ، فَأَجْهَضَتْهَا ، قَالَ : فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقِيلَ لَهُ : مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " عَجِبْتُ لَهَا ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُقَادَنَّ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ سُلَيْمَانَ ، [ ص: 13 ] هُوَ الْأَعْمَشُ ، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ أَشْيَاخٍ لَهُمْ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( ح ) وَأَبُو مُعَاوِيَةَ ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ ، عَنْ مُنْذِرِ بْنِ يَعْلَى ، عَنْ أَشْيَاخِهِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، فَذَكَرَ مَعْنَاهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَاتَيْنِ تَنْتَطِحَانِ ، فَقَالَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ ، هَلْ تَدْرِي فِيمَ تَنْتَطِحَانِ ؟ " قَالَ : لَا . قَالَ : " لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَدْرِي ، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا " . وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ حَسَنٌ . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَرَوَاهُ شُعْبَةُ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِمِثْلِهِ .

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَرَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَرْوَانَ ، عَنِ الْهُزَيْلِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِشَاتَيْنِ تَنْتَطِحَانِ ، فَقَالَ : " لَيَقْضِيَنَّ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِهَذِهِ الْجَلْحَاءِ مِنْ هَذِهِ الْقَرْنَاءِ " . قَالَ : وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ ، عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ ، أَنَّ أَبَا سَالِمٍ الْجَيْشَانِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ طَرِيفٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى أَبِي ذَرٍّ ، فَسَمِعَهُ رَافِعًا صَوْتَهُ يَقُولُ : أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا يَوْمُ الْخُصُومَةِ لَسَوَّأْتُكِ . فَدَخَلْتُ ، فَقُلْتُ : مَا شَأْنُكَ يَا أَبَا ذَرٍّ ؟ فَقَالَ : هَذِهِ . قُلْتُ : وَمَا عَلَيْكَ أَنْ تَضْرِبَهَا ؟ فَقَالَ : أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - أَوْ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ - لَتُسَأَلَنَّ الشَّاةُ فِيمَ نَطَحَتْ صَاحِبَتَهَا ، وَلَيُسْأَلَنَّ الْجَمَادُ فِيمَ نَكَبَ أُصْبُعَ الرَّجُلِ
[ ص: 14 ] وَقَالَ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا حَسَنٌ ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ ، حَدَّثَنَا دَرَّاجٌ ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنَّهُ لَيَخْتَصِمُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى الشَّاتَانِ فِيمَا انْتَطَحَتَا " .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ ، حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ ، ثُمَّ قَالَ : " لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ ، فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي . فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا ، قَدْ أَبْلَغْتُكَ . لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ ، فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي . فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا ، قَدْ أَبْلَغْتُكَ . لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي . فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا ، قَدْ أَبْلَغْتُكَ . لَا أُلْفِيَنَّ [ ص: 15 ] أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ ، فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي . فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا ، قَدْ أَبْلَغْتُكَ . لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ ، فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي . فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا ، قَدْ أَبْلَغْتُكَ . لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ ، فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي . فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا ، قَدْ أَبْلَغْتُكَ " . وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَيَّانَ ، وَاسْمُهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَيَّانَ التَّيْمِيُّ ، بِهِ .

وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : " مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلَّا بُطِحَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ ، فَتَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا ، كُلَّمَا مَرَّتْ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا " . وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مَعَ الْآيَاتِ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى حَشْرِ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا .

وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ : " فَيَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ خَلْقِهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ ; الْإِنْسَ وَالْجِنَّ ، فَيَقْضِي بَيْنَ الْوُحُوشِ وَالْبَهَائِمِ ، حَتَّى إِنَّهُ لَيُقِيدُ الْجَمَّاءَ مِنْ ذَاتِ الْقَرْنِ ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَبْقَ لِوَاحِدَةٍ تَبِعَةٌ عِنْدَ أُخْرَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا : كُونِي تُرَابًا . فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ : يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [ ص: 16 ] [ النَّبَأِ : 40 ] .

وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ ، أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ : سَمِعْتُ أَبَا عِمْرَانَ الْجَوْنِيَّ يَقُولُ : حُدِّثْتُ أَنَّ الْبَهَائِمَ إِذَا رَأَتْ بَنِي آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَدْ تَصَدَّعُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; صِنْفًا إِلَى الْجَنَّةِ ، وَصِنْفًا إِلَى النَّارِ ، أَنَّ الْبَهَائِمَ تُنَادِيهِمْ : الْحَمْدُ لِلَّهِ يَا بَنِي آدَمَ ، الَّذِي لَمْ يَجْعَلْنَا الْيَوْمَ مِثْلَكُمْ ، فَلَا جَنَّةَ نَرْجُو ، وَلَا عِقَابَ نَخَافُ .

وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ ، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ فِي " شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى " عِنْدَ قَوْلِهِ : الْمُقْسِطُ الْجَامِعُ . قَالَ : وَفِي خَبَرِ الْوُحُوشِ وَالْبَهَائِمِ ، تُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ : لَيْسَ هَذَا يَوْمَ سُجُودٍ ، هَذَا يَوْمُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . فَتَقُولُ الْبَهَائِمُ : هَذَا سُجُودُ شُكْرٍ ; حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْنَا اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، مَنْ بَنِي آدَمَ . قَالَ : وَيُقَالُ : إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ لِلْبَهَائِمِ : إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْشُرْكُمْ لِثَوَابٍ وَلَا لِعِقَابٍ ، وَإِنَّمَا حَشَرَكُمْ تَشْهَدُونَ فَضَائِحَ بَنِي آدَمَ .

وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهَا إِذَا حُشِرَتْ وَحُوسِبَتْ تَعُودُ تُرَابًا ، ثُمَّ يُحْثَى بِهَا فِي وُجُوهِ فَجَرَةِ بَنِي آدَمَ ، قَالَ : وَذَلِكَ قَوْلُهُ : وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ [ عَبَسَ : 40 ] . وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ، وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ

  -------------------------

82.ذكر العرض على الله عز وجل يوم القيامة وتطاير الصحف ومحاسبة الرب عز وجل عباده

82. ذكر العرض على الله عز وجل يوم القيامة وتطاير الصحف ومحاسبة الرب عز وجل عباده
[ ص: 5 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمِ
ذِكْرُ الْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَطَايُرِ الصُّحُفِ وَمُحَاسَبَةِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [ الْكَهْفِ : 48 - 49 ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [ الزُّمَرِ : 69 ] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ الْآيَةَ . [ الْأَنْعَامِ : 94 ] وَقَالَ تَعَالَى : وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [ يُونُسَ : 28 - 30 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ . إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِيَ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا الْآيَةَ [ الْأَنْعَامِ 128 - 130 ] . وَقَالَ تَعَالَى : يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [ ص: 6 ] [ الْحَاقَّةِ : 18 ] . وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَسَيَأْتِي فِي كُلِّ مَوْطِنٍ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ .

وَتَقَدَّمَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ " [ الْأَنْبِيَاءِ : 104 ] . وَعَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِمَا نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ .

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا : حَدَّثَنَا أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ الْأَصَمُّ ، عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ ; فَعَرْضَتَانِ جِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ ، وَعَرْضَةٌ تَطَايُرُ الصُّحُفِ ، فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ، وَحُوسِبَ حِسَابًا يَسِيرًا ، دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ دَخَلَ النَّارَ " .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَلِيِّ بْنِ رِفَاعَةَ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَعِنْدَهَا تَطِيرُ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي ، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ " . وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، عَنْ وَكِيعٍ ، بِهِ .

[ ص: 7 ] وَالْعَجَبُ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ ، عَنْ وَكِيعٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلِيٍّ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَلَا يَصِحُّ هَذَا ؛ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . قَالَ : وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلِيٍّ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي مُوسَى ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

قُلْتُ : الْحَسَنُ قَدْ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ .

وَقَدْ وَقَعَ فِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ الْحَسَنِ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ يَكُونُ الْحَدِيثُ عِنْدَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَأَمَّا الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، مِنْ قَوْلِهِ مِثْلَهُ سَوَاءً . وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ [ ص: 8 ] أَنَّهُ أَنْشَدَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا :

وَطَارَتِ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي مُنَشَّرَةً فِيهَا السَّرَائِرُ وَالْجَبَّارُ مُطَّلِعُ     فَكَيْفَ سَهْوُكَ وَالْأَنْبَاءُ وَاقِعَةٌ
عَمَّا قَلِيلٍ وَلَا تَدْرِي بِمَا تَقَعُ     إِمَّا الْجِنَانُ وَفَوْزٌ لَا انْقِطَاعَ لَهُ
أَوِ الْجَحِيمُ فَلَا تُبْقِي وَلَا تَدْعُ     تَهْوِي بِسَاكِنِهَا طَوْرًا وَتَرْفَعُهُمْ
إِذَا رَجَوْا مَخْرَجًا مِنْ غَمِّهَا قُمِعُوا     طَالَ الْبُكَاءُ فَلَمْ يَرْحَمْ تَضَرُّعَهُمْ
فِيهَا وَلَا رِقَّةٌ تُغْنِي وَلَا جَزَعُ     لَيَنْفَعُ الْعِلْمُ قَبْلَ الْمَوْتِ عَالِمَهُ
قَدْ سَالَ قَوْمٌ بِهَا الرُّجْعَى فَمَا رَجَعُوا
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [ الِانْشِقَاقِ : 6 - 15 ] .

قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ ، حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا هَلَكَ " . فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [ الِانْشِقَاقِ : 7 ، 8 ] ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا [ ص: 9 ] عُذِّبَ " . أَشَارَ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ نَاقَشَ الْعِبَادَ فِي حِسَابِهِ لَهُمْ ، لَعَذَّبَهُمْ كُلَّهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَعْفُو وَيَصْفَحُ وَيَغْفِرُ ، وَيَسْتُرُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّجْوَى : " يُدْنِي اللَّهُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ ، ثُمَّ يُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ ، حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا ، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ " .

فَصْلٌ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ الْآيَاتِ [ الْوَاقِعَةِ : 6 - 12 ] . فَإِذَا نُصِبَ كُرْسِيُّ فَصْلِ الْقَضَاءِ انْمَازَ الْكَافِرُونَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَوْقِفِ إِلَى نَاحِيَةِ الشِّمَالِ ، وَبَقِيَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [ يس : 59 ] . وَقَالَ تَعَالَى : ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ الْآيَةَ [ يُونُسَ : 28 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ الْجَاثِيَةِ : 28 ] . فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ قِيَامٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَالْعَرَقُ قَدْ غَمَرَ أَكْثَرَهُمْ ، وَبَلَغَ الْجَهْدُ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ ، وَالنَّاسُ فِيهِ بِحَسَبِ الْأَعْمَالِ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ ، خَاضِعِينَ ، صَامِتِينَ ، لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ تَعَالَى ، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ ، حَوْلَهُمْ أُمَمُهُمْ ، وَكِتَابُ الْأَعْمَالِ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى عَمَلِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ، مَوْضُوعٌ لَا يُغَادِرُ [ ص: 10 ] صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ، مِمَّا كَانَ يَعْمَلُ الْخَلْقُ وَأَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَكَتَبَتْهُ عَلَيْهِمُ الْحَفَظَةُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [ الْقِيَامَةِ : 13 - 15 ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [ الْإِسْرَاءِ : 13 ، 14 ] . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : لَقَدْ أَنْصَفَكَ يَا بْنَ آدَمَ ، مَنْ جَعَلَكَ حَسِيبَ نَفْسِكَ . وَالْمِيزَانُ مَنْصُوبٌ لِوَزْنِ أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَالصِّرَاطُ قَدْ مُدَّ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ ، وَالْمَلَائِكَةُ مُحْدِقُونَ بِبَنِي آدَمَ وَبِالْجِنِّ ، وَقَدْ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ ، وَأُزْلِفَتْ دَارُ النَّعِيمِ ، وَتَجَلَّى الرَّبُّ سُبْحَانَهُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ ، وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ، وَقُرِئَتِ الصُّحُفُ ، وَشَهِدَتْ عَلَى بَنِي آدَمَ الْمَلَائِكَةُ بِمَا فَعَلُوا ، وَالْأَرْضُ بِمَا عَمِلُوا عَلَى ظَهْرِهَا ، فَمَنِ اعْتَرَفَ مِنْهُمْ ، وَإِلَّا خُتِمَ عَلَى فِيهِ ، وَنَطَقَتْ جَوَارِحُهُ بِمَا عَمِلَ بِهَا فِي أَوْقَاتِ عَمَلِهِ ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ .

وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْأَرْضِ : يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [ الزَّلْزَلَةِ : 4 ، 5 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الْآيَاتُ إِلَى قَوْلِهِ : فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ فُصِّلَتْ : 19 - 23 ] . وَقَالَ تَعَالَى : يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [ النُّورِ : 24 ، 25 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ إِلَى قَوْلِهِ : وَلَا يَرْجِعُونَ [ يس : 65 - 67 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [ ص: 11 ] [ طه : 111 ، 112 ] . أَيْ لَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ الْهَضْمُ ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ ، وَهُوَ الظُّلْمُ .